الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صور متشابكة...قصة قصيرة

جمال حكمت عبيد

2015 / 1 / 28
الادب والفن



دنا المساء، ومَضت شمس النهار عن نافذة منزله العريضة، وهو مازال قابعاً خلف النافذة، ينظر إلى الجادة الرمادية الخالية من الكائنات البشرية... يعدّ سنوات غربته، ويفتش في آخر بقعة ضوءٍ عن ورقة ذكرى؛ لعلّ الريح حملَتها مع أوراق الشجر الأصفر، ورمتها عند باب منزله؛ ليعيد بها وجوده ويقتل صمت اِنتظار دقات جرس كنيسة قريته الصغيرة، المرمية في الركن البعيد من بحر الشمال..
يتطلعُ إلى أول نجمة في السماء... ويهيم على وجهه بذكرياته في بغداد، متنقلاً بين طرقاتها، مقلباً أيام الفرحِ والحزن فيها، يبحث في النجمة عن صورة ذكرى تجمعه بأهله، أو بصديق أو قريب تركه وانقطعت أخباره؛ منذ أن هاجر قبل خمسة عشر سنة، أو أراد بها أن توصل شكواه لهم، وما أصابه في سنين غربته؛ بعد أن صار في منتصف العقد الخامس من عمره، وأصبح عاطلاً عن العمل، قانطاً، شبه حبيس في بيته، لا يغادره إلا لشيء ضروري.
ثم تسقط عيناه نحو نافذة جاره، حيث وقفت قطة جاره السوداء، تتطلعُ من خلف النافذة، وفي رقبتها سلسلة حملت اسمَها؛ وذهبت يده تتلمس رقبته، ولمْ يجدَ اسمَه .
- تَنَبه من أفكاره وأحلامه، وعاد إلى فنجان قهوته، يرتشف منها، ووجهه يعتليه بؤس وحزن ملتاع .
غَرَبَتِ الشمسُ، واِكْتَنَفَهُ الظلام من كل جانب؛ وكأن جبلاً صخريٌ شاهق كبس على صدره، وكآبة عشعشت بين حنايا أضلاعه. لمْ يكنَ له مخرجاً يتنفس به ويُلهيه سوى التلفاز، و مواقع الإنترنيت، وقراءة بعض الكتب؛ وقد شحّت عليه هي الأخرى .
- فتَحَ تلفازه، يبحث فيه عن أخبار وطنه، وما استجدّ فيه من أحداث، وفي أول صورة رآها على الشاشة؛ اِنْهالَ عَلَيهِ الحزن ؛ مما يراه من طرقٍ وشوارعٍ محطمة الأرصفة، ومناطق سكنية معزولة عن بعضها، محاطة بأسوار عالية، أرادت بها أن تحميّ نفسها من الموت المخيف الذي جاء به مرض الطاعون الطائفي ؛ ليست مثلما تركها منذ أن هاجر، وصورة أخرى تظهر الأبرياء وقد سالت دمائهم على الرصيف، والناس تجمهرت حولها، وكأن الضحايا نذورٌ وقرابين ذبحهم جزارهم، وأراد أن يتباهى بهم أمام صانعيه؛ بينما المساكين رسموا بدمائهم لوحة استنكار بعثوها الى حاكمهم ، كتبوا فيها : ((احتجاج من عمال قتلهم ارهابي، عند الناصية؛ حينما كانوا واقفين ينتظرون رزقاً يعودون به إلى اطفالهم))... بعدها تظهر صورة ملأت شاشة التلفاز بوجهِ مسؤول أمني غليظ الشارب، يتوعد المجرمين والخائنين بواقعة، ويبشر الشعب بخطة أمنية جديدة... وتنتقل الأخبار إلى صور الجماهير في البلدان العربية، وهي تملأ الساحات والميادين والجسور ...ترفعُ أعلام بلادها، وتهتف بتصحيح ربيع الحرية... بعد أن تربصت لهم خفافيش الجهل، وسرقت ثورتهم ،وقتلتهم كما قتلت (هيبا تيا)* بسحل جسدها ألحيّ العاري؛ لكن أعمالهم وافعالهم لاحقتهم وفضحَتهم وقبحت تاريخهم وصاروا عورةً كعورة (عمرو بن العاص)*.
- لاحقَه الملل والاِكْتِئاب وكأنه يقلَب َتوابيت أحزانه ،وهو يتابع أحداث بلده وبلدان عربية أخرى من صور الثورات والتهديدات والوعود، وصور هراطقة افترشوا بيوت الله، يحاولون صناعة اديان جديدة ،وصور سرقات أفرغت المتاحف والخزائن ، وينتهي المشهد بصور جَيَاعَى عادوا يحملون معاولهم ،يبحثون عن منقذ يقود لهم الثورة. كلها تُعرض بالمَجان في القنوات الفضائية.
- اِنْزَعَجَ من هذا الوجع المتلاحق ... ترك التلفاز، وعاد يبحث في اسطواناته القديمة ...وضع أغنية ل(فيروز) أجراس العَوْدة فلتقرع... سبح بخياله مع صوت فيروز العذب نحو صورة في طفولته، يوم توالت دقات قرع باب بيتهم، من امرأة في سن الثلاثين، توشحت بفوطة بيضاء غطت بها رأسها، وبان الحزن والألم في وجهها الأبيض الشاحب، تطلب معونة وتقول: أني لاجئة من فلسطين بعد النكسة...وخرجت اليها أمه، تحمل حقيبة، فيها ملابس أبيه المتوفي قبل أشهر، وكانت قد بخّرتها وعطّرتها، وقالت لها: خذيها لك هدية، من مقاتل في ثورة الثامن والأربعين، لعلّها تنفع في ستر عار النكسة.
وانتهى به الحال يدندن:
(من أين العودة يا فيروز :خازوق دُقَ بأسفلِنا...خازوقٌ دُقَ ولن يَطلعْ )*.
عاد إلى (الريموت) يُقَلب في القنوات التلفزيونية ويصطدم بمطرب ينوح وكأنه في مأتم.

مال به الأمر يبحث في القنوات العالمية، وتظهر على الشاشة صور حطام خلفته هزة أرضية... وفيضانات خلّفها تسونامي... وضحايا من الأطفال حضنتهم أمهاتهم... ورجال ماتوا غرقاً؛ كانوا يحاولون اِنقاذ اولادهم، أو ما تبقى من عرش بيتهم ،وربما سبحوا نحو كسرة خبز سقطت من جيب (جان فالجان)* وطفت فوق سطح الماء وجرفتها السيول. زاده الألم وهو ينظر إلى هذا العالم المجنون... وصور كثيرة على الشاشة تظهر التدخل الأمريكي والغربي بمصير الشعوب في قاعات مجلس الأمن... وصور استقبال اللاجئين ومساعدة المنكوبين من قبل منظمات اِنسانية و دينية وأخرى لأغراض خفيّة ...وصور لوائح البورصة تظهر فيها اِنهيار أسعار العملات والذهب، وشيوع البطالة... وسماع قرارات وخطط التقشف في ايام الأزمة الاقتصادية... بينما آلام شعوبهم النفسية والعضوية باتت تشفى بين برنامجي دكتور( فيل)*النفسية، ودكتور(اوز)*الطبية... ويعود يبحث عن افلام الرعب والخيال بين القنوات المحلية وينتهي به الحال في برنامج طبخ أكلة غربية.

والضوء الراقص من تلفازه أحسه بحلكة الليل... نهض وأنار الضوء الأصفر الخافت واطفأ التلفاز.
تذكر قهوته، اِرْتشفَ منها ومجّها من فمه إلى الفنجان، فقد بردت وما عادت تشرب.
جاشت في صدره الحيرة والملل ،قام وأسدل ستائر الغرفة ،وعاد يدفن آلامه بذاكرة الحُب، يلتمس راحة لنفسهِ واختار اسطوانة دنت به إلى ذكريات الماضي والزمن الجميل وهو يستمع إلى أغاني عبد الحليم حافظ... وينجرف به الشوق والحنين، وتقع يده على حافظة صوره، وأخذ يُقَلب فيها صور زفافه في مدينة الأعراس ببغداد... ويبتسم لصورة فيها حبيبته جالسة فوق أرجوحة، ترتدي ثوباً بنفسجياً وكان يمرجحها... وصورة اخرى اصدقاءه حوله يصفقون له فرحين ومهنئين بزفافه... واخرى داخل السيارة هو وحبيبته ببدلة الزفاف الأبيض، يلوّحان للمهنئين... وصور كثيرة من عرسه ملأت حافظة صوره التي جلبها معه الى ديار غربته؛ وتمَلَكه خيال جميل امتزجَ مع الأغاني واللحن الجميل.
ثم رفع رأسه نحو الصورة المعلقة على الجدار، حيث ولداه يبتسمان تتوسطهما اختهم، فقد كبروا وبانوا عنه .

فجأة دق جرس البيت ...قفز من مكانه وانقطعت عليه احلام ذكرياته.. فتح الباب واِذا بامرأة في سن الأربعين، وقد أنار شعرها الذهبي حلكة الليل، ابتسمت اليه وألقت عليه تحية المساء، كانت تمسك بيدها صندوقاً صغيراً أخضر اللون، فيه شق صغير، ترمى به النقود، وقالت له: أنا متطوعة لجمع التبرعات لمصابي مرض السرطان.
قال لها: هل في هولندا مصابين في مرض السرطان؟؟ قالت: في هولندا الكثير من الناس مصابين بهذا المرض، وبين كل مئة شخص، شخصاً واحداً مصاب بالسرطان أو أكثر!!. بحث في جيبه وأخرج قطعة نقود معدنية، دسّها في فُوهة العلبة، شكرته المرأة وذهبت، وغلق الباب دونَه.

عادت عناقيد الألم ولزوجة الحزن البليغ تتسلل في داخله... يفكر بنفسه في ظل هذا العالم المريض... فوجئ بزوجته تتأمله وتقول له من كان يدق الجرس؟؟ رفع عينيه نحوها، وقد ظهرت له كالقمر من بين غمامة افكاره... يتضوّع منها المسك وزينة النساء في وجهها وملبسها وابتسامتها على وجهها... وصوت العندليب يصدح في الغرفة (أهواك واتمنى لو أنساك) وصور زواجهما مطروحة فوق الطاولة؛ ثم عادت تقول له: الله يا حبيبي!! أراك لمْ تضيع وقتاً في التفكير بي وما هذا الجو الجميل الذي صنعته ستائر مسدوله وضوء خافت واغاني عبد الحليم وصور زواجنا... أستحلفك بالله، هل ما زلت تحبني ؟؟.

نظر اليها بعينين حائرتين، وتنهد تنهيدة غائرة...وأومأ اليها برأسه ... ثم اخذته ابتسامة تأمل عريضة انارة وجهه المتعب...نهض من مكانه وقال لها: سأصنع لي كاساً من الخمر...




عمر بن العاص =عن رواية حيث كشف عمر بن العاص عورته للإمام علي في احدى ايام صفين وتركه علي ولم يبارزه
هيبا تيا=فيلسوفة وعالمة رياضيات عاشت في مصر الرومانية بقيت عذراء طوال حياتها وكانت رمزاً للفضيلة وماتت على يد جموع المسيحيين الغوغاء وقتلوها سحلا في المدينة وهي عارية الى ان انتزع جلدها عن جسمها
* مقطع من قصيدة نزار قباني
جان فالجان = بطل رواية البؤساء للكاتب العالمي فكتور هيجوا
دكتور فيل=مقدم تلفزيوني شهير وكاتب وعالم نفس امريكي
دكتور اوز=طبيب جراح امريكي ومقدم برنامج اسبوعي شهير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه