الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من هذه السيدة...قصة قصيرة

جمال حكمت عبيد

2015 / 3 / 8
الادب والفن



ذات صباح صحو، كنتُ في محطة ضاحية- هوخ فليت - احدى ضواحي مدينة - روتردام الهولندية - انتظر المترو القادم من الضفة الأخرى لنهر الماس، والذاهب الى مركز مدينة – روتردام- .
أنظر صوب السكة الحديدية الممتدة على طول النفق المظلم، المبني تحت النهر؛ ليكون طريقا آمناً لسير المترو.
ها هي العربة الأولى ظهرت من قاع النهر كرأس تنّيّن! تشق بعينيها اللامعتين عتمة النفق، تتلوى خلفها بقية العربات؛ حملت معها الناجين من جيش فرعون! القادمين من الضفة الأخرى للنهر.
توقف المترو، فُتِحت أبوابه، دلفتُ احدى العربات، اخترت الجلوس على مقعد خلف سيدة متوسطة في العمر.
على يساري في صف المقاعد الأخرى لمحتُ رجلاً، مظهره يثير الانتباه! رث الثياب، شاحب الوجه، عيناه زائغتان، أشعث الشعر، يملك عظمتي وجه بارزتين كأنهما قمتي جبل، اِنحدر منهما سفح طويل؛ أعطى لوجهه اِستطالة وتيبس. ايقنت من نظرتي الأولى إليه أنه من الذين يسمونهم في هولندا "داك لوس" أي فاقد المأوى ( متشرّد). استصعَبتُ تحديد سنين عمره؛ لكثرة التضاريس وعوامل التعرية التي رسمتها الأيام في وجهه . أما بدَنه بان كغصن الشجرة في فصل الشتاء، أجرد متيبس؛ بعد أن سرق الخريف أوراقه. يفعل حركات تثير الانتباه! يحيط رأسه بكفيه، يضغطه بقوة، يحنيه بشدة نحو الأسفل ثم يحرره فينتفض رأسه مرتعشاً كرأس قِطّ مبلل! يعود ليشبك كفيه، يعصرهما بشدة، ويشرع برجهما، فيهتز بدنه، حانياً رأسه، مغمضاً عينيه، مطبقاً على شفتيه؛ كأنه في لحظات خشوع ودعاء، بعدها يهدأ. ثم يعود يطبق كفيه على رأسه.
عَبَر المترو محطتين باتجاه محطة روتردام. والرجل مازال بحركاته.
فضولي سحبني إلى مراقبته، ازداد اكثر حينما نهضَت السيدة التي تجلس أمامي تتخطى نحوه.
كانت سيدة جميلة الشكل ، حسنة المظهر، متوسطة العمر، ممشوقة القوام. والظاهر أنها اكثر فضولاً وجرأة مني. وقفَتْ بكل ثقة وشجاعة جنبه ! مسكَتْ يديه واستمالته نحوها، سحبتهما بقوه على جانبيه؛ فتحرر رأسه من قبضة يديه، طوَقَته بذراعيها، وراحت تَلك على ظهره حتى أراح رأسه على بطنها.
لحظات قليلة مضتْ... أخذ الهدوء والدفء يسري في جسمه .. نعم انه هدأ فعلاً !! .
جلستُ مشدوداً لما أراه ، رأيته غافياً ينعم بدفء حُضنها . لم تدم غفوته طويلاً؛ فقد طفق يزحف رأسه كالأفعى نحو صدرها! كأنها الهبت شوقه اليها كطفل في أول ولادته. يبحث بفمه عن صدرها، يشم رائحة امرأه.
هالني ما فعلَته تلك السيدة بالرجل! وربما هال غيري من الركاب. تاقت نفسي الغوص في عُباب أمواج أفكاره وافكاري، أترجم أنفاسه وانفاسي، مشاعره ومشاعري.. هل هي حقيقه أم خيال، أفتح عيني أخاف أن يفسد حلمي. احساس غريب يغمرني، يحسسني بطفولتي وتتغلب عليه رجولتي! شعور فقدته منذ أن أصبحت بهذا الحال . لقد مرّت عليّ سنين الجفاف، حرمَتني من هذا الإحساس الدافئ ..انه الحنان والدفء المفقود. صراع مرير بين العقل والجسد.. أين أنا، من أكون؟؟ رأسي يزحف نحو صدرها رويداً رويداً؛ علْيّ أحصل على المزيد من دفئها! اي احساس سكبته تلك السيدة في نفسي.
أشم رائحة صدرها! أتساءل في سري هل بلغتُ نهديها ؟؟
لا أدري ! .
رائحتها تملأ انفي وفمي، رأسي يتسلق، انفي وفمي يتسابقان نحو نهديها، رأسي يصطدم بهما، يرفعهما نحو الأعلى، حرارتي ترتفع، يداي تطوقان خصرها ..يا الهي ما هذه القوه الخفية التي مَنَحْتَني ايّاها! فمي وأنفي، صارا يسبقان رأسي.. اني أصل، لم تبق إلا مسافة قليلة وألثم نهديها. لا أعرف عمّا جرى لي.
فجأة... تراجعت السيدة إلى الخلف، سحَبتْ يديها بهدوء وانقطع الاتصال عنه وعني ؛ كأنها قالت: يكفيك ما حصلته مني..
رفع الرجل رأسه إلى الأعلى؛ ليرى الملاك الذي أحاطه. رآها سيدة جميلة! احاطته بنظرات عينيها الزرقاويتين الساكنتين تحت جفنيها الناعسين؛ فتسمر في مكانه.. اِبتسمتْ اِليه! وانسحبتْ بهدوء عنه.
انتبَهْتُ بعد شرود ذهني، رأيت المترو وصل إلى نهاية مساره، عبر كل المحطات دون أن أدري! .
نزلت السيدة من المترو مع جموع الركاب النازلين منه، ارتأيت الانتظار، أمعن النظر فيها، كأنها الملاك بعينه!
ارقَبها كما يرقَبها ذلك الرجل مثلي..
سارَت على الرصيف حتى توارت بين الناس دون أن تلتفت إلى ...........؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة