الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السِّبْسُوقِيّة التونسية أم الطريق إلى الميتا- ديمقراطية؟

محمد الحمّار

2015 / 1 / 1
العولمة وتطورات العالم المعاصر


لا يمكن أن يرضى المتابع للشأن التونسي تمامَ الرضا عمّا يجري في مجتمعٍ استهلّ اللعبة الديمقراطية قبل أن يهيئ ميدان اللعب حيث أنّ هذا المجتمع شكّل "المؤسسات الديمقراطية" قبل أن تتأسس الشخصية الديمقراطية. ما أتوقعه كنتيجة لذلك – إذا لم يقف الشعب (الواعي) بفضل نُخبه (الواعية) وقفة حازمة لتجنبه- هو أنّ المؤسسات لن تكون ديمقراطية وبالتالي ستميل إلى احتواء شخصية المواطن وتطويعها لكل شيء إلا للديمقراطية. كما أفترض أنّ عندئذ سيتمثل الاحتواء في إرغام المواطنين على تقبّل أنماط هجينة ومنبتّة من السلوكيات والمواقف. فهل حصل مثل هذا التعاكس بين المؤسساتي والإنساني في التجربة الديمقراطية التونسية وإن حصل فما هي تمظهُراته ، وماذا يستبطن من سلوكيات ومواقف هجينة، وما هي الجهة/الجهات المسؤولة عنه، وكيف يتمّ تصحيح المسار الانتقالي؟

من بين الأحداث/الظواهر التي نستطيع من خلالها أن نستقرأ وجود سبقٍ للتكوين المؤسساتي على التكوين الإنساني وأن نقف على حقيقة آثار هذا السبق أذكر أمرين اثنين: الترخيص لحركة النهضة (في سنة 2011) بأن تؤسس حزبا ينشط في العلن، وظاهرة "التنافس" على الرئاسة.

بخصوص العامل الأول، أعتقد أنّ العقل المجتمعي التونسي أبدى سذاجة موصوفة حين وافق على الترخيص لحركة النهضة - بالرغم من خلوّها من مواصفات الحزب السياسي- بأن تنشط في العلن. ولم يكن للمجتمع أن يلفظها ويمسح يديه منها إلا بعد أن عانى منها الأمرّين على امتداد ثلاث أعوام من حكمها بمعية حزبين آخرين تحت جمعها بهما اسم "الترويكا".

ثم إنّ الخطير في الأمر هو أنّ المجتمع لم يستيقظ من سباته ويتأكد من عدم أهلية الإسلام السياسي (النهضة) للحكم إلا بعد أن انتهت في الأخير ما أَعتبرها مهمة النهضة الأساسية (غير المصرح بها) والتي جُلبت من خارج حدود الوطن من أجل القيام بها، ألا وهي حرمان المجتمع التونسي من تشريك المكوّن الفكري الديني الإنساني في تأسيس النظام السياسي الديمقراطي.

ولئن يبدو أنّ هنالك تناقض بين "إسلامية" حركة النهضة والصفة الإسلامية التي أفترض أنها راحت ضحية النهضة (الإسلامية افتراضا) فما هو إلا تناقض ظاهري حيث إنّه سيتضح لنا- لاحقا ولو بصفة ضمنية- أنّ التوظيف المناسب للإسلام في بناء الديمقراطية شيء و الإسلاموية شيء آخر.

و الأخطر من استبعاد المكوّن الفكري الديني الإنساني هو أنّ المجتمع قد لفظ الإسلام السياسي موهما نفسه أنه قد انتصر بينما في الواقع لا النهضة انتصرت ولا منافسوها انتصروا ولا المجتمع انتصر. إنّ الكل مهزومٌ - جوهريا- مهما كان حجم الفوز - الشكلي- للانتقال الديمقراطي والمتجسد في الانتخابات.

ويتجسّد الانهزام العمومي في واجهتين اثنتين: أولا، في عدم حيازة المجتمع على صنفٍ أساسي من الالتزام الديمقراطي الذي ينبغي أن يتوفر إلى جانب الالتزام بإنجاز الشكل الديمقراطي. إنه ذلك الالتزام الضروري لبناء الشخصية المناضلة في المجال السياسي الديمقراطي. وهو التزام من الصنف التواصلي الذي من المفترض أن يؤكد أنّ السبقَ يكون للبُعد الإنساني على البُعد المؤسساتي، بينما الذي حصل هو العكس، أي سبق المؤسساتي على الإنساني وذلك مردّه الضعف الفادح في التكوين الذاتي للفرد والمجتمع.

ثانيا، بفضل الاستنتاج المستقَى من الواجهة الأولى سنخلص إلى الواجهة الثانية، وهي المتعلقة بالعامل الثاني (ظاهرة "التنافس" الرئاسي). فحتى هو حمّال للهزيمة والانهزام ولغياب الالتزام. فالذي حصل قبل وبعد الانتخابات الرئاسية (خاصة في الدور الثاني حين بقيت في السباق شخصيتان مرشحتان فقط) لم يكن تنافسا بقدر ما كان تنافرا بين المرزوقي والباجي قائد السبسي. وقد أسميتُ هذا التنافر "السِّبْسُوقِيّة".

والسبسوقية ظاهرة لكني لا أخالها قد زالت بزوال "التنافس" على كرسي الرئاسة (في هذا اليوم 31-12-2014 قد تسلّم الباجي قائد السبسي مهامه كرئيس للبلاد). إنها مرشحة للتواصل – ولو في أشكال أخرى- لأنها متصلة بعوامل عدّة راسخة في القِدم. وقد تدوم بدوام أسبابها ولن تزول إلا بزوال مبرراتها.

تتمثل السبسوقية في كَون عامة الناس وأخُصّ بالذكر منهم الشباب (لِما له من دور ضروري في عملية بناء المستقبل) ملتصقين بمن انتُخب/ بمن لم يُنتخَب من بين المرشحَين، دون أن يدّخروا لأنفسهم وقتا أو جهدا أو مساحة لطرد الأشباح الإيديولوجية التي تنبعث من الشخصيتين الاثنتين حتى يكون هذا الادخار مبعثا على التفرّغ لتطوير الحياة العمومية كما يحبّون ويشتهون، متحررين من استيلاء دابة السياسة –السياسوية- على عقولهم.

هكذا تكون السبسوقية استلابا لقرار العقل السياسي الفوقي واختفاءً للإرادة الجماعية وراء الإرادة السياسية المؤسساتية العليا، لا بوصف هذه الأخيرة انعكاسا لمشيئة المجتمع وإنما بوصفها مؤسسة مشَخصنة. وبالتالي فالسبسوقية مؤشر آخر على غياب الالتزام، الفردي والجماعي، ببناء الشخصية، الفردية والجماعية طبقا لإرادة المواطن الإنسان. هكذا فقد تجسد الانهزام أيضا في موافقة المجتمع على مؤسسات لا تعكس أية روح ديمقراطية تتضمنها بطانته، فضلا عن خوضه غمار التجربة الديمقراطية وهو عارٍ عن رأس المال البشري، التكويني والتربوي.

بالمحصلة، ماذا يحدث حين تلتقي الهزيمتان، تلك التي مُني بها المجتمع إبّان الترخيص لظاهرة النهضة بأن تنشط وكأنها حزب سياسي، والأخرى التي مُني بها حين وقع في فخّ الفرز والتنافر الذي كان محوره المرزوقي/قائد السبسي؟ يحصل تكامل رهيب بين المشهدين الاثنين في قالب واحد للهزيمة: هزيمة العقل المجتمعي أمام العقل المؤسساتي (المشَخصَن)، والتي تؤشر على عدم الالتزام ببناء المؤسسات الديمقراطية على قاعدة تشاركية (أسفل/ أسفل، ثم من الأسفل إلى الأعلى، ثم أعلى/أعلى)، عدم الالتزام ببناء النظام الديمقراطي التونسي أي بتصحيح وتعديل الطبعة المتعارفة عالميا والإضافة إليها بما يضمن نوعا من الميتا-ديمقراطية.

يحق التساؤل الآن عمّ/عمّن كان مسؤولا عن هذا التكوين الخاطئ للشخصية الوطنية إزاء الاستحقاق الديمقراطي من جهة، وعن المخاطرة – موازاة مع ذلك- بترك المجال مفتوحا لإفراز مرآة مؤسساتية لا تعكس الشخصية الوطنية وإنما هي التي تتحكم بالشخصية، من جهة ثانية؟

أعتقد أنّ هنالك في ذات الحين مسؤولية فردية/جماعية من الصنف السيكولوجي والتربوي- الأسري والمدرسي والعام- وهنالك أيضا مسؤولية سياسية و مؤسساتية (موروثة) عرفت ذروتها في شكل الانبهار المرَضي بشخصية الحاكم إلى حدّ الاستلاب (ما يُعرف بعبادة الشخصية) والتي وصفناها أثناء عرض العامل الثاني.

في الباب السيكولوجي/التربوي لا يسعني إلا التأكيد على أنّ هنالك صنف من الاستلاب الخفيّ والخطير وأنه سليل الصنف الظاهر(الاستلاب للشخصية). هكذا تحق محاولة معرفة ما يلي: هل أنّ المواطن ملتزم بأن يرفض فعل الشيء الذي لا يرغب فيه؟ على سبيل المثال، رفضُ قراءة صحيفة لا تعجبه، أو قرارٌ بعدم مشاهدة قناة تلفزية يعلم أنها لا تناسب انتظاراته وميوله وتطلعاته، أو قرارٌ بعدم الإطلاع على مقالة صحفية ذات موضوعٍ محسومٍ من قبل، أوالاستنكافُ من الفرجة على فيديو فايسبوكي/انترناتي ذي موضوعٍ تمّ الحسم فيه من قبل؟

للإجابة أعتقد أنّ التونسيين لا يتوانون عن إنجاز مثل تلكم الأفعال، لكنّهم يفعلون ذلك بقوة العادة وبواسطة المحاكاة أكثر منه بقوة الاختيار الحرّ المشفوع بالفعل الإراديّ . وحتى في حال أنهم لا يعلمون ماذا يريدون، تراهم لا يبحثون عمّا يرغبون فيه، من أجل أن تكون قراءة مقالة متضمنة لإضافةٍ ما في مجال معرفة الموضوع المرغوب في اكتشافه أو في مجال تحقيق الخبر المرغوب في تقصّيه، أومن أجل أن تكون الفرجة على مقطع مصوّر أو متابعة حوار تلفزي أو تصريح سياسي مشتملة على إضافة تخدم هدفا معيّنا.

هؤلاء الناس الذين يتصرفون مع المادة الإعلامية، سمعية كانت أم بصرية، أدبية كانت أم إخبارية، بتلك الطريقة المخالفة للحرية، والذين ينجزون أفعالا خالية من المبررات العقلانية، وأيضا أولئك الذين لا يدرون ما الذي هم ميّالون إليه، ليسوا أقلية. إنهم يشكلون الأغلبية الساحقة. إنهم ضحايا التهافت على الديمقراطية. إنهم يتصرفون بالطريقة الموصوفة ربما ظنا منهم أنّ احترام الآخر وقبول الاختلاف يحتّم عليهم الإطلاع على مادة مكتوبة أو مسموعة أو مصورة مهما كان محتواها. إنهم يخشون أن يتهمهم الآخرون والعالم بأسره بأنهم غير ديمقراطيين لو أنهم رفضوا تقبّل فحوى مثل تلك المواد بصفة لاشرطية. إنهم يخافون من أنفسهم ويخشون ألا يكونوا ديمقراطيين أو ربما أن يُتّهموا بمناهضة الديمقراطية.

هكذا نفهم أنّ الأغلبية الساحقة لا تدرك أنّ الديمقراطية لا تعني قبول اللغو والحشو والكلام الفارغ والرأي الخاطئ، وأنها على العكس من ذلك محكومة بحرية الاختيار وأنّ الاختيار ينبغي أن يقع على الحق لا على الباطل. أعني في نهاية المطاف أنّ هذه الأغلبية متدربة على استساغة خطأٍ تقديريٍّ مفاده أنّ الديمقراطية تحتّم علينا قبول كل شيء بما فيه الباطل.

إنّ هذه العقلية لطالما استغلها قادة الرأي في كل أصقاع الدنيا وربما في كل العصور لحمل الأغلبية الشعبية على قبول جانب كبير من الباطل على أنه مقبول جماعيا ( أي ديمقراطيا على سُلّم العصر الراهن). ومن بين المواد الباطلة المعدة للتصديق "الديمقراطي"، الخارجية منها والداخلية أذكر ضرب الناتو لليبيا، و اغتصاب معمر القذافي ثم قتله والتمثيل بجثته، و شنّ "حرب ناعمة" على نظام بشار الأسد في سوريا بدعوى مساندة "قوى التحرر العالمي" للقوى "الثورية" في هذا البلد، والتطبيع مع الكيان الصهيوني، و قبول دستورٍ أشرفَ عليه خبراء من الهند وأمريكا وبريطانيا، والسكوت عن اختفاء مليار ونصف من مال الشعب مع وزير "الترويكا"، وثراء العديد من الوزراء من مال الشعب أو بفضل مناصب وافق عليها الشعب ظنا منه أنها ستمكنهم من خدمته هو لا من خدمة أنفسهم، و قد تطول القائمة.

أمّا في باب المسؤولية السياسية/المؤسساتية فأقتصر على تحميل المسؤولية على جهتين اثنتين من بين جهات أخرى، ألا وهما المؤسسة الإعلامية (الرسمية) والمؤسسة الدينية (وهي تقليدية فحسب). فالأولى مَثَلُها مَثَلُ الثانية في أنهما "تبيعان القرد وتضحكان على من يشتريه" كما يقول المثل الشعبي. إنهما تروّجان لكلّ ما اهترأ وما تكلّس وما فات وما بلى وما استُهلك وما اشتبه به وما تلاشى وما اندثر وما تعفن وما اضمحلّ وما مات، من أخبارٍ/تراثٍ ومن معلوماتٍ/آثارٍ ومن مواقفَ/فتاوَي وما إلى ذلك من المواد الرجعية التي لا علاقة لها بتطوير العلاقات الاجتماعية بالمعايير التي توصّل إليها الفكر الإنساني الكوني وبالقيم التي صاغها الفكر الحرياتي.

فلنضرب مثلا عن ضلوع المؤسسة الدينية التقليدية في الحفاظ على الوضع السائد:إنها بفعل تقوقعها وانطوائها على نفسها ورفضها للتجديد، تُعدّ في نظري أبرز الجهات المتسببة في ظهور الإسلام السياسي والحركات المتشددة. لكنها دوما تحاول البروز في ثوب أول من يتحدث عن مقاومة التعصب الديني وعن ضرورة مقاومة الإرهاب. لا حول ولا قوة إلا بالله.

كيف يسلك مجتمعنا سبيلا يخرجه من هذه الأزقّة؟ وكيف يتلافى اللفّ والدوران في متاهةٍ تتوفر فيها كل المساوئ ما بعد-حداثية التي تتراوح بين ألزهايمر الذاكرة الشعبية، وعبادة الوفرة المادية وفلسفة اللذائذ، ومرورا بالفردانية وما يتفرع عنها من سادية ومن مازوخية ؟ أعتقد أنّ الطريق الأوفرَ حظوظا لنيل رضا الناس أجمعين هو أيّ طريق تتوفر فيه علامات تُولِي الإرادة الإنسانية – التي تنبثق عن حريةٍ تكون مكتسَبة بفضل التجربة الميدانية- الأهمية القصوى، علامات تحث على تقديم الإنسان على المؤسسة، حتى تكون هذه الأخيرة أفضل متناوب عنه في حلحلة مشكلاته ومشكلات مجتمعه في ظل نظام ميتا- ديمقراطي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة