الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سائق القطار

وليد الحلبي

2014 / 11 / 24
الادب والفن


قاطرة قديمة عمرها أكثر من مئة عام ، تسير بتثاقل على سكة حديد أقدم منها، تجر خلفها مجموعة عربات للركاب، متبوعة بمجموعة أخرى من عربات الشحن.
ثلاثون عاماً أو يزيد قضاها (المعلم طلبة) سائقاً لهذا القطار الذي يربط العاصمة بجنوب البلاد،،، تلك السنوات الطويلة مرت على العائلة بدون منغصات تذكر، باستثناء ما وقع لها من أحداث عكرت صفو حياتها على مدى العامين الماضيين. يخف ضغط البخار على المكابس، وتتضاءل سرعة القطار، فينحني (طلبة) لتناول المجرفة، ويبدأ بقذف كتل الفحم الحجري في جوف الموقد،، يحدق في ألسنة النيران المتماوجة، فتلفح وجهه حرارتها الشديدة، لكنه يحس بنيران قلبه أكثر اتقاداً وأشد لفحاً من نيران الموقد،،، يزداد ضغط المكابس بالتدريج، فتزداد معها سرعة القاطرة، وتزداد معهما نبضات قلبه، فيمسك بتوتر حبل الصافرة ويشده بعنف إلى الأسفل، فتزمجر محدثة ضجيجاً لا يغطي، رغم شدته، على الضجيج الذي يلعلع داخل رأسه. يمسك دافع الحركة بيد، بينما يمسك بالأخرى دافع الفرملة، مطرقاً رأسه، ناظراً بين قدميه،،، ينتبه إلى أن الشاي في الإبريق المعدني القديم يغلي على مدخل الموقد، ، يتناوله ويصب الشاي في كأس نصف نظيفة، فينسكب بعضه على حواف الكأس بسبب اهتزاز القاطرة لدى عبورها منعطفاً حاداً، لكن الاهتزاز يتوقف عندما تستقيم في سيرها، بينما يستمر هو سارحاً في هواجسه. ينظر في زاوية المكان، فيرى مساعده (محمدين) وقد تهاوى على كرسي صغير، داخلاً في سبات عميق بعد يوم كامل من عمل مضنٍ.

لماذا لم يغادر قريته إلى العاصمة كما فعل بعض أبنائها؟، أولئك الذين اندمجوا في مجتمع المدينة العملاقة، وذابوا بين ملايينها، فنسوا تقاليد الريف بما فيها من محاسن وويلات، ، بعضهم عمل في التجارة، بينما استوظف البعض في دوائر الحكومة، بل إن البعض منهم قد بالغ في الابتعاد عن تقاليد العائلة المحافظة، فعمل حتى في مجالات فنية مختلفة كالتمثيل والموسيقى والرقص،،، أما كان الأولى به أن يفعل مثل ما فعلوا؟، إذن ما كان وقع ما قد وقع. يرشف الشاي ويغالب نفسه كي لا يحسد أولئك الذين انفلتوا من قبضة العادات والتقاليد البالية، خاصة عادة الأخذ بالثأر التي تفسد علاقات العائلة الواحدة، وتفتتها إلى عدد من العائلات المتناحرة المتنافرة، لكنه يثوب إلى وعيه، فيستنكر ما فعله أولئك الخارجون على روح العائلة، ويقنع بما هو فيه رغم قسوته ومرارته،،، ينظر أمامه عبر زجاج القاطرة مراقباً خطي سكة الحديد اللذين تبتلعهما قاطرته بنهم شديد، يتمايلان قبل الدخول في فمها تحت ضوئها الجديد الساطع،،، زجاج ضوء القاطرة القديم صدمه الشهر الماضي طائر كبير أدى إلى تحطمه، فقامت ورشة المصلحة باستبداله، وها هو الضوء الجديد يكشف السكة أمام (طلبة) إلى مسافة تمكنه من تفادي قطعان المواشي التي قد تعبر خطي السكة ليلاً، ما جعله يشعر بالأمان الآن أكثر من ذي قبل، هذا بينما تراقصت قامات أشجار اصطفت على جانبي السكة، كأنها رؤوس أشباح تتراقص في حفل زفاف، وخلف صفوف الأشجار ترامت حقول قصب السكر والقطن والأرز والخضروات، والتي خمَّن أنها تمتد حتى خط الأفق الذي لا يستطيع رؤيته بوضوح بسبب الظلام الدامس الذي يلف المكان.

كان ذلك منذ ما يزيد على العامين عندما تقدم أحد أفراد العائلة لخطبة ابنته.(حسنين) كان أحد أبناء عمومة (طلبة) وينتمي لفرع صغير من العائلة الكبيرة، والذي انسلخ عنها بسبب قضية ثأر قديم، وفشلت جميع الوساطات لعودة ذلك الفرع إلى أصله، وبالتالي لم يعد ممكناً الموافقة على (حسنين) عندما تقدم لطلب يد (فاطمة) من أبيها بعد قصة حب نمت وترعرعت منذ أيام الطفولة ، وبتوالي توسلات (حسنين) ازداد رفض (طلبة)، إلى أن أقسم الوالد ذات يوم على قتل (حسنين) إن هو استمر في إزعاجه، فاختفى (حسنين) من المنطقة، ثم سرت أخبار عن تطوعه في القوات المسلحة. يقذف (طلبة) كميات من الفحم في جوف موقد القاطرة يستحثها على زيادة السرعة، فما زالت أمامه ثلاث ساعات للوصول إلى المحطة النهائية، وتزداد سرعة القاطرة أكثر فأكثر، ويسكب كأساً ثانية وثالثة من الشاي، ويسرح ببصره في اللاشيء، في الظلام الدامس.هل أخطأ أم أصاب في تعامله مع (حسنين)؟،وهل لو أحسن التصرف معه لكان قد منع وقوع المصيبة التي حلت به وبعائلته؟،، كيف انفلت عقال الأمور من يديه، فسارت على هواها بالطريقة الكارثية التي أصابت كرامته في مقتل؟. ذات صباح استيقظ أهل الدار على صوت أم فاطمة تولول معلنة هروب (فاطمة) من البيت،، سألوا عنها الأقارب،، بحثوا عنها في كل مكان، دون جدوى، وشاع الخبر في البلدة، فاتجهت الأصابع متهمة (حسنين) باختطافها، خاصة وأن اختفاءها قد تزامن مع سفر ابن عمها، وظن الجميع أنه قد اصطحبها معه- سواء برغبتها أو رغماً عنها لكي يواريا فضيحة ربما تورطا فيها- للسكن في إحدى مدن القنال، بالقرب من خط الجبهة التي كانت ترابط فيها كتيبته. صبايا البلدة وشبانها ربما صفقوا لهما في السر، بينما صبت العجائز اللعنات على رأسيهما، أما (طلبة) فقد أقسم على قتل الاثنين لو استطاع، أقسم على ذلك بشرفه أمام الجميع، وازداد الشرخ في العائلة إلى أن أصبح انفصالاً لا رجعة عنه.

تستمر القاطرة في التهام القضبان الحديدية،، بينما يدفع البخار بعنف مكابس القاطرة التي تخترق الحقول بهمة ونشاط، فيزداد تمايل رؤوس الأشجار على جانبي الخط بفعل تيار الهواء الذي يسحبه القطار خلفه، ومدخنة الموقد تنفث في الجو سحابة سوداء تغطي القطار من مقدمته إلى آخر عربة فيه، وكأس الشاي تفرغ وتمتلئ مرات ومرات ، وعينا (طلبة) تتناوبان بين خط السكة والظلام على جانبيه.
ذات يوم سرت في البلدة أخبار عن استشهاد (حسنين)،، يومها هز(طلبة) رأسه مستنكراً: كيف يصبح الخائن شهيداً، وكيف يجمع رجل في شخصه صفتين متناقضتين: الإخلاص للوطن، والخيانة للعائلة. لم تسلِّم قيادة الجيش جثة (حسنين) إلى عائلته، ربما لأنهم لم يجدوا جثته أو بقايا منها بسبب سقوط قذيفة مباشرة على موقعه، فتلاشت أعضاؤه أو تبخرت بفعل حرارة الانفجار،، عائلته لم تفتح له مجلس عزاء، استنكاراً منها لفعلته التي نكست رأس العائلة بين أهل البلدة، وقبل أن يبدأ التساؤل عن مصير فاطمة بعد وفاة خاطفها، كان أحد الغجر يقرع باب عائلة فاطمة ليخبرها بأن ابنتها قد لحقت بإحدى مجموعات الغجر الذين يجوبون القرى ، متكسبين من بيع منتجات مواشيهم، أو من قراءة البخت والرقص في الساحات العامة، أو من تركيب الأسنان الذهبية في أفواه الفلاحين. هنا بدأت الكارثة تضرب العائلة من جديد بعد أن توارى شبحها حيناً من الزمن، وتضاعف حجم الكارثة بعد أيام عندما عاد ذلك الغجري المشؤوم ليخبر العائلة بأن ابنتها حامل على وشك الوضع. إذن فعلها الخائن ومضى، فبعد أن اعتدى على شرف فاطمة فحملت منه ، فر بجلده من العقاب ، وتركها وحدها فريسة للتشرد والضياع ، ثم لقي حتفه على الجبهة. يشد (طلبة) حبل الصافرة ليحذر بعض الفلاحين من عبور خط السكة مع مواشيهم ، فتمر بهم القاطرة مسرعة ، تماماً كما تمر في خياله تلك الأحداث بسرعة وكأنها تحاول أن تهرب منه وإلى الأبد.

يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم،، يمسح وجهه بقليل من الماء البارد، ويحاول أن يركز أكثر على قيادة القاطرة،فيفشل، ويبقى ذهنه أسير عذاباته. بعد ربع ساعة سيعبر القطار تخوم بلدته، حيث يقع منزله على بعد عشرات الأمتار من الخط الحديدي. يستعيد ذكرياته التي كانت حلوة كالعسل فأصبحت أمرُّ من العلقم، فمنذ أيام طفولتها الأولى، كانت فاطمة تنتظر مرور القطار بلهفة وشوق، وبمجرد أن تراه يجرجر عرباته من بعيد، كانت ترفع بيدها الصغيرة منديلاً أحمر- إن كان الوقت نهاراً–، أو مصباحاً زيتياً، – إن كان الوقت ليلاً–، تلوح بها لكي يراها أبوها، سائق القطار. كانت تلك اللحظات التي يرى فيها فاطمة عن بعد هي أسعد لحظات الرحلة، ولكثرة تكرارها، فقد حفظت فاطمة مواعيد مرور القطار عن ظهر قلب. بعد ربع ساعة عندما سيمر القطار أمام بيته، سوف يدير وجهه إلى الناحية الأخرى،، يحس بدموعه حارة تسيل على خديه، فيمسحها بكم قميصه المتسخ ،، بعد ربع ساعة ستعود الساعة به إلى الوراء سنوات وسنوات ،، ربما سيلمح خيال طفلة تلوح له من بعيد بضوء سراج باهت،،لن يصدق أنها فاطمة، لأن فاطمة الآن مشردة بين القرى والنجوع، تحمل في أحشائها دليل خيانتها، ورمز خسة ابن عمها.

فجأة ينتبه إلى أن هناك كتلة سوداء مكومة على الخط الحديدي، فها هو مصباح القاطرة الجديد يقوم بدوره خير قيام، ويكشف له الخطر في الوقت المناسب قبل وقوعه،،، سحب مقبض الفرملة بشدة، فتوقفت المكابس عن الدوران، وانزلقت عجلات القاطرة على القضبان، ثم وبسرعة فائقة جذب مقبض عكس حركة المكابس، فبدأت العجلات بالدوران إلى الخلف، وتطاير الشرر بشدة على جانبي القطار الذي ما زال مندفعاً بسرعة كبيرة- وكأنه سهم من لهب- نحو الجسم المكوم على الخط الحديدي. نتيجة لهذا التوقف المفاجئ، انقلب الكرسي الذي تكوم عليه (محمدين) فصحا من سباته العميق، وارتطمت رؤوس جميع الركاب بظهور المقاعد التي أمامهم، وسقطت بعض حقائبهم، التي كانت على الأرفف ، فوق رؤوس بعضهم،، زحفت القاطرة فوق السكة وزحفت، بينما عينا سائقها معلقتين بين مقدمتها والجسم الغريب، إلى أن استقرت على بعد أمتار منه. تنفس (طلبة) الصعداء بعد أن كاد نفسه أن يتوقف،، ترجل من القاطرة على عجل وتوجه نحو الجسم الغريب لاستجلاء كنهه، بينما استمر الركاب في هرج ومرج من هول الصدمة.هذا الشيء الأسود:هل هو كيس حنطة سقط عن ظهر دابة أثناء عبورها الخط الحديدي دون أن يشعر صاحبه به، فتركه عن غير قصد في مكانه؟ أم هو عثرة وضعها عمداً قطاع طرق على السكة لتعطيل سير القطار، ثم مهاجمته والسطو على ركابه؟،، نظر حوله فأحس بالهدوء يلف المكان لولا هدير غليان الماء في مرجل القاطرة،، اقترب أكثر فأكثر إلى أن أصبح على بعد خطوات من الجسم الغريب،، هنا تسمر في مكانه، وشعر بأن ركبتيه تخونانه، فركع على ركبة وأسند رأسه على يده المرتكزة على الركبة الثانية،، نظر إليها، كانت فاطمة أمامه بشحمها ولحمها تنظر إليه من خلف عباءة سوداء صارخة باكية: (لماذا توقفت يا أبي؟ لماذا توقفت؟، لقد جئت بنفسي إلى هنا لكي أجعلك تبر بقسمك وتقتلني ،،هيا يا أبي، عد إلى القاطرة ودعها تمر على جسدي كي تطهر شرفك الذي أقسم لك أنه لم تكن لي يد في تلويثه)،، لم يصدق ما تراه عيناه،،حملق فيها متأكداً: نعم هي اللعينة فاطمة التي مرغت شرف العائلة، وقلبت حياتها جحيماً وذلاً، تابعت فاطمة:( أرجوك يا أبي، اصعد إلى القاطرة قبل أن يتجمع الركاب حولنا، واجعل الأمر يبدو وكأنه حادث قضاء وقدر)،،أصغى إليها باهتمام، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن ينال بها منها دون أن يطاله أي عقاب،، بعض الركاب بدأوا بالنزول من القاطرة متوجهين إليه لاستجلاء الأمر،، نهض على قدميه واستدار لكي يعود إلى قيادة القاطرة،، لوح للركاب آمراً إياهم بالعودة إلى القطار فاستجابوا له،لكنه لم يكد يضع قدمه على الدرجة الأولى لسلم القاطرة حتى سمع صراخ مولود قادم من جهة فاطمة،، تسمر في مكانه والتفت إليها، فإذا بها تحاول جاهدة تكميم فم المولود الذي خبأته في عباءتها حتى لا يعلو صراخه ،، نفرت الدموع من عيني (طلبة) بغزارة ،، هجم على ابنته وانتزع من بين يديها حفيده،،، ركع على الأرض مجهشاً بالبكاء،، قالت فاطمة بلسان متلعثم:ابن عمي الشهيد(حسنين) مظلوم يا أبي ،، المجرم الحقيقي هو ابن العمدة.

بينما تحرك القطار بقيادة المساعد(محمدين)، كان الركاب المتجمعون على نوافذ عرباته يرقبون (طلبة) ميمماً شطر الحقول، حاضناً حفيده بحنان غامر، وفاطمة تحث الخطى خلفهما،، وفي لحظات اختفى الثلاثة في جوف الظلام الدامس بين أعواد قصب السكر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-