الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الراجل البركة

رمسيس صادق

2015 / 1 / 23
الادب والفن


الراجل البركة
دخل عبد السلام إلي الغرفة حيث تجلس زوجته حاملة إبنهما الرضيع علي حجرها. لم تذق طعم النوم البارحة و لم تستطع أن تحبس دموعها، متألمة لآلامه التي جعلته يصرخ بلا إنقطاع. يرقد حسين علي حجرها ملفوفا بجلابية و رأسه مغطاة و علي صدره يتدلي حجاب مثلث الشكل أعطته لها الست الغجرية التي تأتي كل حين و آخر و تضرب الرمل و توشوش الودع. عيناه بنيتان كعيني عبد السلام ويبدوان أكثر جمالا بعد أن كحلتهما صباح الأمس، أما أنفه الرقيق فيشبه أنفها. يبدو أن الحجاب لم يجدي فقد حسدته تلك السيدة في السوق من يومين عندما إمتدحت جماله. لم تكد تتذكر هذه السيدة الممتلئة حتي إنتابها الغضب و تمتمت " تندب في عينها رصاصة".

آخر بيت في الشارع في غرب البلد مكون من دورين وله بابين. أحدهما المدخل الرئيسى للبيت بباب كبير من الخشب المتين بمفتاح حديد يزن الكيلو جرام بالأضافة الي الضبة بمفتاحها الخشبي . علي العتبة العليا للباب حفرت العبارة " منزل يوسف ميخائيل مرزوق تأسس سنة 1928 ". علي اليمين يوجد مدخل دكان جدي الترزي ببابين و يغلق من الداخل بترابيس في الارض و بمنطقة من الخشب السميك محملة من الطرفين علي حوامل حديدية. دكان الترزي ذلك كان يتصل بالمنزل عن طريق باب جانبي يسمح بالدخول و الخروج من البيت و إنتقال صينية الشاي من و الي الدكان. في أمسيات الشتاء كان باب الدكان الخارجي يغلق ويجلس الزبائن و المتسامرون في الداخل يحتسون الشاي و يتلون القصص للتسلية حول النار المنبعثة من قصرية للتدفئة . كان الوابور المخصص لصنع الشاي بالبيت يكاد أن لا ينطفئ. فالشاي له أول دور، أسود اللون بقليل من السكر، ثم يغلي التفل ليصنع شايا خفيفا مع كثير من من السكر. وكلما أتي زبون او ضيف إبتدأ معه عمل الشاي من جديد و لطاما تسآلت كم من الوقت أمضت جدتى في عمل الشاي للضيوف.

عندمل تدخل الدكان تجد جدي جالسا علي اليمين و رجلاه علي دواسة الماكنة السينجر و في مواجهته دكة للزبائن و وراؤه بعض الأرفف عليها أثواب القماش الأكثر طلبا مثل أبو العينين و الجبردين و الباتسطا و الدبلان و الدمور. علي جانبه الأيمن يجلس مساعده منير علي ماكينة سنجر أخري و في نهاية الصف تجد الرفا الذي يجلس علي حافة دكة أخري لتثبيت القيطان و الشريط علي قبة و أكمام الجلالليب. هناك أيضا كنبة أخري عليها مرتبة للجلوس و أيضا للراحة في بعض ألأيام. كان هناك زوار من بلاد اخري و من الجوالين الذين يأتون للراحة ووجبة طعام في طريقهم. من هؤلاء كان ماسح الأحذية الذي كان يجلس بجوار سور الجنينة و بائع الغرابيل و بائع العطارة المتجول. كان جدي حريصا علي ان يذهب اليهم يحييهم و يسألهم إن كانوا يريدون شيئا. في أوقات كثيرة كان يحضر لهم طعاما من بيته. في إحدي المرات لاحظ الآسي في عيني ماسح الاحذية، الذي جاء من بلدة مجاورة ليمارس عمله بجوار سور الجنينة، و عندما سأله عن سبب حزنه قال له أنه اتخانق مع أم العيال و نسي الصبغة البني. ذهب جدي إلي الدور الثاني من المنزل و أحضر كيسا ورقيا به بعض من البودرة من اللون البني مما تبقي من طلاء أجزاء من الغرف بهذا اللون. أحضر معه اناء من الصفيح و به بعض الماء و أعطي الكيس و الحقة لماسح الاحذية الذي فرح بها ليكمل عمله بهذا البديل لصبغة الاحذية.


كنت أستمتع بالقصص التي تروي و أختلق المعاذير لأمكث معهم أو أبيت الليلة في بيت جدي لأستمع إلي القصص. فكرت مرارا أن أتعلم الصنعة لأستمتع بالسمر و القصص التي كان يلقيها الزبائن و خاصة بشكار الذي كان دائم الوجود و معه المغزل اليدوي ليصنع طاقية صوف. ضحكت عندما كان يتلي قصة من قصصه، التي لاتنتهي، عن رجل جاء من بلد بعيد ليزور اخته المتزوجة من شخص يدعي ضيف. خرج الرجل في الظلام و تاه عن بيت اخته في هذا الوقت مرت دورية الغفرا " مبن هناك؟". انا. " انت مين؟". انا ضيف. " ضيف عند مين؟". ضيف عند ضيف. اعيدت الاسئلة عدة مرات حتي فتح بشكار بابه و تعرف عليه و أنقذ الموقف .

حان وقت عودة عبد السلام من عمله بالحقل. تضع أم حسين الطفل علي الكنبة و تطلب من ابنتها فاطمة ذات العشر سنوات ان تأخد بالها منه حتي تعد طعام الغدا لوالدها. بعد ان تناولوا الغدا إقترحت فاطمة علي والدتها أن تنام قليلا علي ان تتولي هي العناية باخيها في وجود والدها. ما أن وضعت الأم رأسها علي المخدة حتي غاصت في النوم و لم تستيقظ إلا علي صوت إحدي الجارات التي جاءت لتسأل عن حسين.

في العصاري كنا نلعب أمام بيت جدي أو في جنينة كمال أفندي المواجهة لمنزله و بين الحين و الآخر أجري الي جدتي طالبا كوب ماء أو بعض الطعام. أري نوعا آخر من الزبائن. فهذا شاب يجلس امام جدتي بعينه المطروفة و هي تحك حجر الطرفة الاسود في محارة بعد أن تضع بها قطرات من اللبن و بعد ذلك تضع السائل في عين الشاب ليذهب ممنونا. و قد تري رجلا يسألها أن تعمل له كاسات هواء لان به ألم بالظهر. أما في الدكان فترى أمهات حاملات أطفالهن الصغار يبكون و يصرخون. تطلب الواحدة منهن من جدي أن يصلي للطفل. يخرج عود كبريت يغمزه في زجاجة زيت صغيره و يكتب به حروفا علي جبهه الطفل أو الرضيع و هو يتمتم ببعض الكلمات. كنت دائما في حالة انبهار عندما يكف الطفل عن ثورته. سألته مرة عن ماذا يقول و ماذا يكتب. فرد قائلا " الناس دي عندها إيمان و أنا مفيش بايدي حاجة، أنا حافظ كام مزمور أقرأ واحد منهم علي رأس الطفل و أكتب بعض كلمات المزمور علي جبهته و ربنا هو اللي بيتدخل. يابني أنا ماعرفش حاجة و الناس متعلقه بقشاية من الأمل و أنا مابحبش أحرمهم من الأمل و لو قلت ماعرفش ممكن يفتكروا إني مش عايز أساعد و يزعلوا أو يفقدوا الأمل.

في إحدي العصاري دخلت مسرعا إلي منزل جدي فقد كنا نلعب الكرة الشراب و طلبت من جدتي كوب ماء فاعطتني ثم طلبت مني أن أحمل صينية الشاي إلي الدكان للضيوف. دخلت ، فآشار جدي الي أن أقدم الشاي لبعض الضيوف ففعلت و قبل ان أخرج طلب مني ان أسلم علي الحاج إبراهيم فممدت يدي للرجل الشايب أبيض الوجه الجالس في أقرب مكان من جدي. سالني أن افتح يدي و أتركها و قال " إنت ها تتنقل من مدرسة صغيرة لمدرسة كبيرة. لك مستقبل عظيم و ستعمل في بنك كبير و ستتزوج مرتين وتعيش 78 سنة". ابتسم عندما اتذكر كلامه و إن كان يجب ان آخذ تنبؤاتة في تخطيطي للمعاش.

الدكان دائما بة رواد من كل الأعمار و من الجنسين فهو يصنع جلالبيب الرجال و النساء و قمصان نوم النساء و سوتياناتهم و سراويل الرجال و بيجامات الأطفال و الشباب. هنا كنت تسمع أسماء موديلات كثيرة و علي الأخص النسائى منها. " انا عايزة جلابية بقبة مربعة و لا لسان أم الجوز او أنا عايزة سيالة صرم القطة في كل جنب. كان المكان بهيجا بفرحة الملابس الجديدة خصوصا في الأعياد و بداية المدارس . زبائنه كانوا من المسيحيين و المسلمين الذين يعيشون في القرية أو بعض القري المجاورة. ففي بلدتنا كان كل الترزية من المسيحيين و الحلاقين مسلمين و المساح (متخصص في قياس الأراضي و تحديد المساحة) مسيحي و الجزارين كلهم مسلمين ماعدا المقدس نمر. أما البقالين فكانوا خليطا من أبناء الطائفتين اللتان لم يكن هناك فاصلا بينهما ظاهرا أو خفيا .

كان الفجر قد اقترب و إستيقظ عبد السلام كعادته حديثة العهد، وبعد ان ألقي نظرة علي علي بناته و زوجته التي ما زالت مستيقظة حاملة الرضيع، فاخبرها انه سيذهب ليصلي الفجر و يدعو للولد الذي أتي بعد البنتين. قامت فاطِمَة من نومها الذي لم يكتمل فهي لم تنم أيضا من صراخ أخيها حسين و كانت تغفو بين الحين و الآخر. طلبت الام من فاطمة ان تغلي بعض الماء لعمل كراوية. سالتها فاطمة ان كانت ستاخده عند عم يوسف الخياط علشان يقراله علي راسه؟ نظرت اليها الأم بأسي و قالت "أول ما الفجر يشقشق ها نروح عنده. دا راجل بركة بس أبوكي اللي مش راضي. من ساعة ما مشي ورا الشيخ السني و حالتة اتقلبت و بقي مش طايق حد و كل الناس عنده كفرة . ربنا يهديه مادينا طول عمرنا عايشين حلوين مع الكبير و الصغير و حبايب وأاحسن من الاهل."

أيام الآحاد أري جدي مارا من أمام منزلنا طويل القامة مرتديا الجبة و القفطان و العمامة البيضاء تعلو راسه و عصاه العوجة تتدلي من زراعه. كان يبدوا وسيما بلونه القمحي و ابتسامته المريحة . أجري لتحيته فيبتسم و يطلب مني ان آتي للغدا في بيته بعد الكنيسة. لم أكن أراه خارج الدكان كثيرا إلا في حالة ذهابه الي الكنيسة أو في حالة زيارتة لأحد اصدقائه. يبدو ان عم مهني و عم عياد كانا أصدقاء طفولته و كانا يأتيان ليزيارته كل اسبوع و يجلسان في الدكان لساعات. إذا تغيب أحدهما لاكثر من أسبوع فكان جدي يذهب لزيارته. عم مهني كان صانعا للاحذية اما عم عياد فيقال انة كان مقاولا يصمم الفيلات في المدن و قد أحال نفسه علي المعاش و عاد الي القرية. كنت اعجب بملبسه الفاخر و حذائه اللامع و الكاب الصوف الذي يضعه علي راسه و يناسب الوان الجلاليب الكشمير التي كان يرتديها. كنت احبقصصه عن إنكلتر، كما كان ينطقها، و أراؤه المتفتحة و خصوصا رأيه في أن يجب أن يترك لي الحرية في التجربة طالما كنت متفوقا في دراستي ولا اؤذي أحدا.

في بيت عبد السلام يتزايد صراخ الرضيع ويزداد إضطراب أم حسين و تقرر أنها لا تستطيع ألانتظار حتي يعود زوجها من صلاة الفجر، فقد تعود أخيرا أن يتأخر بعد الصلاة ليتحدث مع الشيخ عطوان. تطلب من فاطمة ان تصطحبها الي بيت عم يوسف الترزي. تقف أم حسين أمام باب البيت المغلق مترددة و تنظر إلي إبنتها فاطمة و تسألها أن تطرق الباب. و لا بلاش. دا لسه بدري لسه الدنيا ضلمة. تذكرها إبنتها أن الرجل مريض و لم يعمل بدكانه منذ أيام و أن منير مساعده هو الذي يدير العمل الان. يرسل حسين صرخة تنم عن ألم فلا تحتمل الأم و تبدأ بطرق الباب داعية ان يجعل الله في ايده البركة و يشفي الواد . قامت جدتي غاضبة من هذا الذي يطرق الباب بهذه الطريقة في هذا الوقت المبكر. لملمت نفسها و تحاملت علي نفسها الي ان وصلت الي الباب ففتحته. كانت سيدة تحمل طفلا و كانت تصرخ متلهفة ان تري جدي. مكررة لكلمات "بس خللي الراجل البركة يشوف الواد، داحنا كلنا اولاده" كادت جدتي ان تمنعها لان زوجها مريض و ملازم الفراش إلا اأن صوته جاء طالبا من جدتي أن تدعها تدخل . دخلت السيدة وقالت له انه لم ينم طوال الليل و لهذا فقد اتت مبكرة. جلس نصف جلسة و دفعت الام بطفلها الي حضنه و هو مازال بالسرير. طلب زجاجة الزيت و فعل ما كان يفعله باستمرار فهدأ الطفل و سكن. ابتسمت السيدة و شكرته وإنهالت دعواتها للرجل الطيب البركة. بعد أن خلي البيت التفت إلي جدتي و قال لها لا تمنعي أي أحد من يأتي حتي و لو كنت في النفس الاخير.
Ramses Sadek








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا