الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج-5 من 8

حازم نهار

2005 / 9 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


د- الوطن والوطنية:
الوطن في تاريخنا وثقافتنا السياسية السائدة محدد بمجموعة من المفاهيم والتصورات ، لعل أهمها عندما يشار إليه ب " الحمى " ، وهذا يعني أن الوطن محض جغرافيا ، أو هو الجغرافيا الحاوية على الماء والكلأ والنار وحسب، و يتأسس على ذلك تقسيم العالم إلى "فسطاطين": أهل الحمى و الغزاة.
يتأسس على هذا الفهم تحديد سلبي للوطنية ، لتصبح معادلة تماماَ للموقف العدائي من الآخر ، أي الغازي أو المستعمر ، الذي يحاول انتهاك الحمى . وهذا يفسر لنا إلى حد ما ذلك الشعور بالنقص الذي ينتاب أغلب السياسيين في منطقتنا إزاء " المقاومة " ، على اعتبار أن هذه الأخيرة هي أعلى مرتبة من مراتب الوطنية ، بل ويشعرون بتفاهة أعمالهم ونشاطاتهم السياسية والثقافية إزاء قطرات الدم التي تضحي بها " المقاومة " ذوداَ عن الأرض والحمى والجغرافيا .
ربما تكون " المقاومة " مقدسة لأسباب أخرى أيضا ، فالفعل الميكانيكي (العضلي) عموماَ في ثقافتنا ، وأدبنا ، وفي الوعي الشعبي عموماَ ، أهم بما لا يقاس من الفعل الفكري أو الذهني . هذا الأخير ربما يكون محتقراَ عند البعض ، ولطالما أشير إلى المفكرين والمثقفين والساسة بأنهم أصحاب كلام فقط ، بينما جنود الحرب والمقاومة هم أصحاب الفعل الحقيقيين . من الأسباب الأخرى ربما لأنه في ثقافتنا وتاريخنا ، ولأسباب بدوية ، وأخرى دينية ، الموت له قدسية أكبر ، وهو مفضل على الحياة ، ولذلك يشيع في ثقافتنا السياسية اليوم نشيد ثقافة الاستشهاد .
ما زال تحديد الوطنية يتم بشكل سلبي ، أي بدلالة الآخر أو الخارج ، وبالموقف العدائي منه ، ولم يحدث للآن بناء الهوية الوطنية انطلاقاَ من الذات وحاجاتها وأهدافها بالدرجة الأولى ، ولذلك فهي تتطابق إلى حد ما مع " الشوفينية " .
خلال فترة مقارعة الاستعمار الغربي تطابق مفهوم الوطنية مع حركة التحرر وطرد المستعمر، ولم يكن في برامج معظم حركات التحرر العربية سوى نقطة واحدة هي تحقيق الاستقلال.
الجغرافيا ومقاومة الاستعمار هما العاملان اللذان يحددان هوية الوطن والوطنية في الثقافة السياسية السائدة، فهل كان هذا الفهم منتجاَ في الأزمنة الحديثة لدى حركات التحرر العربية والفكر القومي التقليدي ؟ وهل كانت النهايات سعيدة ومشرفة ؟ ، وهل يمكن اليوم تحقيق الاستقلال الاقتصادي والتنمية المتمحورة على الذات ، فيما لو تم تحقيق الاستقلال الجغرافي ؟
نعرف جميعاَ أن عناصر الدولة أو شروط وجودها تتحدد بالشعب والأرض والسيادة ، لكن هذا التحديد التقليدي للدولة بدأ يتغير، و هناك عوامل عديدة لعبت دوراَ كبيراَ في الحد من سيادة الدولة ، فوجود الدولة في عالم واسع يتضمن دولاَ متفاوتة في القوة يجعل من كل دولة بالضرورة ناقصة السيادة ، كما أن تطور المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية خاصة أفقد السيادة مفهومها المطلق ، مثلما حصل مع ألمانيا عندما منعت من التسلح ، وبعض الدول منعت من امتلاك الأسلحة النووية ، أو حتى من إرسال جيوش إلى الخارج ( اليابان ) ، أما بالنسبة للبلدان المتخلفة فحاجتها إلى رؤوس الأموال وأزماتها المالية الدائمة جعل من معظمها خاضعة لمؤسسات عالمية، وبالتالي ناقصة السيادة من خلال الشروط الموضوعة لمنح المساعدات ، خاصة ضغوط البنك الدولي والشروط التي يضعها لتقديم قروضه .
التطور التكنولوجي ، خاصة في السنوات الأخيرة ، أفقد السيادة الكثير من مقوماتها ، وزاد من فعل الدول المتطورة في جميع شعوب العالم ، كما اهتز مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ، وهو أحد القواعد الأساسية للمجتمع الدولي ، على أثر حرب الخليج عام 1991 عندما أقرت الأمم المتحدة حق التدخل الإنساني .
هذا لا يعني أن الجغرافيا غير هامة، إذ ستظل سيادتنا منقوصة طالما بقيت أجزاء من أرضنا محتلة، لكن السؤال الهام هو : هل السبب في نقص السيادة السورية مثلا هو فقط احتلال جزء من أرضنا ، أي الجولان ، أو غيره ؟
في عام 1871 تنازلت فرنسا عن إقليم " الألزاس – لورين " إلى ألمانيا بشكل " نهائي " ، حتى أنه تمت إزالة الإقليم من الخرائط الفرنسية ، ولكن بعد حوالي خمسين عاماَ عاد الإقليم لفرنسا. خلال الخمسين عاماَ كان هناك مقاومة فرنسية ، وقد سئل غامبيتا زعيم المقاومة عن " الألزاس – لورين " ، فأجاب " سنفكر بها دائماَ ، لن نتكلم عنها أبداَ " ، أما في المنطقة العربية يحدث العكس ، فنتكلم كثيراَ ، ولا نفعل إلا قليلاَ .
المعروف أن حدود بلادنا حددت من قبل السفير البريطاني في الهند في أوائل القرن الماضي ودون رأي أهل المنطقة ، فلنفترض أن هذا التحديد تم بطريقة تختلف بضعة كيلومترات في أي اتجاه وأي منطقة ، فهل كان ذلك سيغير من طبيعة فهمنا للوطن والشعور الوطني ؟ الجغرافيا هي إطار الوطن ، لكن الوطن أبعد من الجغرافيا . الأساس هو ماهية الوطن، وماذا يوجد فيه، أما الحدود الجغرافية للوطن فهي نتيجته وتتحدد به.
لم يكن الاستبداد السياسي مرذولاَ في تاريخنا السياسي ، بل على العكس ، إذ كانت فكرة " المستبد العادل " جزءاَ رئيسياَ من ثقافتنا السياسية . لذلك لا تجد تيارات سياسية عديدة أي حرج اليوم في الوقوف بشكل مباشر أو غير مباشر مع الاستبداد في اللحظات التي تتعرض فيها " السيادة الوطنية " أو بالأحرى " الجغرافيا الوطنية " للتهديد الخارجي . يؤكد ذلك أيضا الحماسة التي تبديها شعوبنا في مقاومة المحتل، في حين تتقاعس إزاء إبداء أي حالة احتجاج ضد ظاهرة الاستبداد.
كثيراَ ما يشار للوطن أو الحمى بصفات المرأة ، كأن يقال "سقطت بغداد العذراء" ، و "انتهك الغزاة حرمة البلاد" ، و "فلسطين المغتصبة"، وكل هذه التعابير تشير إلى أهمية بعد الشرف الأنثوي وحضوره الطاغي في ثقافتنا، فالمجتمع الذي تقوم ثقافته في جزء كبير منها على "الفضيحة و العار" لا يستثيره شيء كما تستثيره قضايا الشرف، وبدرجة تفوق الحرص على الأوطان .
قضايا الشرف يصبح لها أهمية قصوى عندما يأتي اختراقها من "الغريب" أو الخارج، في الوقت الذي يتقاعس فيه الغالبية لدى اختراقها من أهل البيت، و يصمت الجميع على فضائح "عدي صدام حسين" و غيره، و ربما يكون لهذا الأمر علاقة بمنطق أهل القبيلة الذين يتقبلون أو يصمتون على سلوك "شيخ القبيلة"، رغم أنه يسوسهم كالإبل.
إضافة للجغرافيا ومقاومة الاستعمار و الحفاظ على الشرف هناك محدد رابع للوطن والوطنية في الفكر السياسي السائد، هو الأيديولوجية، فلا أحد يتخيل الوطن والوطنية مفصولين عن الأيديولوجية. إذ إن كل إيديولوجيا، قومية أو إسلامية أو ماركسية، ترسم صورة ما للوطن والوطنية، وتنظر بالتالي لمن لا يشتركون معها بأنهم ضد الوطن ولا يتوافرون على شيء من الوطنية.
كل من هو غير مسلم ، وبشكل أدق غير " سني " مشكوك في وطنيته في فكر التيارات الإسلامية، و هنا أيضا يجري تقسيم العالم إلى "فسطاطين"، فسطاط الكفر و فسطاط الإيمان، وكل من يحاول الاستفادة من علوم الغرب وثقافته بعيد عن الوطنية في فكر التيارات الشيوعية التقليدية ، وكل من ينتمي للأقليات القومية ( الأكراد مثلاَ ) هو عميل للخارج بشكل أو بآخر في الفكر القومي التقليدي، فهذه الأقليات ما هي إلا إسفين مغروس في مجتمعاتنا سيستخدمها الخارج في النفاذ إلينا في الوقت المناسب!!.
السيادة الوطنية في قاموس أنظمة الاستبداد تعني قانون الطوارئ والأحكام العرفية ، واجتثاث المعارضين ، وقطع الطريق على الحريات ، واحتكار السلطة ، وإلحاق الإعلام ومؤسسات الدولة بها ، وتخويف البشر وامتهان كرامتهم ، رغم أن هذا الفهم لم يحافظ كما تشير تجارب عديدة على الوطن والوطنية .
يضع النظام الاستبدادي معاييره الخاصة التي تتناسب مع استمراره و مصالحه في تحديد " الوطنية "، إذ يجعل منها، بشكل أو بآخر، معادلاَ للولاء له، ولتصبح كل حركة معارضة لوجوده واستمراره خارج السرب الوطني ، فهل يعتد برأي الاستبداد في تحديد الوطنية ؟
الاستبداد من جهة ثانية يشوه التيارات السياسية والاجتماعية في المجتمع ، ويشوه انتماءها الوطني ، ويقدم فهماَ سكونياَ ثابتاَ لمفهوم الوطن والوطنية ، على عكس النظام الديمقراطي الذي يسمح في كل لحظة بإعادة اكتشاف الهوية الوطنية ، باعتبارها هوية متجددة ، وكائناَ حياَ ينمو ويتطور ويتفاعل مع الجديد والمتغيرات ، وهذا يعني أنه لا توجد ملامح للوطن دون الديمقراطية.
لا وطن بلا مواطن، ولا تحرير أو استقلال بدون حرية المواطن. أليست التضحية بحقوق الإنسان على قربان " الوطن في خطر " و " الوطنية " المفصلة على مقاس أنظمة الاستبداد ، هي التي قادت إلى هذه الحالة من " الهشاشة الوطنية " وتلك التشوهات في الانتماء الوطني ؟ .
المفهوم الجديد للسيادة الوطنية يتحدد بمدى احترام حقوق الإنسان ، فهي الأساس ليشعر المجتمع برمته بأن الدولة دولته ، وأن الوطن وطنه . يسأل البعض سؤلاَ ساذجاَ هو : في حال تعارض الوطنية مع حقوق الإنسان ، فلمن تكون الأولوية ؟ هذا السؤال ينطلق نظرياَ على الأقل من وجود تعارض مبدئي بين الوطنية وحقوق الإنسان .
السؤال الصحيح باعتقادنا هو: هل يمكن أن يكون هناك وطن، أو هل يمكن فهم الوطنية خارج إطار احترام حقوق الإنسان ؟ ، ماذا يعني الوطن دون وجود دستور ديمقراطي ؟ . الوطن هو الدستور وليس مجرد أرض نعيش عليها ونحبها.
مرجع الوطنية هو الدولة الوطنية ، وطالما لا يوجد دولة وطنية لا يمكن القول بإمكانية وضع محددات أو توصيفات حقيقية للوطنية ، أما الدولة الوطنية فهي دولة الكل الاجتماعي ، ودولة الدستور الديمقراطي ودولة القانون واستقلال القضاء ، وهي الدولة التي يمكن من خلالها فقط وضع معايير وتعبيرات قانونية واضحة لتوصيف العمالة والخيانة الوطنية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق