الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وأخيرا... مفاوضات مغربية إسبانية حول حرب الغازات السامة لكن..

إدريس ولد القابلة
(Driss Ould El Kabla)

2015 / 2 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


في الوقت الذي رفضت فيه الخارجية الإسبانية تأكيد أو نفي حدوث مفاوضات بين الرباط ومدريد حول ما يعرف بحرب الغازات أو الحرب الكيماوية التي شنها الجيش الإسباني ضد انتفاضة الريفيين تحت إمرة محمد عبد الكريم الخطابي في منتصف عشرينات القرن الماضي، كانت الوزيرة المنتدبة في الخارجية المغربية، امباركة بوعيدة، قد صرحت في البرلمان بوجود مفاوضات مع مدريد، واعتبرت الموضوع حساسا للغاية ويتطلب التحلي بروح المسؤولية. وهذا دون أن تقدم الوزيرة المغربية أية معطيات حول طبيعة ونوعية المفاوضات الجارية.
ومهما يكن من أمر، إنه ملف حساس جدا ويتطلب التعامل معه بروح عالية من المسؤولية نظرا لأبعاده الإنسانية والتاريخية والسياسية وتشابك تداعياته وانعكاساته الحالية والمستقبلية. علما أن الكرة الآن بملعب مدريد المطالبة بأخذ مبادرة جريئة بهذا الخصوص.
لكن هل هذه المفاوضات جارية فعلا؟ وهل هي سرية أو غير مُستّر عنها؟ وهل ستشمل اعتراف اسبانيا بمسؤوليتها وما يتبع ذلك من تداعيات وإجراءات؟ وقبل هذا وذاك هل إسبانيا مستعدة لسبر أغوار هذا الملف الحساس الذي ظل يقلق دوائر صناعة القرار بإسبانيا؟
مدريد... تأرجح بين النفي والتحفظ
عموما في الأوساط الدبلوماسية الإسبانية لا يزال الجواب على سؤال : هل هناك مفاوضات جارية حول ملف حرب الغازات السامة بين الرباط ومدريد؟ يتأرجح بين النفي والتحفظ.
إن مختلف محاضر اللقاءات العلنية التي جرت بين المسؤولين المغاربة والإسبانيين لا تشير إلى ذلك، لكن، حسب مصادر دبلوماسية، قد يحدث أن تكون هناك مباحثات سرية لاسيما وأن الأمر يتعلق بملف حساس وجد محرج بالنسبة للقائمين على الأمور بالديار الأيبيرية، وقد يترتب عن تلك المفاوضات الإقرار بحقائق تاريخية واعترافات تستوجب بالضرورة إجراءات لاحقة غير مواتية ظرفيا بالنسبة للحكومة الإسبانية الحالية ولجزء كبير من الأوساط السياسية الإسبانية.
فبإسبانيا، توجد وسط السياسيين وفي صفوف المؤرخين وفعاليات المجتمع المدني والجمعيات غير الحكومية أصوات تطالب الحكومة الإسبانية بضرورة فتح هذا الملف الشائك مع المغرب والإقرار بالمسؤولية التاريخية لاستعمال الغازات السامة ضد انتفاضة الريفيين في عشرينات القرن الماضي بما في ذلك العمل على قبول تعويض الساكنة عبر إنجاز مشاريع صحية من قبيل مستشفيات لمعالجة داء السرطان المنتشر بكثرة مقارنة مع باقي مناطق المغرب وفي شمال إفريقيا، وكذلك المساهمة في إحداث بنيات تحتية.
لكن يبدو أن هناك صعوبات جمة لازالت تعترض طريق أصحاب هذا الرأي.
ومن أكبر الحواجز التي تواجهها أي حكومة اسبانية تقترب من هذا الملف بهدف معالجته، حاجز المؤسسة العسكرية، إذ ترفض هذه الأخيرة الاعتراف باستعمالها الغازات السامة ضد انتفاضة الريف لأنها ستشكل نقطة سوداء في تاريخ الجيش الإسباني.
وقد تقوى تيار المطالبة بفتح هذا الملف الشائك، بشكل بارز، خلال مبادرة رئيس الحكومة السابق خوسي لويس رودريغيث سبتيرو، التي سميت بالمصالحة الوطنية للحرب الأهلية ـ الذاكرة التاريخية ـ من أجل إنصاف ضحايا الحرب الأهلية في ثلاثينات القرن الماضي. ولكن هذا التيار لم يجد وقتها أدنى مساندة من المغرب الرسمي.
ويعود الفضل في تحريك هذا الملف إلى جمعيات ونشطاء من منطقة الريف أساسا، بينما ظل هذا الملف غائبا في خطاب الأحزاب السياسية المغربية باستثناء مناسبات ناذرة جدا، وحصرا عندما يكون هناك توتر مع اسبانيا.
لقد تمّ تقديم مشروع قانون إلى البرلمان الإسباني بهذا الخصوص من طرف حزبين صغيرين كاتلانيين، بضغط من بعض الفعاليات والأكاديميين المغاربة والأجانب. ورغم أن الحزبين الرئيسيين في إسبانيا، الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي العمالي الإسباني الحاكم ، قد صوتا ضد المشروع، إلاّ أن دخول الملف في غرفة البرلمان أعتبر خطوة جريئة في اتجاه المصالحة مع الذاكرة التاريخية.
وفي صيف 2012 قال سعد الدين العثماني، وزير الشؤون الخارجية آنذاك، جوابا علن سؤال شفوي تقدم به الفريق الاشتراكي، بالغرفة الأولى من البرلمان بأن المغرب يطالب إسبانيا بفتح حوار هادئ ومسؤول حول ملف استعمال الأسلحة الكيماوية في حرب الريف وتعويض سكان المنطقة. مُضيفا أن إسبانيا لن تمانع في تفعيل هذا الحوار. و ذكرت، آنذاك، الحكومة الإسبانية أنها لم تتوصل بأية مذكرة رسمية من طرف وزارة الشؤون الخارجية والتعاون المغربية، بهذا الخصوص,
وفي نفس الفترة كذبت المؤرخة والباحثة الإسبانية ماريا روسا دي مادارياغا أن الخبر الذي روجته بعض وسائل الإعلام، ومُفاده قرب جبر الضرر، وتخصيص تعويض مالي قدره 2000 أورو للشخص الواحد من طرف الحكومة الاسبانية لذوي الحقوق من سكان منطقة الريف ضحايا الحرب الكيماوية ، مشيرة إلى أن هذه الأخبار ليست سوى "أكذوبة إعلامية، لا أساس لها من الصحة" .
الرباط...المفاوضات جارية
كشفت الحكومة المغربية أنّها تجري مفاوضات مع نظيرتها الإسبانية، بهدف إيجاد حلول مرضية تغلق ملف استعمال الجيش الإسباني للغازات السامة في الريف، في الفترة بين 1921 و1926. وأفادت الوزيرة المنتدبة لدى وزير الشؤون الخارجية، مباركة بوعيدة، أنّ المفاوضات جارية بين المغرب وإسبانيا لطي ملف الغازات السامة بالريف، مبرزة أنّه "ملف يتسم بالحساسية، ويتعين التعاطي معه بمسؤولية لأبعاده الإنسانية والتاريخية والسياسية". وشدّدت الوزيرة، في مداخلتها أمام البرلمان المغربي، على أنّ "الحكومة تتعامل مع هذا الملف بحكم العلاقات الجيدة التي تجمع بين البلدين، قبل أن تطالب حكومة ماريانو راخوي بأخذ قرارات جريئة في ملف من مخلفات الاستعمار الإسباني لشمال المغرب".
علما أن المفاوضات بين المملكتين بشأن ملف الغازات السامة ليس وليد اليوم، فقد سبق لوزراء خارجية سابقين أن دعوا بصراحة الحكومة الإسبانية إلى تعويض سكان الريف عن حرب الغازات السامة، التي خاضتها في عشرينيات القرن الماضي.
ودأب البرلمان المغربي بدوره، عن إثارة هذا الملف بين الفينة والأخرى، حيث طالبت بعض الأحزاب السياسية المغربية من إسبانيا تعويضات مادية لسكان الريف ضحايا الغازات السامة، وتقديم اعتذار رسمي لهم، باعتبار ما تسببت فيه من أمراض مزمنة وفتاكة باستعمال غازات محرمة دولياً.
ومن جهته ظل المجتمع المدني أيضا يطالب بأن تعترف إسبانيا بجرائمها التي اقترفتها ضد سكان الريف، خاصة أنّها تسببت في إصابة العديد بمرض السرطان، الذي أودى بحياة الكثيرين، من دون أن يدري حينها الضحايا أسباب المرض، كما أن أبحاثاً علمية أثبتت العلاقة بين الداء وتلك الغازات السامة.
جمعية "ضحايا الغازات السامة" بالريف
وفي هذا الصدد ظلت جمعية "ضحايا الغازات السامة" بالريف، تنشط من أجل الضغط على الحكومة المغربية لدفع نظيرتها الإسبانية إلى الاعتراف بجرائمها في حق سكان الريف، وتعويض ضحايا الغازات السامة.
كما أن ذكريات حرب الريف، دفعت أكاديميين إلى متابعة هذا الملف، منهم الباحث المغربي، مصطفى بن شريف، الذي ألف كتاب "الجرائم الدولية وحق الضحايا في جبر الضرر: حالة حرب الريف" ـ رسالة دكتوراه في القانون.
انعكاسات... ومسؤوليات
أكّد مصطفى بن شريف بن شريف، أنّه على امتداد تسعة عقود ، انتشرت في منطق الريف، العديد من الأمراض السرطانية، بنسبة أكبر من باقي مناطق البلاد، حيث تم تسجيل ما بين 60 و80 في المائة من حالات السرطان في الريف ، ليعتبر هذا المعدل أعلى نسبة للإصابة بالداء في العالم. ويرى أنّه يصعب قانونياً إثبات مسؤولية عسكريين وسياسيين، أمروا بإلقاء تلك الغازات السامة لكونهم قد غادروا المكان، وهي الحالة ذاتها بالنسبة للضحايا المباشرين لتلك الحرب، ما يُعيق تطبيق القانون الجنائي الدولي، ويُسقط الدعوى العمومية. ويشدّد بن شريف، على أنه يمكن متابعة الدول المتورطة في استخدام الغازات السامة ضد سكان الريف لإحباط مقاومتهم ضد الاستعمار الإسباني، خاصة الحكومتين الإسبانية والفرنسية والألمانية أيضاً، لكونها كانت ممولة لإسبانيا في مجال الأسلحة الكيماوية.
وقد عانت منطقة الريف من نتائج الحرب الكيماوية، إنسانا و بيئة. ومما عمّق أزمة المنطقة ، السياسات التي اعتمدتها الرباط فيما بعد الاستقلال عن الاستعمار الإسباني والفرنسي والتي اعتبرت أن الريف منطقة تمرد يتعين وجوبا مراقبتها وإخضاعها لحالة استثناء غير معلنة.
وتؤكد الوثائق التاريخية أن منطقة الريف بالمغرب شهد أول حرب كيماوية جوية، كفضاء لتجريب مختلف أنواع الغازات المتطورة المحظورة والأكثر فتكا بالإنسانية والبيئة والحياة، بعدما تم استعمال هذه الغازات بشكل عشوائي في قصف التجمعات السكانية والأسواق.. ودون التمييز بين الأطفال أو النساء والعجزة أو المقاومين.. ومن ارتفاعات جد منخفضة لإحداث أكبر قدر من الأضرار والخسائر.
فبعد مرور 90 سنة لوحظ بأن منطقة الريف تعرف انتشارا غير طبيعي للأمراض السرطانية، فالإحصائيات الرسمية تتحدث عن نسبة تتراوح ما بين 60 % إلى 80 % من مجموع الحالات المسجلة في المملكة. وهي أعلى معدل تم تسجيلها على صعيد البحر الأبيض المتوسط بل والعالم.
ويقرّ الباحث المغربي مصطفى بن شريف، أن الضحايا المباشرين للحرب هلكوا ، الأمر الذي يجعل من تطبيق القانون الجنائي غير ملائم، كما أن وفاة الجناة يتسبب في سقوط الدعوى العمومية، لكن لا شيء يحول دون متابعة الدول الفاعلة والمشاركة، لكون الأفعال الجرمية كانت بفعل عسكريين، بناء على تعليمات من رؤسائهم، وتبعا لقرارات الحكومتين الفرنسية والإسبانية، وتضاف لهما مسؤولية ألمانيا باعتبارها الممون الرئيسي بالأسلحة الكيماوية لإسبانيا، انطلاقا من مدينة هامبورغ حيث كان يوجد أهم مصنع لإنتاج هذه الأسلحة الفتاكة. فالغاز المستخدم في هجمات المستعمر كان من إنتاج الشركة الوطنية للمنتوجات الكيماوية بالقرب من مدريد. وتأسس هذا المصنع بمساعدة كبيرة من هوغو ستولتزينبرغ، الصيدلاني المرتبط بجهات من الحكومة الألمانية مكلفة بالأسلحة الكيميائية السرية في أوائل عشرينيات القرن الماضي، والذي حصل في وقت لاحق على الجنسية الإسبانية.
ملف معقد وشائك
إنه ملف حرج جدا بالنسبة للدولة الإسبانية، فهو يتعلق بأسوأ فصول الحرب الاستعمارية التي دارت رحاها على التراب المغربي، حيث كانت القوات الإسبانية والفرنسية قد لجأت إلى استخدام الغازات السامة للقضاء على ثورة عبد الكريم الخطابي سنتي 1924 و1925 قبل منع هذه الغازات سنة 1925 في اتفاقية دولية تمّ إبرامها في جنيف. وظلت اسبانيا تتجنب فتح هذا الملف الشائك تفاديا للمسؤوليات الإنسانية والتاريخية والمعنوية وكذلك المادية.
فقد وضّح بن شريف في أطروحته، بأن فرنسا بدورها استخدمت الغازات السامة بشكل أقل، في حين استهدفت المدنين بشكل مباشر كما تؤكده المراسلات والدوريات الصادرة عن الإقامة العامة في المغرب، والتي تفيد صراحة بإصدار التعليمات إلى الطيارين بضرب الأسواق الأسبوعية والقرى والتجمعات السكنية. كما عثر على وثيقة صادرة عن القنصل العام لفرنسا، في هامبورغ الألمانية، مؤرخة في 28 دجنبر1925، تفيد بأن باخرة حملت ما يقارب 65 ألف قناع مضاد للغازات السامة، وغادرت ميناء هامبورغ في اتجاه المغرب.
تجنب فتح الملف باستمرار
كانت أحزاب سياسية في اسبانيا ومنها اليسار الجمهوري الكتالاني واليسار الموحد قد تقدمت بمقترحات في البرلمان لتعويض سكان الريف، لكن الحكومات المتعاقبة من الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي ظلت ترفض فتح هذا الملف الشائك.
وبدوره، كان المغرب الرسمي يتجنب الحديث عن هذا الملف لأسباب غير مفهومة.
في حين يعود الفضل في الحديث عن حرب الغازات السامة في الريف، في الأساس، إلى نشطاء المجتمع المدني في هذه المنطقة وكذلك أبحاث قام بها باحثون ألمان. ويتوفر الأرشيف العسكري الإسباني على وثائق تؤكد هذه الحرب بكل التفاصيل ولكن مازال لم يتم الإفراج عنها، إذ بقيت مطبوعة بصفة السرية في غياهب الأرشيف.
ومن المفارقات ... بينما كانت القنابل والقذائف تهطل على منطقة الريف ، كانت المفاوضات في جنيف حول منع الأسلحة الكيماوية بحضور فرنسا وإسبانيا. وحين تمّ التوقيع على محضر اتفاقية جنيف لتحريم استعمال الأسلحة الكيماوية سنة 1925، كانت الدولتان من بين الموقعين. في تلك الفترة بلغت حرب الأسلحة الكيماوية في المغرب أوجها. وفيما يتعلق بالسجلات الألمانية، صحيح أنها مفتوحة ، طالما أنه يتم الاطلاع عليها ، غير أنها ، باستثناءات قليلة جدا، لا تحوي إلا معلومات يسيرة وغير كافية.
إمكانية رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية
يرى الدكتور مصطفى بن شريف أن الدولة المغربية يُمكنها رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية، نيابة عن الضحايا، في إطار ما يعرف بممارسة دعوى الحماية الدبلوماسية، علما أن الضحايا هم مغاربة. لكن التساؤل هو: هل المغرب بإمكانه لاعتبارات جيوسياسية أن يلجأ إلى مفهوم الحماية الدبلوماسية؟
ويُقرّ الدكتور بن شريف أن حرب الريف، وفقا للقانون الدولي، توصف بأنها نزاع دولي مسلح ، والمحاربون الريفيون ينطبق عليهم النظام القانون للمقاتلين وفقا لاتفاقيات لاهاي لسنة 1907، وكذلك طبقا لاتفاقيات جنيف لسنة 1949، لذلك فالحرب التي خاضها الريف، هي حرب تحريرية وتتسم بالشرعية والمشروعية.
ولا يتردد الباحث المغربي في التعبير عن كون الاستعمار لا يتمتع بحماية قانونية، ومن حق الشعوب أن تقاوم المحتل، علما أن الحماية هي شكل من أشكال الاستعمار، فحرب الريف التي حسمت لصالح المملكة الإسبانية، إلا أن ذلك لم يكن ممكنا إطلاقا لولا استعمال الأسلحة الكيماوية ومشاركة فرنسا بشكل كبير.
وأوضح أن استخدام الغازات السامة، خلال حرب الريف، كان خيارا متعمدا بتواطؤ بين إسبانيا وفرنسا. وكان الهدف المعلن لقوات الاحتلال هو القضاء على المقاتلين الريفيين الذين أبدوا شراسة قوية في مواجهة جيوش المحتلين. وخلال هذه الحرب ، شارك طيارون أمريكيون، من سرب "لافاييت" الذي شارك في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) والذي انضم لجيش الاحتلال على غرار طيارين آخرين من جنسيات مختلفة بلجيكية وإيطالية، جاءوا لمساندة فرنسا وإسبانيا في مواجهة حرب العصابات التي دشنها محمد عبد الكريم الخطابي والتي كانت خارجة عن المألوف زمنئذ، حيث ألحقت معركة "ظهر أوبران" في يونيو 1921 هزيمة مُنكرة بالقوات الإسبانية، مكرّسة القدرات الحربية للمقاتلين الريفيين، التي ظهرت بشكل واضح في معركة "أنوال". كما أشار الدكتور مصطفى بن شريف ، في أطروحته، إلى أن الاستخدام الكثيف للغازات السامة "إيبيريت و فوسجين" من طرف القوات الاستعمارية كان ذا مفعول حاسم على تطور الأحداث. فقد نفّد الطيارون الأمريكيون وحدهم، خلال ستة أسابيع 350 مهمة حربية أطلقوا خلالها أكثر من أربعين طنا من القذائف.
ففي دجنبر سنة 1924 راسل المارشال ليوطي الرئيس الفرنسي يخبره باستعمال الأسبان لأسلحة كيماوية، وأن مجموعة من الأطفال والنساء تدفقت على مستشفى مرشان بطنجة. نفس الشيء تذكره وثائق وزارة الخارجية البريطانية التي أشار إليها القنصل العام البريطاني بطنجة. إحداها مؤرخة في شهر دجنبر من سنة 1924، يذكر فيها أن ممثلا لقبيلة أنجرة قصده ليشتكيه الغارات بقنابل كيماوية على المداشر من طرف طيارين إسبان، حيث أدى هذا إلى عمى أو فقدان المتضررين بصفة مؤقتة للبصر،. وبطلب من وزارة الطيران البريطانية التي أرادت الاطلاع على المزيد من المعلومات حول نوعية الغاز المستعمل في هذه الغارات، أجاب القنصل العام البريطاني يوم 19 أبريل من سنة 1925 بأن المصادر المختلفة التي استطاع جمعها تشير إلى أن الغاز الذي استعمله الأسبان هو بدون شك الإيبيريطا. و أشار الملحق العسكري البريطاني إلى أن الغارات كانت تلقى على الناس مباشرة، وكانت الأسواق الأسبوعية مستهدفة... وقامت 20 طائرة إسبانية في 29 يونيو 1925 بإلقاء 600 قنبلة قريبا من تطوان، مسببة أضرارا بشرية جسيمة، حيث تعرضت العديد من المنازل للتدمير، وكثير من المحاصيل الزراعية للحرق، كما تم رش القبائل بغاز الخردل... وحسب المؤرخ البريطاني سباستيان بالفور، اعتمادا على الأرشيف البريطاني، كانت بريطانيا على علم بعمليات استيراد إسبانيا للمواد الكيماوية المحظورة من ألمانيا، لكنها غضت الطرف عن ذلك. كما أن القنصلية الألمانية بتطوان وكذا السفارة الألمانية بمدريد كانت على علم بمجريات الأمور.
هذه نماذج من الوثائق الكثيرة التي وثّقت الجرائم المقترفة.
فإذا كان من حق إن الضحايا اللجوء إلى المطالبة بالتعويض المنصف عن الضرر الذي لحق بهم، فليس هناك أي مانع من اختيار التسوية غير القضائية، أي اعتماد مقاربة سياسية كحل بديل محتمل يقود إسبانيا إلى الاعتراف، بشكل رسمي، بمسؤوليتهما عن الجرائم التي اقتُرفت في الريف، بفعل استخدام الغازات السامة.
صمت مريب
لقد ظل ملف استعمال الغازات السامة في شمال المغرب مغلقا ومجهولا لأكثر من سبعة عقود بفعل التعتيم الإسباني وتواطؤ بعض الدول الاستعمارية.
غير أنه وبعد هذا التكتم الطويل، وإلى حدود بداية تسعينات القرن المنصرم، بدأت الحقائق تنكشف بفضل كتابات عدد من المؤرخين والباحثين الغربيين والمغاربة والأسبان وبفعل جهود بعض فعاليات المجتمع المدني في شمال المغرب وإسبانيا.. ففي سنة 1990 ظهر كتاب "ألمانيا، إسبانيا وحرب الغازات السامة في المغرب الإسباني 1922 – 1927" للصحفيين الألمانيين "رودبيرت كونز وولف دييترمولر ، وسمح بطرح القضية بصورة مخالفة لأطروحات المؤرخين الرسميين في إسبانيا.
وظهرت بعد ذلك الكثير من الكتب والدراسات والأبحاث الأكاديمية في إسبانيا حول هذا الموضوع على يد عدد من المؤرخين والباحثين الأسبان أمثال: "خوان باندو" و"ماريا روزا دي مادارياغا" و"كارلوس لازارو" و"أنخيل فيناس"، "جون مارك دي لوناي"، "روفير مورنو"..، التي اعتمدت في مقارباتها على الأرشيف التاريخي الإسباني، وحاولت في مجملها طرح الموضوع بشكل إنساني وبجرأة أكاديمية وموضوعية، بعيدا عن أي خلفيات واعتبارات سياسية أو إيديولوجية..
وبعد أربع سنوات من البحث والدراسة المعمقة والجولات الميدانية التي قام بها في منطقة الريف، أصدر"سباستيان بالفور" أستاذ الدراسات الإسبانية المعاصرة بمدرسة الاقتصاد والعلوم السياسية بلندن كتابه المعنون: "العناق القاتل"، الذي توصل من خلاله إلى أن استعمال الغازات السامة في شمال المغرب كان الثالث من نوعه في التاريخ الإنساني بعد الحرب العالمية الأولى(1914 - 1918) وبعد قيام بريطانيا باستعمالها ضد العراق عام 1919. كما أشار إلى أن الطائرات الإسبانية كانت تستهدف بقصفها التجمعات السكانية في الأحياء والأسواق خلال الأعياد والمناسبات لإلحاق أكبر ضرر بالناس. وقد لاحظ أيضا أن نسبة انتشار مرض السرطان في المنطقة مقلقة ومثيرة وتظل مرشحة للارتفاع طالما لم يتم اتخاذ التدابير اللازمة في هذا الشأن.
كما برزت في هذا السياق أيضا مجموعة من الكتابات المغربية سواء في صورة مقالات ودراسات، أنجزها مؤرخون وباحثون من جامعات مغربية مختلفة؛ أو في شكل لقاءات وندوات.
وظهرت بالمغرب منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي مجموعة من فعاليات المجتمع المدني التي اهتمت بهذه القضية وحاولت كشف خيوطها من خلال تنظيم الملتقيات والدراسات، من بينها جمعية ضحايا الغازات السامة في الريف (1999)، جمعية ذاكرة الريف (2005)، منتدى حقوق الإنسان لشمال المغرب (2006)، مجموعة البحث في الحرب الكيماوية ضد الريف (2004 )...
وكانت بادرة أولى من نوعها، حين تقدم النائب البرلماني نجيب الوزاني الأمين العام لحزب العهد، بسؤال شفوي أمام البرلمان المغربي خلال الجلسة المنعقدة في 28 دجنبر 2006، أثار فيه وجود نوع خاص من السرطان بالشمال المغربي بسبب استعمال قوات الاحتلال الإسباني للغازات السامة في العشرينات من القرن الماضي..
غير أن الحقائق التي كشفت عنها هذه الدراسات والأبحاث تظل جزئية، لكون السلطات الإسبانية والألمانية والفرنسية والإنجليزية لم تفرج بعد عن الوثائق التاريخية من الأرشيف الاستعماري والتي تحمل أسرارا وتفاصيل أخرى أكثر خطورة .
الفيلم الوثائقي”أرهــــاج”
أرهاج ... كلمة أمازيغية وتعني السم، إنه عنوان فيلم وثائقي للمغربي رضوان الإدريسي والإسباني خافيير رادا، يتناول قصف الجيش الاسباني للمدنين بالريف بالغازات السامة خلال الحقبة الاستعمارية ويستحضر الفلم مجموعة من الوثائق التي تبرز انعكاسات الحرب الكيماوية على الريف، والتي تتضن أيضا معلومات مهمة على لسان مجموعة من الخبراء و الناشطين الحقوقيين و الجمعويين .
ويضم شهادات الضحايا ممن لازالوا على قيد الحياة وقد بلغوا من العمر مدى، وانتشر الشيب في رؤوسهم وباتت التجاعيد شاهدة على آلامهم، وقد عرضوا بقايا قنابل وقطع حديدية من بقايا تلك المرحلة، احتفظوا كأدلة تثبت حجم الدمار التي سببته العملية برمتها. كما تضمن “أرهاج” كلمات تختزن الألم والحزن، جاءت على لسان العديد من الفعاليات الجمعوية والحقوقية، أجمعت على مرارة تلك المرحلة السوداء التي مر منها الريف في عشرينات القرن الماضي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد -الإساءة لدورها-.. هل يتم استبدال دور قطر بتركيا في الوس


.. «مستعدون لإطلاق الصواريخ».. إيران تهدد إسرائيل بـ«النووي» إل




.. مساعد وزير الخارجية الفلسطيني لسكاي نيوز عربية: الاعتراف بفل


.. ما هي السيناريوهات في حال ردت إسرائيل وهل ستشمل ضرب مفاعلات




.. شبكات | بالفيديو.. سيول جارفة في اليمن غمرت الشوارع وسحبت مر