الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أرواح ظامئة للحب: رواية : الجزء الرابع والأخير

صبيحة شبر

2015 / 2 / 28
الادب والفن


(39)
يرسلونك دائما للتسوق ، تحبين هذه المهمة ، وتسارعين الى القيام بها ، جسمك صغير ، وعظامك رقيقة ، وخصرك أهيف ، حين يرفعك أبوك اليه رغبة في تقبيلك ، يخشى ان خصرك سوف ينكسر من جراء ضغط يده عليه ، وقد أكسبك صغر الجحم هذا مزايا لا يقدر عليها الكبار ، وحتى الصغيرات من أمثالك ، وفي مثل سنك ، يحرمن من الذهاب الى ذلك السوق الكبير ، الذي منعت النساء من ارتياده ، أمُكِ يجلب لها ابوك ما تريد وما تشتهي من أنواع الحاجات وأشهى المأكولات ، وأجمل الأقمشة من هذا السوق الرجالي الكبير ، ورغم ارتدائك للعباءة في سن مبكرة ، الا انك تتمتعين بحق لا يمكن الاقتراب منه بتاتا في هذه المدينة العجيبة ، تلبين الطلبات بسرعة كبيرة ، وأنت تركضين في أنحاء السوق الكبير ، ما ان تصلي الى حانوت أبيك ، حتى تهل عليك الفرحة ، جميع ما تشتهينه موجود ، مع ذلك الأب الحنون ، يسارع اليك بلبن أربيل المثلج ، كأس كبير ، لا تقدرين لصغر سنك على شربه بالسرعة التي يشرب بها الرجال ، تشربين بعضا من الشراب المثلج ، وترتاحين وقتا ، وتثيرين ضحك الكبار ، الذين لا تستطيعين مجاراتهم بالسرعة التي يتصرفون بها ، أبوك يصبر ولا يحاول الطلب منك الاسراع ، والرجال هناك يسمعونك بعض العبارات السريعة و يطلبون منك تكرارها دون توقف ، تحاولين وترتكبين الاخطاء ، وهم يضحكون( عندنا نخلة ، وعندكم نخلة ، اعطونا من تمر نخلتكم ، ونعطيكم من تمر نخلتنا ، ونشوف ، تمر نخلتكم أطيب من تمر نخلتنا ، او تمر نخلتنا اطيب من تمر نخلتكم) تعيدين العبارة عدة مرت بسرعة كبيرة ، فتقعين في أخطاء تجعل السامعين يغرقون في الضحك المتواصل السريع.
كنت تحلمين ان يكون لك صندوق من انواع الحلويات التي يبيعها ابوك في حانوته ، لكن الحياء يغلبك ولا تفاتحين أباك بالرغبة التي تتملكك ، ولكن اباك وكأنه قرأ أفكارك واطلع على رغبتك ، يفاجئك بصندوق صغير ، فيه أصناف متعدد ة من أنواع الحلوى الموجود في حانوته مع أخرى اشتراها من الحوانيت المجاورة ، الصندوق مقفول ، ومفتاحه برقبتك ، وأنت مطمئنة فرحة ، انك تمتلكين اشياء كثيرة مثل الكبار ، لا يستطيع احد مهما كان أن يسلبها منك ، فهي محفوظة في الصندوق المقفول ، تحلمين أن تخرجي للتجول في البساتين ، تقطفين الورود ، وتتمتعين بالرائحة العابقة التي تنتشر كل ربيع ،في انحاء متفرقة من مدينتك الصغيرة ، وأنت جذلى تغنين للعصافير المغردة ، وتنشدين مع البلابل الفرحة، احتفاء بمقدم فصل الجمال والفرح الساطع ، والأغنيات العذبة التي تملأ النفس انشراحا والقلب حبورا ، تركبين الأراجيح ، وتضغطين بقدمك الصغيرة على الأرض لتندفع ارجوحتك معانقة السماء ، تهللين مستبشرة ، كأنك واحدة من الطيور المغردة والعنادل المسرورة ، وقد تحقق حلمها في انبلاج النور وسطوع الشمس وبهجة القمر، وفرحة النفوس المتعطشة الى الجمال المبثوث في الوجود.
تركضين وراء الفراشات ، وتبتسمين للمخلوقات وهي تعلن عن فرحتها في يوم جديد ، يهل على العالم وهو يرفل بأثواب من الزهو والبهاء ، تفطنين ان الوقت قد أدركك وأنت لاهية ، تخشين ان تسمعي كلمة تخدش شعورك المرهف ، فتسارعين بالعودة مع الطيور في أوبتها الى أعشاشها بعد نهار قضته مغردة ، تسارعين الى عشك الصغير الذي شيده لك أبوك ، تفتحين صندوق الحلويات ، واذا به خاو ، قد امتدت اليه الأيادي وسرقت ما فيه من كنز كان يبعث الى نفسك الصغيرة الفرح الكبير... الغريب انك حزنت قليلا ، ربما لأنك عرفت من يكون السارق ،وان منظر الصندوق ممتلئا بحلويات لذيذة تثير الشهية...



(40)
تأتيني ابنتي متهللة النفس ، سعيدة ، تكاد الفرحة تعلن عن انبثاقها ، أشياء قليلة يمكن أن تخلق معاني للسرور في تلك المخلوقة الصغيرة ، وكنت أحرصُ على توسيع دائرة الفرحة في ذلك القلب الصغير ، وزيادة جرعات السرور في نفس ابنتي، التي طالما وجدتها سجينة قلعتنا ، وأنا أملكُ تخليصها من عناء ذلك المكان ، وكلنا بقينا شطرا من عمرنا نحلمُ أن ننقذ حيواتنا مما يراد لها من بقاء داخل جدران صماء..
أدركُ أنها تحب الحلوى وتفرح نفسها حين تطير مع الطيارات الورقية في سطح منزلنا الكبير ، ، فأجهز لها الأوراق الملونة كي تصنع لنفسها أنواعا جميلة من تلك الطيارات الورقية ،وتطيرها في أعالي السماء حين يكون مغيب الشمس ،ويدنو القمر من موعد تحيته للعالم وتمنياته للورى بحياة جديدة وأحلام سعيدة..
أخبرتني انها سوف تسافر الى العاصمة ،مع عمها وعمتها لحضور احدى المناسبات السعيدة ، فجهزت لها صندوقا خشبيا صغيرا ، ملأته بأصناف عديدة من الحلوى ،كانت تحبها كثيرا ، وأقفلتُ لها الصندوق وأعطيتها مفتاحه ، وأبهجني اني وجدتها كثيرة السعادة بعملي ذاك ،الذي لم يكلفني شيئا ، ثم اعطيتها قليلا من النقود ، وابتعت لها فستانا بسيطا ، كان كفيلا بإشراقة السرور ان تهل في نفسها الصغيرة الحالمة.
سافرت قبلي بيوم واحد ، وحين وصلتُ في اليوم التالي فوجئتُ ان رصيدها قد سُلب منها ،وان صندوقها الصغير الذي ملأته حلوى قد سطت عليه أيادي الكبار ، وأفرغوه مما فيه من محتويات ، وانها حين عادت من رحلتها الى البستان واستنشاق عطر الورود والرياحين ، ورغبت بالتمتع بطعم الحلوى ، وجدت الصندوق فارغا ، كان يمكنني ان اجهز السارقين بما يحبون من أصناف الحلويات ، لو عرفتُ ان نفوسهم سوف ترنو الى ما عند ابنتي ، ولكن هل كان ما عندها غاليا لأنه مقفول ؟ بعضهم يملك قدرة عجيبة على تبديد شعور بالفرح لدى الناس صغارا كانوا او كبارا ، ولم أكن ادري ان ابنتي قد تتعرض الى خنق سرورها من قبل أشخاص قريبين مني وأكنُّ لهم كل الحب..

(41)
انتقلتم الى منزل جديد ، أبوك وأمك وأنت الكبيرة بين أخواتك واخوتك، وتغيرت حياتك بعض التغيير.

أعطاكِ أبوك مبلغا من المال ، وقال :
- اذهبي مع صديقاتك الى مدينة الألعاب ، اليوم عيد وكل الناس يحتفلون بقدومه
ارتديت ملابسك الجديدة ومشطت شعرك ووضعت الشرائط الملونة عليه ، ثم وضعت العباءة ككل البنات اللاتي سوف يصحبنك الى هناك ..
الحديقة كبيرة ، والأطفال كثيرون ، وأنت تأتين الى هنا للمرة الأولى في حياتك ، ركبت السيارة مع زميلاتك ، كدسكن السائقُ وأنتن فرحات بهذه المناسبة السعيدة ، لا تملكن أنفسكن من الفرح والسرور ، قالت لك احدى زميلاتك في السيارة :
- كل عيد ونحن البنات نركب سيارة العيد .
وأنت كنت تفرحين بأيام الأعياد بشكل آخر مختلف ، ترتدين الملابس الجديدة وتستلمين العيديات من أبيك وجدك ، وتأكلين الحلويات التي يأتي بها أبوك وجدك بكميات كبيرة جدا ، يوزعونها على الضيوف ، وكلما دخل أحدهم من قاعة الرجال الى قسم النساء والأطفال أحضر بيده كمية من الحلويات التي تحبينها :
- هاك ما تحبين ..
تتناولين ما يعطونك وانت مسرورة ، الجكليت والمسقول والحلقوم وأصابع العروس وكل شيء لذيذ..
يقول سائق سيارة العيد :
- انتهت نقودكن ، هل تحببنَ أن أزيد لكن في السير
- لا ، يكفي هنا ، سوف نذهب الى لعبة أخرى
- هيا انزلن من سيارتي ، يبدأ الآن دور مجموعة أخرى من البنات..
تنزلن جميعا ، تسأل احدى الزميلات :
- ماذا نفعل الآن ؟
- سوف نلعب الأراجيح ..
في ركن الحديقة ثلاث أراجيح ، تركب اثنتان في كل مجموعة وتقف اثنتان لهز الراكبتين ، فاذا ما انتهت المدة نزلت الراكبتان وتبادلتا الأمكنة مع اللتين كانتا واقفتين ، متعة جميلة كنت تعرفينها في المنزل الكبير ، عدد من الأراجيح هناك ، احداها في الدرج لا ينافسك فيها أحد :
- بسمة انزلي ، المكان هنا خطر ..
- هنا المكان جميل.
- سوف تقعين في المرحاض ، الا ترين ان المرحاض يقع أسفل الدرج ؟ ماذا تفعلين ان وقعت وتهشم رأسك ؟
- لن اقع ، اني أمسكُ بقوة!
- انزلي الآن ، ماذا نفعل ان وقعت ، انت لا تفهمين !
- دعك مني واتركيني ، او تعالي وتأرجحي معي..
- اوووف ، وهل انا صغيرة مثلك ؟انت لا تشبعين من اللعب
تنتهي لعبتكن على الأراجيح ، تسأل احداكن :
- ماهي اللعبة الآن؟
- نركب الحمار..
- لا، لا ،أنا لن اركب ، أمي قالت البنات لا يركبن الحصان او الحمار.. الأولاد فقط يركبون !
- وانت بسمة ؟ هل تحبين الركوب ؟
- نعم احب .
- هل يوافق أهلك ؟
- لم يقولوا لي شيئا ..
- اظنهم لا يوافقون ، كل الأهل لا يوافقون على ان تركب البنات على ظهور الحيوانات ..
- الا ترافقني احداكن ؟
- لا..
- ولكني أريد ان أركب .
- نخافُ أن يعاقبنا أهلنا اِن وافقناك ، فان أهلك حتما سيرفضون.
- ولكني أحب الركوب ، لمْ أجربّه ، وأريدُ ان ارى كيف يكون ؟
- لا تستطيع احدانا أن ترافقك ، وصاحب الحمار لن يقبل بواحدة فقط ، يقول ان الراكبة الواحدة على الحمار تكون خفيفة جدا ويخاف ان تقع، مرة اخرى يا بسمة نصحبك!
- والآن ؟ ماذا نلعب ؟
- نشتري ما نأكل .
- في المنزل طعامنا ..
- شطيرة واحدة فقط .
- نصف شطيرة لكل واحدة ، حتى نستطيع أن نتغدى في منازلنا..


(42)
يطلب منك أبوك أن تتصلي بفتيات المدينة ، وتخبريهن أنّ زائرة كبيرة سوف تأتي من بغداد للاطلاع على أمورهن ، ومعرفة مصاعب الحياة الكثيرة ، ومساعدتهن في تذليلها ، وكي تسير أمور التنظيم كما قد خُططَ لها، تلبين الطلب بسرعة كبيرة ، وتخبرين كل فتاة على حدة بموعد الزيارة وانه عليها ان تتأهب لملاقاة السيدة الزائرة ، التي حان مجيئها اليوم مساء للاستماع الى نساء المدينة الصغيرة المحرومات من كل شيء ، تجد نساء المدن الكبرى انفسهن متمتعات به..
تخبرين سكينة بموعد الزيارة ، فتتهلل للخبر السعيد وتمضي مسرعة الى منزلك لرؤية الزائرة المشهورة والاستماع الى حديثها والى تجربتها الطويلة في النضال من أجل حياة جميلة ، رغم ما في النضال من شدة وشقاء ، وانت فرحة مستبشرة بنجاحك بإخبار جميع الفتيات بالأمر، تأتيك أخت سكينة :
- أين سكينة ؟
- لا أدري.
- كيف لا تعلمين ؟ وأنا رأيتُك تتحدثين اليها قبل قليل ، وتسير هي الى الوجهة التي طلبت منها التوجه اليها..
- لا علم لي بما تقولين..
- أريدُ أختي منك ، الآن أرجعيها لي ، أين ذهبتْ؟ ، لابد انّك تعلمين..
تقنعين اخت المناضلة ان سكينة سوف تعود الى منزلها قريبا ، وترجعين الى منزلك ، تجدين امرأة أنيقة جميلة ،ليست كالنساء اللاتي اعتدت على رؤيتهن في هذه المدينة الصغيرة ، تسمعين أباك يسألها :
- هل وجدتِ صعوبة في الوصول الى هذه المدينة ؟
- لا ، سيارة أجرة أقلتنا من العاصمة الى هنا ، ولكني عانيتُ بعض الصعوبة في السوق.
- نعم ، أخبرني الأصدقاء: ان امرأة دخلت السوق تسأل عني ، هذه المدينة لا تعرف نساؤها الأسواق ، من المحظور عليهن الدخول الى هناك ، الرجال يقومون بالتسوق وشراء ما تطلبه النساء!
يفرحك الحديثُ بين أبيك والزائرة الجميلة ، رغم ان أغلبه ليس مفهوما بالنسبة لك ، تدخلين غرفة الضيوف مع والدك ، وتجدين زوج السيدة هناك ، يرحب بك فتسعدين للترحيب ، أنت صغيرة جدا ولم تعتادي على الترحيب كما يفعل الكبار..
- في أي صف انت عمو ؟
- لم يسجلني أبي في المدرسة
- لماذا ؟ التعليم من حق الجميع
يقترح أبوك انْ تعتمدي على نفسك ،وان تذهبي الى المدرسة لطلب التسجيل هناك ، تجري لك المديرة عملية اختبار لمعرفة مدى استيعابك للدروس وفي أي صف يمكنُها انْ تسجلك:
- ستكونين في الصف الثاني!



(43)
أفرحني كثيرا حين علمتُ ان الرفاق في بغداد ،يريدون ان يطلعوا على اخبار التنظيم الذي شكلناه في مدينتنا الصغيرة ، وانهم سوف يرسلون الرفيق جمال وزوجته الرفيقة نرجس ،لمعرفة أحوال المدينة الصغيرة ، وكيف تسير أمور التنظيم الوليد، وما هي حاجة أعضائه من المعونات والاهتمام ، رحبتُ بالخبر ، فقد كان الأصدقاء يأتون من الكوت فقط ، اما الآن فان الزائرين سوف يتمكنان من اخبار المركز عن أمورنا الصعبة وعن حالة التأخر، التي ترزح بها مدينتنا البعيدة عن العلم والمعرفة ، والغارقة في سبات الجهل والظلام ، ورغم طيبة أهل المدينة الا انهم ما زالوا راغبين بالبقاء ،على الأحوال القديمة وعدم الترحيب بالتغيير نحو الأفضل ، طلبتُ من بسمة انْ تخبر عضوات التنظيم بأمر الاشراف ، وان اتولى انا القيام بإخبار الأعضاء ، فقامت بالمهمة أحسن قيام وأسعدتني بذكائها واستطاعت أن تتخلص عن بعض المضايقات التي قامت بها قريبات العضوات ، وعن سؤالهن السقيم أين يمكن ان تذهب الشقيقات ؟ وحين التمّ الشملُ في منزلنا الجميل ، رحبتُ بالزائرين الكريمين اللذين كنتُ أسمعُ بأخبار أعمالهما المثيرة للإعجاب بين الشباب، والجيل الناهض المتطلع الى التغيير نحو الافضل ..
لكني سمعتُ من بعض الأصدقاء استغرابهم من دخول الزائرة الكريمة الى سوق المدينة ، وضحتُ لهم انّ نساء مدينتنا محرومات حتى من دخول السوق ،اسوة بنساء الأرض جميعهن ، واننا نسعى الى تغيير هذا الوضع نحو الأجمل ، وان من حق النساء ان يتمتعن ببعض الحقوق..
كانت بسمة تبدي جهلها ببعض العبارات اتي نستعملها في الحديث ، وحين نحاول شرح الكلمة الغامضة وتوضيحها يبدو على ابنتي السعادة والسرور..
حين طرح الرفيق جمال بعض الأسئلة على بسمة عن المعاملة الحسنة بين الناس وكيفية التصرف في بعض الأمور ، أجابت بذكاء فنالت الاستحسان ، الذي أجدها محرومة منه في مدينتنا الصغيرة..
حين سألها الرفيق عن الصف المدرسي الذي وصلت اليه ، شعرت بالخجل لأني لم أدخل ابنتي بعدُ الى المدرسة ، وانني حاولت ارضاء الناس هنا ، فنصحتُها ان تفعل وان تسجل في الصف الثاني، او الثالث فتتلافى التأخير ، وحدث لنا ما رغبنا به ، فقد اجري لها امتحان لمعرفة مدى احسانها القراءة والكتابة ، ووافقتْ مديرةُ المدرسة ان تكون في الصف الثاني ، وحين جاءتني بسمة تبشرني بالخبر ، اشترطت بعض الشروط ، وافقت عليها كلها:
- ستكونين في المدرسة ، ولكن بشرط ان تكوني الأولى دائما على صفك ، والا أسمع من أحد شكوى ضدك تدل على سوء في الخلق او خشونة في المعاملة ، او تكاسل في أداء الواجب ..



(44)

تقفين قرب الجدار ، البنات كلهن يتحركن ، وأنتِ وحدك يغلبُك الحياء ، من أي شيء تستحين ؟ ولماذا يجعلك الحياء خرساء لا تحسن الكلام ، درجاتك عالية والمعلمات يحببنك فانت هادئة ومجتهدة ولا تثيرين الصخب او تعتدين على احدى زميلاتك ، تقول معلمتك :
- ورقة بسمة لا خطأ بها ، انظرن اليها وتعلمن منها ، ورقة الامتحان لديها نظيفة ومرتبة ، والاملاء كله صحيح لم ترتكب خطأ واحدا ..
يستبدُ بك الحياءُ فلا تقدرين على الكلام ..
تقف التلميذاتُ بصفوف لتحية العلم ، تقول مديرة ُالمدرسة :
- نحيي اليوم علمنا المفدى ، الذي هو رمز استقلالنا ومن ترفعه تلميذة ذكية ومجتهدة ومؤدبة لم أجد مثلها طيلةَ عملي كمديرة مدرسة وحتى حين كنتُ معلمة، انها احدى طالبات الصف الثاني في مدرستنا، تعالي حبيبتي بسمة..
لا أحدَ يتحركُ ، وأنتِ واقفة في مكانك ، لم تدركي انهم يقصدونك .. تأتي مرشدةُ الصف اليك وتصحبُك معها الى حيث انتصبَ العلمُ ، وتساعدك في رفعه ، يتعالى التصفيقُ..
تعودين الى مكانك ، تتعزز منزلتك بين زميلاتك التلميذات ، وتظلين هادئة أكثر مما ينبغي ، تجعلك مرشدةُ الصف مراقبة لضبط النظام ، فتقومين بعمل المراقبة خير قيام ، ويبقى هدؤوك لا يتغير ، تحرزين أعلى الدرجات ، وتتلقين كلمات الثناء من ادارة المدرسة والمعلمات .
في آخر العام تكون درجاتك هي الأعلى ..
تقول المديرةُ :
- ان بسمة استطاعت ان تكون الأولى على صفها هنيئا لها بهذا الاجتهاد وهذا التفوق !
تسلمك المديرة شهادة التفوق ، تعودين الى بيتك ، يفرح أبوك حين يطلع على درجاتك ، كل الدروس عشرة من عشرة..
يصحبُك أبوك في سفرته الى الكوت ، يقول لك :
- ماذا تحبين ان أشتري لك مكافأة على التفوق ؟
- بقلاوة!
كيلو بقلاوة لك وحدك، هل نسيت انك عندما كنت صغيرة أجلب لك كل ليلة قطعة من البقلاوة ؟
- نعم أتذكر ، وتنتظرني حتى انتهي من أكلها ،فتصحبني لأغسل فمي وافرّش أسناني ثم أنام وأنت تغطيني..
- وأمك أغلب الأيام تقوم بمرافقتك للنوم وتغطيتك حين يغلبك النعاس..



(45)

أفرحك التسجيل في المدرسة ، الاستيقاظ في الصباح الباكر ، عمل الفطور ، والتوجه الى المدرسة بحب كبير ، تعرفت الى صديقات كثيرات ، وجدت صعوبة أول الأمر في التعرف اليهن ، يتحدثن ويجرين ويلفظن الكلمات بسرعة ، وأنت قد علمك أهلك انه مهما كان الانسان حرا داخل منزله ، فانه جدير ان يكون موقرا محترما خارج هذا المنزل ، وان يتمتع بالاحترام وألا يتحرك كثيرا ، وان يكون كل شيء محسوبا حسابا صائبا ، لئلا توجه اليه سهام النقد ، وهذه النصائح جعلتك تبقين قرب الجدار في الفرص ،والبنات يجرين هنا وهناك وأنت تخشين من النقد أو تبدين خفيفة ،تخلو من اللياقة و حسن التصرف
أبديت ذكاء كبيرا في الدروس واستمتعت برضا المعلمات وتقديرهن ، الا ان الفتاة المتحركة في المنزل المبتسمة فيه ، كانت قليلة الحركة ، لا تبتسم الا نادرا ولا تتحدث الا قليلا ، فابتعد ت عنها الرفيقات في بادئ الامر
تجتمع الطالبات كل اسبوع لتحية العلم ، ينشدن نشيدا حماسيا يدعو الى حب الوطن ، والى ضرورة التعلم والاجتهاد لرفعة الوطن العزيز ، وأنت تصغين بكل جوارحك الى الكلمات المتدفقة من فم المديرة وهي تحث الطالبات على ضرورة الاستماع الى نصائح الكبار والمدرسات والاجتهاد للحصول على الدرجات العالية في الامتحان ، قالت المديرة
- ترفع العلم هذا الاسبوع طالبة كاملة بمعنى الكلمة ، مجتهدة هادئة مؤدبة ، سبق لها ان رفعت العلم ..
تتكرر الحادثة ، فتعرفين من هي التلميذة المقصودة..
ينظر اليك الجميع مرحبين حاثين ، تسيرين ببطء وقد فارقك حياؤك المعهود..
تكبر بك الفرحةُ كل يوم ـوأنت تستيقظين مغردة في كل صباح ، تتمتعين بغناء العصافير في أعماق السماء المبتهجة بمقدم يوم جميل ، يُدقُ جرسُ الباب ، وتهرعين الى فتحه..
- صباح الخير..
تجدين بائع الحليب ، يعطيك لترا من الحليب ، اتفق أبوك معه على جلبه لبيتكم كل صباح ، تستنشقين رائحة زكية ، تنظرين الى يد البائع ، ترين ورودا حمراء اللون باسمة ، تنظر اليك بسرور ، داعية اياك الى الشم والتقبيل !
- من اين لك كل هذا الورد ؟
- انا بستاني ، أعتني بالأرض وأرعاها ،كي تنتج لنا أطيب الخيرات
- هل يمكنك ان تأتيني ببعض الورد غدا؟
- نعم بكل سرور ، سأجلب لك باقة..
تكبر الفرحة في قلبك الصغير ، تنتظرين الغد ، ليحمل اليك ورودا زاهية الألوان جميلة ، عطرها عابق بالعبير ، تذهبين الى المدرسة وأنت أقوى مما كنتِ في الأيام السا بقة ،وأكثر ثقة بانك سوف تحققين النجاح الكبير، كي تدخلي الفرحة الى قلب أبيك الذي تحبينه كثيرا وقد وعدته أنك ستكونين الأولى على صفك دائما ...



(46)
ما ان خطت بسمة باب مدرسة البنات الوحيدة في مدينتنا ، حتى وجدت انها تتغير نحو الأفضل ، كل يوم ألاحظُ عليها تحسنا في التصرفات ، وثقة أكبر بنفسها وقدراتها على اجتياز الصعوبات ، وتحدثني المعلمات ان ابنتي حازت على رضا الجميع ،لهدوئها واجتهادها وحسن خلقها ، لكن الذي كان يثير حيرتي انّها دائمة الصمت ، لا تتحدث الا قليلا عن نفسها ولا تروي لنا عما يجري لها من أمور في المدرسة ،وكيف انها تنال استحسان جميع المدرسات والمديرة ،بمثابرتها وشدة ذكائها،
قللتْ من اهتمامهما بأشغال المنزل ، ولمْ أبالِ بذلك ، لأن المدرسة أهم كثيرا من الأشغال المنزلية ، التي يمكن ان تتعلمها في المستقبل ، ولا أجدها كثيرة الدرس لأن انتباهها الى المعلمات وهن يشرحن الدروس كان كافيا لفهم تلك الدروس ، ولمْ تتغيرْ طريقتها البسيطة في ارتداء الملابس، وكنتُ احبُّ ان تظل مهتمة بالدروس ولا يشغلها شيء آخر ، فالاهتمامُ بالمظهر كما تفعل الفتيات عادة يأتي في وقته ، ولكن الذي أثار حيرتي أنها أبدت حبا كبيرا للمناظر الطبيعية الجميلة والعطور والورود الزاهية..
حين ذهبتْ الى المدرسة صباح أحد الايام ، دُق البابُ فذهبتُ أنا لاستطلاع مَنْ يكونُ القادمُ ، وجدتُ بائعَ الحليب ، بعد أن أعطاني القنينة التي تمّ الاتفاقُ عليها ، رأيتُ في يده باقة جميلة من الورود الحمراء والبيضاء، مصففة بطريقة تثيرُ الاعجابَ ، ونظرتُ اليه مندهشا أن يكونَ البائعُ المسكينُ مهتما بأمور الورد والرياحين ، لاحظتُ سؤالا يجهدُ بائعُ الحليب لإثارته :
- ما بك يا بني ؟
- اين بسمة ؟
- ذهبتْ الى المدرسة
- ..........
- لماذا تسأل ؟
- لقد أتيتُ لها بباقة من الورد..
أحاولُ ان أضبطَ نفسي :
- لماذا جلبتَ لها الورد؟
- هي أرادت!
- هاتها ، سوف أوصلُ الوردَ لها ، لا تجلبْه لها مرة اخرى ، آه ..نسيت أريدُ أن أعلمك الا تأتي مبكرا في الصباح ، وقت اليوم مناسبٌ جدا..
مضى بائعُ الحليب الى عمله بتوزيع قناني الحليب على المشترين ، وبقيتُ أنا متسائلا : هل كبرتْ بسمة بهذه الفترة القصيرة ، وأصبحتْ تهتمُ بالورد ، وماذا يعني اهتمامُها ذاك ، هل هو نضجٌ قبل الأوان ، وكيف تجرّأ بائعُ الحليب على ان يأتي لها بباقة ورد كبيرة وزاهية الألوان ؟ وهو يعرفُ تماما انها ابنتي وانا لا أسمحُ لأحد ان يفعل شيئا يلهيها و لاسيما الورود ، فأنا أعرف وأكثر من الجميع ما لغة الورود؟ وما ذا يعني أن يهدي بائعُ الحليب المراهق باقة ورد لفتاة ما زالت طفلة!


(47)ُ
قالت لك المعلمة :
- سأغادرُ قاعة الدرس بعضَ الوقت ، قفي مراقبة على التلاميذ ، وسجلي اسم من يثير الشغب..
تحلو لك المهمة الجديدة ، تقلدين حركات معلمة اللغة الانجليزية تحركين وجهك يمينا ويسارا ، وترجّفين يديك الاثنتين ، يتعالى الضحك بين تلاميذ الصف حيث تكونين ، تعود المعلمة فجأة:
- ماذا تفعلين ؟ كيف تتجرئين ؟
تعاقبُك المعلمة بضربة من المسطرة على كفّك الصغيرة
تخبر احدى زميلاتك أختك بالأمر ، تسارع أختك الى استغلال عقوبتك لا خبار أبيك الذي لم يقم بمعاقبتك الا نادرا ، يسألك ابوك :
- ماذا فعلت كي تعاقبك المعلمة ؟ هل قصّرت بواجبك ؟
- كلا..
- هل أسأتِ الأدب ؟
- كلا..
- لماذا اذن كان العقابُ ؟
- طلبت مني المعلمة ان أكون مراقبة في غيابها ، وحين عادت ، سألتني :
- من جعلك تراقبين تلاميذ الصف ؟ ثم عاقبتني ..
- هل صحيح ما تقولين ؟ الكذبُ سيء يا ابنتي
- نعم أنا اكذبُ ، لقد قمتُ بتقليد حركات معلمة الانكليزية فقامت المعلمة بمعاقبتي ..
- المعلمة مثل الأم لا يصح ان تقلديها لإثارة ضحك زملائك عليها ، وان كان التمثيل من الفنون الجميلة الذي يقبل عليه الناس لجماله والمتعة التي يجدونها فيه ، ولكن هل كان بإمكانك ان تخبري المعلمة بالحقيقة ؟ حتما انها كانت تعاقبك !
- هل الكذب جيد ؟
- ليس دائما ، احيانا ينجينا من المتاعب ، فنلجأ اليه للتخلص من العقبات التي تعترض طريقنا ، ولكني لا أحبه ، فلا تكذبي علي ابدا
- هل أخبرُكَ بكل شيء ؟
- نعم ..
- أحد زملائي في الصف قبّلني هذا اليوم !
- كيف ؟ كيف سمحتِ له ؟ يجب الا تسمحي ، صحيح أنّك صغيرة ، ولكن لا يصح أن يقبلك أحد ،عمرك تسع سنوات يجب ان تكوني جادة ولا تجعلي أحدا يقبلك او يسمعك كلاما غير لائق
- وما معنى الكلام غير اللائق ؟
- كيف أشرحُ لك معناه ؟ ماذا قال لك حين قبّلك ؟
- انه في صفي وجاء الي مسرعا وقبلني ثم اسرع بالخروج من الصف ، ماذا سيحدثُ ؟
- لا شيء ، فقط انه سيقول انك لستِ مؤدبة ..
- ولكنني مؤدبة ، الجميع يقولون انني مهذبة ومؤدبة !
- لا تسمحي لأحد ان يقبلك .
- هل هذه القبلة تجعلني حاملا ؟
- أنت تثيرين الضحك يا ابنتي ، كيف أشرحُ لك ؟ القبلة لا تؤدي الى انْ تكون البنت الصغيرة بعمرك حبلى ..
- ولكن لماذا تكون القبلة ممنوعة ما دامت لا تسيء الى البنت ؟
- لأنه لا يصح ان يقبل البنتَ أحد غريب ..
- ولكنّ أحدا لم يقبلني !
- حين كنت صغيرة كنتُ اقومُ بتقبيلك ، الآن أنت كبيرة ، عمرُك تسع سنوات
- ولكني أرى صديقاتي يقبلهن آباؤهن وأمهاتهن !
- نحن أسرة محافظة يا ابنتي !
- ما معنى محافظة ؟
- انها تفكر جيدا قبل الاقدام على عمل معين ..
- وهل القبلة عمل ؟ ولماذا أنتم تقبلون أخي ؟ ألا تقول انه لا فرق بين الولد والبنت ؟
- انها العادات والتقاليد ، لا نسمح لك بالقبلة حتى لا يستغلك أحد
- كيف يستغلني ؟
- انت تكثرين من الأسئلة هذا اليوم ، حين تكبرين قليلا أشرحُ لك كل ما هو غامض لديك..


(48)
قالت قريبتك :
- أبوك لم يكن بمثل حنان اليوم ، كانت يداه تسارعان الى ضرب من لا يسمعُ الكلام ، ومن الخير له ولك انْ يعاقبك انْ بدر منك ما يسيء
- ولكني لم أفعلْ شيئا يستوجب العقاب!
- ألا تعاندين ؟ وترفضين انْ تقومي بعمل ما نطلبُ منك؟ البنتُ المؤدبة تسمعُ نصيحة الذين يكبرونها في السن!
- ولكني لمْ أعاندْ ، أنا لا أفعلُ ما لا أحبُ فعله..
- وما هو العناد ؟ أنك تعاندين دائما ، كلامُك أكبرُ منك ، من أين تعلمت هذا ؟ طوالَ العمر ونحنُ نلبي ما يُطلب منا ، لماذا تكونين مخالفة لنا ؟ لقد نشأنا على السمع والطاعة ، الأجدرُ بأبيك ألا يسمحُ لك بمخالفة الكبار ، ما زلتِ صغيرة ، والعمرُ أمامك طويل ، والتجربة تنقصُك..
- أنا غيرُ مقتنعة بما تقولين ! كيف لي أنْ أقوم بما لا يرضيني؟
- انّه أبوك ! كيف تغيّر وأصبح متسامحا معك ؟ عليه انْ يؤدبك فالعالمُ ليس جميلا كما تتصورون ، حين تكبرين سوف ينتقدُك الجميع ، فأنت لا تجاملين أحدا..
- وهل تريدون مني أن اكذب ؟ انا لا أحبُ الكذب!
- انها الحياة تدفعنا أحيانا الى مجاملة من لا نستطيعُ انْ نقول لهم حقيقة أنفسهم ، في صغرك تعاندين ، ماذا تفعلين حين تكبرين ؟
- ربما أصبحُ مجاملة أكثر مما أفعلُ الآن !أبي يوجهني حين أخطئُ، حتى اقتنع بما يقول..
- ما زال الوقتُ مبكرا ليغرس أبوك في نفسك مفاهيمه وأفكاره ، الناسُ كلهم لا يحبون من يقول لهم الصدق او يخبرهم بصفاتهم الحقيقية ، جميعهم يريدون انْ نذكر لهم خصالهم الحميدة وليس السيئات ، اسمعي ما أقولُ لك ، لئلا تصبحي وحيدة حين تكبرين ، انْ كانوا يرأفون بك حين تتوجهين لهم بالنقد ، فهذا ارضاء لعائلتك ولأنك ما زلت صغيرة ، ام احمد غضبت منك حين قلت لها ان ابنتها كسولة ،ولا تحب الدراسة ولهذا أخفقت في الامتحان !
- وهذه الحقيقة.. لست بكاذبة !
- الأنسبُ لك انْ تقولي انّها بذلت جهدها ولم توفق ، و انْ شاء اللهُ تكونُ من الناجحات بتفوق انْ ضاعفت جهودها.
- انْ لمْ تدرسْ بجد لا يمكن ان تجتاز الامتحان بتفوق!
- هل رأيت ؟ رأسك كالصخرة لا يفهم الا ما تريدين أنت ، سوف تقابلين المصاعب حين تكبرين ، اسمعي ما أنصحُك به..


(49)
{قال لك أبوك :
- ما زلتِ صغيرة على العباءة ، اخلعيها وسوف نذهبُ معا الى صديق أحبه كثيرا..
تخلعين عباءتك التي لم تحسني يوما ارتداءها ، وتخرجين مع أبيك ، تشعرين أنك حرة ،لا تقيّد حركاتك العباءةُ التي تجعلك تتصرفين وكأنك عجوز ، ترتدين التنورة التي قالوا انّها تلائمك كثيرا وتلبسين الحذاء ذا الكعب العالي الذي اشتراه لك أبوك وتخرجين معه من المنزل ، طوال الطريق يحدثك أبوك عن الأحلام الجميلة التي سوف ترى النور بفضل نضالات الجماهير وتضحياتها الكبيرة ، يخبرُك أبوك انّه في البلاد البعيدة يكون الإنسانُ محترما والطفولة سعيدة، و لا أحد يرغمُ مخلوقا على فعل أمر لم يشأ انْ يقوم به ، يخبرك أبوك أن هناك أناسا كثيرين يناضلون من أجل تحويل الأحلام الجميلة الى حقائق ،يتنعم بها الانسان فهو أثمن المخلوقات وأعظمها شأنا ، يتحدث أبوك عن الحرية التي يجب انْ يتمتع بها كل انسان ، فان أراد كل أمرئ انْ يعمل شيئا، فله ما أحب وان لم يشأ ،فليس لأحد مهما كان انْ يجبره على القيام بما لا يحب ..
وصلتما الى مكان ،قال لك أبوك :
- انه صديقي المقرب ، وأنا كسبته للجماعة.
ابتسم صديقُ أبيك وقال :
- مرحبا بك يا مناضلة الغد
- أتعرفين صديقي هذا ؟انه أبو كاطع
يتحدثُ ابوك بكلام لم تفهمي كنهه وحين ينتهيان من الحديث تعودان الى المنزل ، أنت سعيدة جدا ، وكأنك كسبت كنوز الأرض وأبوك يشعر بالسعادة ويطيل الحديث عن مدن جميلة لا يشقى الانسانُ فيها، وينالُ كلٌ ما يحب ،ولا يُتخمُ الأغنياءُ في تلك المدن ولا يجوعُ الفقراءُ ، انّما توزعُ خيراتُ الأرض على كل البشر ولكل انسان حاجتُه من الغلات التي تجود بها الأيادي العاملة..
تدخلان المنزل ، تسمعين عمتك تقول :
- يا الله... هل أخرجتَ ابنتك سافرة ؟ ماذا سيقول الناسُ عنا ؟
- لنْ يتقول عنا الناسُ فبسمة ما زالت صغيرة !
- هي كبيرة الآن انظر الى صدرها كيف نهد ؟
- ما زالت بسمة صغيرة ..
- لا تخرجْ معها الا وهي ترتدي العباءة ، أنا لا أكبرها الا ثماني أعوام ،ومنذ صغري أرتدي العباءة ، هل تختلفُ ابنتك عنا كلنا ، لقد تمتعنا باحترام الناس هل تريدنا ان نفقده ؟
يلتفتُ اليك أبوك :
- هل سمعتِ يا ابنتي ؟ كلامُ الناس صعبٌ وعلينا انْ نحترمه ولا نخرج عن العرف والتقاليد ، يمكننا انْ نعمل اي شيء نحبه ، دون انْ نفقد تقدير الجماهير الشعبية واحترامها ، كل ما حدثتك عنه سوف نصلُ اليه بنضالنا ،والناس لن نفقد تقديرهم لنا ، هل فهمت يا بسمة ؟
- انّها تفهمُ جيدا ، انا لم يستشرني أحدُهم حين ألبستموني العباءة ! لماذا تحاول اقناعها ؟
- الانسان ابن البيئة . بسمة ارتدت العباءة أيضا ، ونحن الآن في بغداد.
- وما الفرق ؟ كلها مدن عراقية.
- بسمة ابنتي. وعلي توجيهها
- وأنا أيضا شقيقتُك وحبيبتك !
- زوجُك ابو أحمد حبيبك وأنا أخوك
- فهمت هذا منذ زمن طويل .
- أبو أحمد انسان طيب..
- وكبيرٌ في السن ويكبرني بعشر سنين .
- هو يحبك ويرعاك وأنت قبلت به حين سألناك !
- كنتُ صغيرة ولا أفهم ، كيف يمكنُ لفتاة في عمري آنذاك انْ تعرف نوع الرجل الذي يتقدم لخطبتها ؟
- وكيف تريدين ان تعرفي ؟ انها عاداتنا تسري على كل الناس ..
- وأنا لم أقلْ شيئا خارج نطاق العادات، التي انهمرت على رأسي !
- أراك متذمرة هذا اليوم ؟ هل أغضبك أبو احمد في شيء ؟
- لم يغضبني ولم يفرحني انّه محايد كبير!
- انه صديقي ايضا..
- وليس من اصدقائك هواة السراديب !
- لكل حالة ظروفها!

(50)
تغيير كبير حدث في بلادنا الجميلة ، قال أبوك :
- الثورة التي انتظرناها وناضلنا من أجلها حدثت ..
- ما معنى ثورة ؟
- انها تغيير في الأوضاع الظالمة ومنح العاملين مكتسبات ما قامت به أيديهم من اعمال ،والمساواة بين الناس في التمتع بالحقوق والخيرات التي حبانا الله اياها ، والتقدم في التربية والتعليم والصحة وظروف العمل ..
- .........
- ان اليوم هو عيد كبير ، وأنا سعيد أنّ أوضاع البلاد سوف تتقدمُ الى الأفضل..
وزع أبوك مبالغ من المال عيدية بهذه المناسبة السعيدة ، واشترى الحلوى وصنعت أمُك الشاي ،وجلستم كلكم احتفاء بهذا اليوم الذي شهد تغييرا في طبيعة نظام الحكم، ومن الممكن انْ تتقدم حياة ُالناس في كل الميادين وانْ يصبح العراقُ دولة متطورة ينعمُ شعبُها بالخيرات الكثيرة التي وهبهم الله اياها ..
- هل الناسُ كلهم فرحون بهذا الحدث ؟
- ليس كلهم ، بلْ منْ يتوقُ الى التغيير نحو الجمال ورفاه الانسان ، وجعل الناس متعلمين بالقضاء على الأمية والجهل والفقر والمرض ، لم لا ؟ لماذا لا نكونُ كالأمم المتقدمة الساعية نحو التقدم والازدهار ؟ حدثي اخوتك بما حدث هذا اليوم واجعليهم يفهمون جدوى التغيير وأهمية العمل المثمر من أجل الحياة الجميلة ..
تجدين اخوتك بعد تناول الحلويات وشرب الشاي ،وقد توزعوا ، خرج الأولادُ الصغار مع أصدقائهم وبقيت البنات يتحدثن في أمور أخرى ليست مما يشغل بالك الصغير ، أخذت تلتهمين الكلمات المطبوعة في الكتب والتي بدأ أبوك يزودك بها ، وبدأت أحاديثك تتغيرُ مضامينها ، تظلين دائما صامتة فاذا ما بدأ القومُ يتناولون قضايا السياسة ومتاعبها ،انبريت لهم عارضة عليهم ما قرأته في الكتب العديدة ،التي اطلعت عليها عن قضايا الفكر والسياسة والاجتماع ، يظل بعض الناس صامتين ، ويأخذ بعضهم بمهاجمتك بأسلوب لم تكوني تتوقعينه منهم ، ويمدحك بعضهم وان لمْ تعرفي أبدا ، انّك كنت تطرحين افكارا لا تتناسب مع صغر سنك ، تبقين وحيدة أنت الأولى على صفك ، وحين تناقش احدى القضايا في الصف، وتسأل المعلمةُ الطالبات ولا تجد الجواب عند احداهن ، تلتفتُ اليك قائلة :
- ماذا تقول بسمة ؟ ما رأيك بما ذكرناه من آراء ؟
تطرحين آراءك وتقوم المعلمةُ بتسجيلها على السبورة ،وتطلبُ من التلميذات انْ يقمن بنقلها الى الدفاتر المخصصة في التاريخ او الجغرافية او الوطنية ، وتتناهى الى سمعك آراء التلميذات بك :
- انها الأولى دائما ..
- وتعرف كل شيء !
- معلوماتُها أكثرُ مما تعرف المعلماتُ !
- لابدّ انّ الجنّ ساكنٌ في رأسها !
تطاردُك الغربةُ أينما حللت ، كلماتُك الكبيرةُ والتي هي أكبر من سنك بكثير، تجعلك بعيدة عمن هن في مثل عمرك ، تكتبين المقالات في الدفاع عن القضايا التي لا تتناسب مع عمرك الصغير ، فتسمعين بعض الاتهامات :
- انها صغيرة ، و من غير المعقول ان تكون الكاتبة لهذه المقالات ! لاشكّ انّ أحدا كبيرا يكتب لها ،ويضع اسمها بدلا من اسمه .
يمتحنك الكثيرون :
- طلبتْ منا مدرسةُ اللغة العربية انشاء في موضوع ( الوطن ) هلْ يمكنك انْ تساعديني في كتابته ؟!
وطالبةٌ أخرى تطلبُ منك أنْ تساعديها في الكتابة عن حنان الوالدين ..
تسارعين الى الكتابة في المواضيع المطلوبة ، فتسمعين الحكم ببراءتك من كتابة شخص آخر لك..
يخنقك الشعورُ أنك وحيدة بين جموع التلميذات ، تأتي احدى المعلمات سائلة اياك :
- بسمة صوتك جميل ، هل يمكن ان تأتي معنا لتعلم اللحن ،وحين تعودين الى المدرسة تعلمين التلميذات ؟
- نعم يا ست..
تستمعين الى اللحن وتحفظينه جيدا ، وكنت قد حفظت النشيد سابقا وحين تعودين الى المدرسة ، تقول المعلمةُ :
بناتي التلميذات ،استمعن الآن الى زميلتكن بسمة وهي تعلمكن كيفية انشاد هذا النشيد .
ما أنْ تشاهدي التلميذات ،وأعينهن المفتوحة لمراقبتك حتى يغلبك النسيان ، تنسين النشيد واللحن الذي تعلمته قبل قليل ، تقول لك المعلمة :
- ما هذا ؟ تعلمُ اللحن جزءٌ من الواجب المدرسي ، لا يكفي ان تكوني الأولى في العربية والحساب والعلوم والانكليزي والتاريخ والجغرافية ، وترتبكي في درس النشيد ، ويغلبك النسيان ،هل ستكونين راسبة في النشيد ؟ لا يصحُ انْ تكوني خجولة بهذا الشكل ،الذي يهددُ كل محاولاتك للتعرف الى صديقات . هل تحبين انْ تظلي وحيدة ؟!
شعورُك بالعزلة يزولُ عنك أحيانا ، ويغلبُك أكثر الأوقات ... ولكن التفاؤل بانك قادرة على تحقيق ما تصبو اليه النفس، يظل حافزا كبيرا..


تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با