الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ايام في اسطنبول

سميح مسعود

2015 / 2 / 22
الادب والفن






تعتبرمدينة اسطنبول بالنسبة للسائح عالما سحريا ، نظرا لموقعها الجغرافي وتاريخها ... إنها إحدى المدن القلائل في العالم التي تترامى على أكتاف قارتين ، ُتكون لوحة رائعة الجمال باطلالتها على خليج البوسفوروامتزاج مياه بحر مرمرة والبحر الاسود ... تمتد أطرافها حول هذه المناظر الطبيعيةعلى مد البصر، تتزاحم فيها المأذن والمساجد والكنائس والحصون والمتاحف والقصور، و تحكي للزوار قصصا تضرب في اعماق تاريخ الحقبة البيزنطية و أيام سلاطين السلالة العثمانية .

زرت اسطنبول عدة مرات من قبل ، وفي كل مرة كنت اكتشف فيها سلسلة طويلة من التفاصيل الجديدة ... شاءت الصدف ان أزورها في شهرايلول الماضي ، وجدتها وكأنه أعيد خلقها من جديد ، أكثر إتساعا ، وتزداد هيبة ... تزدحم بالمباني الضخمة والشوارع والجسور ، وبضواحي كثيرة جديدة ُألحقت بها تعج بمشاريع إقتصادية ضخمة ، وحركة نشطة لما يزيد عن عشرة ملايين نسمة ، هم عدد سكانها في الوقت الحاضر.

في اليوم التالي لوصولي بدأت بزيارة معالم اسطنبول التاريخية ... كان المسجد الازرق الذي بدأ تشييده في عام 1609 نقطة البدء في جولتي ، أول ما يبادر الزائر عند قربه منه مأذنه الست العالية وقبابه الضخمة الواسعة وهندسته الخارجية الانيقة ... وما ان يدخله حتى تدهشه حيثياته الداخلية : أعمدة رخامية عملاقة تعلو صحنه ، و مئات من ثريات الكريستال النادرة تتدلى من سقفه ، و260 نافذة محلاة بالاف من قطع الزجاج الملون ، إضافة إلى نقوش من الفسيفساء تشكل لوحة من الموازيك في ساحته الداخلية ، و21043 بلاطة خزفية لماعة تغطي جدرانه بلونيها الاخضر والازرق ، وقد سيطر اللون الازرق عليها وعلى الزخارف وعلى المسجد من الداخل مما ادى الى تسميته بالمسجد الازرق .

بعد ذلك زرت متحف ايا صوفيا ( Ayasofya) ، الذي تفصله عن المسجد الازرق حديقة جميلة مليئة بالنوافير ، وهو افضل نموذج لما تبقى من الامبرطورية البيزنطية ، اسمه بالاتينية يعني "الحكمة المقدسة "، وثرا ء تراثه الاثري ُيعزز قيمته الحضارية ككنيسة تاريخية بناها الامبرطور جستنيان عام 532 على أنقاض كنيسة أقدم اقامها الامبرطورقسطنطين الاكبر، وقد ُحولت بعد الفتح العثماني الى مسجد ، ثم أصدر اتاتورك مرسوما في عام 1934 تم بموجبه تحويلها الى متحف ، وثمة أجماع من قبل المهندسين على انها ككنيسة تعتبر أحد العجائب المعمارية على مرالعصور ، بسبب قبتها الضخمة المكسوة بزخارف بيزنطية من الفسيفساء ، ولما في داخلها من أعمدة فخمة ُقدت من المرمر والصخر، تزدان تيجانها بزخارف مرهفة التصميم ، ولوحات جدارية من الموازيك البيزنطي تنتصب شواهد حية على ازدهار إبداع فني باق من أيام القسطنطينية .

وعلى بعد مسافة قصيرة من ايا صوفيا ، يتربع توبكابي سراي او الباب العالي Topkapi Sarayi على مقربة من نقطة التقاء البوسفور والقرن الذهبي وبحر مرمرة ، وهو مقر السلاطين العثمانيين ،... كلما أزوره أقف طويلا عند مدخله الرخامي العالي ، واحدق بلوحة كبيرة كتب عليها باللغة العربية بخط ذهبي نافر " السلطان ظل الله في الارض " أعيد قراءتها مرات ومرات واسجل علامات تعجب واستغراب كثيرة !!!

يمتد القصر على مساحة كبيرة ، على هيئة ابنية وقصور صغيرة كثيرة تتشابك مع حدائق ونوافير جميلة محا طة بجدران وقلاع عالية ، تم إثراء هيكلها البنائي بزخارف هندسية ، ورسوم جدارية رهيفة التصميم ، كما زينت نوافذها بالزجاج الملون ، ونقشت أجزاء من ارضيتها برسوم الموازيك الدقيقة .

يتميز القصرباحتوائه على كنوز غنية وتراثية نادرة ، تتجسد في مشغولات كثيرة من الخزف والصدف والزجاج والبلورالصخري والاخشاب والعاج والجلود والحجارة الكريمة ، من نماذجها القيمة : لوحات فن الخط الزخرفي العربي بانواعه المختلفة ، ومشكاوات من الزجاج المموه بالمينا ومشغولات المجوهرات والمنمنمات والمخطوطات اليدوية القديمة ، إضافة الى الصناديق الخشبية المطعمة بالصدف والعاج ، و التحف المعدنية ، والاثاث وبخاصة المصنع من البرنز المكفت بالذهب والفضة والمشغول بالزخارف الدقيقة التي تبلغ حد الاعجاز .

كذلك فيه أزياء ومجوهرات السلاطين وعائلاتهم ، ومجموعة من السيوف القديمة ، والاسطرلابات ، و مسكوكات كثيرة من الاختام والمكاييل والنياشين والانواط والعملات القديمة من الدراهم والدنانير ، و مجموعات من الخزف التركي والايراني والصيني، و سجاجيد نادرة من الصوف والحرير ، تشتمل على قطع نفيسة نسجت بمهارة يدوية فائقة ، بتصاميم ونقوشات تقليدية بدرجات الوان رائعة ، خاصة قطع السجاد التركي المعروفة بعقدة غورديس المميزة والمعروفة باسماء كثيرة من أشهرها : هيريكة وبرقامه وقيصري وكولا وميلاس المعروض منها بكثرة في مختلف اركان القصر .

تستهويني لوحات المنمنمات الرائعة برسومها والوانها الجذابة ، التي تصطف على جدران بعض قاعات القصر ، بتفاصيل تستلهم مواضيع الحب والطبيعة والاساطير الشعبية وتاريخ السلاطين ، يوجد منها لوحات قديمة جدا رسمت مع بداية هذا الفن على اوراق اشجار النخيل ، كما يوجد منها لوحات على ورق مخطوطات عتيقة خطت باليد في سالف الازمان ... وقفتُ مطولا عند مخطوطة القزويني الشهيرة باسم "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات " المزينة بعدد كبير من رسوم المنمنمات ، وتحتل مكانا مهما في فن هذا الرسم الجميل... تذكرت وانا أشاهدها محاضرة عن المنمنمات ألقيت في الموسم الثقافي لدار الاثار الاسلامية بالكويت قبل نحو عشر سنوات ، تحدث فيها المحاضر( وأظنه من بولندا ) عن هذه المخطوطة ، وعلمت مما قاله عنها أنها ظهرت في البداية باللغة العربية حيث نسخت وزينت بمنمنمات رسمت في القاهرة بمهارة فائقة ثم ترجمت الى التركية .

ثمة اماكن اخرى كثيرة غير القصور العثمانية والمتاحف تتنفس وتحيا الى اليوم بروح قرون مضت , و ُتقدم كنوزا من البراعة الفنية ، منها مسرح ( FKM ) يقع على طرف شارع قريب من المسجد الازرق ، تعددت النشرات السياحية المصورة التي إطلعت عليها عن حفلاته المتعاقبة لفرق "مولوية" على انغام الموسيقى الصوفية ، التي يرجع اهتمامي بها الى إحتفال اليونيسكو والعالم في العام الماضي بمرور 800 سنة على مولد الصوفي الكبير جلال الدين الرومي ، الدرويش الشاعر الذي ابتكر رقصة المولوية ، في مدينة قونية التركية ، وأصبحت المولوية بفضل شهرته إحدى الطرق الصوفية التي أدخلت الموسيقى والرقص كفن منتظم في حفلات الغناء والسماع الصوفي .

دخلتُ المسرح ... وجدته مكتظا بالمتفرجين من السياح ... بدأت الحفلة بمقدمة موسيقية من نغمات عزف على العود والقانون والنا ي ، تقاطعت مع معزوفات عربية معروفة ، بعد ذلك بدأ الغناء الصوفي باللغة العربية قدمه شاب جالسا وعازفا على العود ، بمصاحبة فرقة موسيقية كل عازفيها ظهروا بملابس بيضاء متشابهة مع ملابس الصوفيين ، اول أغنية كانت أبيات شعر منتقاة من قصيدة وجدانية لابن عربي مطلعها : ( ناحت مطوقة وحن حزين وشجاه ترجيع لها وحنين ) ثم تلاها غناء عدة ابيات مفعمة بالسحر من قصيدة ابن القارض المعروفة التي تتفاعل مع روح الصوفيين وزهدهم : ( قلبي يحدثني بانك ُمتلفي روحي فداك عرفتَ ام لم تعرفِ) ، بعدها تم الغناء بالتركية في أداء رائع من شعر ديوان المثنوي لابن الرومي ، إرتفعت فيه طبقات صوت المغني إلى أعلى ما لديه ، كأنه اراد بصوته العالي دعوة فرقة الدراويش للبدء بالرقص .

وهذا ماتم بالفعل ، فقد بدأ أعضاء الفرقة بالظهور على خشبة المسرح ، وهم يضعون أكفهم على أكتاف بعضهم وينحنون للمتفرجين ولأعضاء الفرقة الموسيقية ... يعتمرون قبعاتهم الطويلة المعروفة المصنوعة من اللباد ، ويرتدون ملابسهم البيضاء الناصعة ، وينتعلون نعالا جلدية خفيفة تساعدهم على سرعة التحرك ... بدأ الرقص حسب الطريقة المولوية ... يدور كل واحد منهم على إبهام قدمه برقص دائري ،على أنغام الموسيقى وترديد التواشيح و الاشعار الوجدانية ... ومع إزدياد سرعتهم في الدوران يندمجون في مشاعر روحية سامية تسري فيهم وتوقظ أحاسيسهم وتزيدهم سرعة ورقصا .

ثمة فندق عتيق زرته ثلاث مرات قبل عدة سنوات تناولت فيه القهوة التركية واستمتعت برؤية مقتنياته القديمة ، لم اتمكن من زيارته في هذه المرة لانه يخضع للترميم والتجديد ، إسمه " بيرا بالاس ) ( Pera palasيقع في وسط اسطنبول بمنطقة تيبيباسي ) (Tepebasi، شيد في عام 1892 ، لأستضافة ركاب قطارالشرق السريع أثناء رحلتهم الطويلة من لندن الى بغداد ، ومن أهم نزلاء هذا الفندق أتاتورك و زعماء كثر من اوروبا منهم ليفي تروتسكي أحد زعماء الثورة الروسية ، ومنهم ايضا (وهذا الذي يهمني ) ، الكاتبة الانكليزية أغاتا كريستي أشهر كاتبة روايات بوليسية في العالم ، إذ تعودت طيلة سنوات طويلة ان تحجز الغرفة رقم 411 ، وقد كتبت فيها قصتها الشهيرة " جريمة في قطار الشرق السريع " ، وقد تم تحويل هذه الغرفة الى متحف تكريما لها ، كما كتب في هذا الفندق غراهام غرين رائعته ( قطار اسطنبول " ، ومن نزلاء الفندق ايضا أرنست همينغواى والروائي الاسباني أنطونيو غالا ، صاحب "رواية الوله التركي " و "المخطوط القرمزي" ، وعدد اخر من الكتاب والفنانين .

أثناء توقفي عن التجوال والاسترخاء في المقاهي الممتدة حول البوسفور وفي داخل المدينة وبخاصة مقهى تورك أوكاجي( Turk Ocagi ) ، كنت اتابع تفاصيل كتاب جدير بالقراءة ، هو رواية " الكتاب الاسود " للروائي التركي الشهير أورهان باموك ) ( Orhan Bamuk، اول كاتب تركي يفوز بجائزة نوبل للاداب ( 2006 ) ، وواحد من اهم اربعة كتاب حداثيين في تركيا ...الشخصية الرئيسية في روايته هي اسطنبول... إنها موسوعة شخصية لهذه المدينة العريقة التي عبر فيها باموك عن رموز جديدة لتصادم وترابط الحضارات ، وعن قدرة شخصية الانسان على التغيير، والهروب من الماضي نحو الحداثة ، إستفدت منها بالتعرف على اسطنبول ... شوارع وازقة ومناطق كثيرة ، خاصة منطقة " نيشان تاشي " وعلاقتها المميزة مع شخوص الرواية ، الذين أخرجهم باموك مرات عديدة عن سياقات حياتهم وَضيعهم في نواصيها .

وثمة مفارقة جميلة في هذه الرواية تتمثل في تجسيد تأثير السطوة الجغرافية التي تحققت لاسطنبول عبر الزمن كنقطة لقاء بين اوروبا واسيا ، إذ ساعدت على تسهيل نفاذ الحداثة الاوروبية الى الوعي التركي منذ فترة باكرة مع ظهور أتاتورك ، وأدت ايضا في الوقت الحالي إلى انتعاش المطالبة بإنضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي ... ومن الطبيعي عند تحقيق هذا الانضمام مستقبلا ، عبر إطار رحب من التعاون والتفاهم والوئام والاحترام المتبادل بين الاديان والاعراق ، أن ُتفتح صفحة جديدة من العلاقات بين الشرق والغرب ... علاقات جديدة من نوع فريد ، سوف توقذ الاديب الالماني الكبير يوهان غوته من رقدته ، وتثبت صحة مقولته المأثورة : " من يعرف نفسه ويعرف الأخر، فسوف يعترف ايضا بان الشرق والغرب لا ينفصلان " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-