الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجديد الفكر السياسي حول إشكالية الداخل و الخارج 6 من 8

حازم نهار

2005 / 9 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


ه- الخطاب المناهض للعولمة و الغزو الثقافي:
لا يمكن فهم هذه المرحلة من تاريخ البشرية إلا على أنها استمرار وتعميق للمرحلة السابقة بما فيها من علاقات هيمنة, فما وصلت إليه البشرية اليوم هو نتيجة لصراعات سياسية واقتصادية على مستوى الدول و الشركات المتنافسة, و هذا يعني أن ثمة إرادات ومصالح مختلفة قادت البشرية بالترافق مع الثورة العلمية التكنولوجية إلى ظاهرة العولمة .
الخطاب السائد في منطقتنا إزاء العولمة هو خطاب الرفض، على اعتبار أنها موازية أو معادلة للأمركة، والاعتقاد بأن هذا الرفض يقود إلى مقاومتها وصد هيمنتها.
في الحقيقة إن احتواء العولمة على مشروع هيمنة أمريكية لا يلغي فوائد الانخراط فيها والفرص الإيجابية التي تحملها, كما أن البقاء بعيداً عن العولمة لا يعني أننا لا نخضع لقوانينها و تأثيراتها, لكنه يعني عمليا تحمل عواقبها ونتائجها السلبية من دون الاستفادة من نتائجها الإيجابية، و هذا يجعلنا نرى أن خطاب الرفض إنما يقود في الواقع إلى التشجيع على الاستقالة السياسية من العالم وتعزيز وتعميق الهيمنة بالضرورة . إن رفض العولمة اعتقادا أن هذا الرفض سيبقي على حظوظ أكبر للاحتفاظ بمواقعنا في المجتمع الدولي هو اعتقاد واهم لأن العكس سيحدث أي الاستبعاد المتزايد من الدورة الاقتصادية الدولية ومن سيرورة التغيير العالمي والإفقار المتزايد والانهيارات الشاملة .
الموقف الرافض للعولمة يطرح إمكانية قيادة "عالمثالثية" (على شاكلة مؤتمر باندونغ) أو تشكيل قطب عالمي اشتراكي لعملية الخروج من نظام العولمة, أي إمكانية تشكيل قطب "عالمثالثي" مضاد ومناقض لعالم العولمة، والانتقال نحو عالم خالٍ من آثار الهيمنة .
في الواقع لسنا اليوم حيال اختيار حر و إرادي بين نظام هيمنة ونظام استقلالي تحرري, فضلا أنه لا توجد في الواقع إمكانيات لتجسيد وتكوين مثل هذا القطب المضاد والمناقض لعالم الهيمنة أيا تكن طبيعته, هذا إذا لم نجزم بفشل المشاريع السابقة التي استندت للمنطق ذاته, إن كان على صعيد تشكيل قطب عالمثالثي أو على صعيد تشكيل قطب اشتراكي من خارج الظاهرة الرأسمالية ومضاد لها, فالتناقضات لا تنمو إلا بالتدريج ومن داخل الظاهرة وليس بالتخارج معها, حيث النقيضان الاجتماعيان الجدليان موجودان في عالم واحد ويرتبطان ببعض القواسم المشتركة .
إن منطق الرفض إزاء ظاهرة العولمة وتوهم إقامة بديل سلبي ومحارب ومجانب ومضاد بشكل مطلق للعولمة هو منطق واهم, فالدخول في العولمة وتقنياتها وحقولها وميادينها هو أمر حتمي ومفروض على كل مجتمع يريد أن يبقى في دائرة المجتمعات التاريخية و لا يريد أن ينسحب من الفعالية العالمية وينعزل ويعيش في عالمه الخاص . هنا يصبح من الضروري، و هو المتاح واقعيا، أن نتفهم آليات الهيمنة الجديدة وأن نسعى بكل الإمكانيات إلى تعديل وتغيير أثرها علينا وإبراز إمكانية مقاومة الهيمنة وشروطها من داخل العولمة ذاتها لتفكيك آليات الهيمنة والحد منها .
هل المخرج يعني الانخراط في العولمة والتسليم بها بدون مرتكزات ذاتية أو بلورة إستراتيجية إزاءها ؟
ثمة منطقان : منطق الانخراط السلبي في العولمة الذي يستند إلى طابع قدري أو تسليمي و لا يرى أي دور ممكن للذات في تحسين الشروط وتغيير بعض السياسات والحصول على بعض المكاسب الإيجابية وتنحية بعض السلبيات . المنطق الآخر هو منطق التمني والرغبة الذي يأمل أن تؤدي العولمة لإنقاذنا بفعل آلياتها وحسب من الاستبداد والتخلف والفقر .
إن الإشارة إلى خطر الانقطاع عن العولمة لا يعني أن للانخراط فيها بالضرورة نتائج إيجابية مضمونة و مؤكدة, إذ لا بد من توافر دور للذات القادرة على استثمار إيجابيات العولمة . هذا يعني أن الانخراط في العولمة دون بلورة إستراتيجية ذاتية لا قيمة له ، وهو ينسجم تماما مع منطق الرفض و لا يختلف عنه . هنا يأتي المخرج الوحيد: أي الدخول الفاعل في العولمة من منطق الصراع من داخلها في سبيل تحسين وتعديل موازين القوى المتحكمة بها ، وتحسين فرص السيطرة على جزء من آلياتها ، وبالتالي الحد من الهيمنة الأمريكية فيها وليس القفز فوقها أو التسليم لها .
أما بالنسبة للأهداف التي وضعتها البشرية لنفسها، والمتمثلة بالمجتمع الاشتراكي كبديل للمجتمع الرأسمالي، فإنها أهداف مشروعة. الاشتراكية كفكرة، كبعد اجتماعي، كحلم بشري في العدالة، لم تنته، بل ستظل البشرية تبحث عن الطرق الموصلة لهذا الحلم، لكن بالطبع بتصورات جديدة وآليات مختلفة. الاشتراكية اليوم بحاجة لإعادة صياغة و بناء من داخل إطار العولمة وليس بالتخارج معها, وما يمكن تحديده بدقة اليوم هو فقط مطالب محددة في العدالة الاجتماعية ، أما الاشتراكية كنظام عالمي بديل للنظام الرأسمالي، لا يمكن بلورتها دون العمل تحت سقف العولمة ذاتها ودون أن تتحدد معالم هذه العولمة وحدودها ومرتكزاتها على مستوى العالم . العولمة الرأسمالية بآلياتها المعروفة هي التي تفتح المجال لعولمة أخرى بديلة ، لأنها رغم كل أشكال الهيمنة فيها تحتوي داخلها على آليات تجاوزها .
و- ثقافة العولمة والثقافات المحلية :
ثمة مفاهيم أخرى درجت في ثقافتنا السياسية على علاقة وثيقة بمسار العولمة و بالعلاقة مع الآخر, كمسألة الغزو الثقافي و تهديد الهويات الوطنية و القومية، و طرح مفهوم "حوار الحضارات وتفاعلها" كمقابل لمفهوم "صراع الحضارات". بعض هذه المفاهيم لا يمتلك أي فعل سياسي محرك سلبا أو إيجابا، كمفهوم "حوار الحضارات" فكل الكتابات العربية حول هذا الموضوع لم يكن لها أي رصيد واقعي، والأسباب معروفة، فمن جانب لا يوجد قوى تسند هذه الفكرة، ومن جانب آخر بقيت طريقة التعاطي مع الفكرة في حدود الأيديولوجيا و الأخلاق. في حين ما كتبه صموئيل هنتغتون عن صراع الحضارات هو ما حدث على أرض الواقع ولا زال يحدث، لأنه كتب بدلالة السياسة و التاريخ و الواقع.
بداية نقول إن أي تهديد أو إلغاء للهويات الجماعية لا ينجم بالتأكيد عن توسع دائرة التفاعل والتشارك والتثاقف بين الثقافات,إنما ينجم عن غياب استراتيجيات فاعلة للمجتمعات الأقل تطوراً وللثقافات التي تحملها من أجل الاستفادة من حالة التفاعل الثقافي التي ترسيها العولمة بشكل موضوعي . وبالتالي فإن الطرح الذي لا يرى في العولمة إلا محاولة لتعميم النموذج الأمريكي في الحياة إنما يعكس مخاوف الجماعات الضعيفة أو العاجزة من المستقبل أكثر مما يساعد في الكشف عن تغيير الشروط غير المتكافئة التي يحصل فيها هذا التفاعل .
ثانياً: لن يكون لثقافة المجتمعات الضعيفة أي دور أو مستقبل فعلي إلا إذا أدرك حاملوها طبيعة هذا النمط الجديد من السيطرة الثقافية وآلياته وقاموا ببلورة الإستراتيجيات المناسبة التي تسمح لثقافتهم القيام بدور فاعل على مستوى المشاركة الإبداعية العالمية, وليس مجرد الإبقاء على الهوية الثقافية الخاصة بدون أي فعالية أو تأثير عالمي ، و دون إعادة بناء سمة العالمية أو الكونية في الهوية الثقافية المحلية ، وذلك ضد كل خصوصية منغلقة على نفسها .
وثالثاً: إن الثقافات على مر التاريخ قد وجدت في حقل تفاعل وتأثير متبادل ، وقد تحددت بينها على الدوام علاقات هيمنة وخضوع على درجات متباينة ومتفاوتة بحسب عوامل متعددة منها القوة الاقتصادية والعسكرية ، ومنها ما يتعلق بميادين الإبداع والثقافة, وبالتالي قد تكون العلاقة استلابية تجاه الثقافة الأقوى والمسيطرة، و تؤدي إلى سحق ثقافة المجتمعات الضعيفة، وقد تكون الهيمنة جزئية في أحد الحقول فقط كالمجال العلمي والتقني .
ورابعاً: إن السيطرة المادية ( أي الاقتصادية والعسكرية والسياسية ) هي العامل الحاسم في السيطرة الثقافية ، أي أن هذه الثقافة السائدة أو المسيطرة لا تسود بسبب تفوقها القيمي والأخلاقي والإنساني على غيرها من الثقافات ، إنما بسبب حملها من قبل المجموعات البشرية المتفوقة أو المسيطرة مادياً، ثم تأتي العوامل الأخرى لتلعب دوراً إضافيا في السيطرة الثقافية، كقدرة هذه الثقافة أو تلك على التجدد والإبداع المتواصل .
وخامساً : من الممكن بلورة إستراتيجيات فعالة للحد من السيطرة الثقافية أو الالتفاف عليها بطريقة تسمح لثقافة البلدان الأضعف الاستمرار والمشاركة في الإبداعات الحضارية, كما هو الحال بالنسبة للثقافات الأوربية في مواجهة الثقافة الأمريكية, لكن في حال غياب هذه الاستراتجيات الفعالة يصبح خطر الانسحاق والاستلاب و التماهي قائماً . هذا يعني أن السيطرة الثقافية الأمريكية لن تكون كلية وثابتة, فدرجتها تتبع شكل المجتمعات المتعاملة معها من جهة ، وتتبع تغير موازين القوى المادية داخل إطار العولمة من جهة ثانية . وهذا التغير عندما يكون لصالح المجتمعات الضعيفة سوف يتيح لها إعادة بناء ثقافتها وهويتها الخاصة على أسس ومرتكزات جديدة تمكنها من الفعل والتأثير والحد من الهيمنة.
وسادساً : لا يمكن إلا أن نرى أن ثمة خطاً واضحاً لنشوء ثقافة عالمية بحكم المتغيرات الهائلة في السياسة و العلوم و الاقتصاد و التكنولوجيا، و التي تتناول جميع المستويات أي القيم والسلوكيات وأنماط التفكير, و هذا أمر موضوعي لا يمكن لنا إلا التسليم به.
وسابعاً : إن أشكال الصراع بين الثقافات المحلية والثقافة الأقوى تتخذ أشكالاً متعددة، فإما أن تأخذ شكل التماهي بالثقافة القوية والاستلاب تجاهها والتسليم بها من دون شخصية ولا برنامج ولا مشاركة إيجابية, وإما أن تأخذ شكل الانغلاق على الذات وإعادة إنتاج ثقافة ماضوية ذات طابع هيمني رافض ومحتج على ثقافة العولمة وحسب . ويبقى التوجه الثالث الذي يشكل المخرج الحقيقي المأمول ، أي المشاركة الإيجابية في التفاعل الثقافي من خلال رؤية واضحة وبرامج و هويات قابلة للتجدد ومترافقة مع تعزيز المواقع المادية في إطار العولمة .
أسئلة العولمة هي ذات الأسئلة في الجوهر التي طرحت في عصر النهضة العربية لدى تعرفنا بالكائن الجديد آنذاك ، أي " الغرب المتفوق " والتي كوّنا حولها إجابات ترتكز إلى عقد النقص وفقدان الثقة بالذات ، ليسيطر علينا تارة هوس الدفاع عن الذات ، فبقينا كما نحن راضين و قانعين بجهلنا وتخلفنا, وتارة أخرى سحرنا الغرب بثقافته وعلمه و حياته حتى ذبنا فيه وفقدنا ملامحنا وهويتنا ولم ندرك عيوبنا ومشاكلنا .
إن الدفاع عن هويتنا لا يتحقق من خلال الحفاظ عليها كما هي, أي عن هوية الماضي, ولكن من خلال إعادة بنائها من أفق المستقبل، وفي إطار العولمة والثورة العلمية التكنولوجية, أي من خلال بناء العالمية فيها , والانتقال من حالتي الرفض والاستلاب المعيقتين لنمو هذه الهوية وتطورها, والتوجه نحو المشاركة الإيجابية في العالمية ، والعمل مع القوى الأخرى ، قوى المجتمع المدني العالمي ، على تفكيك السيطرة الثقافية الأحادية، وإعادة بناء العالمية من أفق التعددية الثقافية الكونية، وفي إطار الاحترام والتعاون والتفاعل المثري .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيقاد شعلة دورة الألعاب الأولمبية بباريس 2024 في أولمبيا الق


.. الدوري الإنكليزي: بـ-سوبر هاتريك-.. كول بالمر يقود تشيلسي لس




.. الصين: ما الحل لمواجهة شيخوخة المجتمع؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. إسرائيل تدرس -الأهداف المحتملة- للرد على الهجمات الإيرانية




.. سلاح الجو الأردني ينفذ تحليقًا استطلاعياً في أجواء المملكة م