الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أرواح ظامئة للحب: رواية : الجزء الثالث

صبيحة شبر

2015 / 2 / 26
الادب والفن


(26)

رغم حرصي على عدم اطلاع ابنتي على الحقائق التي أحبُّ تأخير معرفتها بها ، حتى السن المناسبة ، الا انني أحسست انها كانت على علم بما يجري ، وان كان ذلك العلم مبهما ، كنت أخشى أن تعرف الأمور من جهة اخرى ، فتصلها المعرفة مشوهة مبتورة ، لهذا بنيت لها غرفة كبيرة فوق غرفتنا الصغيرة المشتركة ، وضعت سلما خشبيا يفصل بين الغرفتين ، انا أعلم ان بسمة تحب الاستقلال ، وانها ماهرة في اكتشاف الألعاب التي تجد فيها راحة ، ومع عدم تمكني من ابتياع الألعاب المناسبة لعمر ابنتي ، كما يفعل الناس في المدن الكبيرة ، فأنا أحيا في مدينة صغيرة ، لا يحبذ أهلها شراء الألعاب لبناتهم الصغيرات ، وجه لي الكثيرون النقد القاسي ، لأنني اعتني بابنتي اكثر مما ينبغي حسب وجهة نظرهم ، الا ان حالة بسمة من الناحيتين الصحة الجسدية والنفسية كان يشغلني كثيرا ، لعدم رغبتها في تناول الاطعمة التي تهيئها امها ، ولحاجتها الى الرعاية الكبيرة ، التي يتطلبها عمرها الصغير ، وهزال جسمها وضعف بدنها الواضح كثيرا، ممن ينظر اليها مقارنا بين هيئتها الضعيفة المنطوية وهيئة من كان في مثل عمرها من الاولاد او البنات.
لم افرش غرفتها الصغيرة بالفرش المناسبة ، بل وضعت فيها أبسطة قديمة لم يكن أحد من أهل المنزل راغبين فيها ، ومنحتها الحرية الكافية لإدارة مملكتها الصغيرة بما ترغب فيه ، وجدت لديها حبورا ورغبة كبيرة ان تكون تلك المملكة الصغيرة حافلة بما يسر القلب من متاع قليل ، كانت تواقة الى صنع لعب كثيرة ، تجد موادها الأولية من بقايا ما تتركه عمتها من خياطة الملابس من قطع من القماش ، لا تنفع في شيء ، الا في صنع أثواب ترتديها الدميات الجميلات التي تصنعها ابنتي ، وتجد فيهن صديقات يحسن الاستماع الى ما تجود به قدرتها الكبيرة وخيالها الخصيب من حكايات ، نستمع اليها معجبين بتلك القدرة الطفولية على ابتكار حوادث من الخيال تثير العجب ، صنعت اجسادا مختلفة مما تخلف من القماش بعد خياطة الأثواب ، مخلوقات جميلة تحسن الاصغاء ، وتملك آذانا مرهفة قادرة على الموافقة الدائمة على ما تطرحه المتحدثة من اقتراحات ، كنا في الصباحات الجميلة ، حيث تكون الأسرة مجتمعة بكامل أفرادها وقت تناول طعام الفطور ، يسعد الجميع أن ينظروا الى بسمة ، التي رسمت صور أطفالها الصغار على الجدار ، وراحت تخاطبهم بما يسعد قلب الأم عادة من عذب الحكايات وجميل القصص ، اتابع ابنتي وهي مشغولة في اسعاد بنيها وبناتها المرسومة صورهم على الجدار ، وذلك الغناء الشجي ، الذي تحرص على انشاده لهم حتى يستولي عليهم سلطان الكرى ، وتداعب جفونهم جنيات النوم الضاحكات ، نناديها جميعنا ، ان تسرع لتناول طعام الافطار معنا ، لكن النداء المتكرر ، لا يجد الاهتمام الكافي ، لترك الاولاد والبنات الاعزاء معلقين على الجدار في ذلك الجو المتقلب الذي كنا نعاني منه ، في صباحاتنا المتعددة ، في الصيف اللاهب ، والشتاء الجليد ، اراقب ابنتي مشغولة مع أبنائها الأعزاء ، واكاد أعرف الجواب الشافي لضعفها البين ، والذي كثيرا ما أثار استغراب الأطباء ودهشتهم
- لماذا لا تطعمون ابنتكم ؟ انها خالية من اللحم ، عظام وجلد
تقضي الساعات الطوال مع لعبها الكثيرة ، وبناتها كما يحلو للجميع اطلاق ذلك اللقب على المخلوقات الكثيرة التي تصنعها من القماش والعيدان الصغيرة وازرار القمصان ، وترسم لهم بأقلام التلوين شفاها حمراء وعيونا سوداء ، تنظر اليك ، وتطيل النظر ، وانت لا تدري ، كيف استطاعت أن تجيد تلك الصناعة ، وهي تظل شبه محبوسة في هذه القلعة الكبيرة ، التي لا يتمكن احدنا من مغادرتها ، فكيف بطفلة صغيرة ، يريدون منها ان تحسن التصرف ، وان تحافظ على جمال العادات والتقاليد كما تفعل النساء عادة ، في مثل هذه البيئات المحافظة
الان يمكن ان اشعر بالراحة ، حين تأتي ليالينا الطويلة ، فلا احد يراقبنا ، او يطل علينا بنظراته الطفولية ، فلا أملك ما أدافع به عن نفسي ، ورغبتي في عمل الأشياء التي أودها ، وهي من صميم حقوقي، وماذا يمكنني أن أفعل ، تجاه أسئلة طفولية تطرحها ابنة بريئة لم تر من الحياة الا أياما قليلة وكانت مترعة بالحرمان ، واحاول أنا أن أعوضها عن شعوري الفظيع أن نقصا كبيرا يحيط بها ويسلبها الحقوق التي تتمتع بها اقرانها من الفتيات ، تعيش بسمة عالمها الخاص ، وكأنها امرأة كاملة تزوجت و أنجبت الأولاد والبنات ، كبيرة العطف على صغيراتها ، تلعب معهن وتضحك ، وتحملهن معها اينما ذهبت ، وتدللهن ، وتخيط لهن أجمل الملابس ، أتساءل بيني وبين نفسي :
- هل تحتفظ بسمة بذلك العطف نحو الصغار ؟
اتمنى انها تتصف بتلك الرحمة الجميلة التي نغدقها على من هو أضعف منا ، وأحلم ان القادم في الطريق سوف يحظى بالعناية الواجبة ، وبالاهتمام المطلوب

(27)
يعلو صراخ الجميع ، تنظرين اليهم وأنت حائرة ، لماذا يسفك الموت دماء الأحبة ، ولمَ يذهب الأعزاء الى مكان آخر لا يمكن لك ان تشاهديه ، وماذا يفعل الصغار حين يستبد الموت بمن يعتني بهم ؟ من يرعى الأولاد الصغار والبنات ويمنحهم الحب والحنان ، أسئلة كثيرة تجول في خاطرك وانت حزينة ، صديقتك مريم رحل أبوها الى مكان بعيد ، فمن يشتري لها الطعام والشراب والملابس الجميلة للعيد ، ومن يصحبها في الرحلات ويلبي لها ما تطلب من أمور صغيرة ، لا يلبيها الا الآباء ، تنظرين الى مريم ، تجدينها غزيرة الدموع ، تتساقط من عينيها الكبيرتين ، ماذا يمكن ان تفعلي لها ، هل تستطيعين ان تطيري مثل الفراشات والبلابل لتنقذي اباها من الموت ، و تعيدي أباها الذي تحبه كثيرا ، فهو الوحيد الذي يرعاها و تجد عنده الحنان ، سألت مرة امك :
- اين يذهب من يموت ؟
- الى الحياة الآخرة
- وكيف يذهب ؟
- الله يأمر الملك عزرائيل ، فيقبض روح الانسان الذي انتهت فترة حياته ..
- ولكن لمَ يتعجل الموت ؟ ألا يمكن ان يكبر الصغار حتى يموت آباؤهم وامهاتهم ؟
- انها مشيئة الله ، حين يأتي الأجل ، يرحل الناس ، فهذه الدنيا مؤقتة ، نعيش فيها فترة محددة وحين يزورنا الموت ، يحاسبنا الله على أعمالنا ، فان كانت صالحة يدخلنا الجنة ،وان كانت سيئة كان مصيرنا نار جهنم تحرق أجسادنا بها..
- ولكن الصغار ؟ سوف يعيشون محرومين ان مات أبو هم او امهم ، لماذا لا ندعو الله ان يعيد الاموات الى عائلاتهم حتى يكبر الصغار ؟
- لا يمكن هذا ، حين يأتي الموت لا يستطيع البشر ان يؤخروه...
- ولكن الله يستجيب للدعاء ان دعاه الانسان ؟
- نعم حبيبتي ،الله يلبي ما نُريد انْ دعوناه ، يرزقنا ان طلبنا منه الرزق ، ويعطينا الصحة ان أصابنا المرض ، ونحن لا نسأله رد القضاء وانما نسأله اللطف فيه..
- ما معنى رد القضاء ؟
- انت ما زلت صغيرة ، ورد القضاء معناه عودة الميت الى الحياة في الدنيا ، الله يحيي الأموات كلهم يوم القيامة ويحاسبهم على أعمالهم .
الصراخ يتعالى ومريم صديقتك المقربة تنظر الى الناس بحسرة والتياع ، فقد فقدت اباها الذي يعتني بها ، وزوجة ابيها لا يمكن ان تجد عندها الحب الذي تريد .
تتمنين ان تفعلي شيئا :
- يا ربْ ...أعدْ أبا مريم اليها يا رب ، يا رب انها صغيرة ، وأنت تعلم ان زوجة أبيها شريرة وقاسية ، يا رب استجب لدعائي وسوف أصلي صلاة الليل ...
- ماذا تفعلين يا صغيرتي ، اذهبي الى منزلك مع امك .
- انني ادعو الله
- لأي شيء دعاؤك ؟
- أن يعيد الله أبا مريم الى أحبابه وأولاده!
- ولكن الله لا يعيد الأموات الى الدنيا ..
- ألا يستجيب الله لدعاء المظلوم ؟
- بلى ..يستجيب ..حين كان ابو مريم مريضا لو دعت ابنته الله ان يشفي أباها لاستجاب الله للدعاء ..
- والآن ؟ انْ دعوته أنا لا يستجيب؟
- ماذا تقولين عزيزتي بسمة ؟ الله يستجيب لدعاء الصغار من أمثالك ، ولكنه لا يعيد من مات الى الحياة الدنيا ، احياءُ الأموات تكون في الآخرة ، وابو مريم كان صالحا ذا اخلاق حميدة ، والله سوف يدخله جناته الواسعة ان شاء الله تعالى..
- ولكن من يعتني بمريم بعد موت أبيها؟
- سوف ندعو الله ان يجعل زوجة أبيها رحيمة معها، لا تؤذيها ولا تكلفها بالقاسي من الأشغال ، وانما تساوي بينها وبين بناتها في الرعاية والاهتمام
تثقين بكلام جارتك وتذهبين مع أمك الى منزلكم ، وترحبين بعودة أبيك من العمل
- مات ابو مريم يا أبي!
- رحمة الله عليه ..
- من سوف يعتني بصديقتي ؟
- انت يجب ان تعتني بها ، سوف أشتري لها مثل ما أشتري لك ، اطلبي منها ان تأتي الى منزلنا في الغداء والعشاء ، وحين اشتري لك الملابس والأحذية سوف أشتري لمريم ايضا ، فالله يكافئ من يرحم الأيتام.
تسرعين الى منزل مريم ، وتطلبين منها الحضور الى بيتكم كما اقترح أبوك ، تمسح مريم دموعها المنسكبة وتدخل معك الى غرفتك الصغيرة..


(28)

تشغلك التساؤلات ، وتستبد بك الحيرةُ ، ولا تجدين من يمكن أن يعطيك الجواب الصحيح ، لأمور كثيرة ، ترينها غامضة ، ولا تعرفين لها تفسيرا ، قادرا على تبديد الحيرة التي تحيط بك ، والتقليل من اجواء الغموض الذي يلفك..
أمُك دائمةُ الانشغال ، أعمالٌ كثيرة تنهكُ صحتها ، تقضي أوقاتها في مطبخ كبير ، يخرج ما يتوق اليه أفراد المنزل الكبير من أطايب الطعام ، تلاعبين بناتك الصغيرات ، وتدللينهن ، وتطير بك اجنحة الخيال الى جزر بعيدة ، حيث تكونين انت الملكة التي تحكم بغير ان تتوزع الأدوار كما كان في مملكة أبيك وأمك ، تكبر بطن أمك ، تسمعين ضحكات الكبار تنطلق عالية ، بعد سؤال يتكرر باستمرار :
- هل ستأتين لنا بأخت لبسمة؟
يفرحك السؤال ، ويبهجك ان تكون لك شقيقة ، تشاركك اللعب مع صغيراتك ، الصامتات دائما ، لكنهن يحسنّ الاستماع ، في منزلك يرحبون بمجيء الفتاة ويتطلعون الى ان ما في بطن أمك فتاة صغيرة كثيرة الأحلام ، والرغبة في الطيران ، تشتكي صديقاتُك ان أهلهن يفضلون الأولاد دائما ، وان الفتاة عورة!
تسارعين الى أبيك :
- ما معنى عورة ؟
- أين سمعت هذه الكلمة ؟
- تقول صديقاتي انّ الفتاة عورة.
يرتفع صوتُ أبيك ضاحكا:
- لا تهتمي بمن يقول ، لا فرق بين الاثنين ، كلاهما عزيزان
تتذكرين ذلك الحديث الذي دار بينكما ، قبل ايام ، كنت جالسة ، تضعين مرفقك على فمك وتقبلينه عدة مرات!
- ماذا تفعلين يا ابنتي؟
- أقبُّل مرفقي.
- ولماذا ؟
- حتى أنقلب ولدا
- ولماذا تريدين أن تنقلبي ؟
- الولدُ أفضل من البنت!
- أيُ غبي قال لك هذا ؟
- كلهم يقولون!
- لا تصدقي ، لا فرق بين الاثنين ، الأحسن منهما من كانت اعماله افضل .. والبنت برأي أبيك أفضل ، وأكثر رقة وأجمل
، ولقد خلق الله الولد ليخدمها! ألم يجعل اللهُ الرجال قوامين على النساء ؟ معنى قوامين يا ابنتي انهم يقومون بتلبية ما تحتاجه المرأة !
تضحكين ، مدركة الدعابة التي يقولها أبوك ، أنتِ تحبينه كثيرا ، فهو يعتني بك ويرعاك ، ويجيب عن أسئلتك التي لا تجدين ترحيبا بها من الآخرين ، يمضّك السؤال ، تحاولين أن تطرحيه ، ولكن من يمكنه ان بآتيك بالجواب الشافي ؟!
- ماما ، ما ذا في بطنك الكبير ؟
- انّه أخوك او أختك ..
- وكيف يخرج من بطنك ؟
تصمتُ أمك حائرة ، ثم لا تلبث ان تقول:
- حين تكبرين ، أخبرك.
تكررين عليها السؤال:
- كيف خرجتُ من بطنك؟
- من صرّتي..
- وكيف تفتحينها؟
- لدي مفتاحها !
- واين مفتاح صرتي أنا ؟
- ليس لديك الآن
- ومتى يكون عندي ؟
- حين تتزوجين!.
- متى أتزوج ؟
- عندما تكبرين.
شوق كبير يشعل قلبك ، متى تكبرين ، لتتزوجي وتنجبي أطفالا ، وتكوني محترمة مطاعة.
في الليل يصحبك أبوك الى أم محمود.
تدخل الغرفة ، تسمعين صراخا عاليا ، تودين ان تحملي الطفل بيديك وتلاعبينه ، كما تفعلين مع لعبك الصغيرة التي صنعتها بنفسك، تخبركم ام محمود :
- الضيف ابنة جميلة تشبه بسمة!

(29)

أسئلة كثيرة ، أجد بسمة مشغولة بها ، لكني لا أعرف كيف أوضح لها الجواب في تلك السن الصغيرة ، أتركُ أمها تجيب عن تلك الأسئلة بما يتناسبُ مع السن الصغيرة ، أفكر أن أشغل الطفلة بالكثير من الاهتمامات فلا تعود الى طرح تلك الاسئلة، التي لا يستطيع أحد منا ان يجد لها الجواب الصحيح والمرضي ، وكيف يمكن ان نقدّم جوابا شافيا .. ونحنُ في بيئة تحاسبُ على كل حركة وسكنة ، فالأمرُ الذي ليس حراما قد حضره العرفُ , فهو بطبيعة الحال عيب ، لا يمكن ان نقترب منه ، والا لاكت سمعتنا الألسنُ ، وأنا عودت نفسي أن أكون بعيدا دائما عما يثيرُ الاستفسارات المغرضة الجاهلة ، او يؤلبُ بعض الناس ، أسيرُ قرب المألوف الذي لا يتناقض مع العرف السائد ، ولا اقرب أي كلمة او عملا من شأنه انْ يفسّر على غير حقيقته ، والآن أجدُ ابنتي كثيرة التساؤلات عن أمور تبدو لها غامضة ، فسوف اتبع الطرق التي سلكها الآباء الآخرون في الاجابة عن أسئلة الصغار ، وأظنُ ان الأبناء في سن الطفولة يجدون الكثير من الغرابة وعلينا ان نفسر لهم الامور الصعبة ونوضح ما التبس عليهم فهمه ، ولكن حين تسال امها ذلك السؤال العسير
- كيف خرجتُ من بطنك؟
كيف يمكنُ لأحد عاقل انْ يجيب عن سؤال من المستحيل اجابته ،وان يذكر الحقيقة ، في تلك السن الصغيرة ، واي حقيقة يمكن ان اوضحها لابنة صغيرة في السابعة من عمرها ، لهذا فكرت مليا بالأمر ، ووجدت انه من الصواب ان اشغل ابنتي في بعض الأعمال المنزلية ، حتى وان كانت تعتبر مرهقة لها ، افضل بكثير من تركها تستفسر عن اشياء ، أجدُ نفسي مغلول اليد في الاجابة عنها ، لا أستطيعُ انْ اقول الحقيقة ، ولا اقدرُ انْ اذكر الزيف!
وجدت الرغبة في الامومة جلية على ابنتي من طريقة الاهتمام باللعب الصغيرة التي تصنعُها بنفسها ، وتلبسُها الملابس الجميلة ، وتتحدثُ اليها كأنّها بنات صغيرات بحاجة الى الرعاية والاهتمام..
جاء المولودُ ابنة جميلة كما كنتُ أرجو ، وأتوقع ان تجد بسمة راحتها في العناية بهذه الطفلة ، وبذلك أكسبُ أمرين ، الأول انني اشغل ابنتي عن الكثير من الأسئلة التي لا أجدُ لها جوابا مقنعا في الوقت الحاضر ، والأمر الثاني أنْ أجدْ لزوجتي من يعينها على الأعباء الكثيرة الملقاة على عاتقها.
لم أطلبْ من ابنتي شيئا ، ولم أوجهها الى ضرورة العناية بأختها الصغيرة ، بل وجدت ذلك الاهتمام في نفسها الصغيرة ، فرعيته ، كانت تجد وقتا سعيدا باللعب مع أختها الصغيرة ، وملاعبتها وملاطفتها ، وارضاعها بواسطة الرضاعة الاصطناعية التي تهيئها أمُها ، وكانت تجد متعة في تنظيف الصغيرة وغسل ملابسها والسهر بجانبها وكأنها الأم الفعلية ، وحين فكرتْ انْ تخيط لأختها الصغيرة الملابس الجميلة من الورق الملون ، رحبتُ أنا ، وكنت أبتاعُ لها ما تريدُ من المواد الأساسية لصنع الملابس والأغطية والقصور الكبيرة ذات الحدائق الواسعة والاشجار من ورق المقوى ، الذي كانتْ ابنتي تطلبُه ، وأسارعُ أنا الى تلبية الطلب فورا ، فغرستُ في نفس ابنتي الصغيرة شعورا بالمسؤولية ، وانّها جزءٌ من العائلة وعليها انْ تكون مراعية للظروف ، وانْ تقوم بواجبها دائما ، وانّ الأسر السعيدة يكون لكل فرد من أفرادها واجبٌ عليه القيام به على أكمل وجه..
لم اجبرْ ابنتي على شيء ، بل وجدتُ فيها ميلا الى التصرف كما الناس البالغين في الاهتمام بالواجب ، والعناية بالناس المحيطين ، واحترام من يعيش معنا او يرتبط بنا بروابط كثيرة ، بعضُ الأصدقاء عاتبني انني أطالبُ ابنتي بأمور فوق طاقة عمرها ، ولكن حين أخبرتُهم انني لم أجبرْها على عمل من الأعمال ، التي كانتْ تقومُ بها تطوعا اقتنع المحتجون بوجهة نظري ، ثم وجدتُ ابنتي تتقدم في الشعور بالمسؤولية تجاه أختها الصغيرة ، فقالتْ لي يوما:
- بدلا من ملابس الورق الملون ، سوف أخيطُ لأختي الملابس من القماش..
رحبتُ بالفكرة الجميلة ، وبدأتُ أشتري لابنتي قطعا من القماش لتخيط لها ولأختها ملابس جميلة تحظى بإعجاب من يراها
(30)
تستأذنين أمك أنْ تذهبي مع أختك التي تصغُرك بعام الى الحديقة لتتمتعا بجمال الورود وروعة الأشجار المغروسة على الجانبين ، ولتركبا الأرجوحة التي تحبين التأرجح فيها والصعود بها لمعانقة السماء والنزول، والضحك المتواصل الذي يبعثُ الفرح الى النفوس التي لم تجدْ الكثير منه في حياة خالية من الجديد، و المتع التي يحسنُ ايجادها الآخرون، تقول لكما أمكما :
- اذهبا وعودا بسرعة ، قبل أنْ يعود والدُكما ، فانّه لا يرضى انْ تخرجا بدون اذنه..
- نعمْ أمنا العزيزة ، سنعود بسرعة !
- اصطحبا أختكما الصغيرة ، وحافظا عليها ، لتحملها احداكن فترة من الزمن وحين تتعبُ ، تحملُها الأخرى..
- نعم أمنا..
كانت اختكما الصغيرة لا تتجاوز الثمانية أشهر ، وكنتِ تحبينها كثيرا ، وتحرصين على العناية بها وتلبية ما تطلبه من حمل على الأيدي وتدليل واسماعها الكلمات الجميلة وملاعبتها.
تخرجان من المنزل وأنتما فرحتان ، فخروجكما منه كان نادر الحدوث ، تبقين في البيت وتستمعن الى الكبيرات اللاتي يفرحن بإسماعكن الغليظ من الكلام ،ان لم توافقْ احداكن على تلبية الأوامر التي لا تحبونها أنتم الصغار...
الأراجيحُ كثيرةٌ في الحديقة الغنّاء ونفسُك جذلى، فقد استطعتِ الخروج من القلعة الكبيرة التي لا ُ يعرفُ الناسُ ماذا يجري بداخلها...
تنتظران عند احدى الأراجيح ، عل الراكبات الثلاث ينزلن منها ، فتتاح لكما الفرصة في التمتع بالركوب ككل الأطفال الموجودين هنا ،تعلو وجوههم الفرحة ، وتستبد بهم السعادة ، تخلو الارجوحة من راكباتها الصغيرات ، تدعوكما احدى الامهات :
- تقدما الى هنا عزيزتيّ ، هيا أيتها الصغيرتان..
يفرحُكما قولُها ، تصعدان الى الارجوحة بمساعدة المرأة الكبيرة ، التي تنطلق بدفع الارجوحة عاليا ،كي يستمر ضحككما بفرح وجذل ،وكأن الدنيا تفتحُ ذراعيها مرحبة بقدومكما هذا المساء ،الى هذه الحديقة ،للترويح عن النفس المتعطشة الى بعض من الفرح ، يستمر تأرجحُكما عاليا من قبل المرأة الكبيرة التي قالت لكما ،قبل ان تصعدا الارجوحة :
- اصعدا وافرحا وسوف اعتني بأختكما الصغيرة..
تنزلان من الارجوحة ،بعد انْ اكتفيتما من التأرجح الذي يبعثُ الفرحة ويؤججُ الشعور بالمتعة ،التي لم تعيشا مثلها من قبلُ ، تسألين أختك التي تصغرك بعام :
- أين أختنا الصغيرة ؟
- لا أدري ، يا الله ! اين ذهبتْ ؟ خالتي، أين أختُنا الصغيرة ؟
- كنتُ أهزُّكما وأنتما بالأرجوحة ، فلم أنتبه للصغيرة ، لا تباليا ، سوف نجدُها! أين يمكنُ أن تذهبْ ؟ لابدّ انّ احدى معارفكما قد حملتها قليلا ، وسوف تعودُ بها اليكما ، فلا تخافا..
توشكُ الدموعُ أنْ تنبثق من أعينكما الصغيرة ، كيف أنّكما لم تنتبها الى شقيقتكما الصغيرة ، وانهمكتما باللعب والترويح عن أنفسكما فقط ؟ ماذا ستفعلان ؟
- ماذا سنفعل ؟
-لا أدري ! كان يجب الا نخرج !
تغادرُكما المرأةُ الكبيرةُ التي كانتْ تساعدُكما بالتأرجح قائلة :
- لا تخافا ، سوف أعثُر على الصغيرة!
تعودُ المتكلمة ُبعد دقائق ،ومعها امرأةٌ تحملُ أختكم الصغيرة ،التي ما انْ تراكما حتى ترمي بنفسها بين أحضانك ، تخبركما المرأة الكبيرة :
- هذه المرأة تدّعي انّ اختكم ابنتها!
- لكنها أختنا!
- انها اختكم ، ووجودُها بين أحضانك دليل على أنّها قد عرفتكم!
تغادران الحديقة بسرعة ، تخبران أمكما بما حدث ، تقرر معاقبتكما على الاهمال ،وعدم تنفيذ نصائحها لكما بالانتباه :
- حتى لا تكررا الخطأ مرة اخرى ! ماذا كنّا سنفعلُ انْ لمْ نعثر على أختكما ! وسرقتْها تلك المرأةُ وجعلتها احدى المتسولات، او لا سامح اللهُ احدى بائعات الهوى! اللاتي ينتقلن من مكان الى آخر بحثا عن الرزق الحرام!
- وما معنى بائعات الهوى يا أمي ؟!
- كيف أشرح لكما ؟ عندما تكبران سوف تعرفان معاني الكثير من الكلمات ،التي لا يصحُ لكما الأن التعرفُ الى معانيها..


(31)

لم تتذكري متى ابتدأت ارتداء العباءة ، وجدت نفسك كما البنات الصغيرات في مثل سنك ، تتلفعين بعباءة فضفاضة ، وانت سعيدة بهذا الغطاء ، الذي تجدين جميع النساء هنا يرحبن به ، ويرينه عنوانا للفضيلة والاستقامة والخلق الرفيع ، لم تصادقي من كانت تخلع العباءة ، او نشأت في بيئة لا ترتضي بها ، ظننت ان جميع البنات الصغيرات يرتدين هذا اللباس الأسود ، واستقر في عقلك انه من الأمور الجميلة التي يجب ان ترضي بها ، وانه لا داعي لرفضها مادام الجميع قد اتفق على الترحيب بها ، وأصبحت من ضمن العادات ، وكم كانوا يرددون على مسامعك ان احترام العادات والتقاليد يورثُ خيرا متواصلا ، ويحقق سعادة مستمرة ، وأنت مطيعة كالأخريات تماما لما تعارف الناس على احترامه ، حتى كان ذلك اليوم ، خرجت مع احدى صديقاتك ، وذهبتما الى السوق لابتياع بعض الحاجات لأسرتك ، وانتما تتحدثان في ذلك السوق الكبير ، قدم رجل كبير ، لم تكوني تعرفينه ، سلم على صديقتك ، واخذ يداعبها بحركات لم تكوني قد تعرفت عليها سابقا ، لم تعتادي على ان يمد الرجل يديه الى أي امرأة ، أبوك لم يفعلها مع امك ، أمامك على الاقل ، وتلك الهمسات الساحرة ، التي كنت تحرصين على سماعها حين يهرع الجميع الى سلطان الكرى ، ولم تعرفي حينها ما الداعي اليها ، وماذا يمكن أن يفعل أبوك من افعال ، فترحب امك فرحة مهللة ، في مسيرك المشترك مع صديقتك وجدت الرجل يقوم بحركات لم تألفي مثلها في منزلك الكبير ، الذي كل حركة فيه مدروسة بعناية فائقة ، ولا وجود لحركات عبثية ، او ألفاظ لامعنى لها ، او تلك التي تؤدي الى نتائج غير محمودة ، لقد علموك انه يجب التفكير في عواقب الكلمة قبل نطقها ، لهذا نشأت قليلة الكلام ، تحسنين الاصغاء الى ما يقوله المجيدون لهذا الفن الرفيع ، أخذ الرجلُ السمين الأصلع، يمسك بفخذ صديقتك ، وهي تضحك ضحكات لم يكن أهلك في منزلكم المقفل دائما يرضون عنها ، يمد يده الى اجزاء من جسدها الصغير ، فتنطلق ضحكاتها المشجعة ، نسيك الاثنان معا ، وكأنك لم تكوني موجودة تلك اللحظة ، تشهدين مداعباتهما ، التي لم تكن بريئة برأي اهلك ، انطلق صوتك محتجا:
- انك لا يمكن ان تقترب مني .
يلتفتُ اليك الاثنان ، يقول لك الرجل:
- أحقا ؟ ومن تكونين انت ؟
- أنا حفيدة فلان.
يستمع الرجل اليك ، يضع دشداشته في فمه ، ويجري هاربا ، وانت حريصة على تلقي كلمات التشجيع ، وقد أحسنت صنعا هذه اللحظة ، تذهبين الى جدك
- تحرّش بي رجل كبير!
- أنت ؟ هل كبرت منذ الآن ؟ كيف تحرّش ؟
تنقلين له الحكاية راغبة في كلمة استحسان لموقفك ، لكنه بدلا من الاستماع الى نهاية القصة ومعرفة حكمتك التي جاءت مبكرة ، كما اعتدت دائما:
- لقد كبرت كما يبدو ، حان أوان وضع النقاب.
تفرحين للأمر ، وتهللين له ، لقد اصبحت امرأة ، يحترمها الناس ، ويحسبون لها ألف حساب ، يقول لك ابوك:
- لا تتعجلي يا ابنتي ، انت الآن صغيرة ، تتشوقين الى ان تكبري ، حين تكونين كبيرة حقا ، سترفضين هذا النقاب ، أنصحكِ الآن بالتريث ، لأنني في الغد ، قد لا أتمكن من مناصرتك. ، حين تناضلين ويعلو صوتك لأجل خلع هذا النقاب الذي ترحبين به اليوم دون ان تعرفي حقيقته !
لم تفهمي المعنى الحقيقي للنصح ، وأصررت على وضع النقاب ، ولأنك صغيرة ، اعتادت البنات على اللعب في مثل سنك ، وتظن صديقاتك ان مظهرك الجديد احدى لعبك التي ترغبين في مفاجأتهم بها ، يجرون عباءتك ، ويظل النقاب على وجهك ، يمضّك أن أحدا منهم لم يفهمك ، ماذا كنت ترومين ؟ احترام الآخر حتى الى درجة اسكات تطلعات النفس الراغبة في الانعتاق..


(32)

ارتدتْ ابنتي العباءة في سن مبكرة جدا ، ولقد رغبتُ في رفض الفكرة منذ البداية ، ولكنّ اصرارها على ارتداء العباء ة ، جعلني أتراجعُ عن تشجيعها على رفضها ، وما دامت البناتُ الصغيرات في مثل سنها يرتدين هذا اللباس الأسود ، فلا ضرر في الأمر ، كنت حين أسافرُ الى المدن الكبيرة ، وأصحبُ بسمة معي أحرصُ على خلعها العباءة ، ترحب هي باقتراحي ، وتعملُ به، وكثيرا ما كنتُ أتلقى كلمات الاستنكار من المحيطين بي ، ان ابنتي تملكُ جمالا ، قد يجعلها في مرأى النظر ، ولكني كنتُ حريصا على ألا تكون وحدها ، وسفري الى المدن الكبيرة كانت برفقتي الدائمة ، وموضع اهتمامي ورعايتي ، لكني فوجئتُ بالاقتراح الأخير ، انه على بسمة ان تغطي وجهها وان تضع النقاب ، بحجة ان أحدا تجرأ وتحرش بها ، من يمكن ان يتحرش بطفلة صغيرة في السابعة ، محاطة بمثل هذه الرعاية من أسرتها ، وتحيا وسط قلعة كبيرة ، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها ، من هذا الرجل الذي يمكن ان يدنو من ابنة يعرف ان عائلة كبيرة تحرص عليها حرصا كبيرا ، قد يكون مبالغا فيه ، حاولت أن أبين لبسمة ان وضع النقاب ما زال مبكرا جدا ، فهي صغيرة ومن حقها ان تلعب ، تلك اللعب الكثيرة التي تبدعُ في صنعها ، أدركتُ انّ بسمة كانت توّاقة انْ تكون مثل الكبار ، ولم تدركْ بعد انّ وضع الطفلات الصغيرات في بلادنا ،أفضل بكثير مما تعيشه النساءُ ،من حرمان كبير من كل الحقوق ، تُحاط المرأة بكيس أسود من القماش ، وكأنها فحم يريدون اشعاله ، وتضع على وجهها نقابا أسود كالحا يمنعها من الرؤية الواضحة ، وقد يجعلها كثيرة التعثر ، وربما تقع ، لقد وجدت نفسي في هذه البيئة ، ومهما حاولتُ أنْ اثور أو أتمرد على قوانينها الجائرة ، لم أوفق، ولكن كيف يمكن للمرء أن يثور على القوانين التي يحترمها أهله ، وتسير وفقها عشيرته ، هل يقابل كل محبتهم بالنكران والجحود ، ومن له بعد فقدانهم ؟ وقد منحوه المحبة الخالصة ، والعطف الكبير ، في حالتي تلك ، أجدُ الجميع منددين بتصرفاتي ، أهلي واقربائي يدّعون أنني غير مكترث بعادات الأهل والأجداد ، وانّه عليّ انْ أبدي صرامة أكبر ، وأصدقائي يقولون انني متمسك بعادات بالية ، وعلي ان أنقذ نفسي منها ، ولا أحد يمكنه أن يفهمني من هؤلاء الذين أجدهم متناقضين فيما بينهم تمام التناقض ، أهلي يريدون أنْ أتمسّك بعادات وتقاليد أراها لم تعد تناسبُ هذا العصر ، وأصدقائي يتهمونني بأنني أجاري الأهل كثيرا ، وأحترم مشاعرهم ، وعليّ أن أبيّن أخطاءهم صراحة بلا مجاملة ، ولا أحد منهم يعرف من أي بيئة منغلقة انا ، ولا كيف تركتُ صفوف المدرسة التي أحبّها ، وزملاء العلم من أجل أن أساعدَ أسرتي ، ولا أسرتي تدرك حجم التضحيات التي قدمتها لأني أحبها ، وأريدُ لتلك الروابط الجميلة ان تظل حامية للإنسان ومظللة على حياته ، وكمْ أسعى كي أجنّب بسمة حياة الحرمان التي عشتها ، وأن أربيها وأعلمها لتعرف كيف توازن بين الأحبّاء جميعا ، وألا تضحي بطرف منهم من أجل طرف آخر ، حاولتُ انْ أثني ابنتي عن قبول وضع النقاب على وجهها الصغير ، مبينا لها انها ما زالت طفلة بعدُ ، وانّ الصغيرات في مثل سنها لم يضعن النقاب ، ولكني حين وجدت تمسكها بان تصبح كبيرة بنظر نفسها ،وان تسارع بالقبول باقتراحهم ، صمتُ على مضض ، مما أثار استنكار اصدقائي واتهامهم لي انني دائم الموافقة على اقتراحات أسرتي ، حتى لو كنتُ غير متفق معها في أمور أساسية تسبب الضرر لي ولابنتي....


(33)
بنات صغيرات في مثل عمرك تماما ، اجتمعن ذلك اليوم في منزلك ، وقد ارتدين أجمل الملابس ، قبل الاحتفال أرسلوك الى تاجر أقمشة معروف في مدينتكم الصغيرة ، وطلبوا منك ان تختاري نوع القماش الذي تحبين ، من بين ألوان وأنواع مختلفة من الأقمشة ، أوصوا البائع أن يعرضها أمامك ، أخذ البائعُ يضع امامك صنوفا من القماش تختلفُ من حيث الأنواع والألوان ، وأنت واقفة أمامه ، يكثر عرض البضاعة بأشكال متنوعة ، والبائع يتساءل:
- أي أنواع تحبين ؟
قبل هذا اليوم كان أبوك يبتاع لك ما يحب من الأنواع ، مما يثير اعجاب جميع من يرى الملابس عليك ، مادحين الذوق الجميل والاختيار الحسن ، هذا اليوم ، طلبوا منك أن تختاري بنفسك نوع القماش ولونه ، أشارت يدك الى لون أحمر ، كان في مكان بعيد من القطع التي وضعها البائع بين يديك ،كنت تفضلين الأحمر على بقية الألوان ..

قالوا لك في المنزل حين عدتِ اليهم مع قطعة القماش :
- لماذا هذا اللون ؟
- انه جميل!
- اوع ، انت لا تفهمين كيف تختارين الجميل ! هذا اللون لا يرتديه الراقون من الناس!
تسكتين على مضض ، يعجبك هذا اللون ؟ فهل تختارين ما يعجبهم هم ؟ ، وكثيرا ما سمعت الجملة تتردد :
- كُل ما يعجبك ، وألبسْ ما يعجب الناس!
صحبتك عمتك الى أمهر خياطة في المدينة، واختيرت لك التفصيلة المناسبة ، في هذا اليوم حين ارتديت ملابسك الجديدة ، والتي ساهمتِ في اختيارها ، بدوت مع جميع الحاضرات ، وكأنكن في عرس جميل ، صبيات صغيرات في عمر السابعة ، اجتمعن معا في غرفة كبيرة في المنزل الكبير ، كانت احداهن صديقتك في الكتّاب حيث يحفّظونك القرآن الكريم ، والباقيات لم تقع عليهن عيناك قبل هذه اللحظة ، كنتِ سعيدة جدا ، وأنت تجدين الاهتمام الكبير بنجاحك ، الجميع يقولون انك اجتزت الاختبار بمهارة تستحقين عليها التهنئة ، تسمعين الكلمات الحسان ، يقولها الجميع لك في هذا اليوم الجميل ، ولم تسألي نفسك لمَ أقيم هذا الاحتفالُ ؟ وما هي المناسبة ، وماذا اجتزت من اختبار ؟ وكيف تم هذا ؟ هذه الأسئلة لم تتطرق الى ذهنك الصغير في ذلك اليوم السعيد ، الشيء الوحيد الذي تعرفينه ، أنك اليوم عروس صغيرة ، قد ارتدت أجمل ما عندها احتفاء بحدث كبير ، لا يمكنُ أن يتكرر ، مئات الكلمات تسمعين في هذه المناسبة ، وهؤلاء الصغيرات ، التي لم تقع عليهن عيناك قبل اليوم ، كيف اجتمعن معا في هذه الغرفة ، وبهذا الجمال ، الذي لم تشهدي له مثيلا في أيامك السابقات ، توزع عليكن أصناف الحلويات والعصائر التي تعاونت الكثيرات من أجل القيام باعداده ، والكل فرحٌ مسرور ، كأنك في عيد ، يسمعونك الكلمة الجميلة التي تتوقين اليها دائما ، و يبتعدون عن اللامبالاة التي كثيرا ما جرحت احساسك ، انت فرحة هذا اليوم ، و الجميع فرحون... رأيت صديقتك في الكتّاب والتي يقع منزلها امام البيت الكبير ، ولم تتذكري ان هذه الصديقة نفسها هي التي بسببها اتهموك بالسرقة ، تختفي الحوادث المؤلمة من رأسك الصغيرة في هذه المناسبة ، ولا تعرفين الا انك اليوم في احتفال الأعياد!


(34)


أخبروني أن ابنتي قد أكملتْ حفظ القرآن الكريم ، ولم أسالْ نفسي ، كيف تمكنتْ في هذه السن الصغيرة انْ تقوم بما عجز عنه الكباُر ، ثم أدركتُ بعد تفكير أن كل شيء جائز ، فلماذا حرص آباؤنا وأجدادنا القدماء على تعليمنا منذ الصغر ، ألم يقولوا انّ العلم في الصغر كالنقش على الحجر ، وهذه قاعدة صائبة من قواعد الحياة لا يمكن مناقشتها ، أثبتتْ التجربة صحتها مائة في المائة ، ولكن هل أقومُ باختبار ابنتي لأعرف ماذا حفظتْ من تلك الدروس الكثيرة ، التي داومت فترة طويلة على حضورها ، وهل صحيح انها تمكنت من حفظ آيات القرآن الكريم كاملة ؟ ام بعض السور القصار ؟ الكلُ فرحٌ في هذه المناسبة ، لماذا أكلفُ ابنتي فوق طاقتها ، وأقومُ باختبارها ، وتلك مرحلة قد مرّت ، وأحبُ انْ تجتاز مراحل أخرى لا تقل عن هذه أهمية ، وان كانت ناجحة في حفظ القرآن الكريم ، فالأحسنُ انْ أجعلها ناجحة أيضا في تعلم مبادئ أساسية في الحياة ، لا يمكنُ للإنسان انْ يدرك شيئا بدونها ، وان قال الأهل انّ تلك الدروس في حفظ القران كافية بالنسبة للفتاة ، فرأيي انها ليست كافية ، وعلى أولياء الأمور انْ يعلموا الفتيات العلوم والآداب والحساب ، وكل المعلومات التي يحتاجها الانسان في الحياة ، كي يكون سويا سعيدا ، لا يغلبه الآخرون ، او يسلبونه الحقوق ، فلأناضل من أجل انْ تذهب ابنتي الى المدرسة، أسوة بمن كنّ في سنها من الصغيرات ، ولكني سأواجه بمقاومة كبيرة ، كيف يمكنني اجتيازها ؟ وهل يمكنُ ان تكون القدرة على التلاوة كافية ، كي تتقن ابنتي العلوم التي تحتاجُها في هذه الحياة ، وكيف يمكنُ انْ تدرك معاني القران الكريم ، وهي ما زالت صغيرة أولا ، وانها في مؤسسة الكتّاب للتحفيظ لم يعلموها المعاني الواجب تعلمها ، كيف تكون المعارف التي اكتسبتها في سنها الصغير هذا كافية لها في مستقبل أيامها ؟ وهل تعلمت فعلا ؟ سألتُ ابنتي قبل يومين من هذا الاحتفال :
- ماذا تفعلُ البنات في الكتاب ؟
- بعضُهن يكنسن، والبعضُ الأخر يساعدن الملاية في تجهيز الطعام .
- وأنت ؟ ماذا تفعلين ؟
- كنتُ في البداية أجلسُ مع بعض البنات ، وحين وجدتُ ان الأكثرية منهن ،تقومُ بمساعدة الملاية في أشغال منزلها ، أخذتُ أقتدي بهن..
- ومتى تقرأنَ القرآن ؟
- حين تنتهي الأشغالُ المنزلية ، تجلس الملاية في وسط الغرفة ، نجلس محيطات بها ، تطلب من احدانا ان تبد أ القراءة ثم تبدأ التي تليها .
- هل تقرئين أنت كل يوم ؟
- ليس كل يوم ، احيانا لا يأتيني الدور..
أرى العالم يتطور باستمرار ، ولا يبالي بمن يقف في مكانه مؤثرا الركود ، كيف أستطيع ان أقنع الأسرة بوجهة نظري ، وان أبيّن لهم شدة حبي لهم ،رغم اختلافي معهم بالآراء والافكار ، أنا احترمهم كثيرا ولا ارغب في ان اخسرهم ، لهذا أعيشُ صراعا حادا بين واجباتي الأبوية ،وواجباتي نحو أبويّ العزيزين ، وأبناء المدينة ممن يحلو لهم أن يناقشوا أمورنا الخاصة ليدلوا بدلوهم ويأتوا بآراء ما أنزل الله بها من سلطان ، تستبد بي الحيرة ، ويقضي على راحتي الصراع الكبير بين ما أجده حقيقة يجب أن أدافع عنها وعن عرفاني بجميل من أغدق عليّ الحب والحنان ، ومنحني الشعور الرائع بالدفء، رغم حرماني أحيانا من الأمور المالية التي أجد بعض أقراني متمتعين بها ، ولكني أجد لهم العذر ، فليسوا قادرين على توفير ما نحلم به من أشياء لم يستطيعوا تقديمها رغم كفاحهم الطويل..


(35)
لم تستطيعي ان تستوعبي الحدث ، رغم ان الجميع أبدوا رأيهم فيه ، لماذا يقدمون على هذا العمل ، ولماذا استحق عملهم الوحشي والقاسي ذلك التأييد ؟ ولماذا قدموها ضحية للواجب والمحافظة على التقاليد ، الجميع من حولك يتحدث عن تلك الفتاة الجميلة ، والتي لم ترعها العائلة ، فشبّت لامبالية بما يقره الناس ، والذي تحترمه الأعراف والعادات التي استقرت في العقول والقلوب وكأنها قوانين لابدّ من احترامها ، وابداء التقدير الكبير لها والتقديس ، كنتما تلعبان أحيانا معا ، وكثيرا ما كنت تسمعين عبارات الاستهجان ،من تصرفاتها التي لا يقرها الجميع
- اتركيها ، انها بائسة ، لا تستحق ان تصاحبيها..
ولم تكوني تعرفين لماذا ينصحك بعض معارفك أنْ تتنكري للصحبة ، وجدتها ممتعة في المشاركة في ألعاب الطفولة ، تأتي الى منزلك الكبير ، وتشتركان معا في لعب مستمر طوال النهار ، حتى اذا ما أزفت الشمسُ الى المغيب استأذنت في المغادرة .
- وهل لها منزل يأويها ، كي تسارع الى الذهاب ؟
انْ كانت يتيمة ، ما ذنبها ؟ ولماذا يعاملها الناس بتلك القسوة التي لا تجدين لها مبررا ، وماذا جنت هي ان فقدت الوالد الحنون ، لتعتني بها الوالدة الفقيرة ، لماذا يستنكرون على الأم ان تربي أولادها؟
- انها ابنة أمها!
أسئلة كثيرة تدور في عقلك ، ولا تجدين لها أجوبة وافية ، مَن يمكنه أن يوضح لك ما استعصى على فهمك؟
تتزوجُ حليمة ويثير ذلك الحدث استغرابك ، كيف تتزوجُ الطفلة التي كانت تلعب معك ؟والتي تكبرك ببعض السنين والتي لا يمكن ان تجعلها ناضجة تحسن التصرف ؟ فالجميعُ يقول انها ابنة أمها ، جئت الى أبيك يوما مستفسرة:
- ما معنى ابنة أمها ؟
- انها لم تحسن تربيتها..
يرى أبوك حيرتك واضحة على وجهك ، فيسارع الى القول:
- لا تسمعي ما يقو ل الظالمون يا ابنتي ، الأم مثل الأب تحسنُ التربية ، ولكنّ تعاون الاثنين أفضل دائما في تنشئة الأبناء.
فوجئتِ بزواجها مبكرة ، وكأنها تحاولُ الاختباء من عدو يتربص بها ، جاءت وودعتك والدموع واضحة على محياها :
- سوف أغادرُ الى مكان بعيد!
ولكن هذه المغادرة لم تتم ، فالألسنُ تتحرك ، متحدثة عن فتاة صغيرة ، لم تحسنْ أمُها تربيتها ، طعنها اليوم أخوها عدة طعنات دفاعا عن الشرف.
هذا ما تقوله النسوة العواجز، اللائي سارعن الى بيت جدتك لإعلان النبأ ، تستمعين الى الحكايات الكثيرة عن ذلك الحدث المفجع ، رغم كل شيء كانت رفيقتك في اللعب ، وتلك الحكايات لم تفارقها يوما ، ولكن هذا اليوم تزيد تلك التوابل التي وضعت حول القصة وزادتها رونقا ، وأنت لا تعلمين ، ما الذي يعنيه الشرف ؟ وما معنى الدفاع عنه ؟ ولماذا يقتل حليمة رفيقتك في اللعب أخوها ؟ وكان الجميع يصفونه بالمعتوه ، وكيف يمكن للمعتوه ان يفعل شيئا يستحق كل ذلك التقدير في مدينتك الصغيرة ، التي هاجت وماجت لدى سماعها بالأخبار الغريبة ،التي لم تعتد ان تحصل فيها؟
تحاولين ان تسمعي القصة من افواه النساء الكبيرات ، وهن يقصصن ما رأت أعينهن في وضح النهار :
- حليمة لم يكن لها أب يحسن تربيتها ، رعتها أمها ، التي كانت امرأة فقط ، ولم تتصف بصفات الرجال ، فتجعل أبناءها وبناتها يخشون من التقرب من الأعمال الفاحشة ، ولكن حليمة لأنها بدون أب يرعاها ويزجرها ، أحبت عماد الابن المدلل لذلك الاقطاعي ، المالك لكثير من الأراضي الزراعية مع الفلاحين أصحاب الأيدي التي تتعهد زراعته بالحرث والارواء ..
تواصلين الاستماع الى تلك القصة التي تجدينها فوق قدرتك على الاستيعاب والفهم ، تسمعين عبارة تزجرك :
- بسمة ، لا يمكن للصغيرات ان يسمعن هذه الحكايات.
- لكن بسمة عاقلة..
- ليكن ، الافضل ان تغادر الغرفة !
- لا عليك ، دعيها تبقى ، ما الضير في بقائها ؟
تواصل المتحدثة الكلام :
- أغواها ابن الاقطاعي ، صدقت وعوده ، وحين قامت بما طلب منها تركها.
لم تفهمي مرامي الحكاية ، ولم تدركي بعد ما ذنب حليمة ؟
ولماذا تعاقب هذا العقاب العسير ؟ أتقتل هذه الصغيرة ظلما ؟ وهل يهرب الناس جميعا من أمها ؟ تغلق الأبوابُ في وجهها ، ولا يسمح لأحد باستقبالها في منزله ، تسمعين أباك:
- يا أم بسمة ، لا تسمحي لها بالدخول
- لا أستطيع ، كيف أطردُ المسكينة من منزلي ؟ وقد جاءت ضيفة ؟
- انها خاطئة
- الابنة خاطئة ، هل أخطأت الأم ايضا ؟
في صلاة العشاء تكون أمك منهمكة في أداء الفرض ، تسمعين دقات خافتة على الباب ، تعرفين من هي الطارقة التي تتكرر زياراتها ، في هذا الوقت من كل ليلة ، تسارعين الى فتح الباب ، تجدين أم رفيقتك حليمة أمام الباب ، وقد حملت لك هدايا كثيرة من ألوان من الأطعمة تعرف أنك تحبينها كثيرا ، الخبز باللحم والخبز بالسمسم ، ترحبين بالضيفة وأنت لا تدركين لمَ يرغب أبواك في عدم السماح لها بزيارتكم ؟ ولماذا يقولون ان حليمة لا أب لها ؟ وأنت تعرفين ان أباها حي يرزق ، لكنه فقير لا يملك النقود التي تكفيه للعناية بزوجته وابنته ، وكثيرا ما سمعت السؤال الذي يتردد على الألسن بهمس :
- من أين تأتي أم حليمة بالمال ؟ وهي تعمل خادمة وزوجها عاطل عن العمل؟
كثيرا ما انتابتك الحيرة من وضع بعض الناس في مدينتكم الصغيرة فتسارعين الى الاستفسار:
- أبي ، لماذا نجد بعض الناس لا يملكون الطعام الذي يحتاجون ، والبعض الآخر يملك أموالا كثيرة ؟ فيرمي أنواعا من الطعام في سلة القمامة ؟
- انه الظلم يا ابنتي العزيزة ، وعدم توزيع الثروات بعدالة بين البشر!
لم تفهمي شيئا مما يقول أبوك ، تجلسين مع الضيفة وهي تتحدث مع أمك ! محاولة ان تبادليها امك الحديث ، ولن والدتك تظل صامتة لا تجيب ُ..


(36)

سافرتُ يوما واحدا ، وحين رجعتُ وجدت الدنيا مقلوبة رأسا على عقب ، حكايات كثيرة تلوكها الألسن ، وغموض يستبد بالنفوس ، وبسمة حائرة في هذا الجو الكئيب ، لا تعرف الحقيقة ، ولا تدرك لماذا كان مصير حليمة بمثل هذا السوء ؟ ولم يدعها سنها الصغير تعرف معنى الاتهامات وان تميز بين الواقع والخيال ، وما ذا تريد الحكايات اثباته ، وما الذي يرغب العقل في توضيحه ، فالبنتُ أخطأت حين صدقت ادعاءات الحب والزواج ،من شخص لا يفقه في هذه المعاني شيئا ، كيف يمكنُ لغني مستبد يملك الاقطاعيات والنفوذ والأرض، انْ يحب فتاة صغيرة ، بلغت سن البلوغ توا ، وما زالت تحب اللعب مع الصغيرات ، وتفضل ألعاب الصبيان والأطفال على الجلوس في المنزل كما يحتم سن المراهقة ، وما يتطلب الحال من ابنة صغيرة ، رائعة الجمال ، تنظر اليها العيون بريبة ، وتتناقل الألسن ما تقوم به من تصرفات ، وتورد الحكايات المبالغ بها قصصها المثيرة للاشتباه مع ابن الاقطاعي الغني ، كنتُ أعرف نتيجة القصة منذ البداية ، ولكن كيف يمكن انقاذ طفلة مسكينة ،من غدر ذئب متمرس بطباع الذئاب ، وقعت في يده ضحية شبه يتيمة ، لم تجدْ حنان الأب ، ولا جربت حزمه ورعايته ، وكما في كل قصة من هذه القصص غير المتكافئة ، نستطيع ان تدرك خاتمتها من أول انطلاقها ، ومن تلك الهمسات المنبعثة بصمت عن الشك بالفتاة التي لم تحسن تربيتها ، فأخذت تثق بمن ليس من مصلحتها الوثوق به ، غرر الشاب الكبير ، بضحيته المسكينة ، ومثّل عليها منظر المتيّم الولهان ،ومن شارف على الموت شهيد الحب واللوعة ، فصدقت دعواه ، وأمنت بكلامه المنمق الجميل ، وهي لم تسمع كلمة جميلة من مخلوق ، واعتادت على سماع الكلمات القاسية والتهم الظالمة ،التي تقابلها في كل مكان تطأ قدماها أديم أرضه ، والفتاة التي لم تحصن جيدا أمام من يحب افتراسها لقمة سائغة ، سقطت فريسة سهلة ، وكادت القصة تنكشف أمام الناس في مدينتنا الصغيرة المحافظة، التي لا تسمح أبدا بمثل هذه القصص ،التي تدل على سوء التربية ، وقلة احترام الرأي العام ، وحين عرف الاقطاعيُ ان فريسة ابنه سوف يكبر بطنها معلنا عن فعلته الشنيعة ، نصح أحد المساكين الفقراء ،أن يتقدم للزواج منها سترا لها في سبيل الله ، والذي أمر بالستر على الولايا الضعيفات ، وقبل الرجل الفقير ان يقوم بما طلب منه ،لقاء مبلغ من المال ، وما كان يدري ان الحقيقة اسوأ مما توقع ، فالفتاة لا تعاني من ثقب يدل على السقوط فقط ، انّما هناك في بطنها ما هو أشد هولا ، في ليلة الدخلة ، يُكتشفُ الجرمُ ، وتجهض حليمة ، وفي بواكير الصباح يؤتى بالجنين السفاح الى خالها الجالس في المقهى ، ويطلعونه على النبأ أمام مرأى الناس وأسماعهم:
- أنظرْ ايها الشريف ، هذا ولد ابن اختك. العروس !
يفاجأ الخالُ ، ولا يعرفُ كيف يجيب ، وابناء المدينة كلهم يعرفون ان ليلة الامس كانت الدخلة.
يسقط بالسكتة القلبية..
يقنع أهلُ الرأي والتدبير شقيق حليمة المجنون أن يغسل العار ، وان يثأر من أخته التي لطخت شرف العائلة ، وهي المسكينة التي لم تعرف دفء العائلة ، ولا ذاقت حنانها وعاشت محرومة من الرعاية، تتخبط في الحياة دون ناصح ، حتى ظهر الأخ الذي كان غافيا لم يعرفْ ان له اختا الا بعد خطيئتها.. وقال بعض المطلعين على خفايا الأمور : ان شقيق حليمة لم يرتكب جرما ، انّما قتلها أحدُ الأقرباء ورمى الشقيق انه قام بالدور خشية من العقاب ، والشقيق لا يعاقبه احد لأنه بقتله حليمة ، يعيد الشرف الى الأسرة التي سلبه ابن الاقطاعي منها..



(37)
تسيرين على شاطئ النهر ، تنظرين الى الآلاف من طيور البط ، وهي تجلسُ تتمتع بذلك الدفق الهائل من الجمال ، تشاهدين زورقا صغيرا ، يسيّره صبيٌ صغير ، تتوقين الى الابحار في هذا الزوق الصغير والذهاب الى منزل عمتك ابتهاج ، التي دعتك اليوم الى منزلها ، انها زوجة صديق أبيك ، اعتدت على الذهاب الى منزلهما الصغير مع والدك ، تتخذين منها عمة لك ، تعاملك برأفة ، محترمة سنّك الصغيرة ، ولا تكلفك انْ تقومي بالأعمال التي ترهقك ، لأنها لا تتناسب مع صغر عمرك ، أخبرتك منذ الأمس انها تحبُ أن تزوريها وحدك في منزلها ، ولقد رحب أبوك بتلك الدعوة ، القاربُ الصغير يمخرُ الأمواج المتلاطمة في هذا الجو الصاخب من أيام الربيع ، وقد ارتدتْ الطبيعة أجمل أثوابها في هذه المناسبة السعيدة ، حين تتفتحُ الازهار وتبتهجُ الأرض لجمال الربيع وفتنته الساحرة ، وتغرّد العنادلُ ، وتتوق النفوس جميعا الى الحُب ، الطيورُ النهرية الجميلة ، تتجمعُ زرافات على صفحة الماء الشفافة ، معلنة عن فرحها الكبير بمثل هذه الايام ، التي يبلغُ الجمال فيها أوجه ، رغم قصر الفترة الزمنية ، تسير بك الأمواجُ على صفحة الماء الفضية ، والشمسُ الحانية تداعبُ جسدك الصغير ، وأنت تتوقين الى الذهاب الى عمتك ابتهاج ، التي كانت تعاملك بلطف رقيق لم تتعودي عليه ، ، النهرُ ينسابُ بك رقراقا هادئا ، وأنت تجلسين على حافة الزورق ، يدفعك الموجُ مرة بهدوء تحبينه ، ويقف مرات أخرى ، ليسمح لقائد المركب بقيادته وقت هدوء النهر الجميل ..
تصلين الى المنزل ، تجدين عمتك ابتهاج ، وقد تهيأت لنزهة داخل البستان ، حيث الزهورُ المتفتحة التي تستقبل الربيع بفرح وبهجة ، والطيورُ تغرّدُ بأصواتها الجميلة ، أهلك لا يسمحون لك بالذهاب الى هذه الأماكن الجميلة ، وقد وجدت الفرصة أمامك تفتح ذراعيها داعية اياك بفرح ،الى الذهاب مع عمتك والاستجابة للدعوة الجميلة التي لا يجود الزمان بمثلها دائما ، تأخذك عمتك العزيزة ، وتغيّر فستانك الطويل الذي ارتديته في زيارتك هذه ، و تحلّ ضفائرك الطويلة ، وتجعلّ شعرك مرسلا، بكثافته على ظهرك بعد تمشيطه ، ثم تضع لك أحمر الشفاه ، تصبغ لك شفتيك ، فتصبحين مخلوقة أخرى ، تناولك المرآة ، وتطلب منك النظر الى الصورة المنعكسة فيها ، تتفاجئين ، انّك صرت مخلوقة جديدة ، لم تكوني تعهدينها ، لقد تبدّل شكلك ، وخلعت عمتك الحجاب والنقاب ، وأضحيت كحقيقتك فتاة صغيرة ، بعد ان كان ذووك قد نقولك بلباسهم الطويل الى شكل امرأة ما زالت بعد في سن الطفولة ، تسيرُ عمتك وهي تمسكُ بيدك، وكأنك ابنتُها الصغيرةُ في أزقة لم تكوني تتقربين منها ، وليست الأزقة التي كانت توصلك الى القيام بشراء ما يريدون منك في المنزل ، لم ترتادي غيرها في حلّك وترحالك ، بستان جميل ، كنت تحلمين ان تطأه قدماك ، ودائما تقابل أحلامك الصغيرة بالرفض ، بسطت عمتك الحصيرة الصغيرة على الأرض وجلستْ ودعتك الى الجلوس بقربها ، وأنت تكادين لا تصدقين ما يحدث لك للمرة الاولى في حياتك ، يأتي أصدقاء عمتك ابتهاج ويسلمون عليها ثم يلتفتون اليها متسائلين :
- من تكون هذه الطفلة ؟
- انها ابنة أخي ، جاءت من بغداد ، وسوف تبقى معي أياما
ينظرُ اليك أصدقاء عمتك بإعجاب لم تعهديه ،من بين تلك النظرات الكثيرة ،التي كانتْ تحطّ على وجهك ،وأنت بتلك الملابس الطويلة والعباءة السوداء ، والنقاب الأسود الذي رغبت أنت بوضعه قبل الأوان على وجهك الصغير ، ظنا منك بأنّك ستصبحين امرأه به، تتمتع بتلبية رغباتها ، وطمعا منك انك ستكونين محل الاحترام والتقدير.
أصدقاء عمتك وصديقاتها كانوا من زوار منزلك ، وكانوا في البستان مجاورين لبعضهم أما في منزل ذويك ، فكان الرجالُ في مكان والنساء في مكان آخر ، أحاديث جميلة لم تكوني تعهدينها في منزل ذويك الكبير ، وكنت تتوقين اليها ،حين يصحبك أبوك معه في رحلاته الكثيرة الى المدينة الكبيرة
ابتسمت عمتك ابتهاج وسالتك:
- هل أنت مسرورة ؟
- كثيرا يا عمتي!
- لا تخبري احدا من أهلك بخروجنا هذا.!

(38)

علمتُ أن بسمة تحب البساتين منذ صغر سنها ، ذهبتْ الى أحد البساتين في مدينتنا الصغيرة مع صديقاتها الصغيرات حين كانتْ في الخامسة من العمر ، ولكن أحد الوشاة جاء الى أبي وأخبره بالأمر ، فعاقب الصغيرات اللاتي ذهبن الى البستان ، وأخبرني انه سوف يعاقبهن حتى لا يشجعهن السكوتُ على الذهاب الى أي من هذه الامكنة في مستقبل حياتهن ، وكي يدركن جيدا اننا عائلة محافظة ، تهمها سمعتها بين العوائل ، وتحرصُ على أن يسلك أبناؤها السلوك القويم منذ الصغر ، وخاصة الفتيات الصغيرات ، اللائي كثيرا ما ينظر الى تصرفاتهن البريئة بعين الانتقاد والاستهجان ، اقتنعتُ بوجهة نظر والدي ، حين برر لي الأمر جليا ، لهذا لم تبد ابنتي رغبتها في زيارة البستان مرة أخرى ، لان والدي لم يعاقبها ، وإنما تظاهر انه مزمع على إقامة ذلك العقاب ، واتفق مع أمها ان تخبئها في مكان بعيد ، لا يصل اليه غضبُ الجد ، كما ظنت الصغيرة ، سمعتْ جدها يسأل أمها بلهفة ؟
- أين بسمة ؟
- ما زالت نائمة.
- حين تستيقظ أخبريها انني أروم عقابها..
كانت ابنتي مختبئة في خزانة الملابس ، تومئ لها أمُها انْ اخرجي ، لقد ذهب جدُك ، وسوف ينسى ذهابكن الى البستان ،هذه الحادثة اثرتْ على ابنتي وجعلتها لا تميل الى فتح هذا الموضوع مجددا ،لتنقذ نفسها من العقاب المفترض ، ولتنأى عن الغضب الذي لا تحمد عاقبته..
حين تعرفت الى صديقي أبي غائب ، زوج السيدة ( ابتهاج) كنتُ أصحبُ ( بسمة) حين أزورهما في منزلهما الجميل ، أبدى الصديقان اهتماما كبيرا بابنتي الصغيرة ، لم تكن تجد مثله ممن يشاركها المنزل الكبير ، كانوا جادين ، أكثر مما ينبغي في معاملة فتاة صغيرة ، يجمع من تعرف إليها انها تتميز بالشعور المرهف ، والحساسية الشديدة ، ولقد أعجبني اهتمام أصدقائي بابنتي الصغيرة ، وأحببتُ أن اخرجها بعض الأحيان من الجو المتزمت الذي نعيشه مرغمين ، والذي تحرّمُ فيه الحركات البريئة واللامقصودة ، ويتعرض المرء للمساءلة ، ان قام بتصرف بريء قد يثير الاستهجان والغضب ،من الناس الذين اعتادوا انْ تكون كل حركة مدروسة ، ولا يقوم بها الإنسانُ الا بعد التفكير العميق، في أسبابها ودواعي القيام بها ، وهل تؤثر في الناس الآخرين سلبا ام إيجابا ، وكم عدد الذين يستحسنون تلك الحركة ، وما عدد من يستهجنها ، وهل يهاجمها الغاضبون منها ؟ وماذا يمكن ان يقولوا ضدها ، كل هذا الحذر من ردود الأفعال من حركة واحدة ، او كلمة قد يلفظها الإنسان أحيانا دون ان يفكر بنتائجها ، جعلت أفراد منزلنا الكبير ، يتميزون بإدمان الصمت ، ونادرا ما ينطق أحدهم بكلمة قد يفسرها السامعُ انها تتضمن الهزء او السخرية من بعض الأمور ، او تدلل على انّ قائلها ليس حكيما ، ولا يفكر بما يقول ، ويتصف باللغو الذي لا ترجى منه فائدة ، كل هذه الصفات التي أجد نفسي مكبلا بها ، جعلتني أفكرُ بإنقاذ ابنتي الصغيرة منها ، فهي لا ذنب لها ان تتحمل كل هذا الحرمان الطويل ،الذي فرض علينا ولم نقترف إثما نحاسب عليه ..
سمحتُ لابنتي أن تزور عائلة صديقي أبي غائب ، وأن تكثر من محاولات التعرف على تلك العائلة التي كانت ظروفها أفضل مما يحيط بي من محبطات كثيرة ، حين حدثتني السيدة (ابتهاج) برغبتها في اصحاب ابنتي معها الى البستان ، رحبتُ بالفكرة ، وقلت انّ هذه الخطوة تشجعُني أن أرمي الحجر الى عصفورين بنفس الوقت ، فهي تتيح لابنتي الذهاب الى مكان تحبه ،وحُرمتْ منه منذ عهد الطفولة ، وان تريحني من شعور بالإثم ما فتيء يلاحقني انني اجعل ابنتي محرومة من أشياء كثيرة ،تتمتع بها الفتيات الصغيرات في مثل سنها ، وتحرم منها ابنتي لأنها نشأت في أسرة تجد نفسها محاطة بالكثير من المحرمات ، التي لا يستحب الاقتراب منها للإنسان الذي يودُ انْ يكون محترما من الآخرين ، فكيف بابنة صغيرة ، ما زالت بسن الثامنة من العمر ، أخبرتني السيدة ( ابتهاج) انُها سوف لاتدعُ ابنتي تعلمُ انني عارفٌ بأمر تلك السفرة الى البستان ، حتى لا تطالبني برحلة اليه مرة أخرى ، وحتى لا يسمع بالأمر أفراد منزلي ، فيطلبون أن يشملهم ذلك السماح بالخروج الى البساتين ولم يكن هذا الأمر بطاقتي انْ أقدمه ، والسبب الأخر ، أنني لا أرغبُ ان يستنكر أحد العارفين بأمر أحاول أنا أن أخبئه ،ذهاب ابنتي الصغيرة بصحبة أصدقاء لي ، رغم انّه أمر يسير وباستطاعة كل أمرئ ان يقوم به ، بصحبة عائلته ، اِلا انني وبظروفي القاهرة لا يمكنُ أن أجرؤ على الاعلان انني سمحتُ لابنتي الصغيرة أن يصحبها أصدقائي لمثل هذه الأماكن ، ان سمع بالنبأ أحدهم ،يقيم الدنيا ، ولا يقعدها متهما اياي أنني لا أتوخى كرم الأخلاق حين أعاشر الأصدقاء ، وان سماحي لابنتي بمصاحبتهم قد يفسدها ، ويجعلها تخرج في مستقبل أيامها على ارادتي ، وتستسهلُ عصياني ، ورغم ما كنت أفعله من مراعاة كثيرة للناس، وما يمكن أن يقولوه في منزلي الكبير ، الا ان البيئة التي عشت فيها كانت تجبرني على تلك المراعاة ، وتدفعني الى اظهار الاحترام الكبير لكل القيم والمبادئ والمثل ،التي تربيتُ على تقديرها ، وافقتُ على خروج ابنتي في زيارة البستان ، وكنت واثقا انها تكونُ مرتاحة لهذا الخروج ، وفعلا عادت اليّ في أواخر النهار تخبرني انها مرتاحة جدا وسعيدة ، وأنها زارت منزل صديقي أبي غائب ، ووجدت عنده كما هي العادة دائما الراحة والسرور ، لم أوجه لها أسئلة عما جرى في البستان وكنت أعرفُ به ، وجعلت ذلك الأمر سرا بيني وبين أصدقائي الرفاق، ولقد عجبت كثيرا ان ابنتي لم تشر أبدا الى انها كانت سافرة في ذلك الخروج ، أيكون لنصيحة الاصدقاء ذلك التأثيرُ عليها ؟ وهي لم تخبئ عني أمرا من أمورها قبل هذا اليوم ، أم أنها صارت تفكر بالنتائج في هذه السن الصغيرة ، وخشيتْ ان أخبرتني بحقيقة الرحلة ألا آذن لها بالخروج مرة اخرى ، ومهما تكن الدوافع التي حدت بابنتي الى عدم الافضاء ، فقد أراحني تصرفها ووجدته دلالة على نضوج مبكر ، كان الأصدقاء يرونه في ابنتي الصغيرة ، وكانوا يوجهون لي نقدا انني بتصرفاتي حيالها قد أحرمُها من بعض العبث البريء الذي يتميز به الأطفالُ ، الا انني بقرارة نفسي كنت مرتاحا الى سلوك ابنتي المتزن ،والذي لا يتلاءم مع عمرها الصغير ، وفكرت كثيرا انها تشبهني كثير ا ، ألم أحرم من التعلم مع الزملاء في مثل سني ، حين اضطررت الى الخروج من المدرسة ، لمسا عدة عائلتي في الحياة الاقتصادية الصعبة ، لقد فتح لي والدي محلا تجاريا لبيع المواد العطارية وانا في السن التاسعة من العمر ، ورغم ما كان الاصدقاء يقولونه عن ان بسمة قد كبرت قبل الأوان وأخذت تتصرفُ كالناضجين ، الا انني في أعماق نفسي وجدت الأمر تأثرا بي ، فكم كانت تشبهني في كثير من الصفات وكان ذلك مدعاة لفخري واعتزازي..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81