الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملامح في نظرية جماليات التلقي

أدهم مسعود القاق

2014 / 11 / 26
الادب والفن





إنّ أيّ عمل أدبي لا يمكن أن يطلق عليه إبداعاً إلّا عند اكتماله مع متلق له ، متلق يتفاعل مع النصّ فهماً واستقراء وتأويلاً، وينتجه من جديد، لأنّ فعاليات أي منتج أدبي أو فني تتعلق براهن تلقياته؛ وبأثناء عملية استقرائه يتمّ نقله من القطب الفنّي إلى حقل القطب الجمالي، ليصبح مشروعاً حياتياً للمتلقين، وليمنح صفة الإبداع، ويرى آيزر: "إنّ العمل الأدبي له قطبان: قطب فنيّ وقطب جمالي، فالقطب الفني يكمن في النصّ الذي يخلقه المؤلف من خلال البناء الّلغويّ، وتسييجه بالدلالات والتيمات المضمونية قصد تبليغ القارئ بحمولات النصّ المعرفية والإيديولوجية، أيّ إن القطب الفني يحمل معنى ودلالة وبناء شكلياً. أمّا القطب الجمالي، فيكمن في عملية القراءة التي تخرج النصّ من حالته المجردة إلى حالته الملموسة، أيّ يتحقق بصرياً وذهنياً عبر استيعاب النصّ وفهمه وتأويله."(1)
بدأ الاهتمام بالمتلقي وفعاليته تبعاً لظروف تلقياته الاجتماعية في أواخر ستينيات القرن الماضي في مدرسة كونستانس الألمانية، واهتم فولفانج آيزر بالنصّ وبكيفيات ارتباط القراء به وها هو يقول "يتفاعل النص مع القارئ، ويفضي إلى أثر يمكن ممارسته سلوكاً، وليس موضوعاً يمكن تحديده"(2)، كما عدّ نقادٌ آخرون القارىء خالقاً جديداً للنصّ عند تلقيه له، ويقول أحمد صقر (1959- ): "إنّ خبرات المتذوق واستجابته إنما هي بدورها تجربة مماثلة وشبيهة بتجربة الفنان المبدع، أي عملية إعادة خلق للعمل الفني"(3) ولأن المنهج كما يقول هاوس روبرت ياوس(1921- 1997م) "لا يسقط من السماء، ولكن له مكان في التاريخ"(4) فإن منهج جماليات التلقي ارتبط ظهوره بنتاجات أدبية وفنية نتيجة متغيرات تاريخية وسياسية انعكست على الذات والتفرّد منذ عام 1966م، وقد قُدّمت مسرحياتٌ في ألمانيا حاولت تحطيم التقاليد المحمولة بين المشاهد والخشبة مع تنوع في التقنيات غير التقليدية، ونجحت هذه الأعمال المسرحية بـ: "دمج القارئ في البنية السردية بتوقع الاستجابات والانعكاسات على الطرق التقليدية حيث تتصل النصوص مع المشاهد المجهول"(5) وبهذا فإنّ عمليات التلقي المستمرة تشكّل وجدان المبدع والقارئ معاً، وتنمّي إحساسهما بأبعاد النص العميقة التي تستمرّ في إعطاء دلالات لا نهائية وتسمح بالقراءة والتأويل في دائرة لا ينغلق النصّ فيها، بل يفتح آفاقاً ويتجدد مع كل قراءة جديدة، وتتشكل العلاقة بين النصّ والمتلقي كالعلاقة بين التساؤل والإجابة، أو بين المشكلة وحلّها.
إنّ الفنّ ليس مجرد خلق صور أو صياغة مفاهيم، بل تفاعل بين النصّ والمتلقي الذي يمتلك خبرة معرفية وجمالية ويذكر السعيد الورقي "... هنا يأتي المتلقي، وخبرته المعرفية هو الآخر ينبغي ألاّ تقلّ عن خبرة المبدع، بل ربما كانت تتسم بالإتساع والشمول، خاصة بالنسبة للمتلقي غير العادي"(6).. ومن الجدير بالذكر أنّ ما بعد البنيوية اهتمّت بـ: "مفهوم النصّ المفتوح وردّت للمتلقي كامل أهليته لتفعيل النص الأدبي وتفجير كمونه الدلالي"(7)، كما وضعت السردية البنيوية منذ عام1970م: "...القارىء مقابل المؤلف، ولم تبقه مجرد متلق سلبي، فالقارىء يشارك في خلق الأثر الأدبي، لأنّ الأثر موجّه دائماً إلى المتلقي"(8)
إن منظور نظرية جماليات التلقي التي تفرض على الناقد مسؤولية بمقدار مشاركة الحاضر المعيش لأدب كلّ العصور، ولأنّ "القراءة تحيي النص وتنشطّه وتحميه من الجمود والاندثار، ولأنّها حوار مفتوح مع المقروء"(9) ولأنّ الناقد هو القارئ الأول للنصّ، فهو معنيّ بإعطاء حكم جديد سواء اتفق مع أحكام سابقة، أو أعطى حكماً منصفاّ لأعمال لم ينصفها معاصروها. كما ذكر إنريك إندرسون: "إنّ النقاد التعديليين يسألون كلّ عمل وكلّ مؤلف وقد عرف كيف يردّ على أهل عصره، وكيف يتم الردّ على عصرنا، وبعامة تظهر هذه التعديلات في الصراع مابين الأجيال"(10)، إنّ الناقد في جمالية التلقي يشتغل على مراجعة القيم الأدبية، وعلى تطبيق مفاهيم وقيم اللحظة الراهنة على نصوص الماضي، لأنّ فعالية النصّ وقيمه الأدبية تتطلب وجود النص والمتلقي ومعرفة بالمؤلف وبالظرف الذي أنتج فيه نصّه معاً، على اعتبار أن الناقد هو متلق متميّز للنصوص، ومولّدٌ لقيم أدبية وفنية وجمالية جديدة منها. ولأنّ "النصّ لا ينبثق من فراغ ولا يؤول إلى فراغ "(11)
وتختلف النصوص الإبداعية عن بعضها باختلاف مدى انفتاحها أوانغلاقها للمتلقين، وأيضاً تختلف بأنماط القراءات والتلقيات حيث منها المنغلقة وأخرى منفتحة. فالنصّ الإبداعي هو الذي يدعو متلقيه للتساؤل حول الوجود وللبحث عن الجديد في التقنيات الفنية المستخدمة لمعالجة موضوعات محدّدة في الأعمال الأدبية، على أن يكون شكل ومضمون النصّ خروجاً عن القيم المألوفة السائدة ليعيد المتلقي إنتاج النص بغية صياغة قيمٍ جديدة ورؤى مغايرة تفضي إلى سلوك جديد في التعامل مع الوجود. ولذلك فـ: "الآثار الأدبية الجيدة هي تلك التي تنمّي انتظار الجمهور بالخيبة، إذ الآثار الأخرى التي ترضي آفاق انتظارها، وتلبّي رغبات قرّائها هي آثار عادية جداً، وهي نماذج تعوّد عليها القرّاء"(12). كما أنّ رصد ما أحدثه النصّ من تغييرات في الوعي المجتمعي معرفياً وجمالياً، مفسحاً المجال للمتلقين في اكتساب تجربة المشاركة في إنتاج المعنى و في تغيير المعايير الفكرية والجمالية هو ما يحدّد إبداعيّة النصّ وفيما إذا كان هذا النصّ جيداً أو مبتذلاً. ومن ثمّ فـ: "إنّ فعل القراءة، الذي يرجع إليه كلّ فكر نقدي حقّ، ينطوي على وعيين: وعيّ القارئ ووعيّ المؤلف"(13)، إذ لكلّ نصّ مستمدّ من وعيّ المؤلف الحقّ في الرهان على تعديل أو تغيير أفق التوقعات لدى المتلقين ليتكوّن وعيّ القارىء. والمقصود بأفق التوقعات البعد القائم بين ظهور العمل الأدبي وآفاق انتظار المتلقي له، فالآثار الأدبية الجيدة هي التي تنمّي انتظار الجمهور بالخيبة، أمّا التي تراعي أفق الانتظار فلا تضيف شيئاً يذكر إلى تجربة المتلقي، وقد كشف تاريخ التلقي ضوابط تشكّل نقطة انطلاق لتاريخ التذوّق، وسميّت بالشروط الاجتماعية لجمهور القراء وتتلخص في العناصر التالية:

أولاً: نصّ يراعي أفق انتظار القارئ:
يستجيب النصّ في هذا الضابط للمعايير الجمالية السائدة، ومثاله الأعمال الكلاسيكية التي تلعب دوراً كبيراً في توجيه فعل التلقي، وغالباً ما يتمكن المؤلف، في هذه الحالة، من خلق متلق نموذجي يستجيب لاستراتيجية النصّ الملتزمة بالقيم الموجودة، ولكنه لا يتمكن من تحفيزه للتفكير والتأمّل لخلق قيم ومعايير جديدة.
ثانياً: نصّ يخيّب أفق انتظار القارئ:
يعمل النصّ على إزاحة الطرائق الفنية عمّا هو مألوف لدى المتلقي، فيرتبك ويجعل توقع أفق انتظاره خائباً، ومن هذا الإنزياح المؤدي إلى الخرق الفني والجمالي في النصّ يتمّ السموّ بالأعمال الأدبية ويجعلها خالدة، فالآثار التي تخيّب آفاق انتظارها وتغيظ جمهورها المعاصر لها، تطّور الجمهور ووسائل التقويم لديه، وتدفع باتجاه الرغبة بالفن والجمال فهي: "آثار ترفض إلى حين حتّى تخلق جمهورها خلقاً"(14) كما يتوجب أن يكون المتلقي في هذه الحالة ذا معرفة مكتسبة، وذائقة فنية مدرّبة، حتّى يتمكن من التعامل مع الطاقات الفنية الكامنة في العمل الفني ويحوّلها إلى قيم جمالية ومعرفية في الذات المتلقية للنصّ. وهذه الحالة تمثّل صراعاً بين القديم والجديد، ومن الممكن أن تخلق منعطفات تاريخية يتشكل عبرها أفقٌ جديدٌ.

ثالثاً: نصّ يغيّر أفق انتظار القارئ:
يتطلب النصّ هنا، قارئاً ذكيّاً، يمكنه تعلّم كلّ ما هو جديد بسرعة. ويكون هذا المتلقي جزءاً من عصره المتغيّر الذي ينعكس عليه تغيّراً فاعلاً في فكره وعواطفه وسلوكه ما يجعله قادراً على التكيّف مع كلّ نصّ طليعيّ يتطلب تغييراً في آليات قراءته وتذوقه للجمال. ومن الممكن، في هذا الضابط، أن تحصل استجابة سلبية بين النصّ والمتلقي، ويعود السبب في هذه الحالة لعدم وجود حوار بينهما فتضعف قدرة النصّ على إقناع متلقيه بأفق انتظاره وتنعدم قدرة المتلقي على معارضة النصّ أو يعجز على صياغة أفق انتظاره لعوامل ذاتية أو موضوعية؛ فيحصل عندئذ، صراع بين أفق النص وأفق المتلقي، صراع بين جموح النصّ لخلق قراءة نقدية تصيغ لنفسها أفق انتظار جديد من أجل إبداع جديد وعدم تقبّل المتلقي لهذه القراءة، وها هو روبرت هولب يقول "إنّ الأشياء الفنية التي يتلقاها المتلقي على أنّها انحرافات عن المدركات المألوفة والآنيّة هي التي تستحقّ أن توصف بأنّها فنيّة، وبالتالي فالإدراك والتلقي هما العنصران المكوّنان للفن وليس الإبداع والإنتاج"(15) كما أن جادامير يتحدث عن دور المتلقي في إعادة إحياء معنى النصّ ويسمّي ذلك: "انصهار آفاق، أي انصهار أفق النص وأفق المتلقي"(16). ومن ثمّ فلم يعد المعنى موضوعاً يستوجب التعريف به، بل أصبح المعنى أثراً يُعاش مع مبدأ انصهار الآفاق ويظهر في السلوك، ويقول جميل حمداوي (1963- ) "إنّ موضوع الدراسة الأدبية هو أن نعرف كيف أجاب الأثر الأدبي على ما لم تجب عليه الآثار السابقة من قضايا، وكيف اتصل بقرّائه أو خلقهم خلقاً"(17) أمّا إنريك إندرسون امبرت فيرى أنّ: " نقد النص من خلال تلقياته هو الذي يحدّد طبيعة وشدّة أثر النصّ في المتلقين (قرّاء ونقّاد) ويفحص ردود أفعالهم"(18).
كما أنّ وعيّ المتلقي قد يُنتهَك من وعيّ النصّ ذاته ووعيّ مؤلفه، وحينها لا يتمكن المتلقي من اكتساب تجربة النصّ إلّا من خلال نسيان نفسه، وإنكارها من أجل أن يمنح الحياة للنصّ، لكن فولفغاج آيزر يذهب إلى غير ذلك فيرى أنّ: "المتلقي يستكمل الجزء غير المكتوب من العمل الإبداعي، والموجود ضمنياً في العمل، والذي يتطلب خيالاً لدى المتلقي، ليستطيع ملء فجوات النصّ أو اكتشاف فضاءات اللاتحدد حسب طريقة التلقي الخاصّة".(19) إنّ الاهتمام بالمتلقين لايعني إهمال العناصر المكوّنة للعملية الإبداعية، بل يستدعي معالجة نصوص ونوس المدروسة من موقع الشمولية والتكامل بين عناصرها وتقنياتها الفنية وصلاتها بالمؤلف والنصّ والمتلقي والذائقة الفنية والجمالية وحركة التاريخ والمجتمع.
أخيراً وليس آخراً، ووفقاً لجماليات التلقي فإنّ القارىء أو المتلقي أصبح هو الأساس الذي تنطلق منه عملية النقد أو قراءة النصوص والعروض المسرحية، لأنّه امتلك وعياً ومقدرة في محاكمة الوقائع والأشياء، قد تفوق طاقة النصّ ذاته، في راهن تتزايد فيه انتصارات العلم وتنتشر نتائج الثورات العلمية في كل بقاع الأرض، حتّى طال تأثيرها الأفراد بعد أن غيّرت من أحوال الجماعات والأمم.


(1)جميل حمداوي، مناهج النقد العربي الحديث والمعاصر(مكتبة المعارف: الرباط، ط1، 2010)ص27.
(2)روبرت هولب، م.س، ص 16.
(3)أحمد صقر، بين التذوق والنقد المسرحي، (مجلة عالم الفكر: الكويت، المجلد 28، العدد الثالث، مارس 2000) ص280.
(4)روبرت سي هولب، نظرية الاستقبال، ترجمة: دعد عبد الجليل جواد (دار الحوار: سوريا، اللاذقية، ط1، 1992) ص24.
(5)روبرت سي هولب، م.س، ص 23.
(6)السعيد الورقي ومحمود كسبر، في علم الاجتماع الأدبي (دارالمعرفة الجامعية: الاسكندرية، 1990) ص 179.
(7)هانس روبرت ياوس، جمالية التلقي، ترجمة رشيد بنحدو (المجلس الأعلى للثقافة: القاهرة، 2004) ص10.
(8)ايمانويل فريس، برنار موراليس، آفاق جديدة في نظرية الأدب، ترجمة، لطيف زيتوني (عالم المعرفة: الكويت، العدد (300)، فبراير، عام 2004) ص17.
(9)مجموعة من المؤلفين، مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ترجمة، رضوان ظاظا (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب: الكويت، عدد 221، عام 1997) ص8.
(10)إنريك اندرسون إمبرت، مناهج النقد الأدبي، ترجمة الطاهر أحمد مكّي (دار العالم العربي: القاهرة، ط1، 2010) ص162.
(11)هانس روبرت ياوس، م.س، ص11.
(12) جميل حمداوي، م.س، ص31.
(13)مجموعة من المؤلفين، م.س، ص135.
(14)جميل حمداوي، م.س، ص31.
(15)روبرت هولب، نظرية التلقي، ترجمة عزالدين اسماعيل (المكتبة الأكاديمية: القاهرة، 2000) ص52.
(16)عبد الناصر حسن محمد، نظرية التلقي بين ياوس وإيزر(دار النهضة: القاهرة، ط1، 2002) ص17.
(17)جميل حمداوي، م.س، ص31.
(18)أنريك اندرسون إمبرت، م.س، ص14.
(19)عبد الناصر حسن محمد، م.س، ص8.
 -;-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال فاخر ولغة رفيعة
ليندا كبرييل ( 2014 / 11 / 26 - 03:29 )
الأستاذ أدهم مسعود القاق المحترم

أكتفي بعنوان تعليقي، أهلاً بكم أستاذنا وبرؤاكم الرحبة

تفضل احترامي


2 - عتب
حمزة حموي، ( 2014 / 12 / 1 - 20:59 )
نحن بحاجة دراسات تطبيقية لهذه النظرية على نصوص عربية، مع احترامي

اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا