الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف المسلح

عبد المجيد السخيري

2015 / 3 / 3
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


في مقابل تراجع حضور المثقف الملتزم بالقضايا العامة الذي يصنع الحدث بعمله ونشاطه العمومي والنقدي، يصعد نجم "المثقفين الإعلاميين" الذين يكتسحون باستمرار مساحات واسعة من المشهد العام، ويصنع الجلبة الإعلامية بحضوره المتواصل على بلاتوهات القنوات التلفزيونية، وبالأحرى يسهم بنصيبه في تطوير صناعة التفاهة والتزوير، من خلال ما يجتهد في تقديمه من استشارات، وما يتاح له من فرص تمرير الآراء تحت الطلب في القضايا والأحداث الموضوعة تحت الأضواء. وفي الوقت الذي ينحسر فيه دور المثقف النقدي الذي يحرص على تسليط الضوء على ما يتم حجبه وطمسه في وسائل الإعلام، وإعطاء الكلمة لمن لا كلمة لهم، فإن مثقفي التزوير والتزييف، كما وصفهم ناقد فرنسي، لا يترددون في نشر الأكاذيب والتورط في ممارسة التضليل والتلاعب بعقول الناس، ويحظون بفضل ذلك بتغطية متينة ورعاية فائقة من قبل أسياد العالم، وتفتح لهم كل الأبواب الموصدة في وجه المثقف النزيه والنقدي. وفي الواقع، يُتمم مثقفو التزييف ما يبدأه نجوم التسطيح والتتفيه في برامج الترفيه والمنوعات وتلفزة الواقع ليس أكثر. فنحن نذكر هنا أن المزور الأكبر، برنار هنري ليفي، وهو واحد من أسوء مخلفات ما سمي بالحرب الباردة، صار منذ سنوان نجما تلفزيونيا مطلقا يصول ويجول في بلاتوهات القنوات والفضائيات ويفتي تقريبا في كل شيء، مستعيضا عن ممارسة الفكر والتفلسف الجدي باحتراف الدجل وممارسة الفذلكة الفاضحة.
على أن خطاب نعي المثقف الملتزم بقضايا عادلة، والمنخرط في النضال العام إلى جانب شعوب مضطهدة أو طبقات مستغلة ومستعبدة أو فئات مقصية ومهمشة، انطلاقا من موقعه الرمزي، لم يكن دائما يعكس حقيقة تراجع فاعلية المثقف المذكور، بقدر ما أنه في بعض الأحيان كان دليلا على استمرار الحاجة لمثقف حقيقي يكرس وجوده ويبذل صورته للذوذ عن قضايا عامة، ومستعد على الدوام لدفع الثمن المستحق مقابل الاضطلاع بأدوار يراها جديرة بكل تضحية. مثل هذا المثقف، وإن كان اليوم صوته خافتا وحضوره أقل ألقا وفاعليته العمومية أكثر انحسارا، فإنه مع ذلك لا يزال موضع تقدير أخلاقي من قبل الضمير الجمعي، ومستدعى، بمنطق سير الأشياء وصيرورة التاريخ، ليقوم بمهامه كما تصورها ونوّه بها كبار المثقفين من جباهذة المعرفة وأهل الموقف. إنه المثقف الذي لا يساوم بموقعه مصلحةً مادية عابرة، ولا يبتغي من وراء شهرته مناصب ومنافع صغيرة كانت أو كبيرة، بل هو المثابر بمعرفته والمخاطر بكل ما يملك من أجل الحقيقة، المجاهر بها في وجه السلطة بلا تردد ولا وجل.
الشخصية التي نحتفي بها في هذا العدد الجديد من "نوافذ"، كانت على إلمام كبير برهانات النقاش الذي لا ينفك يعود حول المثقف ودوره السياسي، أو ما يعرف بالتزام المثقف وتسخير المعرفة لخدمة قضايا عامة والدفاع عن قيم إنسانية وكونية، بل إنه كان من أكثرهم إثارة للجدل بسبب هذا الإلمام نفسه، خاصة فيما يتعلق بتعريته للقوانين الخفية التي يعمل تحت طائلها الصحافيون، والأوهام والرهانات التي تأسر المثقفين بشكل عام، واضعا الجميع أمام مسؤولياتهم أمام التاريخ والضمير. وفي هذا الصدد وجه ضربات موجعة للصناعة الثقافية التي تجهد في تكريس عزلة المثقف وتدفعه للاستسلام لآليات العنف الرمزي المتخفية والانخداع بطقوسه المرئية، من خلال أعمال نقدية قوية ومخلخلة للتصورات السائدة والساذجة التي يحرص الإعلام على ترسخيها في أذهان الناس وبتواطئ كُتاب ثرثارين وعديمي الكفاءة يفرضهم بقوة الهيمنة السلسة لوسائل الإعلام والتواصل ووسائطه الطاغية وفائقة التأثير السحري على عقول الناس والآسرة لقلوبهم. وفي المقابل رافع بصوت عال عن ضرورة المثقف المناضل وحثّ على الانخراط الواعي في معركة كشف قوانين الهيمنة والاستبداد الناعم، وتسخير الثقافة لخدمة أهداف تجارية ورهن الصناعة الثقافية لمصالح السوق، ابتداءا من مقاومة الغزو النيوليبرالي والنزعة الميركنتيلية المتسيدة في فضاءات مختلفة من العالم الاجتماعي.
ولا يمكن اليوم لأي مطلع جاد على المتن البورديوي إلا أن يقف احتراما لصانعه الذي لم يدخر جهدا، حتى في اللحظات العصيبة لمرضه، لخلق نمط جديد من إنتاج المعرفة وتداولها في أفق المثقف الجماعي الذي يضع نفسه ومعرفته في خدمة المعنيين بها بشكل مباشر من الناس الحقيقيين؛ وهو الهدف الذي من أجله أيضا أعلن خصامه الأبدي مع النزعة التأملية والانزواء في المكاتب المكيفة، ومع نضال المقاعد الوثيرة، موثرا التجربة المعايشة للفعل الميداني، والمشاركة النقدية والتسلُّح بأدوات المعرفة السوسيولوجية للفهم والتغيير. وقد جسّد بورديو بسلوكه ذاك أخلاق المثقف الملتزم والعضوي المنتصر للمغلوبين والمُسيطر عليهم، دون تردد ولا لبس، وقاوم بشراسة وعناد وصلابة كل محاولات التشويه الصبيانية التي استهدفته من قبل صغار الفكر ومتعالمين لم يبلغوا حتى ربع ما أبدعه وأنتجه من معارف ومفاهيم وتقاليد في البحث العلمي. فكان حقا الصورة الحية لمثقف منحاز ومستقل بقراراته وجريئ بمواقفه، دون أن يقع في وهم التعالي الثقافوي والتعالم المزيف والاستعداء المجاني للتحزُّب.
وإذ نستعيد في "نوافذ" صورة هذا المثقف والعالم العملاق بعد عقد وسنة من رحيله، بتخصيص ملف خاص يضم نصوصا لبورديو وقراءات في أعماله وصورته كمثقف كبير وأيقونة الالتزام المعاصر والتجسيد الخلاق لوحدة المعرفة والنضال، لنفعل ذلك من موقع الوعي بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية والثقافية التي لا شك يستشعرها كل مثقف أو إعلامي أو مفكر أومبدع في هذه الظرفية التاريخية، إزاء الشعوب والطبقات المضطهدة والمسودة، والمهام التي ينتظر أن يتصدى لها المثقف في المرحلة الراهنة بكل الحزم اللازم واليقظة الضرورية والابداع المتوافق مع الحاجات الفعلية للناس في فهم قوانين التطور التاريخي ومنطقه، والتغلب على مثبطات التغيير الثوري وأشباب التشوه الذي يطاله .
فما أحوجنا لتمثُّل صورة مثقف مسلح بالعلم والأخلاق النقدية وروح الالتزام مثلما جسدها ورافع عنها بيير بورديو على امتداد حياته الحافلة بالحياة.
افتتاحية مجلة "نوافذ"(فصلية مغربية)، العدد 57/58،يناير 2014.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق