الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعركة

حسين الموزاني

2015 / 1 / 24
الادب والفن


حسين الموزاني
المعركة
نصّ من رواية
كان الوقت ضحى عندما غادرت المستشفى، وبدت السماء مشعّةً من بعيد ومخلوطةً برقائق الغيم الرمادية، وفي الهواء ثمّة نفحة من برد صحراوي جاف. كانت المدينة لم تزل نائمة، وستنهض بعدما تفتتحُ سمفونية الشرق العظيمة للصخب والضجيج حفلتها الصباحية. فتجولت في قلب المدينة ومررت بمقهى "زهرة البستان" وحانة "المستنقع" و"جروبي" و"كاب دور“. ورمقت بضع نساء ورجال بنظرات خاطفة وخائفة معاً. وشيئاً فشيئاً بدأت آلات الصخب تقرع من كلّ فجّ وشارع وزقاق. فنهضت المدينة وتصاعد الدخان والصراخ وزعيق الزمّارات والمنبهات، وفتحت المقاهي والمحلات والدكاكين أبوابها. فاشتريت ثياباً وحذاءً وجريدةً عربيةً ثمّ مضيت إلى الدار. كان قطار مترو الأنفاق خالياً تماماً هذه المرّة وعلى نحو يثير الريبة، فلم أر في العربة راكباً آخر يمكن أن أختبر فيه مظهري الخارجي. فأخذت أقلّب في الجريدة.
قرأت في البدء الأنباء الصغيرة العاجلة التي لم تشر إلى حدوث أشياء كبير في العالم. وكانت هناك أخبار قصيرة عن مدراء المصارف والمطاعم والمطربين. ولاحظت أيضاً أنّ تغيّراً طفيفاً طرأ على قيمة الدولار، بضعة ملاليم أقل من سعر الصرف الرسمي في الأسبوع الماضي، وتأمّلت صورة كبيرة وواضحة المعالم لعارضة أزياء أمريكية اسمها جوزفين الأشقر، لعلّها لبنانية الأصل. فشعرت بانتصاب خفيف، فكان الانتصاب الأوّل بعد انقطاع طويل. وتذكّرت لبنان وتلك الأيام والأعوام البعيدة التي اشتغلت فيها محرراً مع أصحابي الزعران والمقطوعين وأبناء الأرصفة في الأيّام الأولى للحرب الأهلية. كانت جريدة متواضعة وبلا ملامح وكان الزعران يطلقون عليّ لقب "الفنّاص" المختص بشؤون الخليج.
وذات مساء يبدو أنّني طحشت في التفنيص كثيراً، فاستدعاني رئيسي التحرير إلى مكتبه وألقى عليّ موعظة ظلّت راسخة في ذاكرتي حتّى هذه اللحظة، قال: «خيي أبو حميد، ما بدنا نطوّل الحديث، روأ شويه واسمع لأقلك، العرب، العرب كليتهن بسباطك، بس خيي أبو حميد نحنا ما بدنا نحرّر فلسطين ولا بدنا فلسطين تحررنا، ما هيك؟ نحنا في الحقيقة عم نشتغل من شان المصريات. منيح؟ شو خصنا بالعرب العكاريت؟ لكَنْ! بدنا نعيش. هات مصريات وخذ ما بدك، إن شاء الله تكون أمريكي أو هندي أو بعثي، حي الله، نحنا بصراحة نحب نبعص العالم كلّه. فأهم كيف؟ بعصنا أمريكا، بعصنا فرنسا وانـگليترا، بس، وأقولها بصراحة خيي حمدان، ما بدنا نتقرب من سورية، شو دخل الخليج بسورية؟ مضبوط؟ اتفقنا؟»
جعلتني هذه الذكرى التي لا تريد الاندثار ساخناً بعض الشيء، فأفردت بنصري وأسندته بإبهامي ورفعته في الهواء، إِذ اجتاحتني رغبة عارمة في توجيه بعصة إلى أحد ما، لكنّني لم أجد أحداً في العربة، فاضطررت إلى بعص الجريدة، فخزقتها من المنتصف وظلّ أصبعي عالقاً بالثقب برهة طويلة. ونقبت في الذاكرة عن تفاصيل تلك الرحلة العجيبة الأولى، رحلة لبنان الأخضر الجميل: لبنان الجبل والبحر والحرب والخراب والشراب ومخيم مار إلياس وأهله الفقراء والمهاجرون الطيبون وسوق الخضار واللبن البلدي في المسيطبة وكنافة أبي عليّ الأحدب وامرأته الفاتنة وقصائد آدم وغيلان التي لا تنتهي، «شو خيي غيلان، شو شباك؟ عوّقت معاك القصيدة؟» وادي أبي جميل الصامت المخيف بدكاكينه الصغيرة الموصدة وشعابه الضيقة الحادّة الانحدار وحواجزه الطيّارة وأيام الزلط في الرملة البيضاء وأيام الارتزاق وسندويتشات المقانق ومناقيش الزعتر والجبنة البيضاء ولحم الحمير الفاسد الذي كنّا نأتي به من سوق صبرا والمقلوبة الفلسطينية والمجدرة السورية والفتوش اللبنانيّ وجبات حانة التوليدو الشهية والباهظة الثمن. وتذكّرت أيامنا في ذلك الزمن السعيد العجيب والعكروت معاً، أيام كنّا نقترض العرق اللبناني من أبي مروان، ذلك الرجل الطيب الكريم ذي الشارب الطويل المفتول الذي قصفت إسرائيل دكانه وأيام السهر في بقالية أبي إبراهيم التي لا تقفل أبوابها أبداً. وأتذكّر الآن أنّني أردت أن أشتري أرزاً وعرقاً ذات ليلة من بقاليته في الفاكهاني، فسألته بتلقائية العراقي الساذج المستجد: «عمو أبو إبراهيم عندك تمّن؟» فنظر إليّ وهزّ رأسه كما لو أنّه لم يسمع السؤال، وبعد فترة مطّ شفتيه على هيئة صرّة نقود ثمّ سألني باستغراب «دخلك شو هوّي التمبن هيدا؟» فأوضحت له أنّه طبيخ، ثمّ تذكّرت أنّ اسمه بالعربية الفصحى (الأرز) أيضاً، فقلت مستدركاً «رز، رز للأكل!» فردّ بتهكّم «تمبن قال!»
وفي تلك اللحظة بالذات اندلع، وبالصدفة المحض، اشتباكٌ مسلّحٌ، لكنّه لم يكن اشتباكاً عادياً رحيماً، إِنّما معركة رهيبة بين «أمن الاسبعطعش» و«أمن أبو الزعيم» و«أمن أبو الهول» من ناحية و«الأمن المركزي» و«قوات الطوارئ» و«سرية أبو حميد» من ناحية أخرى. فانتشر المقاتلون بسرعة البرق في الشوارع والمكاتب والمنازل والسطوح والشرفات، وهم يدكّون بعضهم بعضاً بالبنادق الآلية ومدافع الهاون والرشاشات الثقيلة المقاومة للطائرات وقاذفات الأربي جي سفن والرمانات اليدوية، التي سقطت واحدة منها أمام بوابة أبي إبراهيم، إِلاّ أنّها لم تنفجر. وبقيت طيلة الاشتباك محصوراً في دكان أبي إبراهيم كما ينحصر الكلب الطريد في الجامع. كنت أحمل آنذاك مسدساً صغيراً، برتا نمرة سبعة، مسدس الإعلاميين ورجال الصحافة، إِذ أنني كنت يومذاك من رجال الإعلام! ولو أنّ أبا إبراهيم عرض عليّ ساعتها مئة ليرة لأعطيته المسدس.
فأبصرت، وبالرغم من اشتداد العتمة والقتال، أحد المحاربين الجهابذة الذي كنّا نطلق عليه لقب «قتّال القتلة» إِذ أنّنا لم نكن نعرف اسمه الحقيقي، ولا حتّى بلده، وقيل إنّه جاء من العراق أو من اليمن. كان قتال القتلة محمّلاً بصواعق ومتفجرات لا يقل وزنها عن سبعين رطلاً، كانت كافية لفناء بلدة برمتها. ولمحت أيضاً «الصهريج» من «سرية أبو حميد» الانتحارية يتقدّم تحت جناح قتّال القتلة مثل ظل هارب، واضعاً على كتفه قاذفة صواريخ ويهتف في الظلام «ما في فتحاوي يزمط من أبو النوف!»
هنا رمقني أبو إبراهيم بنظرة عتاب وقال نافخاً حسرته نفخاً صافراً «علقت!» ثمّ التفتَ نحوي وكأنّني أنا الذي علقتها وأضاف بنبرة تهكّم: «شو بدك هلاق بالتمبن؟» فقلت له بشيء من الحدّة «شو شباك عم أبو إبراهيم؟ خلاص، ما بدنا تمبن، بس أعطينا، الله يعطيك، بطحة طونيوس وقنينة نعص!» فقضيت ليلتي مختبئاً في زاوية الدكان إلى أن فُضّ الاشتباك بعد بزوغ الفجر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و