الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة الكردي وهوّية العراقي

عصام الخفاجي

2015 / 1 / 16
القضية الكردية



بات الحديث عن تراكب الهويّات مكرّرا. أمر طبيعي أن يكون المرء أرمنيا وسوريا، نوبيا ومصريا، أمازيغيا (بربريا، وفق التسمية العنصرية) ومغربيا في الوقت نفسه. حتى في إيران الإسلامية افتتح الرئيس روحاني نصبا تذكاريا لليهود الذين ضحّوا من أجل وطنهم إيران في حربها مع العراق. فلماذا يكاد شعور الكردي بأنه عراقي يبدو مستحيلا مع مضيّ الوقت؟
سأغامر بالقول بأن الهوية القومية الكردية بوصفها إحساسا يجمع الأكراد على اختلاف انتماءاتهم الجغرافية لم تتكرّس إلا منذ سبعينات القرن الماضي. أعرف أن كثيرا من القوميين الأكراد سيحتجون مشيرين إلى تبلور حركة ثقافية كردية منذ أواخر القرن التاسع عشر وإلى تمرد على الإنضمام إلى دولة عراقية آخذة بالتشكّل في 1920 وإلى ثورات امتدت بين 1961 و1991 تخللتها هدنات وهزائم. لكن تدقيقا تاريخيا يبيّن أن أيا من تلك التحولات الدرامية عجز عن حشد تأييد كل الأكراد وأن بث الوعي القومي الكردي أثّر في الحواضر المدنية بالدرجة الأولى. ولايشذّ هذا المسار عن تبلور الحركة القومية العربية وغيرها على امتداد التاريخ الحديث. فما يُسمّى بالنهضة القومية العربية انطلقت من مدينتي دمشق وبيروت والثورات ضد السلطة العثمانية لم تشمل كل أصقاع المشرق إذ ظلّت مصر بعيدة عنها وبقيت مراكز كبيرة مثل حلب والموصل ميّالة للعثمانيين.
منح اتفاق الحكم الذاتي عام 1970 حسّا جماعيا للشعب الكردي بقدرته على تحقيق إنجاز قومي بفضل حربه ضد أنظمة الحكم في بغداد إذ انتزع اعترافا قانونيا بحقه في إدارة كردستان (باستثناء كركوك) وتم الإعتراف بقيادة الثورة الكردية تحت زعامة الراحل مصطفى البارزاني ممثّلة للشعب الكردي. مذّاك لم تعد الهزائم في الحروب المستأنفة مع السلطة البعثية تلحق بقوة سياسية كردية محددة بل باتت هزائم يحسّها عموم الأكراد. ولا يقلل من هذا أن قطاعات تزيد أو تقل من عشائر مثل الهركي والدوسكي والزيباريين شكّلت أفواجا مدفوعة الثمن حاربت شعبها إلى جانب القوات الحكومية وأطلق عليها الأكراد تسمية "الجحوش"، ولم يعد انتقام السلطة التي توسّع جيشها إلى مليون عسكري يتّجه إلى الحركة المسلّحة فقط بل بات يطال السكان المدنيين.
تعزّز المآسي التي يتعرّض لها أي شعب حسّه بالإنتماء القومي المشترك، وبخاصّة إذ يواجه تلك المآسي وحيدا وسط لامبالاة الآخرين أو عجزهم عن تحويل تضامنهم إلى فعل محسوس يخفف من هول مصائبه. وعبارة "ليس للكردي صديق غير الجبل" تقول الكثير.
يعرف العراقيون ويعرف المتابعون عن "عمليات الأنفال". يعرفون أن عددا يراوح بين 100 و 180 ألف مدني تم دفن معظمهم أحياء تحت رمال صحارى جنوب العراق. لكن قراءة التقارير وسماع الأخبار غير معايشتها يوميا. أقتطف من رواية تسجيلية كتبها كريم كطافة وهو شاهد عيان من قوات الأنصار التابعة للحزب الشيوعي:
"أول أيام السبي: كان الطيارون يؤدون عمل الرعاة وهم يحودون القطعان الهائجة..مئات من البشر يهربون باتجاهات مختلفة... ينبثق صوت المذياع وهو يكرر بيان السبي العام (العفو)... عند مدخل كلي كاني مازي خلف سلسلة جبال صويا، سيارات حمل كثيرة وجنود ينتشرون كالذباب في المكان. تجري هناك عملية عزل الرجال عن النساء والأطفال. سيارات حمل للرجال ومثلها للنساء ... تصعد الشاحنات بتمهّل الطريق الأفعواني من الكلي إلى سفوح كانيكا. تختفي الشاحنات". سلّم القرويون أنفسهم وهم يرون عوائلهم تتضور جوعا وعطشا أمام أعينهم. شرب نصيران بولهما بعد إسبوع من الحصار.
"نسيج العنكبوت" هو عنوان الرواية. يقول نصير درس فن الحرب السوفييتي أن الجيش العراقي يطبّق إسلوب حصار بهذا الإسم ويندر استخدامه لأنه يُطبق على العدو من كل الجهات ولا يترك للمدنيين منفذا للهروب. هو، باختصار، ستراتيجية تتعمّد إبادة جماعية لا مجابهة عسكرية مع العدو المسلّح.
تسمية "الأنفال" التي أطلقتها السلطة على المذبحة ذات دلالة. الأنفال هي معركة بين أقوام لاجيوش تنتهي بأن يستولي المنتصر على الغنائم من العدو، أملاكه ونسائه. بعد عام 1988 حلّت محل أربعة آلاف قرية تم محوها مجمّعات كونكريتية لإسكان العوائل المهجّرة، ونشأت مناطق أسمتها السلطة "محرّمة" وانتصبت في مداخل كل مدينة وبلدة قلاع ذات تصميم موحّد تضم قوات الجيش وأجهزة المخابرات لتذكّر المواطنين (وتسمية مواطنين مجازية هنا) بأنهم شعب تحت الإحتلال.
بعد ثلاثة أعوام من الأنفال، زحف مئات ألوف الأكراد من جديد في سلاسل بشرية متجّهة إلى الحدود التركية والإيرانية بعد قمع الإنتفاضة التي شملت معظم العراق. كان الجنوب يتعرّض إلى بشاعات مماثلة لكن شبح الأسلحة الكيمياوية التي خبرها الأكراد من قبل كان يطاردهم.
حين سقط نظام البعث، كان المجتمع العراقي قد تفتّت بفعل عقود من البشاعات والحروب والحصار التي أصابت الجميع بدرجات مختلفة. تشظّى المجتمع العراقي ولجأ الأفراد إلى عشائرهم وطوائفهم بحثا عن الحماية وسبل تأمين العيش. أما المجتمع الكردي فكان يلملم جراح حرب أهلية دامية بين الحزبين الرئيسين: الديمقرطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني، حرب قسمت المجتمع جغرافيا وأوصلت الإستقطاب إلى مديات منذرة بالخطر.
نظريا، كان بوسع قيادة سياسية لنظام حكم أعلن تبنيه الديمقراطية أن تعمل على بناء ذاكرة جماعية توحّد ضحايا النظام البائد أو تقرّب بينهم على الأقل. لكن التاريخ لايسير وفق ما تتمنى النظرية لسوء الحظ. إذ لم يكن لقادة الطوائف وأمراء الحرب الجدد مصلحة في شحذ الذاكرة الجماعية للعراقيين من خلال سرديّة تركّز على البشاعات التي تعرّضوا لها جميعا. سرديّة تنطوي بالضرورة على مراجعة شاملة للذات يحك كل من الضحايا جروحه عبرها ويتأمل في دوره في إدامة نظام القمع. لقد استيقظت كل فئات الشعب من كابوس البعث مثخنة بجراحها ومنطوية على نفسها. وسنخدع أنفسنا لو انسقنا وراء شعبوية وردية تقول أننا لم نعرف التفرقة حتى جاء الأمريكان حاملين خطّة لتفتيت العراق. إذ هل كان بوسع أي مؤامرة، مهما بلغت درجة إحكامها، أن تحشد الملايين وراء قادة طوائفهم في الإنتخابات المتتالية منذ عام 2005؟ كان التأكيد على مظلومية الشيعة وسيلة القادة الجدد الذهبية لتعميق هوية الإنتماء للطائفة ولتأجيج استقطاب كان قائما أصلا. وكان بدهيا أن يرى السنّة أصابع الإتهام موجّهة لهم برغم الحديث عن ضرورة الفصل بين نظام البعث وبينهم، اتّهام وحّدهم في مواجهة الشيعي والكردي. ولا يقل بداهة شعور الأكراد بالغربة إزاء دستور أكّد كون العراق، لا عرب العراق، جزء من الأمة العربية وأنكر حقهم في كونهم هم أيضا جزء من أمة كردية. طالب العرب العراقيين بتثبيت هذا النص فيما لم يرفعوا صوتهم اعتراضا على دستور المغرب الذي عرّف البلد كأمة مغربية. تنبّهوا إلى أن سعي أسرائيل لتعريف نفسها دولة يهودية يحيل فلسطينييها إلى مواطنين من الدرجة الثانية ولم يريدوا أن يتنبّهوا إلى الأمر في العراق.
تقتضي الواقعية الإعتراف بأن المسار التاريخي لكردستان كان مختلفا، إن لم يكن متناقضا، مع مسار العراق العربي طوال العقد الماضي. ولايمكن تفسير هذا الإختلاف بالستراتيجيات التي اعتمدتها القيادات السياسية لجزأي العراق فقط، وإن لعبت تلك الستراتيجيات دورا كبيرا في تعميق الإختلاف. مسار كردستان متوافق مع اتجاهات العصر الذي مهما قيل عن عولمته فهو يظل عصر بناء الدول القومية لمن لم يتمتعوا بها حتى الآن: جمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق، نزاعات القوميات في إسبانيا والمملكة المتحدة وبلجيكا، انفصال التشيك عن السلوفاك، وحالات عدّة أخرى. فيما مسار العراق العربي يدور في مستوى أدنى يتمثل في الصراع حول شكل دولة مابعد الدكتاتورية، مدنية أم دينية تتظاهر بأخوّة الطوائف فيما تنقلب شوارع المدن وجسورها وأحياؤها إلى كرنفال من تسميات أئمة الشيعة وتُعلن المناسبات الدينية الشيعية عطلا رسميا للدولة، وتبثّ مؤسسات الدولة الإعلامية الأذان والخطب الدينية الشيعية كما لو كانت الخطاب الديني للعراقيين جميعا. وفوق هذا، فإن فتاوى المرجع الديني الشيعي الأعلى وخطب ممثليه تستحيل توجيهات على قادة الدولة الإمتثال لها.
في مقابل كل هذا الشحذ لذاكرة الطائفة، لاتجد في بغداد نصبا واحدا يخلّد أو يستذكر ضحايا ال"طائفة" الأخرى، خمسة آلاف كردي قضوا في حلبجة بالسلاح الكيمياوي، 180 ألفا في الأنفال. ليس ثمة يوم حداد وطني يذكّر العراقيين بما حلّ بأخوتهم. وفصل الطوائف والمكوّنات، كما يحلو للخطاب الرسمي وصفها، ورسم الحدود فيما بينها لم يدفع الدولة حتى للتذكير بوحدة الضحايا العرب والأكراد إذ قضى نظام البعث على عشرات ألوف المنتفضين العرب لإخماد انتفاضة 1991.
لقد تم رسم الحدود بين العراقيين، وآن الآوان لرسم حدود الجغرافيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كلمة حق
آكو كركوكي ( 2015 / 1 / 16 - 10:33 )
أعظم جهاد هو كلمة حق أمام جمعَ ظالم ، وأنتم تقولون الحق وتسيرون عكس التيار. فبورك قلمكم . وهذا الموقف الصادق لايليق إلا بإستاذ يقدس النزاهة العلمية. حتى لو أختلفنا في بعض التفاصيل الصغيرة.

اخر الافلام

.. بدور حسن باحثة في منظمة العفو الدولية: يستمر عقاب الفلسطينيي


.. تدهور الوضع الإنساني في غزة وسط تقارير بشأن عملية برية مرتقب




.. احتجاجات واعتقالات وشغب.. ماذا يحدث في الجامعات الأميركية؟


.. كابوس رواندا يؤرق المهاجرين.. بريطانيا تعدّ العدّة لترحليهم




.. برنامج الأغذية العالمي يحذر: غزة ستتجاوز عتبات المجاعة الثلا