الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مزرعة سرجون

رائد محمد نوري

2015 / 2 / 3
الادب والفن


لم يفكر سرجون الذي جاء إلى جرمو من الأرض المنخفضة الحارة الرطبة المغمورة بالمياه بقاربٍ مطليٍّ بالقار الأسود، وقد تدل ى شعر رأسه ولحيته على كتفيه وصدره ، لم يفكر بعد قتله نمرود وبنائه على أنقاض بيته الذي احترق وتهدم في الحرب التي نشبت بينهما بيتاً من الآجر بسوى إنشاء مزرعةٍ للدواجن يربي فيها طيور الدجاج التي لا يعرف في جرمو غيرها، ولا يعرف عنها شيئاً سوى أنها طيورٌ لا تساعدها أجنحتها على الطيران .
وما هي إلا سنةٌ ونيف، ثم كان لسرجون ما أراد، ثلاثة أنواعٍ من طيور الدجاج حولت الحلم المكبوت في نفسه القلقة المتأرجحة بين بيئتين تناقض أحداهما الأخرى غرقتا كلتاهما في أتون هذا الثائر الذي اسمه سرجون، ثلاثة أنواعٍ من طيور الدجاج المستكينة لقدرها حولت الحلم إلى حقيقةٍ ، واستبدلت بسرجون الصياد سرجون المزارع.
ثلاثة أنواعٍ كان لدجاجات وديكة المحلي منها قوةٌ عظيمةٌ وقدرةٌ عجيبةٌ على تحمل المشاق، غير أن السماء لم ترد أن يكون لها قوامٌ جميلٌ ومنظرٌ أنيقٌ بعين الناظر المتوسم؛ لذلك اختارها سرجون لحراثة الأرض وزراعتها فضلا عن حراستها لئلا تمد الطيور الجائعة مناقيرها إلى ما تغل الأرض من حنطةٍ أو قطنٍ أو مما سواهما.
ولأن سرجون أراد، فقد أكلت دجاجات النوع المحلي من دود الأرض وحشائشها، وافترشت الأرض، والتحفت السماء، جلدت أجسامها شمس الظهيرة صيفاً، وجمدت الدم في عروقها ليالي الشتاء الباردة.
ولطالما تطلعت تلك الطيور المغلوبة على أمرها إلى الأقنان الباردة في الصيف والدافئة في الشتاء، التي لا ينقطع عنها الماء والغذاء إكراماً لعيون الطيور التي جاءت من سورداش، حسدتها دون أن تدري بأنها أُجبرت على العيش في تلكم الأقنان لأن سرجون أراد من كل دجاجةٍ سورداشية أن تتألم مرتين في اليوم وهي تبيض له بيضتين اثنتين أحداهما في الصباح والأخرى في المساء، وأراد من كل ديكٍ سورداشي أن يكون مستعداً لأن يكون وليمةً متى ما استيقظت شهوته لتناول اللحوم البيضاء الطرية.
وحده الدجاج الكشميري الذي حضي بالرعاية الملكية التي تتلاءم مع منزلته الرفيعة بين كل أنواع طيور الدجاج، وكيف لا ولديكته في العيون جمال وفي القلوب مهابة ، ولدجاجاته رقة الورد وجمال الفراشات وقوام أميرات ألف ليلةٍ وليلة ورشاقتهن ودلالهن !
ألم ينحدر ذلك الشيخ الطاعن في السن من التلة الواقعة على طريق العودة من كشمير إلى جرمو ؟
حين رأى سرجون وطيوره البرية ، ألم ينحدر إليه ليخبره:
بأن هذه السلالة العجيبة بدأت بستةٍ من الفراخ الذين خرجوا من ست بيضاتٍ خصبهن صقر، ووضعتهن ورقدت عليهن أنثى طاوس.
ولأن الزمن أراد، فقد تعاقب الليل والنهار على جرمو .
ست سنواتٍ انقضين من عمر المزرعة، لم يعكر فيها صفو سرجون شيءٌ، حتى الثعالب التي دفعتها غرائزها إلى التسلل كل ليلةٍ تقريباً الى المزرعة لاختطاف ما تيسر لها من طيور الدجاج أراح نفسه من المشكلات التي يمكن لها أن تتسبب له بها بمعاهدتها على السماح لها بالدخول إلى مزرعته دون إذنه إذا اقتضت الحاجة لذلك بشرط ألا تقترب من طيوره الملكية.
ولأن الحال لا تدوم، فقد انتشرت في الغابة -انتشار النار في الهشيم- إشاعةٌ تقول:
إن كل دجاجةٍ كشميرية تبيض بيضةً من ذهبٍ كل ثلاثة أيام.
تلك الإشاعة جعلت الثعالب تتخبط، ففي خرقٍ للمعاهدة تسللت إحدى إناث الثعالب إلى المزرعة واختطفت الكشميري الكبير زعيم الطيور في مزرعة سرجون وهربت به إلى الغابة ظناً منها أنه دجاجةٌ كشميرية.
شلت الصدمة المزرعة كلها، واجتمعت الطيور وأعلنت الإضراب، فتوقف الإنتاج، وأعلن الدجاج الكشميري إضرابه عن تناول أربع وجبات من أصل ست، وسار الجميع في تظاهرةٍ صاخبةٍ إلى بيت سرجون مطالبيه بالتدخل لدى الثعالب لإطلاق سراح زعيمهم المفدى.
طمأنهم سرجون إلى أنه سيفعل كل ما باستطاعته أن يفعله من أجل إطلاق سراح طيره الأعز إلى نفسه والأغلى على قلبه من بين كل طيور المزرعة.
على أملٍ مشوبٍ بالقلق ظلت عيون الطيور معلقةً على نقطة غياب سيدها عسى أن تبصرهُ عائداً حاملاً بين يديه الكشميري الأكبر.
حل المساء وخيب آمالها، فقد رجع سرجون إلى مزرعته كما غادرها غضبان أسفا ومحملاً بعبارةٍ واحدةٍ فقط:
"وعْدتُ خيراً".
وبعد عشرة أيام أطلقت الثعالب سراح الكشميري الكبير ليعود إلى المزرعة منتوف الريش هزيلاً منهك القوى تملأ جسده الكدمات.
قال للطيور التي اجتمعت حوله تهنئه بسلامته:
"باغتتني في الليلة التي غاب فيها القمر إحدى إناث الثعالب، فبينما كنت نائماً سرقتني اللعينة وهربت بي مسرعةً إلى الغابة، وهناك رمتني في حفرةٍ ثم أدارت ظهرها لي، تركتني ومضت دون أن تقول شيئاً، وفي صباح اليوم التالي عادت اللعينة لتفحص الحفرة ولتسألني:
-ألم تبيضي؟
قلت:
-ما أنا ببائضٍ.
-إذن، أترككِ بضعة أيام ريثما تبيضين ثم نرى بعدها ما يكون.
وبعد ثلاثة أيام عادت اللعينة ومعها عشرات الثعالب الأخرى، نظرت إلى الحفرة ثم سألتني:
-أما آن لكِ أن تغيري رأيكِ وتبيضي؟
قلت:
-مثلي لا يبيض.
قالت:
-ونحن نريد بيضة.
قلت:
-ولكنني لا أستطيع.
قالت:
-ستستطيعين إذا أجبرناكِ على ذلك.
قلت:
-أنا ديكٌ.
قالت:
-هيا بيضي.
-صدقيني أنا ديكٌ.
-بيضي.
-انظري إلى عرفي.
-بيضي وإلا....
فصحت:
-أنا كبير الطيور في مزرعة سرجون.
فقالت:
-بيضي وإلا نتفنا ريشك.
الأمر الذي اضطرني الى أن أريها مؤخرتي لعلها تصدقني، غير أنها استشاطت غضباً، أخرجتني من الحفرة، نتفت ورفاقها ريشي، ذقت على أيديهم أشد الظلم، جعت وعطشت، شتمت وضربت، عانيت أياماً إلى ان تغيرت معاملتهم لي فجأةً، كان ذلك في اليوم السابع لاختطافي.
ففي ذلك اليوم جاء أحدهم وأخرجني من الحفرة، نظر إلي طويلاً، تفحصني بعيني ثعلبٍ ماكرٍ، تحسس بحافره عرفي ومؤخرتي ثم قال وهو يركلني ليعيدني إلى الحفرة:
-إنه ديك أيها الحمقى.
قدموا لي الماء والغذاء غير أني اكتفيت بالماء لأن طعامهم كان من لحوم الطيور التي حرمت علينا كما تعرفون.
وفي اليوم العاشر لاختطافي جاء كبير الثعالب وأخرجني من الحفرة التي كنت محبوساً فيها، أطلق سراحي بعد ما سلمني اعتذارين خطيين أولهما لي والآخر لسيد سرجون".
قطع حديثه دخول سرجون الذي دلف إلى ديكه الأعز على قلبه، حمله بين يديه، سار به إلى بيته في إشارةٍ فهمت منها الطيور كلها أن سرجون وديكه المدلل يريدان أن تعود الحياة في المزرعة إلى ما كانت عليه قبل ليلة اختطاف الكشميري الأكبر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة