الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس: ما معنى أن يشنّ أساتذة الثانوي إضرابهم لآن؟

محمد الحمّار

2015 / 1 / 22
الحركة العمالية والنقابية


من السهل - لكن من المؤسف والمؤلم أيضا- أن يموت مخرج سينمائي (الأمريكي دايفد كراولي، 29 سنة) بمعية زوجته وابنتهما الصغيرة وأن تكون الميتة مشبوهة بسبب تنديد شريطه بالنظام العالمي الجديد (الشريط بعنوان "جراي ستايت"- "الدولة الرمادية" ، وقد تمّ اكتشاف العائلة الميّتة بتاريخ 18-1-2015 بمنطقة آبل فالي بولاية مينسوتا). لكن من المستحيل أن يغتال 80,000 أستاذ تعليم ثانوي تونسي (ومعهم 20,000 أستاذ تربية بدنية) بسبب تنديدهم - مهما كان ضمنيا- بنفس النظام العالمي الجديد (إضراب يومي 21 و 22 من الشهر الجاري) مطالبين بتحسين وضعهم المادي المهين حقا.

قد تكون إذن أهمّ وأعمّ الدلالات لإضراب الأساتذة هي أنّه يمثل حملة استباقية ورسالة إلى كل جهة محلية تسوّل لها نفسها بأن تقصي القوّة القاعدية و النقابية الأستاذية من حسابات السياسة الاجتماعية والاقتصادية لتونس مستقبلا، لا سيما أنّ كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ الحكومة الرسمية الأولى- التي هي قيد التشكّل لتكون قائمةُ أعضائِها جاهزة في الأسبوع المقبل- ستكون ليبرالية التوجّه من الناحية الاقتصادية أي تابعة للمركز الرأسمالي العالمي المهيمن.

بالتالي فإنّ مطالبة أساتذة الثانوي بالزيادات في أجورهم يعَدّ أضعف الإيمان في بلاد فيها قلة قليلة تعتاش على حساب قوت الأغلبية وهي أقلية طامعة لا محالة في أن تكون الحكومة القادمة خير ممثل لها وأفضل مدافع عن مصالحها الحيوية. واستطرادا، لعل هذه الشريحة الاجتماعية التي تتمثل في أساتذة الثانوي أن تكون، بفضل حركتها النقابية، بصدد بناء اللبنات الأولى لمشروعٍ تحرري يهدف في الآن ذاته إلى مناهضة نظامٍ عالمي حالي يتسم بفلسفة التوحش الاقتصادي وإلى التصدي لمحاولة النظام العالمي الجديد اقتفاءَ أثر النظام الحالي أو ربما الإتيان بسياسات تتصف بأكثر تفقيرٍ للشعوب وبأكثر حيفٍ لفائدة رأس المال وأصحابه وعلى حساب العقل والأخلاق والقيم النبيلة.

من جهة أخرى، لئن كانت المجتمعات المتقدمة مستفيدة من النظام الرأسمالي ومعدّلة لتوحّشه الاقتصادي بفضل سياسات اجتماعية ناجعة في كافة القطاعات من بينها قطاع التعليم، فإنّ المجتمعات التابعة على غرار تونس باتت متضررة منه بشكل رهيب. لنقم بمقارنة عسانا نلمس مدى الضرر الحاصل للأستاذ التونسي. عالميا، يتقاضى أستاذ الثانوية شهريا مبلغ 7,000 د.ت (4,000 دولارا تقريبا) حسب دراسة تمّت مؤخرا في 36 بلد. وثبت أنّ الراتب المتوسط (بعد 15 سنة عمل) لأستاذ الثانوية في فرنسا قيمته 4,500 د.ت، و في المانيا قيمته 9,000 د.ت، وفي سويسرا قيمته 11,500 د.ت، و في الليكسمبورغ قيمته 18,000 د.ت. وحتى لا يقال إنه لا يجوز مقارنة تونس النامية ببلدان متقدمة، نكتفي بالتصريح بأجر الأستاذ في المغرب الشقيق، ألا وهو المقدر بقيمة 2,100 د.ت، بينما في تونس فيُقدّر الراتب المتوسط للأستاذ بزهاء 900 د.ت والأستاذ الأول المميز (أعلى رتبة في السلّم) لا يتلقى شهريا أكثر من 1,300 د.ت (تشتمل القسط الأكبر من منحة الإنتاج).

يعني هذا مما يعنيه أن بلدا مثل تونس أين مستوى العيش بلغ غلاءً أشدّ مما بلغه مستوى العيش في ألمانيا أو في فرنسا - في مجالات كثيرة- ومع هذا فإنّ الأستاذ التونسي يتقاضى عُشر الدخل الذي يتقاضاه نظيره الألماني، وخُمُس ما يتقاضاه نظيره الفرنسي، ناهيك أن نشبهه بنظيره السويسري أو الليكسمبورغي. كما أنّ ذلك يعني أنّ تونس، أين الدخل الفردي الخام أعلى مما هو عليه في المغرب الأقصى، هي بلد ينتفع فيه الأستاذ بأقل من نصف الراتب الذي ينتفع به نظيره المغربي.

في ضوء هذا نفهم أنّ وضع الأستاذ - في أيّ بلد في العالم- ليس مرتبطا بمطلبية مالية دون سواها وإنما هو رهنٌ بوجود خيارات اجتماعية شاملة ومتكاملة، وإرادة سياسية لتنفيذها، من عدمه. ويتضح أنّ مثل هذه الآليات غير متوفرة في تونس. وهذا ما يتجلّى من خلال الإيديولوجيا التي يعتنقها عامة الناس حول مطالب القطاع. فالناس مسكونون بمجموعة من الأفكار المسبقة تتلخص في عبارات مثل "ماذا يريدون؟!" و "ألم يَشبعواعطلا وراحة أموالا تدرّها عليهم الدروس الخصوصية؟!" كما ليس الإعلام براءً بشأن تكريس هذه الإيديولوجيا المتعاكسة مع المصلحة العليا للبلاد.

هكذا يكون الشارع والعائلة والطبقة السياسية والإعلام في تونس مخطئين في حق أستاذ الثانوي والمدرّس عموما. و مَن يتحدث عن الدروس الخصوصية ما عليه إلا أن يسائل نفسه من المسؤول عن استشرائها، وسوف يدرك أنّ المجتمع هو الذي يمارس ما يكفي من الضغط لإرغام الأستاذ -والمعلم في الابتدائية- على التنازل على كل القيم التي من المفترض أن يؤمن بها ويمررها للمتعلم من أجل إشباع رغبة أولياء التلاميذ في رؤية أبنائهم وبناتهم يجتازون الامتحانات بامتياز ثم يتسلقون السلّم الاجتماعي بجشع كبير، وإشباع رغباته المالية تباعا. هكذا يكون الطرفان الاثنان للصفقة من خيرة المنخرطين في المشروع الكمبرادوري العالمي المسقط.

كما أنّ كل مَن يجرؤ على محاسبة الأستاذ المادي مطالب بإلقاء نظرة على ما يسمى بالضوارب المعتمدة في احتساب الأعداد للتأكد من تغوّل مادتي الرياضيات والفيزياء/الكيمياء في مناهج التعليم وذلك على حساب المواد الأساسية مثل اللغات والاجتماعيات والإنسانيات والأخلاق والروحانيات. إنّ مجتمعنا أضحى للأسف مجتمعا يعبد المادة عبادة فينطبق عليه المثل الشعبي القائل "يأكل الدنيا ويتسحر الآخرة"، وإلا ما معنى أن يتقاضى مدير عام للبنك في تونس مبلغ 80 أو 100 ألف دينار شهريا؟!

بالنهاية، لعلّ إضراب أساتذة الثانوي في تونس مناسبة لتذكير الشعب ما قاله كبار القادة والتربويين في العالم على غرار الرسول الأعظم، محمد صلى الله عليه وسلم، ومارتن لوثر كنغ، ونلسون ماندلا، ولويس فاراخان، وكان روبنسن، ونعوم تشومسكي، ما قالوه حول مكانة المعلم، عساه أن يتبيّن أنّ رفاهية المجتمع رهنٌ برفاهية هذا الذي كاد أن يكون رسولا، وبالتالي أنّ كل إصلاح للمنظومة التعليمية رهنٌ بردّ الاعتبار للمدرّس وذلك طبعا من خلال متطلبات إصلاح المشروع المجتمعي العام، لا بمعزل عنه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا.. وقفة احتجاجية للمطالبة بإطلاق سراح رئيس منظمة ال


.. عدد المستفيدين من التأمين الصحي الشامل.. #معلومة_ع_السريع




.. مظاهرة بمطار أيرلندي احتجاجا على استخدامه في رحلات عسكرية لإ


.. متظاهرون مناصرون لفلسطين يدعون إلى إضراب في جامعة ميشيغان بس




.. مظاهرة في تل أبيب احتجاجا على حكومة نتنياهو وللمطالبة بإجراء