الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رائحة الحرية...قصة قصيرة

جمال حكمت عبيد

2014 / 12 / 10
الادب والفن



في كل صباح أغتسل بالماء الجاري و أتوضأ لأصلِّي؛ عسى أن أحظى بشفاعة من يشفع لي يوم الحساب، فكنت أتبع حكمة ما لقيصر لقيصر وما لله لله... وما لي أنا العبد الفقير سوى متعة واحدة في المساء: شرب كأس من الخمر؛ كي أجلي بها اِنحباس عتمة الليل في صدري ..وأرى فيها ما أراه.. أسمعه ويسمَعني، وتذهب همومي ..وأندفع هامداً في فراشي بعد انتهاء خمرتي... وعند اِنبلاج الصبح أنهض مستغفراً ربي لذنبٍ اقترفته لا أعرف ما هو؟ واذهب إلى عملي!! .

وفي هذه الأيام وعلى أعتاب رأس السنة الميلادية الجديدة... كانت قد انسلخت روحي خلسة من بين كأسي، ورحت أطوف معها ببغداد؛ حتى توقفت عيني شاخِصةً أمام نصب الحرية، أبحث عن وطنٍ يأويني وتأريخٍ يسعدني ، واخذتني الحيرة ودمعتي اِنهمرت فوق خدي، وأنا انظر إلى النصب، أشم رائحة الحرية فيه وأحسب قطعه الملصقة عليه فرأيتها أربعة عشر قطعة.

سألت في نفسي عن القطع الأربعة عشر الملصقة في النصب :
من أي قطعة نبدأ يا وطني؟ فكل ما في الجدارية يمسني!! فهو تأريخ بلدي وتأريخي؛ ولم يخفِ ناحتها (جواد سليم)* أي شيء من التأريخ فيها ،وما أحس به من إحساس وطني في قوله (ليس الفن بالشيء الذي يحتاج إلى فنان فقط ، الفن هو العيش في بقعة ما، انه شيء يحدث بين انسان وما بين الأرض التي يعيش عليها، وهو بحاجة إلى فهم ومن يفهم شعباً جديداً وارضاً جديدة كلاهما الآخر يستغرق وقتا طويلاً)، قول به إحساساً جميلاً مس به مشاعري.

أخذتْ رأسي تدور بعد كأسي الثالثة، وهاجت في دواخلي أصيل الثورات والشهوات؛ وكأني أسمع صهيل الفرس، يخرج شامخاً رأسه، معانقاً السماء، وقد أرعب الكون بحوافره، ممزقاً صفوة الليل على الغزاة وعلى اللصوص وسراق الشعب ...ورأيت خلفه الثوار يركضون معه، حاملين رايات النصر، والشعب خرج مبهوراً بهذا، وأحاطهم برجاله ونسائه، يهتفون و يزلزلون الأرض بأهازيجهم وبصيحاتهم يحيا الوطن ..تحيا الحرية... رافعين رايات النصر بأيديهم وعينهم على أولادهم ، تغمرها الفرحة ينظرون اليهم متأملين لهم بغدٍ مشرقٍ...وصدى زغاريد النساء يختلط بصيحات الثوار يشجعنّهم ، رافعات أيديهن إلى السماء داعيات لهم باغتنام النصر... وانتقلت عيني إلى امرأةٍ حانية رأسها وقد احتضنت ابنها الشهيد تُقَبل جبينه، وتصرخ به أنت رفْعة رأسي وفخر أمتي؛ لولاك ولولا الرجال لنهبت خيراتنا وسبينا وباعونا في سوق النخاسة... ثم تصرخ بالحق والشهيد في حضنها: لقد عبّدتَ طريق الكرامة والحرية بدمك... تحيا الحرية . وتعلو صيحاتها وصيحات أشراف أمتها تساند الثورة؛ حتي تتكسر قضبان السجون الحديدية بيد الجنود والثوار الأحرار، وتعلو شمس الحرية فوق رؤوس أبناء وطني، والكل يهتف باسم الوطن والحرية والحياة السعيدة ، ناعمين بالحرية و بخيرات النهرين الخالدين دجلة والفرات، مخلدين اسم حضارتهم برمز الثور رمز الخصب المستخدم منذ زمن حضارات العراق القديمة حضارة سومر وبابل وآشور ، جاعلين الأرض جنة بسواعدهم...رافعين معاولهم ومطارقهم متأملين خيرات بلدهم، طامحين في البناء والتعمير.

ملحمة حقيقية قادها رأسي وكأسي، شممت بها رائحة الحرية، أتلذذ بتأريخ بلادي، وقد أعجبني ما رأيته وغمرتني الفرحة وبعثت السريرة في نفسي، ورحت أبحث في زجاجة الخمر عن خمرة أزيد بها كأسي؛ كي أحتفل بالنصر وأنتشي، ودرت بها فوق كأسي وكانت فارغة، أخذت أرجَ بها علّها تقطر لي فرحاً جديداً؛ لكن ذلك لن يجدي، ودفعت الزجاجة بقوة على يميني وسقطت على الكومبيوتر وانطفأ واختفت صورة النصب... عاودت العبث في الازرار كي أعيد الصورة ولكن دون جدوى، امتلكتني الحيرة وصارت افكاري تترنح معي بهذا الفال النحس، ابحث عن الثورة والثوار ولكنهم اختفوا ...
وصحت يا إلاهي من سرق النصب؟ لقد اختفى النصب من أمام عيني وعاد الليل يخنقني. أبحث في جنح الظلام عن وطنٍ فما عادت له صورة، و الأفكار تسري كدبيب النمل في رأسي ، وأسئلة كثيرة لم تفارقني:
من سرق النصب منا؟ فلا عاد صهيل الحصان يسمع ولا صيحات الشعب تدوي، واختفى الثوار يلوكون الخبز جوعاً، والغانمين كبرت كروشهم، واختلف حكمائهم على شكل ولون الراية التي يرفعونها، ففي كل ثورة راية ونشيد!! واختلف أسم المقاوم والثائر، وصار أبناء الشعب يثور الواحد على الآخر!! وكثر العويل والشهداء وسبي النساء والخطف وقطع الرؤوس بين ابناء بلدي؛ وما عاد هناك حلم لطفل كان يطمح بفرصة علم وبات يحلم بكسرة خبز وملجأ يأويه!! وتفرق البؤساء يسكنون المزابل... ونصب الحرية ما زال قائم في مكانه؛ رغم اِدّعاء واختلاف أبناء أمتي، وهجر الأصلاء الأرض تحت التخويف والترهيب، ولم يعد للثور رمزاً، و جف النهرين وتصحرت الأرض وتهجر الشعب ...
يا إلاهي لقد سأمت نفسي ...
قمت من مكاني مترنحاً في عتمة غرفتي، ورميت جسمي جثة هامدة فوق فراشي متأملاً بغفوة صغيرة تعيد لي اِنبلاج ضوء الصبح؛ كي أُصلّي وأدعو بالحرية لوطني .


جواد سليم*
تولد( 1920—1961) نحات من العراق ويعتبر من اشهر النحاتين في تاريخ العراق الحديث ولد في انقرة من ابوين عراقيين اكمل الدراسة الابتدائية والثانوية في بغداد
في عام 1959 شارك مع المعماري رفعت الجادرجي والنحات العراقي محمد غني حكمت في تحقيق نصب الحرية القائم في ساحة التحرير ببغداد وهو من اهم النصب الفنية في الشرق الاوسط ويبلغ طول النصب 50 مترا وارتفاعه 15 مترا. ولجسامة هذا العمل الشاق تعرض النحات الى نوبة قلبية شديدة اودت بحياته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية