الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رامبو وطرق المعرفة الشعرية

عدنان محسن

2014 / 12 / 1
الادب والفن


رامبو وطرق المعرفة الشعرية:
ترستان تزارا
ترجمة : عدنان محسن
إنّه لتناسق خفي لا يُدرك في الحواس ذلك الذي يخترق عالم المظاهر ليجمعه بعالم الروح. لا شيء يسمح، من النظرة الأولى، بالقبض على ذلك الخيط المؤدي إلى نوعٍ كهذا من السحر، حيث يبدو كلّ شيء ضروريا وبديهيا وواضحا بشكل طفولي: لا تراكمات الزمن المتفكك ولا التناقضات السافرة ولا تلك التوقفات الحمقاء أمام أي فتح جديد، مثلما يحدث للمرء أن يشيّد بابا على بضع خطوات من داره. وحده الاستقصاء حيث يكون الهدف مجهولا لأنّه يتعدى حدود المعلوم في الكائن وفي الأشياء ، وحده التقصي في الجوهر الفاعل للإنسان باعتباره خلاصة للآخرين في علاقاتهم مع المادة الخام، قادران على توفير إمكانية استشفاف الطريق الواجب اتباعها.
ورغم كلّ ذلك فأنّ كلّ شيء ويؤدي إلى تثبيط عزم من يأخذ على عاتقه، ومن تلقاء نفسه، مهمة السعي في هذا المنحى، ذلك أنّهم يقننون كل شيء على هيئة مراحل.
يقوم الشعر على مبدأ العمل المستتر والواقع بين حدود الموت ومواقع اللاوعي. إنّه شغف يلج الأعماق المنذورة للمغامرة. وهو نزهة خطرة وقد تحولت إلى شكل من أشكال العيش.
لكل لحظة تمزقات يواكبها فرح دائم يواكبها فرح دائم. والشعر هو الدوار والسلام والرضى بما تحمله اللجة من أوجاع وهو الفتح المشع في أعالي الأشياء.لا يتأتى عالم الشاعر من استكشافات في عوالم محدودة، بل من خلق تلك الصور التي يعثر عليها الشاعر في داخله ويعيد صياغتها عن طريق اللغة. وهي لغة ذات طاقة متجددة رغم شيوع الكلمات المستخدمة.
وإذا كان بإمكان القول إنّ الشعر يفتح عالما جديدا وحسيّا فأنّه من الممكن التأكيد على أن هذا العالم يرفض الصور المستوحاة من عالم الواقع وحده، لأنّ الشعر يعني بإعادة خلقها وتغيير بنائها. ويستمد عالم رامبو الشعري حيويته ليس من خلال عبارته الشعرية أو من خلال رؤيته للعالم وحسب، بل من دقة آفاقه وجسارة مفاهيمه وخاصة من خلال ذلك التوافق العجيب بين عدد لا يُحصى من الرؤى غير المصاغة بشكل نهائي والتي تعتمد في صيرورتها الشعرية على مخيلة تحتفظ بالمتبقي. رؤى ناجمة هي الأخرى عن آلاف التجارب الجماعية الموهوبة بالتساوي لكل واحد منّا.
لم يكن لشعر رامبو أن يتجاوز قيمة السحر الشخصي، رغم كلّ كل الاكتشافات التي أظهرت تناغم الكلمات في شعره وتقابلها غير المتوقع، لو أنّه لم يكن التعبير عن فعل شعري متشابك في نظام لغوي. ومن المؤكد أنّ قابلية الكلمات على تفجير ميكانيزم تداعي الأفكار مع تداعيات اللغة مرتبطة بإمكانات إستحضارية يكون الكلام فيها وسيلة التوصيل المألوفة ولا يمكن للشعر أن يعبر عن نفسه الّا عن طريق لغة قائمة على الإيصال والإيماء معا.
ورغم ضرباته الموجهة ضدّ البلاغة ورغم اختراعاته البارعة والدائمة، ورغم تنوع أسلوبه، وهذه هي شاعرية رامبو، فلا يمكن تحديد شعره وفق طرائقه في التعبير. إذ أنّ الشعر يبدأ حالما نتخطى حدوده. أنّه تجاوز دائم وشعر رامبو على وجه التحديد هو الأصل لمفهوم التجاوز، هذا الذي صار ميزة من مميزات شعرنا اليوم.
يحتكم التجاوز إلى محتوى القصيدة وإلى حقيقة تقول إنّ الذي يعبر عنه الشاعر بوعي يوسّع الخلفية التي يقوم عليها فهم القارئ. وقد تأتي تأويلات هذا الأخير بعيدة كلّ البعد عمّا يقصده الشاعر، غير أنّها تستبقي التجانس البنائي الذي شُيدت بموجبه القصيدة.أو فلنقل أنّها تبقي النبرة التي امتازت بها. أريد أن اقول إنّه من خلال الشحنة التي يبثها الكاتب تتضاعف أشكال المعنى لدرجة الاقتران بضرورات خاصة بالقاريء ومحكومة بتناغمات إن لم يكن يعرف فحواها فهو يعرف على الأقل حدودها. وعلى هذه الشاكلة تجيب القصيدة على تطلعات القاريء غير المعلنة والتي تجمع كلّ شيء في نقطة واحدة هي الإنعتاق من كلّ انواع المخاوف ذات الطابع المادي أو الأخلاقي وسواهما.
الّا أنّ أكثر ما يثير الإهتمام في شعر رامبو هو تلك القوة التي من خلالها يتحقق عالم متجدد بشكل غريب وهو أيضا حيوية الاندفاع الذي يسكن الشاعر وشعره، وهو كذلك عالم يوحي لكل فرد بأنّ الشاعر هو عالمه الخاص أيضا. عالم تمّ العثور عليه من خلال رامبو في أقصى أعماق الذاكرة.
إنّ ظهور رامبو الساطع في أفق كان ما يزال ملتهبا بنيران الكومونة لهو بحد ذاته إشارة للتمرد نفسه ودرس لا يُنسى في حقبة زمنية كانت فيها عقلانية فرنسا الرسمية متمرغة في الجبن والعار.
أنّ حداثة رامبو واقعية بالمفهوم الذي يكون فيه الاعتراف بالواقع مجرد شهادة، بالأحرى مطالبة بتغيير الحياة.
في شعر رامبو عذوبة إنسانية وقد علّم الشبان وعلى مرور العصور، إنّه لا وجود للشباب بغير التمرد الخالص واثبت أنّ بوسع النقاء تغيير الزمن وأنّ سلوك الشاعر لا يكمن في الانصياع إلى السائد أو الاستغراق فيه، بل في تخطيه بشجاعة تشحذ الإرادة وتحمي النقاء. شجاعة بدونها يكون بناء الروح متعذرا. وبالنسبة لرامبو، إنّ اكتشاف المجهول والذي لا يمكن البوح به، رغم وجوده الحقيقي والملموس في شعره المزدهر بما هو حسي لأنّه مبني أساسا على الإحساس وليس على العاطفة، يحمل سلفا مخاطرة يمكن أن تكون نوعا من " هرار" شعرية قبل أن تكون.
ألم يضع نفسه في أعماق الهوّة والتي نكاد نعرف نتائجها الآن؟ إنّه كان معنيا باستخراج الحقائق المطمورة تحت أنقاض النسيان. تلك الحقائق المنتشرة تحت ركام الخراب الذي تركته الحضارة وراءها في سيرها قدما نحو الأمام كما لو كان هذا الخراب مادة ليست صالحة للاستعمال.
أيمكن لمشروع رامبو الشعري أن يتوج بهذا النجاح المثير الذي نعرفه، لو كان وفيا لما هو شائع ومألوف وهل يمكن لنا أن نتساءل في الحدود التي نعرفها عن النجاح وعن الفشل، عن الخلق والهدم، إذا ما كانت كلّ هذه المفردات متطرفة، لكنها في ذات الوقت مرادفات لديالكتيك المعرفة الشعرية؟
نذر رامبو نفسه كلّة لمشروع المعرفة الشعرية هذا وإلى ذلك الفتح الذي اسمه الشعر، وعندما بلغ شأوه، لم يكن بوسعه، في نهاية المطاف، الّا التخلص منه وبشكل نهائي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع