الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كوب شاى

محمد عبد المنعم الراوى

2015 / 1 / 30
الادب والفن


لم يكن يوماً ثورياً..ولا متمرداً..لكنه طالما كان معلماً لطلابه معنى الوطنية وقيمة الحرية وأهمية التمسك بالعيش دون التخلى عن الكرامة الإنسانية..
هكذا كان يرى دوره فى تربية النشئ والجيل الجديد..خاصة فى ظل تلك الظروف الاجتماعية والسياسية الصعبة التى وُلدوا وعاشوا تحت وطأتها زمناً..لذلك أخذ عهداً على نفسه ألاّ يتاجر بعلمه..وألاّ يمد يده فى جيب هؤلاء البؤساء من البشر..لا ينبغى أن يحط عليهم كما حطّ الزمن..لا يريد أن يكون طاحونة جديدة من طواحين الهواء تعصف بأرزاقهم..كفاهم شقاءً من أجل لقمة العيش..وعذاباً من أجل البقاء.
لكن الأستاذ أمجد لم يكن يتصور أنه سيصبح يوماً فى تلك الدائرة..بعد أن تزوج وأنجب..مطالب لا تنتهى..ملابس..كتب..مأكل..مشرب..إيجار مسكن متراكم..فواتير كهرباء..غاز..ماء
اضطر أن يقوم بعمل قرض..انفرج الأمر شيئاً ما..ثم استكمل القرض..لم يجد مخرجاً غير ذلك.
الآن لم يعد يستطيع القيام بعمل قرض جديد..ما تبقى من الراتب لا يسمح..كارثة
لم يخسر أمجد راتبه فقط..لقد خسر مشاعر الحب التى جمعته بمريم..وشعور الابناء بالإقبال عليه والتعاطف معه.
الراتب الذى كان يكفى ويفيض قبل الزواج لم يعد كافياً بعد الزواج..خاصةً بعد هذا القرض اللعين..أقل من أسبوع وتبدأ مرحلة الاستدانة..مد أيد..قلة كرامة..ديون تتراكم..حالة اختناق لا تنتهى.
أين وعود الدولة بتحسين أحوال المعلمين؟..أين كرامة المعلم؟..أين؟..أين؟..
ـ طب ادى دروس زى زمايلك!
ـ استحالة يا مريم دا مبدأ لا يمكن أتخلى عنه.
ـ طب حنعيش ازاى؟!
ـ إحنا مش لسة عايشين؟
ـ مين قالك؟
كانت مريم ذات منطق..وكان أمجد ذا مبدأ مات ولم يدرِ ..كما ماتت مبادئ كثيرة!
انطوى على نفسه..فقد البسمة..الكلمة الحلوة..بعدما صارت الأفواه مفتوحة فقط من أجل الطعام..حقهم فى الحياة..لكن من أين يمنحهم ذلك الحق وهو يفقد كل معنى للحياة.
ـ مريم
ـ أيوه يا أمجد
ـ ما تعمللنا كوبايتين شاى ونقعد فى البلكونة أنا وانتى نتكلم مع بعض زى زمان.
ـ كان زمان..حنطّرد بعد يومين وانت عاوزنا نقعد فى البلكونة نشرب شاى..أنت ايه يا أخى ما بتحسش!..أنا حاخد العيال ورايحة عند بابا.
خلت الشقة دون أن يودعه أحد..جلس فى البلكون بمفرده..يُخرج شيئاً من أنفاسه المكتومة..كلمات مريم كانت أصعب ما واجهه..طعنات نافذة فى القلب وفى كل ذكرى جميلة كان لا يزال يعيش عليها.
ظل يتجول فى الشقة الخاوية..حتّى دخل غرفته..طرح جسده على الفراش..لعل ملك الموت يتفضل بزيارته مشكوراً
لكن هيهات..حتى الموت صار فى هذا الزمن عزيزاً
أغمض عينيه على دموع كانت من قبل غالية على مريم..وعلى كل من يعرفه.
ـ عيش..حرية..عدالة اجتماعية
ـ عيش..حرية..عدالة اجتماعية
ظل يتمتم
ـ هو فين العيش..والحرية..والعدالة الاجتماعية
ـ عيش..حرية..عدالة اجتماعية
ـ ايه الصوت ده..أنا كنت فاكر إنى بحلم.
أسرع نحو البلكون..رأى حشوداً من الناس تردد
ـ عيش..حرية..عدالة اجتماعية
لم يصدق أمجد نفسه
ـ معقول
انطلق خلفهم..ظل يردد بأعلى صوته
ـ عيش..حرية..عدالة اجتماعية
اشتعلت الثورة فى كل الميادين..لم يكن أمجد وحده الذى يعانى..ألاف..بل ملايين من البشر
قرروا جميعاً ألا يعودوا دون تحقيق أمالهم التى طالما استعصت عليهم.
نيران اندلعت فى نفوس البشر والميادين..هنا وهناك..اضطراب..فوضى عارمة..ضجيج..صراخ..اشتباكات احترق ما احترق..قُتل مَنْ قُتل..
تعجبت مريم من أمجد الذى تركهم..كيف لا يسأل عنها وعن أبنائها فى تلك الظروف؟!
عادت وأبناءها إلى البيت..لم تجده..تيقنت من نزوله خلف تلك الجموع.
أُدرج اسمه على قائمة الشهداء..بكت عليه..شعرت بفقده والندم الشديد على إهانتها له..
استلمت الجثة بعد أن تعرفت عليها..قاموا بدفنه.
لكن لم تتصور أن تتغيّر حياتهم جميعاً بفقده..لقد سقطت قروض البنك..صار لهم معاشاً كاملاً تقبض عليه كل شهر..امتلكت شقة سلمتها لها الدولة كزوجة شهيد من شهداء الثورة..توظفت ابنتها الكبرى..ووعود أخرى بتعيين بقية الأبناء عقب تخرجهم.
لم تصدق نفسها..لم تتصور أن يتبدل بهم الحال هكذا..توجهت نحو الشقة لتجمع أشياءً لها ولأبنائها..علّقت على الشاى..ظلت تتجول فيها..تذكرت أمجد ورغبته الأخيرة فى أن يشرب معها الشاى فى البلكون..فصبت كوبين من الشاى..توجهت بهما نحو البلكون..أسندتهما على حافة السور..دقات مدوية على الباب أفزعتها..أسقطت كوباً من يدها.
انطلقت نحو الباب..فتحته
ـ مين؟!
ـ مريم!
ـ أم..أم..أمجد؟!
سقطت مغشياً عليها..حملها..أسندها على الكرسى..ثمّ أفاقت.. وبعد أن استجمعت قواها النفسية والجسدية حكى لها ما حدث..
لقد سقطت محفظته بكل ما فيها أثناء المواجهات الدامية..وتم اعتقاله مع مَنْ قُبض عليهم..ولأنه فقد تحقيق شخصيته اضطر أن يذكر لهم اسما مستعاراً هو محسن..
لم تزل عيناها معلقتين بأمجد..غير مصدقة..أو لا تريد أن تصدق!
تلفت حوله..لم يجد غير بقايا من عفشٍ قديم..نزل بركبتيه على الأرض فى مواجهتها..أمسك بيديها..تلفت حوله..
ـ أنا آسف يا مريم..على البهدلة اللى سببتهالكم..معقول..لدرجة إنكم تبيعوا العفش!
استفاقت مريم..جلست على الكرسى المقابل له..قصّت عليه ما حدث من تغيير بعد خبر وفاته ودفنه..واحتسابه عند الله من قِبل الدولة شهيداً
ضرب أمجد كفاً بكف..نهض..جلس على حافة كرسيها..تمتم ساخراً:
ـ يعنى اللى ما قدرتش أحققه وأنا حىّ..أحققه وأنا ميت؟!
نهضت..تخلّصت من التصاقه بها..قالت بحسم
ـ بالظبط كده
ـ يعنى ايه؟!
ـ يعنى تشرب قهوه على روح أمجد ولاّ مستعجل يا أستاذ محسن!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا