الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أرواح ظامئة للحب: رواية : الجزء الثاني

صبيحة شبر

2015 / 2 / 23
الادب والفن


(14)

تعودين مستبشرة الى منزلك ، لقد رأيت صديقاتك هذا اليوم ، وتمتعت بصحبتهن ، رغم انك لا تحسنين الكلام كما تفعل اكثر البنات في مثل سنك الصغير ، وجهك تعلوه الحمرة ، شعور بالخجل يرافقك باستمرار ، يزول منك بعض الأحيان..
تسألك السيدة الكبيرة :
- هل تمتعت هذا اليوم ؟
- نعم يا عمتي.
ما كان لك ان تخرجي ، بنات العوائل الكبيرة ، لا يمكن لهن تتجمعُ لديك كومة من اللب المنزوع القشر ، تحاولين ان تلتهمي هذه الوجبة اللذيذة التي أتتك تسعى دون بذل الجهد ، تسمعين صرخة:
- انتظري ، بسمة : من أين جئت بهذا الحب ؟
يعييك الجواب هل تذكرين الحقيقة ؟ تصمتين، تخشين من شدة العقاب ، كيف تسول لك نفسك ان تأخذي شيئا ليس لك ، وكيف يمكن ان تمدي يدك لتسلبي ملك الآخرين ، وقد علموك جيدا ان السرقة حرام وان الاعتداء على أموال الناس جريمة كبرى يعاقب عليها الأقربون والأهل وأفراد العائلة ..
السيدة التي زرت غرفتها ، وأخذت منها شيئا ليس من حقك ان تأخذيه تتمتع باحترام الجميع هنا ، وتقديرهم ، فماذا يمكن ان يكون جوابك ، وكيف تبرهنين على سلامة موقفك ، ولماذا سرقتِ ؟ وهل هذه نتيجة التعب والتربية الطويلة ، التي علمك عليها ذووك ، لقد ربوك ، وأحسنوا تأديبك ، ان السرقة حرام ، يعاقب عليها الله اشد العقاب ، في الآخرة ، ويعاقبك عليها أهلك في الحياة الدنيا ، سوف يلقنونك درسا قاسيا في وجوب المحافظة على الأخلاق واحترام الملكية الخاصة ، وعدم التعدي على ما بيد الآخرين ، وخاصة ان كان الآخر سيدة عظيمة القدر ، يحترمها كل أفراد المنزل ، ويمحضونها محبتهم الصافية ، واحترامهم الكبير.
وانت تفكرين في عواقب فعلتك الشنيعة تسمعين الكلمات الشديدة
- انت سارقة اذن ، حرام بك التعب المبذول من أجلك ، والجد المتواصل في سبيل إطعامك ، والقلوب والعيون التي سهرت الليالي الطوال لتنشئك ، وتعتني بك ، وتعلمك أصول التربية ، ومبادئ الأخلاق القويمة.
تمكثين نهبا لأفكار شتى تسيطر عليك ، وتسلب منك دفء اليقين ، وجمال الاطمئنان ، تُرى ماذا تفعلين ان أخبرت تلك السيدة ذويك انك سارقة لعينة ، قد سطوت على ما ليس لك ، وأخذته دون علم ، ومع سبق الإصرار والترصد ، هؤلاء الذين يحبونك ، وتجدين منهم العطف العظيم ، والرأفة الكبيرة ، ماذا يكون موقفهم منك ؟ ان علموا انك لصة كبيرة ، وان جهودهم في تهذيبك ، ذهبت أدراج الرياح، وانك نبتة غير صالحة ، لم تأتِ بثمرتها الصالحة رغم العناية الكبيرة ، التي بذلت من اجلها ، ماذا سيكون جوابك ؟ وكيف يمكن ان تعللي لهم انك لست بأهل للثقة ، فقد خنت الأمانة في أول فرصة ، ودنت نفسُك على ما ليس لك فيه أي حق ، يا خسارة التعب فيك ، ويا لعبث الجهد الذي بذلوه في أرض غير صالحة ، فأنبت مخلوقة طالحة هي أنت .
تجرك السيدة الكبيرة من يدك الصغيرة ، تمضي بك الى المخلوق الاثير لديك:
- ابنتك هذه سارقة!
- .............
- سرقت ما ليس لها من غرفة الأم الكبيرة.
- صحيح ؟ لا أظن هذا .. ماذا سرقت ؟
- كيس حب للرقي من غرفة الأم الكبيرة ؟
- وهل تعتبرين هذا سرقة ؟
- وماذا تسميها أنت ؟ يجب ان تُعاقب على فعلتها ، والا كررتْ السرقات .








(15)

فاجأني الوضع الذي وجدت نفسي فيه ، ابنتي العزيزة متهمة بالسرقة ، ماذا يمكن ان افعل في مثل هذه الحوادث ؟ التي أجد نفسي محشورا فيها ، من أين سرقت ؟ وماذا سرقت ؟ ولماذا تقوم بالسرقة ؟ وما هي دوافعها ؟ كل هذه الأسئلة خطرت في بالي ، حين جُلبت ابنتي بتلك الفظاظة ، متهمين اياها بفعل شنيع ربما لم تعرف خطورته ، نعم ربيتها على الأمانة ، واحترام الآخرين ، وعدم التعدي على أملاكهم الخاصة ، لكن السيدة الكبيرة لم تذكر لي صراحة ماذا سرقت بسمة ؟ هل تمت السرقة في المنزل الكبير ؟ ام في منزل آخر ، وهي عادة لا تذهب الى خارج منزلنا الكبير ، لابد ان السرقة حدثت فيه ، فماذا سرقت ؟ وممن ؟ ولماذا ؟ تصرخ السيدة الكبيرة:
- إنها ابنتك ، يجب ان تعاقبها ، وتعلمها السلوك القويم ، من الآن ، لأنك لو تركتها وسامحتها ، لنشأت سارقة كبيرة ، وخطيرة
- ماذا سرقت يا ابنتي ؟
- لم أسرقْ!
- انها كاذبة ، عاقبْها الآن ، قبل ان تستفحل دوافعها ، ويصبح من العسير علاجها ، الشدة في هذه المواضع مفيدة..
لم أعرف كيف أكون حازما في مثل هذه الأمور ، هل أحدّث السيدة ان ابنتي لم تقصد سوءا ، ام أعاقب ابنتي ؟ ام اعلمها ضرورة احترام ما يملكه الآخرون؟
أجد نفسي أقول للسيدة الكبيرة
- انها ابنتي وانا مسؤول عنها
- حسن ، سأذهبُ انا.
- اسمعيني جيدا ابنتي ، السرقة صفة مذمومة جدا ، يجب ان نبتعد عنها ، لأنها تورث فقدان الثقة بمن يمد يديه لسلب ما بيد الآخر ، دون علمه ودرايته ، والضعيف الجبان فقط من يلجا الى السرقات ، اما القوي الشجاع فلا تمتد يديه الى ما بحوزة غيره ، ان كنت تحتاجين شيئا ، اخبريني وانا أوفره لك ، أنت عزيزة علي ، وسوف اعمل جهدي كي ألبي ما تحبين ، فهل أخذت شيئا ليس لك ؟
- لا أعلم عم تتحدث السيدة الكبيرة ؟
- لابد انها وجدت عندك شيئا.. ليس لك.
لم أرض عن نفسي ، وانا أنجرفُ هكذا خلف ارادة السيدة الكبيرة ، التي لا أعرف عن دوافعها شيئا ، ولماذا لا تحب ابنتي ، اعرف ان ابنتي تتميز بالجرأة ، وانها تقول ما تشعر به صراحة نحو الاشخاص ، وكنت أشعر بالفخر من هذه الصفة ، لكن ان تكون موجهة ضد أفراد عائلتي ، ان تتسبب في خصومة بعض الناس الذين أحبهم كثيرا ، فهذا مما لا أسامح به ابنتي ولا نفسي ، لقد نشأت على احترام الجميع ، وابنتي سوف تكبر ، وتجد ان تصرفاتي معها كانت منطقية ، فتحترمني أكثر وتفهم دوافعي.
لقد حدثوني انها لا تعرف بعد كيف تعامل الناس ، وانها تسبب بالبراءة التي اتصفت بها نظرا لصغر سنها ،بعض سوء الفهم .
جاءتني امها مرة وقالت
- ذهبنا الى الدعوة التي وجهها الجيران لنا ، واصطحبنا معنا بسمة ، وحين وضع العشاء أمامنا ، كان بيضا مسلوقا وخبزا قالت:
- وأين العشاء؟
- أردت ان أسكتها ، أشرت لها ان تصمت ، لكنها واصلت السؤال ، مما أثار ضحك الجميع.
اعرف انها صغيرة ، وتأتي ببعض التصرفات التي لا تفكر بنتائجها من التي يمكن ان تؤدي اليها ، ولكن الواجب يحتم علي ان أحسن توجيهها ، فنحن نعيش مع الناس ، وعلينا ان نفكر بالكلام كي لانجرح السامعين.


(16)
تأتي آلامُ المخاض الى أمك ، فتسارعين الى الذهاب مع أبيك لجلب من سوف تساعدها في الولادة ، تسألين أباك :
- هل تفضلُ الولد ام البنت ؟
- كلاهما عزيزان ، أحبُ الاثنين ، ولا فرقَ بينهم ، كلاهما يبددُ الأحزان ويقفُ مع الوالدين مخففا عنهما متاعب الحياة ، الدنيا تزهو بالصغار وتتقدمُ بما يبذله الناسُ من أجل زرع الورود ، ليتمتع الطيبون بعبيرها...
تحاولين الركض خائفة من كلب يحاول اللحاق بك:
- لا تركضي يا ابنتي ، لئلا يلحق بك الكلب ، يظن انك خائفة منه ، سيري كما انت بلا سرعة ومري بالقرب من الحيوان ، انه يخشى الانسان وليس العكس..
تسيران بهدوء ، وكلما اردت الاسراع نبهك ابوك الى ضرورة الهدوء ، هدوؤه يتسرب اليك كما المياه الباردة تطفئ ظمأ العطاشى المتعبين .
تصلان الى بيت القابلة التي ستساعد والدتك في الاتيان لك باخ او اخت جديدين ، قال لك أبوك مرة :
- حين يكثر اولادنا ويكبرون ، أبني لهم بيوتا جميلة ذات حدائق غناء ، الكل يجتمعون معا لتناول الطعام والاحتفال بالمناسبات العديدة ، أولادي وبناتي كالنجوم الزاهية المتلألئة التي تجعل الحياة فاتنة الجمال ، كل واحد منهم يتعلم كما شاء له العلم ولا يتوقف ، فالعلم نور لا يتوقف عند حد معين .
الكلب مرة اخرى ، يدور حولك محاولا ان تلتفتي اليه :
- لا تخافي ، هو من يجب ان يخاف ، الانسان اعظم المخلوقات وأكثرها نبلا وأشدها جمالا.
تصلان المنزل وانت فرحة ، فقد خرجت من المنزل ولو لفترة قصيرة ، تقول القابلة :
- هاتوا لي ماء ساخنا..
زوجة جدك لأمك تسارع الى جلب الماء الذي سبق لها وان سخنته
تسمعين صراخَ طفل ، ترحبُ الحياةُ بقدومه ، فاتحةٌ له ذراعيها الحانيتين ، تقول القابلة :
- انه ولدٌ جميل يشبه امه.
- كل من يأتي به الله جميل ، نعم الله جليلة وكثيرة.
- هل ستقيم احتفالا بقدوم أخي الجديد كما تفعل عادة حين تلد أمي البنات ؟
- نعم سنقيم الاحتفال ، الأولاد والبنات أعزاء يجعلون الدنيا زاخرة بالمسرات ، وانا احبهم جميعا ، سنرى اخاك الآن وننظر هل يشبهك قليلا ؟
تدخلان على أمك ، تجدانها مسرورة بما منحها اللهُ ، تنظرين الى أخيك النائم في مهده الجديد ، تحاولين ان تهزيه ، فتسمعين تحذيرا :
- ليس الآن . اتركيه نائما ، من الغد تلاعبينه وتحملينه بيديك ،وتساعدين أمك في تربيته وتدليله ورعايته
تنتظرين الغد بلهفة وشوق ، لتجعلي المولود الجديد يصحبك.
يسارع ابوك الى الحلويات التي اشتراها من قبل ويوزعها على افرد الأسرة جميعا ، ويعطي القابلة الحصة الأكبر مع مبلغ من المال :
- هذه هديتُك ، وشكرا لك على البشرى التي حملتها لنا..

(17)
أرسلك أهلك الى السوق لابتياع بعض الأشياء ، فأنت ما زلت صغيرة ، ولا ضير ان تذهبي الى السوق الصغيرة الموجودة في المدينة الصغيرة ذات البساتين الجميلة ، أعطوك ربع دينار وأوصوك ان تشتري به بعض الخضر من السوق ، انت تحبين الذهاب الى الأماكن المتعددة والتي تجدين الفتيات الكبيرات محرومات منها ، لأنهن محجبات يضعن البوشية على وجوههن لمنع الرجال من التطلع الى الجمال الساحر الذي منحهن الله اياه ، فالكبار بالسن من اهلك يقولون انه كلما كانت النساء جالسات في المنزل ولا يخرجن منه الا مرتين في العمر ، الأولى حين يذهبن الى منزل الزوج ، والثانية حين يقبض على أرواحهن عزرائيل ، كان ذلك افضل لهن وللعائلة ، منعا للمشاكل ان تأتي الى المنزل الذي كان سعيدا .
- لماذا لا تخرجين معي ياعمتي ؟
- كنت أخرج كثيرا حين كنت بمثل عمرك ، وكانوا يرسلونني لشراء ما يريدون من حاجات ، وحين كبرت انت وأصبحت قادرة على تلبية طلباتهم ، صرت انا كبيرة ولا يصح ان اذهب الى السوق .
- وحين اكبر ؟
- سوف يمنعونك من الذهاب الى السوق وحتى الخروج من المنزل ، فان خروج الفتيات يعتبر من الأمور المعيبة للعائلة الكريمة
- والنساء الكبيرات ؟
- لا تخرج المرأة من المنزل الا مرتين بالعمر ، هل تعلمين بذلك ؟
- نعم أعلم ، ولكني وجدت النساء في النجف يخرجن الى السوق ؟ لماذا يكون خروجهن هنا حراما وخروجهن في النجف الكبيرة حلالا ؟
- لأن النجف مدينة كبيرة وليس خروج النساء عيبا فيها ، اما هنا فيعتبر خروج المرأة من المنزل عيبا كبيرا ، ينظر اليه الناس باستهجان .
جرجت من المنزل وانت فرحة بقدرتك على الخروج تمسكين الربع دينار بقوة كي لا يسقط منك ، رأيت اناسا متجمهرين حول جمل كبير .ركب أحدُ الرجال الجملَ والناسُ يصفقون ،مجموعة من
من الأطفال بعمرك ينظرون الى الجمل بأعجاب ، تحرّك الجملُ نحوك ، صرخت طفلة :
- احذري يا بسمة لئلا يسحقك الجمل !
تبتعدين الى الخلف بعدة خطوات ، تنسين نفسك وأنت واقفة مع الواقفين ،يراقبون حركات الجمل مع الراكب عليه ، تنتبهين الى تأخرك في العودة ، تخشين من المساءلة ، وان تسارعَ عمتُك الى الاستفسار كما تفعل دائما :
- اينَ كنت طوال هذه الساعة ؟
تهرعين الى السوق لشراء ما طلبوه منك ، تكتشفين انّ الربع دينار ليس معك ، تُرى ماذا ستقولين لهم ؟ أبوكِ لا يعاقبك ، ولكن عماتك سوف يجعلنه يغضبُ عليك وأنت لا تحبين أن تفقدي حبّ أبيك ، ترى كيف تنقذين نفسك من غضب ابيك ؟
- اين الحاجات التي طلبناها منك ؟
- لم اشترها!
- لماذا ؟
- لأنني وجدتُ فقيرا يطلبُ المعونة من الناس ، فأعطيته الربع دينار
- وهل تعطينه الربع كلّه ؟ انه كثيٌر جدا ..
يسارعُ أبوك الى الوقوف بجانبك كما يفعل دائما :
- لابأس ابنتي ، مساعدة الفقراء عمل حميد دائما...
تتعلمين منذ تلك اللحظة ان تحبي القيام بأعمال الاحسان كي تثيري الاعجاب بما تفعلين ، وتلقي كلمات الاستحسان التي كنتِ تحرصين على سماعها وخاصة من الأشخاص الذين تحبينهم كثيرا وتجدين انّهم يمنحونك المزيد من الحب ، وتتعلمين كيف تقومين بالأعمال التي يحبذها الآخرون وليس تلك التي تفضلينها أنت ، حتى فقدت القدرة على معرفة ما تحبين .




(18)
الحرارة شديدة الحضور ، قاسية الهجوم ، وقد أرسلوك لابتياع بعض لوازم المنزل ، تمرّين على البائع ،و الحاجاتُ التي عليك شراؤها مسجلة في رأسك ، قالوا انك قوية الذاكرة سريعة الحفظ ، ما ان يكلفوك بشيء لتحضريه اليهم حتى تنفذي طلباتهم وأنت مسرورة جدا ، انهيت السابعة من العمر وانت ترتدين العباءة ، وطلبوا منك ان تضعي البوشية على وجهك ، فلبيت اقتراحهم بكل سرور ، تصلين المنزل متعبة ، تستقبلك عمتك :
- لماذا وجهُك أحمر ؟
- لا أدري .
- لقد وضعت مساحيق التجميل على وجهك ، وعدت الى المنزل .. حين خرجت قبل ساعة لم تكوني بهذا الاحمرار ، أين ذهبت ؟ ومن وضع لك احمر الخدود ؟
- لم أذهبْ الى أي مكان ولم يضع لي أحدٌ شيئا على خدي!
- أنت تكذبين ، ألم أقل لك انّ الكذب حرام ، وان وضع المساحيق يعتبُر من الأمور التي تخدعُ الناس ، وعليك اجتناب كل ما يجعلك تظهرين بغير حقيقتك .
- لا أعرفُ عن أي امر تتحدثين !
- سوف أريك عن أي شيء أتحدث !
تأتي عمتك بمنديل أبيض اللون ، تمسحُ وجهك ، وتدعكه بقوة مما يثير لك الألم ، وترى المنديل ، ثم تعاود الدعك وتقول :
- عجيب أين ذهبت حمرة الخدود التي استخدمتها في طلاء وجهك ؟
تقول امك :
- بسمة لا تكذبُ ، وهي لاتضُع شيئا على وجهها ، ولا تعرف هذه الأشياء ، أنا لا أستعملها ، من أين تحصل عليها ابنتي ؟
- انكم بتدليلها سوف تفسدونها ، لو كانت بريئة لدافعت عن نفسها ، لماذا تظل صامتة ؟
- لأنك سوف تشكين أمرها لأبيها حين يعود .
- وهل أبوها يسمع كلامي ؟ انّه يجعلها المفضلة دائما ..
- بسمة لا تفعلُ ما يسيءُ الى أحد . لماذا تتهمينها كل مرة بما لم تقم به ؟
- لأنّ الحكمة تقول احذرْ من الساكت ، هدوؤها لا يعجبني
- طبيعتها هادئة جدا ، وأنت تريدين ان تغيري هذه الطبيعة ؟
- لا أدري ، الا تضعين أنتِ احمر الخدود حين تكونين مع أخي ؟
- لا أضعُ شيئا ، أخوك لا يحبُ أصباغ الخدود او الشفاه .
- وتقولون ان ابنتكم مريضة ولا تميل الى انواع كثيرة من الطعام ، كيف يمكنُ ان تكون خدودُها بهذا اللون الوردي وهي شبه صائمة كما تدعون ؟
- لماذا لا تحبين ابنة أخيك ؟
- على العكس ، احبها كثيرا ، وأدربها منذ اللحظة كي تكون زوجة صالحة لولدي حين تكبر .
- ما زالتْ صغيرة ، فلا تفكري بهذا الأمر!
- بسمة عزيزة علي كثيرا ، لكني أريدها ألا تتذمُر او تشكو من شيء في المستقبل ، أمس أعجبتني حين كانتْ تلعبُ مع عمها ، سكب الماء الساخن عليها ولم تبكي او يعلو صراخُها كباقي الصغيرات سوف تكون ابنة لي ، فلم أرزقْ بالبنات .
- ما زالت صغيرة الآن..
- التعلمُ في الصغر كالنقش على الحجر ، سوف أقيمُ غدا حفلة لصديقاتي الموظفات وسوف ارسل بسمة لدعوتهن الى منزلي .

(19)
قال أبوك :
- وقفت مع الواقفين نطالب بانتخابات نزيهة ، فانبرى المسؤول :
- ارجع الى بيتك .
- لن ارجع ..انا مع الشعب ،اطالب بحقوق الناس.
- هؤلاء الغوغاء لا يفهمون
- انهم شعبنا وعلينا ان نقف مناضلين من اجل مصالحهم.
تنهمر الهراوات على الرؤوس الحاسرة ، وتتفرق الجماهير . ويعود أبوك الى المنزل ، يجمع أوراقه ويمزق بعضها ويحرق الممزق ، ويخبئ الأوراق المتبقية في صفيحة من المعدن ، ويقلع عددا من الطابوق تحت سريرك ويضع الصفيحة ويبني الطابوق عليها
- لماذا تخبئ هذه الأوراق ابي؟
- لئلا يراها المسؤولون فيضعوننا في السجن.
- ما بها هذه الأوراق ؟
- حث الناس على النضال من اجل سعادتهم، ونصرة الفقراء وجعلهم يتمتعون بالثروات الكثيرة التي يملكها العراق ، وطننا غني وشعبنا فقير ، سوف تكبرين يا ابنتي وتكونين مع الجماهير المعدمة ، ضد من يسرق اموالها ..
لا تفهمين معاني ما يقول ابوك ، وتتشوقين الى اليوم الذي تعرفين به معاني ما تسمعينه ، تسمعين طرقات عالية على الباب :
- على السيد ان يخرج الينا لنتحدث اليه قليلا.
- لقد خرج قبل قليل.
- هل عندكم ضيوف ؟
تسكتين ، ماذا يمكن ان تقولي ، تخافين ان تذكري الحقيقة لئلا يحاسبون أباك ، ففي الغرفة قرب باب المنزل ثلاثة رجال يختبئون ، وفي الزقاق قرب باب منزلكم يجلس رجل كسيح ، طالما احسن اليه ابوك :
- انه معافى يصطنع المرض وعدم القدرة على السير من اجل ان يتنصت على الناس وينقل أخبارهم..
- لماذا يجعل نفسه كسيحا ؟
- كي يظل قريبا من منزلنا ، و يعرف من يزورنا ، وينقل اخبارنا الى اولياء نعمته ..
- لكنك تحسن اليه يا ابي ؟ لماذا لا يكون معك جيدا كما تكون انت ؟
- الناس يختلفون يا ابنتي ، بعضهم طيب والبعض الآخر خبيث ، منهم الذكي ومنهم الغبي ، الشجاع موجود كذلك الجبان
يواصل أبوك حديثه :
- نسيتُ ان اخبرك ان هناك ضيوفا عند عمتك ، هل تحبين الذهاب اليها في المنزل الكبير ؟
- نعم يا أبي ، أودُّ الذهاب..
تذهبين الى هناك ، تتجاهلك عمتك ، ترحب بالضيفات اللاتي قمت انت بدعوتهن بناء على طلبها ، لكنها تتجاهل وجودك ! وكأنك لم تكوني هناك ! تتساءلين ماذا حدث ؟ ولماذا تعاملك هذه المعاملة القاسية وانت لم تعصي لها امرا ؟ لماذا سارعت بالقدوم ولم توجه اليك دعوة ؟كلهن كبيرات ، لماذا تحشرين نفسك بينهن ، لتظلي صامتة تسمعين الى ما يقلنه وكأنه جواهر! كنت حريصة على السكوت ، واي كلمة منك قد تفسر بغير صالحك !.


(20)
وقف في نهاية الزقاق يريد ضربك ، امسك العصا بقوة ، وأخذ يضربك على اجزاء جسمك الصغير :
- ملعون انت سبعين لعنة ، لماذا تضربني ؟
- سوف اواصل ضربك ان شتمتني
- لماذا تضربني ؟
- لأني أحب ضربك أيتها الملعونة .
تحاولين ان تبادليه الضرب بكفك الصغيرة ، يمسك يديك بإحدى يديه القويتين ، وينهال عليك بالضرب باليد الأخرى..
- انت ملعون ، ماذا فعلتُ لك لتضربني بهذا اللؤم ؟
- سوف أواصل صربك ان تهجمت علي !
- كف عن ايذائي
- لن أكف حتى تمسكي لسانك
الضرب المبرح يتوالى عليك بقوة ، وانت تشتمين ، ولسانك يأبى ان يتوقف ..
- اسكتي يا أم لسان طويل .
توجهين له ضربة ، فينهال عليك بضرب موجع وشديد ، تسكتين :
- لا تخبري أباك بالأمر والا أوجعتك ضربا ، هل تخبرينه ؟
- كلا ، ولكن كف عني
يتركك ، فتحاولين الركض بقوة :
- انت حقير وكلب ، سأخبر أبي ليؤدبك!
يتبعك ، ويتمكن من الامساك بك ، و يذيقك امر الضرب وأقساه ، وانت مربوطة اليدين ، لا تستطيعين ان تردي عليه ، تسكتين مرغمة ، فيتركك ، تبتعدين عنه وتركضين محاولة ان تدخلي المنزل الذي يحميك من شراسته :
-_ انت حقير !
يلحق بك وقبل ان يتمكن من ايذائك يفتح باب المنزل فتتمكنين من الدخول وتغلقين الباب وراءك
تقول لك عمتك :
- كنت أراقبك من بعيد ، كيف تضربين من هو أكبر منك ؟
- هو من بدأ بضربي !
- وكيف تردين عليه ؟ يجب ان تصمتي ، وهو يتركك .
- وهل اسكت عنه وهو يواصل الضرب لي ؟ لم أسيء اليه
- حتى لو ! كان يجب ان تسكتي ، البنات لا يضربن الأولاد ، سوف يقولون انك قليلة الأدب!
- من هم الذين يقولون ؟
- الناس
- أي ناس ؟ وهل يسكتون هم ان تعرضوا الى الضرب بدون ذنب؟
- أرأيت ؟ انك كثيرة الكلام ، كلنا ضربنا حين كنا صغيرات السن، لماذا انت تحتجين ؟ هل انت أحسن من الجميع ؟ اسكتي وسوف لن يضربك احد!
- سوف أخبر ابي انك ايضا تريدينني ان اتحمل الضرب !
- اخبريه ، وسوف لن يحبك احد ، الناس لا يحبون من يجادلهم ، سوف تكونين وحيدة منبوذة من الجميع ، هل تحبين ان تعيشي وحيدة ؟
يحزنك كلامها ، كيف يخبرك ابوك انك يجب الا تكوني ضعيفة وان تدافعي عن نفسك دون الاساءة الى أحد وهو قد بدأ بضربك دون ان تفعلي له شيئا يضره ؟ وكيف تسيئين له وانت أصغر منه بكثير وأقل قوة ؟
حين يحضر ابوك لا احد يجرؤ على الاعتداء عليك، فهل تخبرينه ؟ وأنت لا تحبين ان تنقلي الكلام او الفعل المسيء
كل شيء هنا يثير حيرتك ؟ كيف يمكن ان تتصرفي ؟ ولماذا تحاولين ارضاءهم جميعا ؟ أليس هذا فوق طاقتك ؟






















(21)

كانت الحاضرات كثيرات ، وهن يستمعن الى قراءة القران الكريم ، وتلاوته ، المعلمة تصغي بانتباه ، وتصحح الغلطات القليلة التي تقع فيها المتعلمات ، وانت قمت بواجبك خير قيام ، قرأت الآيات الكريمة ، التي طلبت منك المعلمة ان تقرئيها ، ووقعت ببعض الأغلاط وصححت لك ، وطلبت منك ان تعيدي لفظ الكلمات بالطريقة التي لقنتك بها ، ونجحت في اعادة ما امرتك بإعادته ، لكنك تلاحظين ان المعلمة ليست كالعهد بها كل يوم ، مر عليك اكثر من عام وانت تأتين كل صباح الى هنا ، تستمعين الى قراءة آيات من القران ، والى طريقة في التلاوة ، وانت سعيدة في ان تكسبي معلومات جديدة ، تعلمك اياها المعلمة التي اختارها لك ذووك رغبة منهم في تعليمك العلوم النافعة التي يحرص الابوان على تعليمها لأبنائهم..
في هذا اليوم تجدين فتورا في المعاملة ، وبرودا في الكلام ، كيف يمكن ان تعرفي السبب وراء هذا الانقلاب في المعاملة ، وكيف اصبحت المعلمة على النقيض في التصرف ، بين عشية وضحاها ، من استطاع ان يؤلبها ضدك في هذه الفترة ، ؟ امك لا تفعل شيئا يمكن ان يؤلب أحدا ضدك ِ،فهي تظل في المنزل طوال النهار تقوم بما يتطلب ذلك البقاء من مهام طويلة وشاقة ، فمن استطاع ان يغير معاملة معلمتك لك وكانت قبل اليوم تستقبلك بابتسام وتخاطبك بمودة ، وتودعك بكلمات دافئة تدل على المحبة واللطف..
تصرخ احدى زميلاتك في الكتّاب :
- أغيثوني، لقد سرقت النقود التي أعطاني اياها أبي.
تسيطر عليكن المفاجأة ، من يمكن ان تكون السارقة ؟ وكيف استطاعت ان تسرق نقود الزميلة بعد ان وضعتها في جيبها.
تقول المعلمة
- لتُفتش اثنتان منكن بسمة بنت التاجر وبسمة بنت اللص الذي أطلق سراحه قبل يومين.
يصعقك الموقف ، كيف يمكن ان يعتدوا عليك ؟ وان يفتشوك في مثل هذا الموقف ، وكيف يتهمونك مع فتاة اخرى كان ابوها سارقا ، ومن استطاع ان يبدل نظرة المعلمة اليك ، كانت تجدك من البنات الأمينات اللاتي أحسن أهلهن تربيتهن ، فما بالها اليوم؟
تفتش زميلتك ابنة اللص المشهور ، وتسمعين صوتا:
- توقفوا عن التفتيش ، وجدت نقودي !
- كيف وجدتها ؟
- نسيت انني غيرت مكانها ، والآن تذكرت!
تلتفت اليك المعلمة قائلة
- زارتني السيدة الكبيرة هذا اليوم.
تدركين الآن سبب تغير المعاملة وسبب غلظة المعلمة التي لم تكوني تتوقعينها..
تعودين الى المنزل الكبير ، مثقلة بالهم ، تملؤك الأحزان وتسيطر عليك الأوجاع ، لماذا يفعلون ذلك بك ؟ و كيف تتصرف السيدة الكبيرة بهذا الكره نحوك ؟ وماذا فعلتِ لها ؟ ، وكيف ذهبت أدراج الرياح كل العناية ، التي بذلها أبوك في تنشئتك ، وأنت لم تضري أحدا ، ومن الصغر وقلة المدارك لا تستوعبين ما يجري لك من امور..
تعودين الى المنزل ، والحيرة تستبد بك ، من يمكن أن ينقذك من الموقف العسير الذي أوقعوه بك ، وماذا يمكن ان تفعلي لتزول شكوكهم التي غرستها في نفوسهم كلمة واحدة من سيدة عجوز لا تدرك نتائج أفعالها ، ولا تبالي ان أوقعت بالكثير من المحيطين بها من جراء الشكوك الكبيرة ، والتي لا تجد دليلا واحدا كي يثبتها ، وكيف استطاعت المعلمة ان تصدق كلمة اتهام ضدك ؟ وهي تعرفك وتعرف أهلك تمام المعرفة ، من يمكن أن يضع حدا لعذاب نفسك المتزايد ، شعور بالظلم كبير يهيمن على نفسك ويسلبها الاطمئنان المطلوب ، تجدين جميع صديقاتك تحيطهن الرعاية ، ويقويهن الحنان ، وأنت ظمأى في صحراء شاسعة ، لا تجدين أحدا يحنو على طفولتك المحرومة ، وضياعها قبل الأوان ، وقبل ان تري بهجتها وتعيشي جمالها ، تعودين الى المنزل محطمة الفؤاد ، لا تعرفين كيف تستردين حقك المهدور ، كلمة واحدة تعيد الى نفسك البهجة المفقودة.
بسمة ، هل تحبين ان تستحمي ؟
كنت على العكس من كل الأطفال ، الذين يخشون من الذهاب الى الحمام ، لانهم يجدون القسوة في فرك الرأس وصب الماء الساخن على الجسم الصغير ، كنت تبتهجين لان احداهن اقترحت عليك ان تساعدك على الاستحمام
تفرك السيدة الكبيرة جسدك الصغير بالليفة والصابون ، وسرعان ما تنطلق تهمة كبيرة بوجهك ، وأكبر كثيرا من سنوات عمرك القصير
- ماذا فعلت ؟ ما هذا ؟
- لا أعرف عمتي ، ماذا تريدين بكلامك ؟
- من أوجد لك هذه البقع الزرقاء في جسدك ؟
يعييك الجواب ، كيف يمكن ان تعرفي ماذا تريد هذه المرأة منك ، ومن يمكن ان يكون ذلك المقصود ، وانت تعيشين في قلعة كبيرة ، محرم عليك رؤية الناس الآخرين الا ان كنت رفقة أحد من الكبار القريبين منك ، وأنت في هذه السن ، حرّم عليك اللعب مع الأولاد بحجة انهم حين يكبرون سوف يتذكرون شكلك ، وانه من المناسب ان ترتدي العباءة منذ الآن ، كي تحافظي على نفسك ، والنفس امارة بالسوء كما يقولون ، وانت لا تعرفين المقصود من هذه الجملة ، فانت توافقين بملء ارادتك ان ترتدي العباءة الآن بالرغم من صغر سنك..
تطلق التهمة العجيبة مرة اخرى:
من قابلتِ هذا اليوم ؟ هل قال لك احدهم أنك جميلة مثلا ؟
- لم يقل أحد يا عمتي هذا!
تدركين خطورة التهمة التي توجه الى براءتك ، تصمتين دون ان تعرفي الجواب دفاعا عن نفسك ضد تهم جاهزة ، تنطلق للفتك بك...

(22)

أدركُ أن ابنتي تشعر بالغربة ، في هذا الجو المحافظ جدا ، كنت أسعى الى تجنيبها الشعور بالاضطهاد الذي عشته أنا وما زلت أحيا في جحيمه حنى الآن ، أعرف أن أفراد مجتمعي شكاكون رغم طيبتهم الكبيرة ، وان سهام التهم توجه جزافا الى الأبرياء ، وان ابنتي الجميلة بنظر الاخرين سوف لن تنجو من ظنونهم ـ فكيف يمكنني أن انقذها من براثنهم ، وان أجعلها بمنأى عن اتهاماتهم الكبيرة التي تشعل في النفس نيرانا لا يمكن ان تنطفئ ، لقد عانيتُ في طفولتي وشبابي ، الكثير من هذه الاتهامات الخطيرة ، التي تنطلق كألسنة من الجحيم ، لتحيط بالمساكين الذين يتصرفون على سجيتهم.
ولأني أعرفُ ان ابنتي مثلي تماما ، تقول أحيانا الكلمة البريئة ، بعد دهور من الصمت الثقيل ، وان كلمتها تلك ، لا تقابل بما تستحقه من فهم ، وانما تكال لها التهم ، وتوجه الشكوك
جاءتني أختي مسرعة:
- اسمع أخي ، لأنك عزيز علي ، سوف أخبرك بأمر
ولآني أعرفُ كيف تفكر أختي تماما ، ابتسمتُ في وجهها :
- خير ، ان شاء الله.
- ابنتك !
- ما بها ؟
- بقع زرقاء في جسدها.
- وكم عمر ابنتي ؟ سبع سنوات تتعرض للشكوك ؟
- انها جميلة وطيبة.
تصفعُني التهمة الشنيعة التي يريدون منها افتراس طفولة ابنتي ، واغتيال براءتها الواضحة.
أسارعُ الى الطبيب ، كي يعلمني لماذا توجدُ تلك البقعُ الزرقاءُ في جسدها الصغير ؟ وما الذي ينقصُها من ألوان الطعام ؟ لقد كنت حريصا على اطعام ابنتي بما وجده العلماء من الغذاء الأساسي ، الذي لابدّ ان يتناوله المرءُ ، كي ينشأ انسانا سليما معافى ، ابنتي كانتْ فاقدة الشهية للطعام ،قليلة الاقبال عليه ، ولستُ أعلمُ لماذا ؟ مع انني أراعيها تمامَ الرعاية ، واحرصُ على ابتياع الأطعمة التي أعرفُ ان ابنتي تفضلُها..
يفحص الطبيبُ ابنتي فحصا كاملا:
- لماذا تجوّعون ابنتكم ؟
- كيف يا دكتور؟
- انها مصابة بنقص التغذية!
كيف هذا ؟ أتعبُ طولَ النهار وأشقى كي أوفر لابنتي حياة اكثر مسرة من الحياة التي عشتُها ، وغذاء صحيا لذيذا ، ودائما اسمع هذه الشكوى من أمها.
- بسمة ، لا تحب تناول الطعام.
أصممُ على اتخاذ خطوة اخرى ، قد تجعلُ ابنتي تقبلُ على تناول الطعام الذي يحرص اهلُها على تقديمه لها ، يواصل الطبيبُ كلامه:
- هل ابنتك عصبيةٌ سريعةُ الغضب ؟
- انها لا تغضبُ ، وعلى من يمكنها ان تغضب ؟
- انها حساسة ، و لا تشكو ، مما يسبب لها متاعب صحية،
البقعُ الزرقاء دليل الصدمات النفسية ، لماذا تسببون الألم لأبنتكم ؟
يظن الطبيب انني في واحة خضراء ، وفي جنة مع أسرتي ، ولا يمكن أن يعرف ، أن كثرة المعاناة ، والحرمان من أبسط الأمور ، يجعل المرء عصبيا ، سريع الغضب ، يثور لأتفه الاشياء ، ويقول كلمات عدوانية ، ويوجهها أحيانا لأحب الناس اليه.
كيف يمكن ان انقذ ابنتي من مرارة الواقع ؟ وأن اجنبها أشواك الشك ، وعلقم التهم الظالمة ؟ كيف أجعلها تتمتع بالطفولة الرائعة ؟ وتستعذب طعم الحياة الاسرية السعيدة؟
اختي مسكينة ، لم تجد من الحياة الا وجهها المظلم ، وحرمت من كل المتع ، وحين توجهُ الطعنات لمن أحبهم أنا ، فليس عن سوء قصد ، هكذا هي ، تتصرف من وحي تجربتها البائسة في الحياة ، وفقدان ولدها الوحيد في حادث مرور ، كيف يمكن أن أجعلها تحسن معاملة ابنتي ، وهي تظن بمعاملتها القاسية تنقذ ابنتي من مصير مظلم قد يودي بها ، كل أمرئ ينطلق وفق ما مر به من تجارب ، وما وجده في حياته من ومشاكل ومنغصات..

(23)
كثيرا ما حاولت أن أربي ابنتي بعيدا عن أجواء الشك التي نشأت بها ، ولكني لم استطع النجاح ، فان اتهامات البعض تلاحقها ، مرة تتهمها شقيقتي بالسرقة وابنتي عنيدة تقوم بعمل الأشياء التي اتهمت بها وهي بريئة ، اكتشفت انها تأخذ بعض النقود من جيبي دون ان أدري ، لم أعرف في البداية انها تحاول أن ترتكب الخطأ الذي اتُهمت به ظلما ، الا بعد ان وجدت عندها بعض الحلويات :
- من أين جئت بهذه الحلويات ؟
- من النقود التي معي
- وممن أتيت بالنقود ؟
- انها نقودي ..
- من اعطاك اياها ؟ من يمنحك النقود سواي انا والدك ؟
- عمي في السوق أعطاني !
- من هو عمك ؟ لك عم واحد هنا ولا يستطيع أن يعطيك نقودا ، فهو لا يملكها ، والعم الثاني في بغداد
- أحد الرجال أعطاني.
أستشيطُ غضبا ، من هو الرجلُ الذي منح ابنتي نقودا ؟ ولماذا يمنحها وانا ابوها ؟ اجلب لها كل ما تطلبه مني ، وما زالت صغيرة على ان نضع في يديها نقودا ، فهي لا تعرف كيف تتصرف بها ، كنت أظن انني أعمل حسنا حين أشتري لها ما تحب من حلويات ، أجلب لها البقلاوة التي أدركُ انها تحبها كثيرا ، وأوقظها من النوم ان كانت نائمة حين أتأخر في العودة الى منزلي ، انتظر حتي تنتهي من تناول قطعة البقلاوة ، واجعلها تنظف أسنانها وأصحبها الى فراشها ، لكني حين وجدت عندها البقلاوة وبعض النقود ، طلبت من عمها ان يصحبها الى السوق ليعرف من اعطاها النقود ؟ وهل طلبت هي منه ؟ ولماذا تطلب من الأغراب؟
أخبرني عمها انها لم تخبره عمن أعطاها النقود ، ثم أدركت اخيرا انها تأخذ النقود التي تحتاج من جيبي ، دون أن أعلم بالأمر ، وحين علمت بذلك ، بدأت اضع بيدها بعض النقود حين تخرج مع ابنة عمها او مع عمتها ، مع علمي انها لن تعرف كيف تتصرف بالنقود .. فما زالت صغيرة بعد.
عرفت ان ابنتي تقوم بما تتهم به من اعمال خاطئة ، وحين اتهمتها اختي باستعمال الأصباغ في تلوين الوجه ، عرفت ان ابنتي بريئة وخشيت ان تقوم بارتكاب هذا العمل الشنيع الذي تتهم به، فطلبت من امها ان تتخلص من قلم الروج الذي عندها حفاظا على براءة ابنتي الصغيرة ، ثم عرفت ان ابنتي تطلب من صديقاتها ان يعطينها حمرة الخدود وقلم الكحل ، فبدأت بنصحها ان هذه الأمور سيئة ولا يصح ان تقوم الصغيرات بها ، بل الصواب ان تنتظر حتى تكبر...



فكرت ان استقل في منزل صغير لسببين ، الأول ان أجنب ابنتي اتهامات تنهمر عليها من بعضهم كالمطر ، والسبب الثاني ان اتمكن من استقبال أصدقائي وكتابة المحاضر بحرية ، لعدم استطاعتي استقبال رفاقي في بيت ابي ، واستطيع ان انقذ ابنتي من التصرفات الخاطئة التي قد تدفع اليها دفعا ، ولأقوم بإشغال بسمة بدعوة الرفيقات اللاتي انا مسؤول عنهن الى المنزل ، وسوف تقوم بسمة بما هو مطلوب منها، استبشرت بذكائها بعد ان مدحها الرفاق :
- سيكون لابنتك مستقبل باهر في النضال ، كن معها دائما وأغرس في عقلها الأفكار النيرة لتكن متشوقة ان تساهم في انتشال المجتمع مما هو فيه من ظلم وجهل وبؤس يعيشه الفرد العراقي وخاصة المرأة..
افكرُ كثيرا في منزلي الجديد والذي اتمكن فيه من دعوة الأصدقاء الى الاجتماع ، فنحن الآن نجتمع كل مرة في منزل ، حتى ابنتي سوف تبدو واثقة من نفسها وهي تحيا حرة ، لا أحد يتهمها بما هي لم تفعله ، وسأبدي حنانا كبيرا نحوها وبدلا من ان اجبرها على عمل معين ، اخذت اقنعها بالفكر الجديد الذي اسعدني وأصبحت ادعو معارفي وأصدقائي اليه..


(24)

قالت لك زائرتك الصغيرة :
- هل تراقبين أباك وأمك حين ينامان ؟
- كيف أراقبهما ؟
- تنظرين من ثقب المفتاح الى ما يقومان به من أعمال ، انا انظر وهما لا يعرفان بي..
- ولماذا تنظرين ؟
- انهما يأتيان بأعمال عديدة يمنعاننا عن القيام بها
- وماهي هذه الأعمال ؟
- أنت ليس لديك أصدقاء من الأولاد ؟ هل لك ؟
- كلا ، صديقاتي كلهن بنات
- الأصدقاء الذكور اجمل من صداقة البنات
- ومن اين تأتيني صداقة الأولاد وأنا في منزلي ولا اخرج الا للتسوق او الذهاب لقراءة القرآن؟
- انظري اذن الى ما يقوم به والداك من أعمال !
- وماذا رأيت انت ؟
- لا أستطيع ان أصف لك ، المهم انهما يخلعان ملابسهما ، واحدهما ينظر الى الآخر وهو عار
- وكيف يتعريان ؟
- لا أدري كيف ؟ هما يقولان ان التعري حرام .. انهما يتزوجان كي يتعريان امام بعضهما
- كلهم يفعلون هذا ؟ اظن ان والديّ لا يقومان بهذا !
- كل الأزواج يقومون بأعمال ينهون أولادهم عنها ، انا سأطلب من صديقي ان يريني كيف يقوم المتزوجان بأعمالهما ، أنت لا تستطيعين ، ليس عندك صديق ولد ، كما ان والديك لا يسمحان لك أن نذهبي الى مكان لا يعرفانه ، ولكن هذه الليلة ابقي يقظة ولا تنامي وسوف تشاهدين ما كنت تجهلينه ..
تدخل زوجة عمك الى الغرفة التي تتحدثان بها وتقول :
- ماذا كنتما تتحدثان ؟
- لا شيء ..
- سأخبرُ أباك بالأمر، لقد سمعت حديث زائرتك معك . انّ كلامها عيب وحرام..
- لم افعلْ شيئا خالتي .
- أنت كاذبة وسوف أخبر أمك أنك تتجسسين عليها !
- لا يا خالتي ، لا تخبريها !
تلتفتُ زوجة العم الى صديقتك الزائرة ، وتقول لها :
- اذهبي ...ولا تعودي الى هذا المنزل مرة أخرى ! والا كسرت لك ساقيك وقطعت لسانك الذي تتقولين به على الأشراف من الناس...
تخبر زوجةُ عمك عمتك التي كانت تتهمك بكل الأمور السيئة ، تحرمك من الحلويات التي يشتريها أبوك.
تخبر أباك انك تستمعين لما تقوله الشريرات :
- عاقبْها لئلا يسوء أدبها !
- لم تفعلْ ابنتي شيئا لأعاقبها عليه !
- وهذا التصرف ؟
- اي تصرف ؟ هل قامت بسمة بما يسيء اليكم ؟
يلتفت اليك أبوك :
- لم تفعلي شيئا لأعاقبك من أجله ، وبعد فترة سوف اخبرك بما تريدين من أمور تجهلينها ، انت صغيرة الآن وسوف أعلمك حين تكبرين قليلا، حالما تحسنين القراءة ، سأجلب لك الكتب التي تعلمك كل ما تجهلينه الآن لصغر سنك وقلة ثقافتك ، لن ادع احدا يعطيك معلومات خاطئة ومشوهة ! أسأليني عما لا تعرفينه يا ابنتي . او ارجعي الى أمك لتقوم بمنحك المعلومات التي تتطلعين اليها ، يبدو انني قد كنت طيبا أكثر مما ينبغي وسمحت لكل من يسكن هذا البيت بالتدخل بأموري الشخصية ،وطريقة تربيتي لابنتي ، استقبلي من تريدين من صديقاتك حبيبتي ، ولنرحب بهن خير ترحيب ، فلسنا بخلاء! لقد عرفنا الناس بالكرم وسمو الخلق .
تصمتُ زوجة العم والعمة وتغادران الغرفة .


(25)

تحبين ألعاب الكبار والصغار معا ، تأتي الى منزلك الطفلاتُ الصغيرات ، تلعبين معهن ، كل أنواع اللعب المعروفة ، تتجمعن دائرة وتأخذ احداكن بالركض خلف الجالسات ، تضع خلف احداهن منديلا ، فتسرع الفتاة بالقيام ، وتجري خلف الطفلة التي وضعت المنديل ، فان امسكتها كان لها الفوز الذي يستحق تصفيق الاستحسان ، تجمعن كومة من التراب وتوزع على عدد اللاعبات ، كل وحدة منكن تأخذ كومة ـ تخبئن خاتما في احدى الكومات ، من تجده في كومتها تكون هي الفائزة ، كثيرا ما لجأت الى الغش في هذه اللعبة التي تستهويك ، تخبئين الخاتم في مكان آخر ، وتخلو جميع الكومات منه ، وتفشل اللاعبات في تحقيق الفوز ، وكل مرة تكونين الفائزة ، التي تجد الخاتم في كومتها ، حتى تفطن اليك اللاعبات ويطلبن منك تغيير اللعبة ، وكان للكبار لعب أخرى لا تجدن القيام بها ، تنظرن اليهم بإعجاب وتردد ، فهم لا يدعونكن الى مشاركتهم باللعب الجميل..
تسهرين الليل مترقبة ، تلك اللعبة التي لا تدركين كيف تجري ، ينتظر الكبار ذهابك تحت سلطان الكرى القوي ، للبدء في القيام بلعبتهم المفضلة
- بسمة ؟ بسمة ؟
يأتيك صوت امك هامسا
- انها في سابع نومة
ظلام دامس يحيط بك ، تحبين ان تنظري الى خطوات اللعبة الجارية بينهما ، تخشين ان يفطن اليك أحدهما ، فيغضبان منك ، وتكون عاقبة أمرك وخيمة ، كيف يمكن ان تتجسسي على مناظر غير مسموح لك برؤيتها؟
تظلين على فراشك ، اذانك في انتباه شديد الى كل همسة ، او كلمة تتردد بينهما ، وعيناك مغمضتان ، تخشين ان تأتي باي حركة تدل على استيقاظك ، حوار جميل وكلمات دافئة ، تلتقطها اذناك وانت متشوقة الى سماعها ، بكل ما يحمل قلبك الصغير من شوق وقدرة على الترقب.. لماذا نبهتك صديقتك الزائرة الى امور كنت تجهلينها؟!
في ساعات النهار التي تمضي بطيئة طويلة ، تشتاقين ان يسرع الليل بالمجيء وأن تداعب أذنيك تلك الكلمات الساحرة ، ماذا يمكن ان يفعلا تلك الليلة ؟ ولماذا يحرصان على ان تكوني غافية ، بعيدة عنهما ؟ وتنطلق تلك الاسئلة مترقبة ، وكم ساهمت في ايقاظك من نوم جميل تداعبك فيها الاحلام ، وتزورك الجنيات الساحرات وهن يعطينك ما تحبين من هدايا ، أي شيء تتمنين ، تسارع الجنية الساحرة الى جلبه لك ، ولكن تلك الليالي المظلمة ، والتي يحرص فيها الاثنان على نومك
- بسمة ؟
- بسمة ؟
تحرصين على عدم السماح لسلطان النوم ان يستأثر بك ، تصممين ان تشهدي اللعبة كلها رغم عدم تمكنك من رؤية خطواتها واضحة أمامك
أي شيء يجعلك تستيقظين في تلك اللحظات مسرعة ، حريصة على الا يفوتك أحد من المشاهد ، التي كنت تتوقين الى رؤيتها ، ولكن خوفك من اغضابهما يجعلك تتظاهرين بالنوم العميق.
كيف يتحول الاثنان العزيزان لديك الى مخلوقات رائعة مسكونة بالألق البهي ، في تلك اللحظات التي لاتشبه اية اوقات أخرى ، والتي يقتطعانها من غفوة الزمن ، بحرص شديد ، متناسيين انك على مقربة منهما ، ويمكنك ان تطلعي على كيفية القيام بهذه اللعبة الجميلة ، التي تجدين نفسك عاجزة عن القيام بها ، فانت لا تعرفين احدا ، الا صديقاتك الصغيرات ، وفي مثل سنك ، فاين يمكن ان تجدي لاعبا يشاركك في القيام بمثل هذه اللعبة التي لا تعلمين كنهها ، صديقاتك الصغيرات لم تحدثك احداهن عن خبايا الليل الدامس ، وتلك الظلمة الشديدة التي يحرص الاثنان على ان يضفياها على جو غرفتهما الصغيرة ، والتي وجدت نفسك تشاركينهما فيها ، رغم صغرك ، فما سر تلك اللحظات الغامضة التي تجعل الاثنين معا في أبهى أوقاتهما ؟! فيكادان يطيران فرحا ، وتسمعين اصواتهما تختلف كل الاختلاف عما اعتدت لهما من أصوات ، تستمعين الى تغريدهما الرائع وهمساتهما اللذيذة ، تتمنين ان ترفعي عينيك ، ولكن هيهات ، ليس بمقدورك ان تثيري غضبهما عليك وهما الرحيمان العطوفان ، وقد غمراك بغيثهما المنهمر..
لا يمكن ان تحدثي احدى صديقاتك الصغيرات ، بتلك الليالي التي تتوقين فيها الى مداعبة السهر ، علك تضفرين بجواب شاف عن أسئلتك الحائرة
في احدى ساعات النهار قالت لك صديقتك همسا :
- هل تعرفين ما يجري بين أبويك في الليالي ؟
- لا يجري شيء.
تضحك على جهلك الصديقات الصغيرات ، وانت مصرة على عدم الافشاء ، بما ترومين معرفته عن الحقيقة الغائبة والسر المدفون في قلوب الكبار ، وتلك الرغبة الكبيرة في وضعك داخل قلعة عالية الأسوار...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو