الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التناص والمناص، قراءة تطبيقية جبران، مريم المجدلية، ودرويش، لا أقلَّ ولا أكثرَ  أدهم مسعود القاق، باحث سوري في النقد الأدبي الحديث

أدهم مسعود القاق

2015 / 2 / 2
الادب والفن


يتعلق مفهوم التناص في تتبع المكونات الجنينية للإبداع والتعالقات النصيّة، ويعدّ مفتاحاً لفهم الأدب المقارن، على اعتبار أن النصوص الإبداعية هي نتيجة امتصاص ومحاكاة للنصوص السابقة، عبر عمليات الحواريّة والنقد.
 ومن آليات التناص الإجرائية المهمة المناص، وهو مصطلح يتضمن الانطلاق بالنصّ من مصدر لمبدع آخر، فيحاول محاكاته أو نقده أو حواره.
 وتستوجب قراءة نصّ محمود درويش، "لا أقلّ ولا أكثر"، إلى دراية في مفهومي التناص والمناص، وبالتالي تحتاج إلى متلق ذكي قادر على استكشاف شفرات النصّ وإشاراته ورموزه الدالّة.  يحيلنا نصّ درويش إلى نصّ جبران خليل جبران، "مريم المجدلية"، ومن قبله إلى قصتها مع السيد المسيح في العهد الجديد من الكتاب المقدّس، المستمدة من الميثولوجيا الضاربة في القدم لدى ممالك الشرق القديم.
    في نصّ جبران، التقت مريم المجدلية عيسى ابن مريم في حزيران، فأشاح بوجهه عندما حيّته، ثمّ رحل فمرضت، ليعود في شهر آب إلى حديقتها، فبدا لها ساكناً كـ "تمثالٍ قدّ من حجر"، ثمّ تخيّلته فتراءى لها "أنّ بين أعضاء جسمه عشقاً متبادلاً"1 ولمّا واجهته حسبت نفسها "عارية أمامه فأطرقت حياء" ثمّ تلاقت عيونهما فـ "انفصلت عن الأرض التي عاشت عليها، وأصبحت مريم، مريم فحسب"، لتجد نفسها في أفق جديد، هو أفق جبران خليل جبران في سمو روحها، التي كانت قد طلقتها، نحو عالم الغيب المؤجّل الذي دعاها المسيح إليه، من دون أن يزور حديقة جسدها فـ:"تحدثت الحياة إلى الممات"بعد افتراءات مجتمعها لها واتهامها بالساقطة. وبعد تضرعها أن يلمّ بدارها جسداً، فاجأها بكلامٍ غامضٍ عن عشقه لها لنفسها، وليس كما يعشقها الرجال لأنفسهم، ثمّ طلب منها أن ترحل، استصرخته ليرافقها حيث حوض الماء من فضّة، وأريج بخورها سيشيع بدارها معه، ولكنه مضى وابتعد، أمّا مريم فدريت شيئاً واحداً: "في ذلك اليوم انطوت بغروب عينيه نار الحقد الكمين في نفسي، وصرت امرأة، وصرت مريم... مريم المجدلية" صارت امرأة لاأقلّ، كما يريدها الرجال، ولاأكثر كما أرادها مسيح الربّ جبران.
استخدم محمود درويش المناص وانطلق بنصّه من حيث انتهى جبران، بحوار تفاعليّ تمكّن من خلاله امتصاص نص جبران واجتراره، ثم الإنطلاق ببناء نصّ  برؤى جديدة على المستويين الدلالي والشكلي.
" أنا امرأةٌ. لا أقلَّ ولا أكثرَ"2، تعيش حياتها الواقعية من دون أوهام ومن دون شمس المجهول كما أريد للمجدليّة أن تعيشها، هي ترى الحقائق على ماهي عليه، وإن كانت تضطر أحياناً للتحديق في ظلالها لتعرف حجم خساراتها فيما مضى، ماض لم يتبق منه إلّا الصدى المتلاشي أمام ذكرياتها الغامضة، مثل مسافر يخاطب طيوراً صامتة في لياليها، متوارية خلف ذكرى الثرثرات الرومانسية. " أنا امرأةٌ. لا أقلَّ ولا أكثرَ" تزدهر في آذار، وتجنّ إلى ملامسة الحلم مع رجل لم يصلها بعد، قائلاً لها: "المسيني لأُوردَ خيليَ ماء الينابيع" وتبكي له، من دون سبب واضح. لأنّها امرأة الحبّ، لا أقلّ ولا أكثر، تحبّه كماهو، رجل من غير تزييف، رجل، لا أقل ولا أكثر، لاتريده متكئاً لحياتها، ولا هباء منثوراً، تريده رجلاً ينسدل ليل الظلمة من نفسه عندما يشعّ جسدها ضياء بضمّه، فهي امرأة تفيض أنوثة في عناق الوجد مع الحبيب، فتشعّ روحها، ويتلاشى أمامها شمس النهار وقمر الليل.
هذه هي امرأة درويش تتفتح مع براعم زهر اللوز المبكّر في آذار، ولاتنتظر، كما انتظرت مريم جبران مسيحها حتّى آب، شهر النضوج الآيل ثمره للسقوط، حينئذ لاتتمكن أن تورد خيله إلى ماء ينابيعها، قسقوطه محتّم مع الرحيل، رافضاً دعوتها لحوض مائها، فصارت مريم فحسب، تنتظر أوهاماً. لقد شاء جبران لأمرأته أن تكون وحيدة، أمّا امرأة قصيدة درويش فلا ترضى أن تكون وحيدة، وإذا كانت مشيئة جبران أن تكتفي مريم بالانتظار، فله كما شاء، فقبله اشتاق قيس لليلى وجعلها صورة ملّونة جميلة، وحبّاً عذرياً اختلطت فيه موسيقا الألحان، في غابات الروح بين الأيائل المتحابّة، وطارت فكرة حبّه لها في كلّ الأمكنة وعلى مرّ الأزمان، ولكن لا، امرأة درويش لن تقبل بقيس المتيم الذي يندب آلامه في بيداء روحه الهائمة، امرأة لايعجبها أن تّحَبَّ إلّا كما هي، لاتريد ان تكون صدى لصرخات ليلى على فراش الحبّ، ولا لاستغاثاتها للتخلّص من أوهام شاعر أو نبيّ يأسطرانها لتناقل أخبارها، إنّها امرأة تريد تأريخاً على مقدار أنوثتها على فراش الحبّ، امرأة، لاأقل ولا أكثر، مع رجل، لا أقلّ ولا أكثر، "أنا من أنا، مثلما/ أنتَ من أنت: تسكن فيّ/ وأسكن فيك إليك ولك/. عندما يسكن حبيبها فيها، يتوضّح لغز أنوثتها التي تفيض على ظلام ليل جبران ومسيحه وقيس الشاعر، الظلام الذي فرضوه على مريم المجدلية "حتى توارت نجوم ليلها" وعلى ليلى التي تصرخ، لكسر قيود وحدتها. إنّها امرأة "تفيض عن الليل" ولا تتوارى النجوم من ليلها، لأنّها أكبر من الأرض التي تحتاج إلى ثوّار لتحريرها، وأكبر من جموحهم في الأسفار، امرأة، لا أقلّ ولا أكثر، فكرة كفيلة بتحرير النفوس والأوطان، فعندما يسكن حبيبها فيها، تغوص فيه وتسعى إليه، وتكون له حبّاً يفيض أنوثة على الأرض وعلى الرحيل.
امرأة، من لحم ودم، لا ترضى بوعود جبران لمريم المنتظرة أوهاماً، إنّها تعتزّ بأنوثتها التي قد تتعبها استجابة لفطرية الحياة في دورة قمرها الأنثويّ، تبدأ بالذبول، فيتوقف جسدها عن عزف موسيقا الحبّ كأوتار قيثارة تتراخى تحت أصابع عازفها، ولكنها متأكدة أنّها تفخر بهذه الأنوثة الخلّاقة للحبّ، المجدّدة للحياة، ولا ترضى أن تكون إله جبران ولا قصيدة قيس، ولا أسطورة هوميروس، ولا صوراً ملونة، إنها امرأة، لا أقل ولا أكثر، مريم المجدلية، ولكن بعين العقل في شعر محمود درويش المتجدد.
                         أدهم مسعود القاق، جامعة الإسكندرية
كل الإستشهادات الموضوعة بين قوسين يحرف مائل مأخوذة من:
[1] - ثروت عكاشة، جبران خليل جبران، عيسى ابن الإنسان(دارالشروق: القاهرة، ط6، 1999م) ص40

2- محمود درويش، سرير الغريبة(رياض الريّس للنشر: بيروت، ط2، 2000م) ص60








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني