الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطاب المجتمع العربي المعاصر ما بين التحرر والإنهزام

فادي قدري أبوبكر

2015 / 1 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


خطاب المجتمع العربي المعاصر ما بين التحرر والإنهزام

لقد مرت المجتمعات العربية منذ عقود بموجات استعمارية غربية مختلفة ، فقد خضعت فلسطين للانتداب البريطاني وخضعت كل من لبنان والجزائر للانتداب الفرنسي . واليوم فلسطين مستعمرة من قبل العدو الصهيوني ولبنان على الرغم من استقلالها ،إلا أنه يمكن القول أن هذا الاستقلال غير ناجز تماماً فما زالت أجزاء من الجنوب اللبناني محتلة من قبل العدو الصهيوني حتى اليوم ، أما الجزائر والتي على الرغم من استقلالها بعد مليون شهيد، إلا أنها لم تتحرر من تفاصيل هذا الاستعمار ، فكما يقول فرانز فانون " التحرر الحقيقي ليس بالثورة فقط، بل في التحرر من إرث هذا الاستعمار". وعليه فإن فلسطين ، لبنان والجزائر تشترك في حقيقة عدم التحرر الفعلي من الاستعمار بغض النظر عن استمرارية وجوده أو خروجه .
لا شك إن الاستعمار الغربي الذي جاء منذ عقود طويلة ما زال مستمراً في كل من لبنان، فلسطين والجزائر بأشكاله المختلفة العسكرية أو الثقافية أو غيرها على الرغم من اندحاره من الجزائر مثلاً. ونتيجة لذلك فقد مرت مجتمعات هذه البلدان بتغيرات أساسية في النظم الاجتماعية والتقليدية لتلك المجتمعات ، وترك الاستعمار خليطاً من النظم والعادات والثقافة المتصارعة.
من الواضح أن التجربة الاستعمارية في الجزائر تركت عليها أثراً كبيراً، حيث ترك الاستعمار الفرنسي في الجزائر إرثا تاريخياً معقداً أدى إلى قراءات كثيرة ومتنوعة تراوحت بين اجتماعية وسياسية واقتصادية وإيديولوجية وغيرها.
لقد سعت دول مثل الجزائر بعد استقلالها إلى تنمية مجتمعاتها في مختلف المجالات : الاقتصادية ، الاجتماعية والسياسية. وذلك كان يتطلب تغييراً وتجديداً واسعاً في البُنى المجتمعية ، حيث تم العمل على إحلال منظومة القيم السياسية الحديثة محل منظومة القيم التقليدية العتيقة وذلك طبعاً من أجل تسهيل مهمة الدولة في التعبئة الاجتماعية والتنمية القومية بشكل عام.
في الجزائر فإن حزب جبهة التحرير الوطني -الحزب الحاكم في تلك الفترة- هو من كان يدير هذه العملية ، حيث عمل الحزب وخطط من أجل تسييس الجماهير وإعداد شباب متمسك بالمبادئ الثورية وملتزم بقرارات القيادة . أي أن التنشئة السياسة في المجتمع الجزائري في تلك الفترة كانت هدفاً أساسياً من أهداف الجهة الحاكمة ، وعليه فإن بناء هذه القوة بعد قيام الثورة أدى إلى إحداث تغييرات في البنى المجتمعية ، فالثورة الزراعية ومجانية التعليم على سبيل المثال أدى إلى ظهور طبقات اجتماعية جديدة إلى جانب نمو وازدهار الطبقة الوسطى.
بعد نجاح الثورة الجزائرية في طرد الاستعمار ، دخلت الجزائر مرحلة جديدة ، ولم تنعم برفاهية هذا الاستقلال ، فسرعان ما تصارع "المجاهدون" بعدها في نزاع على السلطة . ففرحات عباس أول رئيس للجزائر بعد استقلالها عام 1962 لم يمضي أكثر من سنة نتيجة لخلافات مع أحمد بن بلة الذي استلم رئاسة الجزائر من بعده، وتولى بعدها هواري بومدين الحكم إثر انقلاب عسكري في يونيو من عام 1965 . كما دخلت الجزائر في التسعينات في دوامة من العنف بعد أن تدخل الجيش ليمنع الحزب السياسي الإسلامي "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" من تولي السلطة ، وقتل أكثر من مائة ألف شخصاً أغلبهم من المدنيين. واغتيل بعدها بفترة قصيرة الرئيس الجزائري محمد بوضياف.
هذه التغييرات شيء طبيعي فالكون يمر بتغييرات دائمة وبشكل مستمر . ولكن التغييرات التي طرأت على المجتمع الجزائري لم تكن بالمحمودة ، فالزعماء السياسيين اليوم يتغنوا ببطولات قام بها الفلاح الجزائري في سبيل استرداد أرضه المغتصبة . وعلى الرغم من أن هذا الفلاح بقي مدة طويلة وحتى يومنا هذا في حالة من التخلف والقصور المادي والمعنوي ، إلا أنه ما زال متمتعاً بالروح الثورية والإرادة الوطنية للتحرر من الاستعمار . الفكرة هنا أن أشكال المقاومة في السياق الاستعماري تراجعت كثيراً في المناطق الحضرية، في حين بقيت راسخة وحية في وعي الفلاحين من المناطق الريفية.
ان النظام الحاكم إن كان يخدم الاستعمار ، فالتحرر منه هو تحرر من الاستعمار وإن كان عربي اللون. لأن التحرر الحقيقي لا يكون إلا بالتحرر من كافة التفاصيل التي تتعلق بالاستعمار ومن يخدم الاستعمار . ومن يرضخ للأمر الواقع ويصمت فهو مشارك بالخيانة الجمعية لهذا الوطن .
في لبنان ظهرت حزب الله والمقاومة اللبنانية كعسكرة مضادة منافسة للماكينة العسكرية الصهيونية ، وفي هذا السياق كتب المحلل العسكري ليلياخ شوفيل مقالاً بعنوان "حزب الله 2013" والذي يرى فيه أن حزب الله لم يعد حزباً عادياً فهو في تطور مستمر ودائم ، ووصفه بالحزب الأكثر استقلالية والأكثر تسليحاً والأكثر جرأة وشجاعة ، إضافة إلى إدخاله تغييرات جوهرية هامة في الأسلوب وآليات المقاومة. فالأخذ بالدروس والعبر من الماضي يجعل الحزب في تجدد مستمر وهذا ما ينجح أي حزب أو تنظيم في العالم ألا وهو التجدد في الفكر والأسلوب.
عندما تقوم الحركة الوطنية البارزة في أي مجتمع مُستعمر بالعمل على التجديد في الفكر والأسلوب ، تلقائياً سيصبح أبناء هذا المجتمع متمسكين بمبادئ الثورة وبالإرادة الوطنية للتحرر من هذا الاستعمار. والخائن الراضخ للاستعمار لا يكون هكذا إلا إن كانت له أغراض شخصية إلى جانب انعدام التربية الوطنية فيه . وهذا أظهره الفيلم ، حيث أن الشاب عبد الله الذي سوقه الفيلم على أنه في البداية تعامل مع العدو من أجل مصلحة شخصية تتعلق بالأرض ، لم يكن خائناً وإنما خدعهم وانقلب عليهم لأن التربية الوطنية حاضرة في وجدانه ، وهذه مسـألة في غاية الأهمية .
المجتمع الإسرائيلي يتميز بصبغته العسكرية، ويركز على التربية والتنشئة على المبادئ الصهيونية ، وللمؤسسة العسكرية الإسرائيلية دور هام في المجتمع الإسرائيلي وتشكيل الشخصية الإسرائيلية ، ، وقد ذكر روفائيل ايتان الوزير الإسرائيلي السابق "أن الجيش هو مشروع صهيوني من الدرجة الأولى .. انه الصهيونية الحقيقية"، بمعنى أن كل شخص في هذا الكيان هو جندي قبل كل شيء .وعليه ونتيجة للاهتمام الذي يوليه الكيان الصهيوني للمؤسسة العسكرية فقد نمت بشكل غير اعتيادي بالمقارنة إلى إمكانيات إسرائيل ،والتي جعلت من القيم العسكرية مصدراً لأسلوب الحياة. إضافة إلى ذلك فهناك عدة منظمات هناك عدة منظمات تشارك إلى جانب الجيش الإسرائيلي في توعية المهاجرين وتلعب دوراً مهماً في تشكيل الشخصية الإسرائيلية ومن أبرز هذه المنظمات:الجدناع (كتائب الشباب) و الناحال (الشباب الريادي المقاتل) ، حيث تهدف هذه المنظمات إلى خلق جيل موجه من الشبيبة وصهر الفتيان والفتيات في مجتمع واحد وإعدادهم لخدمة الجيش والمشروع الصهيوني الاستعماري.
في المقابل فإن العسكرة المضادة من قبل المُستعمر لا تقتصر فقط على السلاح والعتاد ، وإنما على التربية الوطنية والتوجيه والتعبئة الوطنية والقومية ، بحيث تكون هناك بلورة لعقيدة قتالية من أجل تعزيز الولاء والانتماء للوطن . وفي هذا الفيلم الذي يعبر عن نموذج عملية "الوعد الصادق" التي نفذتها حزب الله ، يظهر العقيدة القتالية المميزة التي يتمتع بها حزب الله . فالعقيدة القتالية تشكل أساس العمل المقاوم بالنسبة للمجتمع المُستعمر.
إلا أنه على الرغم من العمل المقاوم المميز الذي لعبه "حزب الله" في العقود الماضية ، تبقى مسألة ولاء الحزب للثنائي الإيراني – السوري وهو أمر لا يخفيه الحزب مسألة تستحق الوقوف عندها. خصوصاً وقد سطع نجم المسألة الشيعية من جديد على الواقع العربي، وما يترتب عليه من تداعيات وطموحات في المد الصفوي . أي المقصود هنا أن العقيدة الدينية الشيعية تبين أنها المسيطر والموجه لتنظيم "حزب الله " الأمر الذي لن يجعل هذا التنظيم سوى شبيه للأنظمة العربية التي تعمل لمصالحها القطرية الضيقة ، ألا وهي البقاء في سدة الحكم والسيطرة على ثروات ومقدرات الأمة .
في السياق الاستعماري الحديث في فلسطين ، لا أحد ينكر أن خطاب منظمة التحرير الفلسطينية والذي يمثل الخطاب الفلسطيني الجمعي قد مر بجملة من التحولات خصوصاً ما بعد أوسلو ، وانبثاق سلطة حكم ذاتي عُرفت بالسلطة الوطنية الفلسطينية. هذه التحولات في الخطاب طالت الجوانب السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية.
إن التحول في الخطاب الفلسطيني كان متوقعاً ،مدللاً على ذلك قول الشهيد القائد الراحل أبو إياد (صلاح خلف) " أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر" ، حيث أن هذه المقولة لم تأت من فراغ ، بل جاءت نتيجة تراكمات داخلية وخارجية على صعيد العمل العسكري التي بدأت ملامحه تتلاشى مع اقتراب توقيع اتفاق أوسلو ، الذي وضع أوزاره على ثقافة الشعب الفلسطيني ، حيث أصبحت ذات طابع انهزامي واضح.
فعلى الصعيد الداخلي كانت منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج لا تحمل سوى الخطاب الثوري التحرري والخطاب القومي الوحدوي العربي كخطاب مواجهة أساسي في مقابل المشروع الامبريالي الاستعماري ، وخارجياً بعدما اتضح حجم المؤامرة من "الأشقاء" العرب في تقويض منظمة التحرير الفلسطينية ، حيث بات واضحاً آنذاك أن الخطاب التحرري الثوري لم يعد مرغوباً به ومضر بصحة القومية العربية ! ، وثبت ذلك حينما أوصل العرب منظمة التحرير الفلسطينية إلى موانىء اتفاق المبادىء في أوسلو ودخول القيادة الفلسطينية إلى أرض الوطن.
لا شك في أن انتقال المنظمة إلى أرض الوطن يعتبر نقلة نوعية في شكل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ، فقد تحول الخطاب العسكري إلى خطاب سياسي بحت ينادي بحل الدولتين على أساس الاتفاقيات الموقعة والقرارات الأممية .
ظهرت مفردات وصياغات جديدة على الساحة الثقافية الفلسطينية ، مناصرة بدلاً مـــــــــن التعبئة الشعبية، الناشط بدلاً من المقاوم، العلنية بدلاً من السرية ، الحضور الإعلامي بديلاً للحضور الميداني المقاوم، عقلية الراتب بدلاً من عقلية المتطوع وحدث بلا حرج.
كان حلم الفلسطيني بأن يحرر أرضه من البحر إلى النهر ، وأصبح حلمه ومطالبه تتراجع شيئاً فشيئاً ، حتى أصبحت القدس الشرقية هي العاصمة المرجوة و الدولة المرادة على حدود السابع من حزيران / 1967م. ولا يُستبعد أن تُغيب مستقبلاً قضية اللاجئين في الخطاب الفلسطيني ، بحيث يتم عرض تعويضات أو حلول أخرى لمشكلتهم.
منذ أيام قام شبان من قطاع غزة بطرح قضية جميلة تحت عنوان "ماذا لو عاد عرفات و الياسين؟" ، حيث قام أحد الشبان بالتنكر على هيئة الشهيد الراحل ياسر عرفات ، وقام آخر بتوجيه سؤال لعامة الناس : ماذا لو عاد عرفات؟. وحينما رأوا الشاب المتنكر على هيئة الرئيس ياسر عرفات كانت ملامح وجوههم تعبر عن الكثير ، تعبر عن حسرة وألم ممتزجتان بشوق وحب. وقيلت عبارات مختلفة في القائد عرفات : "ياسر عرفات أب الشعب الفلسطيني" ، "ياسر عرفات أسطورة"، "ضعنا من بعده بصراحة"، "يا جبل ما يهزك ريح" ، "إحنا اشتقناله" ، "أبو عمار يا أبونا من بعدك دمرونا" ، "اشتقنا للوقت الي كان هوه فيه" وأحدهم قال "أيها الشهداء أدركونا ،، بكفي". هذه العبارات التي صدرت عن عينات عشوائية من المواطنين تؤكد تحول الخطاب التحرري لخطاب انهزامي ، وأن بطولات الشهداء اُستغلت وجُندت من أجل إرضاء طموح طبقة من المتخاذلين الخارجين عن الإرادة الوطنية للتحرر من الاستعمار . ولا يكون التمني بعودة الشهداء للحياة إلا لأن السيل قد بلغ الزبى. ولا يسعنا أن نقول سوى ما قاله الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي "ستون عاماً ما بكم خجل" ، فلعل إحياء الشهيد يخجل الخائن بما أنه لم يخجله شيئاً.

المراجع:

اسماعيل سعد، قضايا المجتمع والسياسة (مصر: دار المعرفة الجامعية للطبع والنشر والتوزيع، 2000).
قارح سماح، "التغير الاجتماعي والتنشئة السياسية،" مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، ع 2-3 (2008).
" المسار السياسي في الجزائر بعد الاستقلال (1962 – 2014)،"القاهرة – مركز الدراسات/ بوابة الوسط، http://www.alwasat.ly/ar/news/files/12780/.
مصطفى الأشرف، الجزائر : الأمة والمجتمع (الجزائر: دار القصبة للنشر، 2007).
فاروق غولي. المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ودورها في الصراع العربي الإسرائيلي 1948-1991(بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1999).
أحمد الزعبي، "حزب الله: النشأة – التنظيم - المشروع." حزب الله في لبنان ، مجموعة من المؤلفين.(دبي: مركز المسبار للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2012).
وسام الرفيدي،" من التحرير إلى الشرعية،" جريدة السفير، أيار.15،2013.
فيديو بعنوان " ماذا لو عاد عرفات والياسين !! " نشر بتاريخ 2/1/2015 ، https://www.youtube.com/watch?v=Z3zmKiIGNKM.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تضرب إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟ • فرانس 24


.. إدانات دولية للهجوم الإيراني على إسرائيل ودعوات لضبط النفس




.. -إسرائيل تُحضر ردها والمنطقة تحبس أنفاسها- • فرانس 24 / FRAN


.. النيويورك تايمز: زمن الاعتقاد السائد في إسرائيل أن إيران لن




.. تجدد القصف الإسرائيلي على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة