الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقب اسود

قاسم علي فنجان

2015 / 2 / 16
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


(أن ذاكرتي مثقلة بهموم الأمس" مطلع مسرحية كنا نشاهدها في أيام الحصار الأسود, كانت هذه الكلمات تثير فينا الشجن والحزن, فهذه الذاكرة تمتلئ بذكريات حزينة ومؤلمة وهي إلى الآن باقية تخزن وتسجل ما تشاهده وتسمعه من الآم وقهر, فهي دائما وستضل مثقلة بهموم الأمس واليوم والغد, فمنذ سنين طويلة ننام ونصحو على عويل وبكاء نساءً فقدن أحبتهن في مشهد يكرر نفسه كل يوم، ومأساة تعاد على مدار سنين وسنين, الآم وإحزان وأوجاع لا يمكن لأحد وصفها.
فمن حرب القوميين "بقادسيتهم المجيدة" ونظامهم البوليسي المكثف نفسه بشخص "القائد الملهم", تلك الحرب التي دامت ثمان سنين مريرة ولم نعرف لها أفق, أو كيف بدأت؟ وقبل كل ذلك لماذا بدأت؟ وإلى ما ستؤول؟ تركت هذه الحرب -وكل حرب- ذكريات قاسية بقيت عالقة في الذهن, فعندما كنا نسير في الشوارع نرى تلك القطع من القماش الأسود المعلقة على جدران البيوت وقد كتب عليها عبارة "الشهيد البطل", كنا نتساءل عن معنى "البطولة" في ذلك الوقت ولم يجبنا أحد, واليوم بتنا نشاهد نفس تلك القطع السود وقد كتب عليها عبارة "الشهيد السعيد", كان "بطلاً" فيما مضى أو بالحرب القومية, وأصبح"سعيدا" الآن بهذه الحرب الطائفية, انتقلنا من مفهوم ملحمي إلى مفهوم رومانسي, لكن الحزن هو هو والألم أيضا هو هو لا فرق عند من يحبونهم أو الذين يفتقدونهم أكانوا "إبطالا" أم "سعدا", لأنهم مضوا ولا غير ذلك.
ثم إلى غزو الكويت وما جر من ويلات وإحداث مروعه, فإلى تلك الوقائع المزلزلة والمدوية في آذار 1990 بهستيريا البطش لدكتاتور خائف ومرتعب على عرشه, ويحاول بكل ما أوتي من قوه أن يتمسك بهذه السلطة التي قاربت أن تكون "وهما". ثم تأتي الحلقة المرة بسلسلة الذكريات الأليمة,"الحصار الاقتصادي" الذي كان موجعا مؤلما حد المبالغة, حصار لم يبقي للكرامة أو الكبرياء الإنسانية على شيء منها, بداء الناس يبيعون كل شيء ليدفعوا ضريبة نيل "الحرية" أو حتى هامش منها, أو بالأحرى ليعملوا في كل شي لسد رمق من تركوهم في "الوطن", لقد كان"سفر خروج" أول في مسلسل الألم الذي لا نهاية لهُ.
هنا يختتم عصر بطولات "القائد الضرورة" بعذاباته وآلامه وخريفه الذي تساقطت فيه مليون ورقة, ليبدأ شتاء الاحتلال البغيض والقاسي, ولندخل في سيناريوهاته المظلمة والتعيسة, فكان القادم دائما أسوأ وأسوا, بدئوا بعزف سيمفونيتهم الحزينة والبائسة لواقع جنائزي محولين هذه البقعة من الأرض إلى مقبرة كبيرة, فكانت بحق "قداس موت", أوتار الطائفية تدق بقوة, وطبول القومية تقرع, لا صوت يعلو عليها, أصبحت المدن مدن أشباح, شوارع خالية, أزقة تبحث عن ساكنيها, هجرها أهلها أو هجٌروا منها, بسبب الحرب الأهلية المستمرة والتي أيضاً لا نعرف أي أفق لها أو نهاية "كأي حرب أخرى", بدأ الناس يتكدسون في مناطق سميت بأسماء طوائف -هم وقوميات-هم, فصارت هذه المدينة أو المنطقة للطائفة كذا, وتلك للقومية كذا, ومن هذه المعزوفة الصاخبة والنشاز خرج ملوك الطوائف والقوميات والهة الحرب والموت, أسسوا كتائب وأفواجا وجيوش وفرقاً للموت, ولأول مرة يصبح لديك ملء الاختيار بالكيفية التي تريد بها أن تموت، بالمفخخة, أم العبوة, أو بالكاتم, والقائمة تطول, الحزن والسوداوية والانكسار والإحباط واليأس كانت هي العلامات الفارقة لهذه الفترة الممتدة إلى اليوم.
وغداة هذا الصراع الرهيب والمخيف, شاخت بغداد وبدا أنها تهرم, وأصبحت فاسدة دنُسَ جسدها وروحها, ففي جانب معارك وجراح لا تندمل ولا تشفى, وفي جانب آخر حمامات دافئة وولائم يقيمها القادة الجدد الذين جيء بهم, أو خرجوا من رحم هذا الصراع المميت وجلسوا في"المنطقة الخضراء", في ذلك الوقت يبدأ "سفر الخروج" الثاني, الهجرة الأخرى وهذه المرة "جماعية", لكن لم يحن بعد الهدوء, وبدأت اوركسترا الاحتلال تعزف أقوى وأكثر صخباً, وعلا ضجيجها وارتفع قرع طبولها لتخرج لنا بنغمة جديدة, ستشكل منعطفا, في حياة كٌل إنسان يعيش على هذه البقعة, أنها (تنظيم الدولة الإسلامية) لا تجد له وصفاً يشفي قناعتك وقد تلجأ إلى "هايدجر" في تساؤله الميتافيزيقي "ما هو الشيء" نعم ما هي "الدولة الإسلامية" هل تخضع لتحليل وشرح؟ أو هل هي شيء منطقي؟ هل نستطيع أن نقول أنهم بقايا مجتمع قديم عاش في القرون الوسطى, لأنهم مارسوا كل أنواع القتل بأشكاله القديمة, من نحر, وحرق, ورمي من منحدر, ودفن أحياء, واغتصاب وقتل وبيع أطفال ونساء, لقد جٌردت الإنسانية في وجودهم وإنتاجهم من كل القيم والأخلاق, بدا كأنهم (ثقب أسود) يلتهم كل شيء قريب منه أو عندما يقترب هو من أحد ما, "ثقب أسود" ليس في الفضاء أو على بعد ضوئي بل هو هنا وألان وهو يتمدد ويبتلع كل شيء, "ثقب أسود" براياتهم بعمائمهم بلبسهم بتعاليمهم وقوانينهم ولغتهم, تنظر عبر شاشات التلفزيون وبنقل مباشر..
لترى الناس تركض تهرب لاهثة ًلتنجو بنفسها, لا مجال لحمل شيء, أي تأخير يتسبب بنهايتك وستكون مفجعة, ويبدأ الهروب الجماعي الأكبر, هجرة ونزوح داخلية وخارجية هذه المرة, ليعيشوا زمن التيه والضياع, وليحاصروا في البراري والجبال ليمتلئ شريط ذكرياتهم بالحزن والمأساة والألم, مسجلين "سفر خروج" آخر وليس أخير في مسيرة الوجع أللانهائية, لكن دائما هناك شيء اسمه الأمل, أمل يحدونا لأن نغير نمط الحياة هذه ونكنس في يوم ما كل هذه الأوساخ وننظف شريط ذاكرتنا ونردد مع "هاملت" (هدوءاً أيتها النفس, أن الجرائم لابد ظاهرةً إلى وضح النهار, ولو غطتها الأرض قاطبةً لتخفيها عن أعين الناس, هدوءاً أيها القلب)..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام


.. حكومة طالبان تعدم أطنانا من المخدرات والكحول في إطار حملة أم




.. الرئيس التنفيذي لـ -تيك توك-: لن نذهب إلى أي مكان وسنواصل ال