الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة - المقهى- الموجعة ..الشكل البصري وهيمنة الملفوظ النصي

صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)

2014 / 12 / 8
الادب والفن


ينتمي المقهى إلى تلك الشواخص المكانية التي شكلت حضورها في الذاكرة الجمعية ، بوصفه منطلقاً للعديد من التيارات الفكرية والفلسفية والسياسية والفنية في مناطق مختلفة من العالم، ولم يكن العراق بمعزل عن ذلك ، فقد شكل المقهى جزءا كبيراً من ذاكرة المدينة وتحولاتها السياسية لاسيما تلك التي إنطلقت في ذروة الصراعات الفكرية والثقافية في القرن الماضي ، الأمر الذي جعل من المكان / المقهى منبراً لجماعة فكرية او تيار سياسي معارض أو تابع للسلطة الحاكمة، او جماعة من الشعراء المتمردين على قصائد التفعلية ومتفاخرين بقصيدة النثر ، أو جماعة فنية (تنظر إلى الماضي بغضب) كما نظر (أوزبورن) سعياً وراء التجديد في الحركة الفنية، بذلك بات المقهى مرتبطاً بالصفات التي تمثل مرتاديه ، فهناك (مقهى المعقدين ، وهنا مقهى القوميين، وذاك مقهى الشيوعيين ، ومقهى أم كلثوم ، ومقهى الزهاوي ، ومقهى الشابندر.. وغيرها) الأمر الذي جعل من المقهى جزءاً من بنية المدينة الثقافي ، ويعود ذلك إلى توافره على مصدر المعلومات الوحيد في المدينة متمثلاً بمذياع قديم تنطلق عبره اخبار العالم، فضلا عن تنوع الشرائح الأجتماعية التي شكلت بمجملها طبقات المجتمع .
ويبدو ان المخرج والمؤلف (تحرير الأسدي) قد افاد من بنية المقهى الإجتماعية وعمل على تشكيل فرضيات العرض المسرحي (المقهى ) تمثيل( مرتضى حبيب ، ياس خضير، محمد بدر، وسام عدنان ، حسين وهام ، تحرير الأسدي) سينوغرافيا ( علي محمود السوداني) والذي قدم مؤخرا على قاعة مسرح الرافدين في بغداد مؤخرا
.
ذاكرة المكان وذاكرة النص:
إتكأ المؤلف في صياغة النص الدرامي على توافر بنية مكانية جاهزة، تمثلت بحضور (المقهى) في الذاكرة الجمعية ، إلا أنه لم يركن إليها على نحو تام بل عمل على تفكيكها ، عبر أزمنة مختلفة من اجل تحقيق الإحالة الى الماضي والحاضر في الوقت ذاته ، إلا أن ذلك لم يجعل المؤلف قادراً على الامساك بعناصر النص الاخرى ، فعلى الرغم من توافر النص على مجموعة من الثيمات المتناثرة والتي جاءت على وفق أزمنة تعاطي الشخصيات معها ، إلا ان تلك الشخصيات ظلت تنتمي إلى نسق صوتي واحد ، الامر الذي بدا فيه ان النص قد تكون من شخصية واحدة وما الشخصيات الأخرى إلا إنشطارات عنها ، وقد جاء الفعل الإخراجي على وفق التقطيعيات النصية منسجماً مع الشخصية المنشطرة عبر الزمن ، إذ بدت الشخصية في لحظة وهي تتحول إلى (جندي) في حرب عراقية لم نعتقد يوماً أنها سوف تنتهي ، وفي لحظة إنشطار مغايرة بدت الشخصية في أزياء صحفي معارض لسلطة القهر المستمر، ولكن النسق الصوتي ظل واحداً ، كذلك هو الحال مع باقي الشخصيات ، فضلا عن ذلك فإن الإعتماد على الملفوظ النصي المتمثل باللهجة المحلية التي جاءت منسجمة مع فكرة المقهى على نحو عام إلا انها لم تكن منسجمة مع الشخصيات الدرامية ، ذلك ان المكان لايلغي خصوصية الشخصيات ومرجعياتها الثقافية، ولم يقتصر الامر على الشخصيات المتزامنة بل أن النسق الصوتي الواحد بدا حاضراً وعلى نحو اكثر وضوحاً مع شخصيات رواد المقهى التقليديين وهم ( حسين وهام ، تحرير الأسدي) إذ ان المؤلف عمل على إلغاء خصوصيتهم حتى بدا ان الحوار اللفظي منقسم بين الصوت والصدى ، فضلا عن إعتماده على الموروث الشعبي الذي يحكم (المكان / المقهى) من خلال تحويل تلك الشخصيات إلى (الراوي) وهما يتناوبان على سرد وقائع الماضي والحاضر بالأعتماد على الملفوظ المباشر والملفوظ المرمز ( هذولة منو ، هذولاك منو ) ، كما ان المؤلف عمل على المزاوجة بين الألفاظ اللغوية التي تتوافر في ألعاب المقهى ( الدومينو ، و الطاولي) والعمل على مزجها بالاحداث الرئيسة التي جسدتها الشخصيات الأخرى ، مستفيداً من منظومة الضوء التي أسهمت في تغيير الفعل الدرامي، من جهة اخرى إختار المؤلف الإعتماد على فكرة الصراع بين الشخصية والحدث، مبتعداً في ذلك عن الصراع الدرامي بين الشخصيات ، الامر الذي تحول معه النص إلى مجموعة مونولوجات لفظية تعمل بمعزل عن غيرها إلا انها تدور في فلك الاحداث الدرامية ذاتها، كما ان المؤلف لم تكن به حاجة إلى إعادة استخدام ملفوظات نصية تم توظيفها في عروض اخرى كما في مشهد (تعداد السنوات التي وقعت فيها الحروب) وهو مشهد تم تداوله في مسرحية (حروب) إخراج (إبراهيم حنون)، من جهة اخرى فإن المؤلف عمد إلى توظيف فكرة نصية مثيرة تمثلت في إيجاد مقاربات زمنية بين اجيال مختلفة من (الشباب) في حقب زمنية مختلفة إرتبطت جميعها بـ (المكان /المقهى) بوصفه مجتمعاً تكسرت على مصاطبه الخشبية احلامهم وطموحاتهم ، وتبادلوا فيه رغباتهم المكبوتة، وإنهارت فيه آمالهم في بناء دولة تحترم الانسان.
إختار المؤلف التعاطي مع فكرة لم تزل حاضرة في جيل من الشباب الذي (ينتمي المخرج وفريق عمله إليه) ، على الرغم من إنتماءها إلى اجيال أخرى، وقد تم تقديمها في تجارب مسرحية سابقة كشفت عن قسوة الحرب وعذابات الغائبين وذوي الشهداء، إلا ان تبني المؤلف لتلك الفكرة إرتبط على نحو اساس بالحاضر الذي يعيشه فريق العرض وهم يراقبون الموت وهو يسير بخطى متسارعة نحو (المقهى / الذاكرة) وملاذ البوح الاخير في زمن عليك ان تصمت فيه كثيراً قبل ان تصرخ بوجه سلطة الماضي التي قصمت أعمار الكثيرين بحروب لاتنتهي وبين سلطة الحاضر التي لا تدرك ان المستقبل لن يكون متوافراً ومشرقاً اذا لم يكن للشباب حضور وأمل.

ذاكرة المكان وفرضية العرض:
لم يعمد المخرج إلى تبني توصيفات تأويليلة تمنح المتلقي فرصة المغامرة في البحث عن المضمر وراء العنوان ( المقهى) بل ركن إلى تحقيق الشكل التقليدي للمقهى المتوافر في الواقع، من خلال الكشف عن مقترحاته الجمالية في توصيف (المقهى/ المنظر) الذي بدا متحركاً في فضاء العرض على وفق متطلبات العرض ، وعلى الرغم من ان حركة المنظر لم تكن من إبتكار هذا العرض فحسب بل ان مرجعيتها إرتبطت بعروض سابقة كما في مسرحية (قلب الحدث) تأليف وإخراج ( مهند هادي) فضلا عن عروض مسرحية أجنبية أخرى ، إلا ان الإختلاف يكمن في توظيف حركة المنظر وعلاقتها الفكرية والجمالية بالفعل الدرامي ، إذ بدت في هذا العرض منسجمة مع الشكل البصري الذي أسهمت الإضاءة في تحقيقه، فضلا عن ذلك فإن إعتماد المخرج على تأسيس افكار متناغمة مع حركة (المنظر /المصاطب) قد أسهمت في تطوير فعل التحول الزمني ، كما في حركة المصاطب التي تأتي تعبيراً عن حركة الزمن وتحوله من الماضي القريب الذي تجسد في شخصية (الجندي) إلى الحاضر القريب والذي تجسد في شخصية (العاشق) ، إلا ان ذلك التحول ظلت به حاجة إلى تبني مقترحات فكرية تستفيد من الشكل المتحرك ، والتي بدا أن المخرج قادرعلى تطويرها ، وقد بدا ذلك واضحاً في المشهد الذي جاءت فيه حركة المصاطب الخاوية كأنها مجموعة من (توابيت) لشهداء الحروب وهي تزحف في حركة بطيئة بإتجاه (المدينة /المقهى)، وقد جاءت منسجمة مع المنطوق اللفظي لشخصية الجندي ، إلا ان مثل هذه الإلتماعات لم يعمل المخرج على تبنيها ضمن نسق الرؤية الأخراجية بل نراه راح يعتمد الملفوظ اللغوي في التعبير عن الافكار التي ظلت بحاجة إلى معادل بصري ، على الرغم من ان السياق الدرامي فرض في مواضع عدة خلق تحولات شكلية في بنية (المنظر/ المقهى) إلا ان المخرج لم يتفاعل معها ، نذكر منها ان تحولات الاحداث إشترطت تغيرات مكانية متعددة كما في مشاهد (العاشق، والصحفي ، والجندي)، على العكس من حركة المصاطب التي ظلت تتخذ خطوطاً حركية مستقيمة بدت مغايرة للأحداث التي كشف عنها الملفوظ النصي، بينما إكتفى المخرج بإجراء تحول فقير في شكل (المصطبة) في مشهد (العامل) الذي رفع المصطبة على ظهره تعبيراً عن ضغط الحصار الإقتصادي عليه، وهي إشارة نابهة.

ذاكرة الاداء التمثيلي:
على الرغم من إحتكام العرض إلى عدد من الممثلين الشباب الذين إمتلك كل منهم خصوصيته الادائية في عروض سابقة ، إلا ان هيمنة الملفوظ النصي على ادائهم بدا واضحاً، ذلك ان الممثلين لم يمسكوا بسلوك الشخصيات التي إرتبط كل منها بسلوك ادائي مغاير عن الأخرى ، فضلا عن إرتباط كل شخصية بزمن مغاير عن باقي الشخصيات، إلا ان ذلك لم يمنع من توافر بعض الإضاءات الأدائية التي قدمها الممثل (محمد بدر) والذي جسد شخصية (العاشق) ، مستفيداً من مرونة جسده في الحركة والتنقل من فضاء (المقهى) إلى فضاء ( ذولاك) سعياً وراء حبيبته، كذلك هو الحال مع (ياس خضير) الذي إجتهد في تبني الملفوظ النصي حتى بات جزءاً من سلوك شخصية (الجندي) التي جسدها ، مستفيداً من توافر بعض المثيرات النصية التي تحاكي المتلقي وتثير ذاكرته الموجوعة، ويقع على عاتق المخرج والمؤلف إيجاد سلوك ادائي لكل شخصية وأن لا يكتفي بتوصيفات لفظية للتعبير عن الشخصية ، كما جاء في اللازمة اللفظية التي تبناها كل من الممثل ( حسين وهام ) والممثل ( تحرير الأسدي) التي نفترض بها ان تتحول إلى سلوك ادائي تعبيري لايقتصر حضورها على الملفوظ ، ونعتقد ان سبب ذلك يعود إلى أن المخرج إعتمد على المنولوجات الادائية للشخصيات من دون خلق صراع بين الشخصيات تسهم في الكشف عن سلوك كل منهم .

ذاكرة السمعي و البصري:
عمل المخرج على توظيف بعض المؤثرات السمعية التي شكلت حضورها في التعبير عن( ذاكرة/ المقهى) التي تشكلت عن طريق عدد من الاغاني التراثية القديمة ، الامر الذي أضفى حساً سمعياً وجمالياً على المكان ، إلا ان المخرج أغفل المكان الدائم التحول بين الماضي والحاضر ، من دون الأشارة إلى التحول السمعي ، من جهة اخرى فإن توظيف المخرج لأدوات المقهى في المشهد الاول جاء على نحو فاعل، ظل بعدها العرض يحتاج إلى وجود العديد من التنويعات السمعية التي تسهم في تنامي إيقاع العرض ، من جهة اخرى فإن إشتغالات السينوغراف ( علي محمود السوداني) داخل فضاء العرض بدت متفردة على نحو مغاير لتجاربه السابقة ، ويعود ذلك إلى أسباب عدة اهمها ، ان المنظومة الضوئية التي إشتغل عليها المصمم جاءت منسجمة مع الإخراج ولم تعمل بمعزل عنه من اجل خلق بهرجة لونية ، بل على العكس من ذلك فإن إشتغال الأضاءة في العرض إحتكم على توصيفات دلالية اسهمت في تطوير العديد من المشاهد لاسيما تلك التي ترتبط بإنضباط حركة الممثلين ، مع النسق الضوئي ، فضلا عن ذلك فإن التشكيل الضوئي أسهم في إنتاج شخصيات أخرى غائبة عن العرض في مواضع عدة منها مشهد (محمد بدر) في لقائه (بالمجاميع المسلحة التي تمنعه من لقاء حبيبته) ، إذ كان للإضاءة دور في تجسيد الشخصيات التي تتخذ من الظلمة مرتعاً ومسكناً والتي هيمنت على الحياة واطاحت بالمشاعر الإنسانية، الامر الذي أسهم في الكشف عن الوظيفة الفكرية والجمالية التي أسهمت الإضاءة في إنتاجها، ولم يقتصر الامر على الجانب الجمالي بل تعداه إلى مديات اخرى، ذلك أن إشتغالات المصمم جاءت خالية من الإرتجالات في التصميم والتنفيذ ، فضلاً عن كونها شكلت عنصراً فاعلاً في ذاكرة المقهى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با