الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الله والعقل واستمرار والوجود

صليبا جبرا طويل

2014 / 12 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



في زمن يتصارع فيه الإنسان ليسجل أن الله خصّه وحده دون
غيره من البشر بعظمة الدين وتعاليمه. في زمن يرى الجهلاء
أن الله الكون- العقل الكوني- خلقهم وحدهم ليديروا شؤون العالم.
أقدم هذه المقالة عسى أن يفتح العقل الكوني عقولهم، وأفئدتهم،
وضمائرهم ليتعلموا قيم المحبة والتسامح والعدالة، والمساواة ومعنى
التعددية، وقبول الأخر الذي يختلف عنهم من إخوتهم البشر دون
تمييز بالعرق، أو باللون، أو بالجنس، أو بالعقيدة....... لنعترف:
"أن الاختلاف مصدره العقل الكوني أما الخلاف فمصدره الإنسان".



الحواس تعمل كمستقبلات للمعلومات الصادرة عن البيئة الخارجية والداخلية لجسم الإنسان، فتقوم بنقلها عن طريق الأعصاب إلى الدماغ ليفسرها. الدماغ يحتاج إلى طاقة كي يستمر بعمله فيحصل عليها من الغذاء الذي يتناوله، والأكسجين الذي يستنشقه مع الهواء ليبقى على قيد الحياة. مجمل عمل الجسم هو خدمة الدماغ ليستمر بعمله وإلا توقف ومات الإنسان. فالدماغ يمثل المحتوى المادي الموجود داخل جمجمة الإنسان الذي يسيّر عمل أعضاء الجسم الإرادية والغير إرادية. حتى هذه النقطة يكون الإنسان فيها شديد الشبه بالحيوانات. ما يميزه عنها هو العقل، فالعقل كلمة معنوية و ليست مادية و يقصد بها القدرة على التفكير، وهي صفة يتميز بها الإنسان عن الحيوانات.

عقلنا يكون محدودا في معارف محددة في زمن تاريخي معين محدد، قديما كان أو حديثا. بمعنى أن عمل العقل هو ابن الزمن الذي يظهر فيه. لذلك يرتقي العقل بحدود معارف زمنه، ويتطور من زمن لأخر...تطوره يمكن أن يكون مقبولا أو مرفوضا، يخضع لمعارف المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان. في حال كان المجتمع حرا فكرا وقولا وعملا كان ارتقاءه أسهل، يُتبعها بنقلة نوعية للإمام لتسهل حياته. أما في حال كان المجتمع غير حر فكرا وقولا وعملا فانه يُتبعها بمجابهة خطيرة تعقد حياة كل من يعيش فيه. لذا معارفنا تتطور، وترتقي عاما بعد عام، أو تتجمد في زمن محدد، ونعيش في الماضي.

منذ ظهور الإنسان البدائي الأول منحه العقل الكوني الحرية المطلقة ليعمل ويجتهد ويبني الأرض، بكل العصور والفترات التاريخية التي تلت ظهوره كان عقل الإنسان في تطور فكري مستمر ومثمر. تطور الفكر يصاحبه تطور المجتمع، وتطور المجتمع يصاحبه تطور الفكر، فكلاهما توأمان لا ينفصلان سوى عند من حشر عقله وقيده في الماضي.

ظهرت الخرافات والأساطير لإعطاء تفسير مقنع لأبناء الزمن الغابر عن نشأة الكون ووجودهم، فسرت كيف يسير الكون في نظام منظم، وفرضت وجود قوة خفية تقف وراء هذا الانجاز الرائع. نجحت في طرحها لأنها أقنعت العقول وأسرتها بالسر الغيبي الذي يقف وراء هذا البناء المعجزة، الذي يفوق عقولهم قوة ومعرفة. في كل جيل ظهر رجال ونساء يمتلكون القدرة على تفسير ما يدور حولهم من غرائب في الطبيعة باستخدام العقل، فكانوا أصحاب رؤيا وفكر ثاقبين تميزوا عن إقرانهم واستطاعوا أن يبنوا بتسلسل مفاهيم عن تطور العالم وبناءه.

كل شيء في الوجود له تفسير يتقيد بزمن ظهوره، مرتبطا بالكم الثقافي، والمعرفي، والعلمي لتلك الفترة التي ظهر فيها. لهذا السبب اندثرت حضارات وأديان، وخلفتها حضارات وأديان جديدة. وبناء على هذا التفسير يحدث التغيير، فالتغير يمكن أن يكون بطيئا أو لا يكون معتمدا على البناء الاجتماعي والعقائدي والفكري لذلك المجتمع، وتطوره العلمي، كما إن العقل الكوني الجبار دائم الوجود وليس محصورا على فئة دون غيرها من البشر.


ما جاء في الكتب والتعاليم الدينية، وبغض النظر عن الانتماء لأي عقيدة أو طائفة دينية في كل زاوية من زوايا الكون ُيعد الله خالق كل شيء في الوجود...مثلا، في سفر التكوين 2: 19 نقرأ: " وكان الرب الإله قد جبل من التراب كل وحوش البرية وطيور السماء وأحضرها إلى ادم ليرى بأي أسماء يدعوها، فصار كل اسم أطلقه ادم على كل مخلوق حيّ اسما له". من هذه الآية نستدل أن الله- العقل الكوني- طلب بكليته من ادم أن يستعمل عقله بحرية دون تدخله الإلهي - يعني أعطاه الاستقلال، وحرية الفكر والاختيار- بذلك فطم عقل ادم على التفكير الحر، ومنح الإنسان الحرية الكاملة ليفكر. هذا الدرس الإلهي الأول من العقل الكوني – الله الكون- لم يستطع البعض، كما لا يرغبون أيضا في زمننا الحاضر من استيعابه وفهمه، فقيدوا بدورهم الحرية الفكرية وجعلوا لها حدود، ونصبوا أنفسهم أولياء عليها.

قديما فسر الإنسان سبب الظواهر الطبيعية، وسبب وجوده فربطه بوجود قوة عظيمة تتفوق عليه كثيرا، لم يستطع أن يحددها، فاقت مستوى معرفته، لذلك توجه إليها بالصلاة والعبادة كي يتجنب شرها .لكن عقله لم يتخلى يوما عن تفسيرها واكتشاف سرها، فعندما تمكن من حلها ضحك من جهله. فما أشبه اليوم بالأمس. المكان ثابت، والزمن متغير. العقل يسعى للمعرفة، والمعرفة لا تنتهي، فهناك دائما شيئا جديدا. هناك أشياء لم ندركها بعد، تعد للبغض معضلة مستعصية وللآخرين تحدى حله ممكن ووارد. إنها مشكلة إرادات وقدرات عقلية. فما كان بالأمس يشكل إعجازا علميا أصبح اليوم في متناول العلماء.

من خلال العقل الذي وهبنا إياه العقل الكوني، استطاع العلماء من تقدير عمر الأرض، وتحديد مراحل تطور الإنسان والكائنات الحية الأخرى، وتحليل العناصر الأساسية للمادة المكونة لجسم الإنسان، ومن تحليل وتفكيك الشفرة الوراثية لجينات الإنسان التي تناقلها عبر العصور المختلفة منذ نشاءه الحياة على الأرض. مستقبلا، لن اكفر إن قلت أن العلماء سيتمكنون من بناء الإنسان المتفوق المعدل جينيا، كما سيبنون مستقبلا حاضنات لأجنة ينمو فيها الأطفال ليلدوا معافين من أي مرض وراثي.لا ننسى أن العلماء ألان في طريقهم لبناء أعضاء للإنسان وزرعها مكان التالفة في جسمه في المختبرات المجهزة بتقنيات عالية جدا، الطبيعة ستستمر في تأثيرها على الإنسان وتحديه. فالتحدي بين الطبيعة والإنسان صراعا أزليا لن يتوقف، وسيستمر الإنسان في تحديه لها.

كجنس بشري -وككل المخلوقات الأخرى التي تشاركنا الكوكب- فإننا نحمل جينات إبائنا الأوائل الذين ظهروا على وجه الأرض منذ ملايين السنين، مع وجود تغيرات حدثت لأسباب بيئية أو كيميائية أو إشعاعية. إن كان ما ينقل عبر ملايين السنين هي الجينات إذا يمكن اعتبار الجينات، المادة الضرورية للوجود المستمر للجنس البشري وتوقفها يعني اندثار الجنس البشري. إذن هي مادة الوجود على الأرض، فالإنسان وسيلة يعمل على استمرار وجودها ونقلها . فبالرغم من موت الإنسان، وانفصال روحه عن جسده، فان الجينات تبقى هي أغلى ما يملكه البشر، ويحق لنا أن نقول أنها مخلدة كونها تنتقل من جيل إلى جيل .

إذن نحن نمرر الشفرة الوراثية التي تمثل السر الأعظم في حياتنا من جيل إلى أخر، لذلك يعتبر الوجود عند البعض معضلة تحتاج إلى حل وتفسير بعيدا عن العلم، فلا مجال للتفكير الجامد في عالم يتسارع في التطور. فلن يزيد من قامتنا العلمية شيئا إن حاربنا العلم، والأفكار، والتطور، ووضعنا لها مقاييس تحجمها. البديل الوحيد هو أن نكون شركاء في صنع ودفع عجلة النمو والتطور. والحل المناسب هو الدخول في سبق العلم والاختراعات وتفسير الكون معتمدين على عقولنا وذكائنا البشري الذي وهبنا إياه العقل الكوني.

من أجل التاريخ، لنقف برهة وجيزة، ونحاسب أنفسنا، كشعوب عربية كان لها في الماضي عصر ذهبي علمي مزدهر تفوقت به على أمم، وشعوب كثيرة. اليوم وبكل صراحة، لا مكان لنا بين الأمم، فنحن نقف على مسافة بعيدة من تقدم البشرية وانجازاتها العلمية بتفكيرنا الحاضر لن نتمكن من اللحاق بتلك الأمم. معظمنا يعرف السبب والمتسبب، يعرف من يحاصر الفكر ويهاجمه، يعرف من يقف وراءه. منهم من يعيش بيننا ومنهم من يعمل لأجندة خارجية وينفذ سياستها. يريدوننا أن نكون شعوب بلا عقول، أو بعقول خالية لا تفكر، بلا ثقافة بلا مستقبل، يريدوننا أن نكون لا شيء... اتسائل أحيانا لماذا نغتال العقول؟ لماذا نقتل العلماء؟ لماذا نحاصر التفكير، ونمنعه؟ ما الهدف من وراء هذا كله. بالرغم من كل الدماء التي أريقت في الربيع الدموي العربي فإننا لم نحدث تغيير جذري ينقلنا نحو المستقبل. فما أكثرنا في ذكر الله-العقل الكوني- وما اقلنا في العمل بمشيئته. نحن ندعي التقوى، ولا إيمان لنا، بسبب عدم تطور الوعي لدينا سيستمر الاقتتال بيننا. فالعقل الكوني هو محبة وسلام، مساواة وعدالة. أمراضنا الاجتماعية والفكرية والعقائدية ستستمر إلى أن يسيطر العقل على العاطفة والدوافع الغير مبررة للاقتتال.

الله -العقل الكوني- سرمدي، أزلي، دائم وأبدي الوجود. منحنا حرية التفكير واستخدام العقل الذي ميزنا به عن غيرنا من الكائنات الحية، الجنس البشري يسير تصاعديا في تطوره عبر كل الأزمان، نحن نفسر وجودنا مما هو موجود في الطبيعة. حتى لو فسرنا أدّق مكوناتها واستطعنا أن نبني مثلها فلن يتوقف عقلنا بالاستمرار في دوره بالتطور، فالإنسان يفكر يحلل يفسر يكتشف ويخترع ولا نهاية لهذه السلسلة، فهي مستمرة عبر كل العصور، ولا مجال لوقفها إلا لعقول لا تريد التغيير والانتقال من زمن إلى أخر.

الغلبة في عصرنا هذا للعقل، للتقدم المنفتح بلا حدود، المجبول بالإيمان بقدرة الإنسان، وليس بالإيمان الروحي المنغلق على ذاته فقط... فليس في أدياننا ما يمنع التفكير وإحكام العقل والمنطق، من يحتكره ويمنعه يعمل لمصلحته، وليس لهدف ديني سامي.

من أين جئنا؟ والى أين سننتهي؟ أسئلة فلسفية سنستمر في طرحها جيل بعد جيل، وفي كل عصر من العصور. فالإبداع الكوني لم يأتي من فراغ. العقل الكوني، الذي ندعوه ونعتبره الله الكون، هو المدبر والخالق، وسيد التاريخ، معه، وبه سيستمر تطور العالم وتجلياته العلمية والفكرية. نجد ذاتنا من خلال عظمته وحده يمثل وحدة الكون والوجود والإنسان في فضاء شاسع لا نهاية ولا حدود له. فمن يدعى عدم وجود الله كوني عليه أن يشحذ عقله ويستثمر في أفكاره ويبحث عن حقيقة العقل الكوني الجبار ويجتهد في استنتاجاته. سيجد عندها أن الله الذي يبحث عنه يتجسد أيضا في القيم الإنسانية من محبة وعدل ومساواة وحرية وسعادة وأخوة إنسانية والتي تمثل سر الوجود. وسينتهي معترفا بان العقل هو سيد الموقف، والعقل الكوني الجبار- الله- سيبقى سيد المواقف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كل لاحترام أستاذ صليبا
سلام عادل ( 2014 / 12 / 26 - 16:50 )
أنجبت بيت لحم شخص الرب يسوع، وأنجبت ايضا رجالا شرفاء مثلك أستاذ صليبا، فكل التحية لك. ليت القارئ بكلماتك يستخدم العقل ويمجد خالق العقل، وبالتالي يحب الحياة ويحتفل بالحياة مع كل إنسان في الوجود بروح الإخوة الانسانية مهما اختلفت الأفكار والعقائد والديانات. كل إنسان حر باعتقاده ما دام اعتقاده لا يضر الآخرين ولا بشتمهم او يحتقرهم. تعب العالم من الكراهية والحروب وسفك الدماء. نحتاج الى شريعة المحبة لجميع الناس بقبولهم كما هم وبدون شروط مسبقة. وكل عام ومشرقيا ينتفض من فكر الظلام والعنف والتدين المجرم الى فكر النور والسلام والإيمان والمحبة لله ولكل الناس


2 - رائع سردك لمفهوم الله وهو العقل الكوني
مروان سعيد ( 2014 / 12 / 26 - 17:38 )
تحية لك وكل عام انت والجميع بخير
هذا هو الكلام المنطقي والناجع في هذا الزمن الاغبر والذي يعتقد كل انسان نفسه مالك للحقيقة وغيره على ضلال مبين ويجب مسحه عن الوجود
وصحيح كلامك الرائع
عسى أن يفتح العقل الكوني عقولهم، وأفئدتهم،
وضمائرهم ليتعلموا قيم المحبة والتسامح والعدالة، والمساواة ومعنى
التعددية، وقبول الأخر الذي يختلف عنهم من إخوتهم البشر دون
تمييز بالعرق، أو باللون، أو بالجنس، أو بالعقيدة....... لنعترف:
-أن الاختلاف مصدره العقل الكوني أما الخلاف فمصدره الإنسان-.
نعم لايوجد بالكون شيئين متطابقين وحتى اوراق الشجرة الواحدة وجمال حياتنا بااختلاف فكرنا ومواهبنا وحرفنا والا حياتنا ستكون مملة وسقيمة وسنكون مثل الرجل الالي المبرمج
ومودتي للجميع


3 - تحياتى
ناصر لوذعي ( 2014 / 12 / 26 - 20:42 )
تحياتى

اخر الافلام

.. شبكات | مكافآت لمن يذبح قربانه بالأقصى في عيد الفصح اليهودي


.. ماريشال: هل تريدون أوروبا إسلامية أم أوروبا أوروبية؟




.. بعد عزم أمريكا فرض عقوبات عليها.. غالانت يعلن دعمه لكتيبه ني


.. عضو الكنيست السابق والحاخام المتطرف يهودا غليك يشارك في اقتح




.. فلسطين.. اقتحامات للمسجد لأقصى في عيد الفصح اليهودي