الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من العمق: استخلاص بحثي لقراءة مغايرة في الطراز الروائي: الحلم والحوافز في رواية الواحد ل طلال قاسم

فكري آل هير
كاتب وباحث من اليمن

(Fekri Al Heer)

2015 / 3 / 24
الادب والفن


تقديم
البحث عن مدخل مناسب لقراءة رواية الواحد– كانت بالنسبة لي مهمة صعبة- لاسيما وأني عاصرت عملية تخلق هذا العمل الروائي الجديد كماً وكيفاً وأسلوباً ونموذجاً على الساحة اليمنية، وعايشت يوميات كتابته عن قرب شديد.
الأمر هنا لا يتعلق بخصوصية رواية الواحد، وإنما بالتقنيات التي استخدمها الكاتب فيها.. طبعاً، وبعد جهد طويل، استقرت قناعتي أن أقدم لهذا العمل الأدبي والفني من زاوية موضوعية جديدة، تتسم بقدر من التركيب العميق، كونها تقف على تلاحم أمرين رئيسين هما: الموضوعة الحلمية والحوافز- لا أعتقد أن هناك قراءة نقدية سابقة قد عنت بشيء من هذا القبيل.. إذ أعتقد أن ريادية رواية الواحد، تتطلب أيضاً قراءة ريادية تليق بها، وبالمجهود الضخم الذي بذله طلال قاسم، ليطل علينا برائعته الأولى هذه..
ومما يميز هذه القراءة أيضاً، أنها سارت بمنأى عن الطرح المؤدلج، وتحررت بقدر كبير من التنظيرات النقدية المستخدمة في هذا النوع من الكتابات، ثم أنها قراءة تتجه الى أن تكون نتاج قرائية القارئ العادي.. لا قراءة الناقد الحصيف، فقد كان من الأفضل أن أترك مسألة النقد هذه لأصحابها، فضلاً عن كوني عمدت الى أن تتخذ طابعاً بحثياً ومنهجياً لإثراء وتدعيم رؤيتي فيها.
*** *** ***
الحلم والحوافز
في رواية الواحد لــ طلال قاسم

استقرت فكرتي في الكتابة عن رواية الواحد، على مسألة هامة في الطراز الروائي، وهي مسألة الحوافز، أي الحوافز التي أعانت الكاتب على الاستمرار في الكتابة والتوقف في اللحظة المناسبة، والتي تعين القارئ أيضاً على القراءة والاستمرار فيها حتى النهاية، فالمتن الحكائي أو الحكاية (fable) في رواية (الواحد) تبدأ من إشكالية استيقاظ (ابراهيم) ليجد نفسه شخصاً آخر في مكان (بلد) آخر، ويتحدث ويفهم لغة أخرى، في وسط عائلي يسلم بأنه ليس إلا (جاك)، وهنا وعلى نحو قد يبدو مسرعاً يتم إخبارنا بالمادة الأولية للحكاية. ولكن ليس علينا أن ننتظر – بل تدعونا هذه التقديمة المثيرة الى أن نسارع نحن أيضاً، في الدخول الى عالم الرواية والحبكة (sujet) التي تتألف من نفس الأحداث، بيد أنها تراعي نظام ظهورها في العمل، كما تراعي ما يتبعها من معلومات تحددها لنا( ).
والحكاية كنظام تعاقب زمني في رواية الواحد، لا تبدو ذات نمط تقليدي، بقدر ما تنطوي على أبعاد زمانية ومكانية مغلفة بطابع وجودي/ نفسي (انطولوجي/ سيكولوجي)، يتعامل مع منطق الخط الزمني، باتساع رحب يمكن من طرح القضية الوجودية الكبرى في تاريخ البشر بشكل سلس ومتدرج، دون أن يعلم القارئ بأنه يعود زمنياً الى نقطة موغلة في القدم، تتعلق باللحظة التي قررت فيها البشرية أن تكون حياتها هنا على الأرض، مهما كانت التحديات.
وبين حدين لثنائية الحلم والاستيقاظ.. يبدو الحدث الحلمي مسرحا لبطولات أسطورية، ومحركاً – محفزاً - للبحث أكثر في جدول الأحداث وهي تتابع على نحو متكاثف، استطاع الكاتب وببراعة فائقة أن يخلق معه شخصيات بطولية، تستعرض بطولاتها على التوازي دون أن يشعر القارئ بقلق أو انقطاع في سلسلة الأحداث. فالبطولة المطلقة هنا غير موجودة، وإنما تتآزر الشخصيات الرئيسية (جاك، سام، ويليامز) في صنع الأحداث بتناغم يحسب للكاتب قدرته في تأليف نهجه الوقائعي بتقنيات مألوفة – ربما- ولكن بأسلوب أظهر قدر عال من التفرد والخصوصية التي تحتسب للكاتب، وتتضح في مغايرته التامة للمألوف كأدوات على أساس نمط الاستخدام وطريقة التوظيف،.. ولأني - وفي الحقيقة - لا أنظر الى هذا من جانب أدبي، بقدر ما اعتبرته براعة تقنية توظيف عقلي بالغ الروعة، تتناغم فيه المكونات الموضوعية والمعرفية مع المكون الحكائي (الحبكة) على نحو بديع.
مادة الحلم، مثلت الى حد كبير الخامة الحكائية التي مارس الكاتب من خلالها ما يعرف بالتحفيز التأليفي (Compositionnelle)، إذ اهتم بكل إشارة سواء أكانت إيحائية تمثل الإشارات التي تترك للقارئ مجالا للاستنتاج كوصف حركية أو لحظة مشحونة، أو كانت بيانية تزود القارئ بالبيانات بطريقة مباشرة ، وتساعد على تجلية القصة زمانيا ومكانيا.
كان توماشفسكي قد عبر عن هذا النوع من التحفيز بقوله: "إن كل حافز أو إشارة في القصة لا ينبغي أن ترد بشكل اعتباطي، ولابد أن يكون لها وظيفة أو علاقة بما يأتي في القصة"( ). فالحلم والبحث عن شخصية الحالم (الواحد) هو الحافز المستقل الذي يصف الأشياء الموضوعة في المجال البصري للقارئ، أو ما يطلق عليه وصف المؤثثات( ). ومن الواضح أنه حافز منسجم وديناميكي مع المتن الحكائي ليحدث ما يمكن تسميته بالتناظر السيكولوجي أو (الطبيعة المنسجمة)، في نفس الوقت الذي ينطوي فيه المتن الحكائي على النقيض حيث تأتي الطبيعة غير المنسجمة أو غير المبالية التي تحمل دلالة الشيء ونقيضه في الوقت نفسه( ). ولو أن الأخيرة تظهر في رواية الواحد من خلال استخدام بعض المفردات والتراكيب المغايرة التي تعطي صور معقدة تستعصي على القارئ المتعجل في القراءة، وتستوقف القارئ المتأني.
ومرة أخرى، نجد أن طلال قاسم استخدم تنويعة كاملة من الحوافز، فالتحفيز الواقعي (Realist) أيضاً موجود في روايته، حيث انطوت على التحفيز الذي "يتعلق بضرورة توفر العمل الحكائي على درجة معقولة من الإيهام بأن الحدث محتمل الوقوع"( ) ؛ أو ما يطلق عليه (الوهم الواقعي)( ). وليس ذلك إلا من خلال فكرة (الحلم) نفسه، التي تصبح بمثابة نسيج الرواية، مع التنويه الى أن مصطلح (الواقعي) لا يراد به المعنى الحرفي للمصطلح فقد تكون دلالته على أشياء متخيلة، ولكنها توهم بما هو واقعي كحدث الاستيقاظ لــ (ابراهيم/ جاك)، والامتداد الوجودي (الخلود) الذي نكتشفه لاحقاً لشخصية (ويليامز)، والأخيرة بالذات مما يمكن اعتباره من الأبنية الأسطورية، والتشكيلات الخرافية التي تظهر في وسط اجتماعي وثقافي يميل أو لا يميل إلى القبول بها أو التسليم بإمكانيتها فضلاً عن التأويل الواقعي لها ( ). كما نلحظ ذلك في مسار شخصية الدكتور (كارتر)- والذي قد لا ينتبه القارئ الى نمط حياته الفرداني فهو بلا عائلة وبلا أي التزامات اجتماعية تقليدية، مما جعله خارج دائرة التهديد الذي كان من الممكن أن تمارسه المنظمة السرية عليه، وهي تفصيلة مهمة جداً، لاسيما وأنها لم ترد في الرواية بشكل مباشر، وإنما يتوصل إليها القارئ بالملاحظة والاستنتاج العفوي أو المتوقع.
قد تبدو هذه التفصيلات (الحوافز) الفرعية التي تتماهى مع طبيعة الشخصيات الغرائبية والغير تقليدية (ابراهيم/ جاك، سام: ويليامز) وأيضاً (كارتر)، غير مهمة.. لكنها في الحقيقة مما لم يكن ممكناً أن تتجافى عنها الحبكة الروائية، من وجهة نظر الكاتب الذي يبدو وكأنه تعمد أن يكون قارئه حصيفاً، ويتمتع بقدر عال من الكياسة وحصافة التفكير.
الحوافز الجمالية هي الأخرى، لم تغب عن رواية الواحد، وأقصد بالتحفيز الجمالي هنا: ذلك التحفيز الذي "ينتج عن تراض بين الوهم الواقعي ومتطلبات البناء الجمالي، فكل ما يقتبس من الواقع قد لا يتلاءم مع العمل الأدبي"( )؛ بمعنى أن جميع الحوافز التي تجعل الحدث في نطاق المحتمل ينبغي أن تراعي في الوقت نفسه مقتضيات البناء الجمالي في الحكي، وينبغي عدم إقحام أشياء واقعية في البناء الفني، وإنما تدخل الأشياء في علاقة تناغم تام مع مجموع العناصر الأخرى( )- كما قد يعتمد التحفيز الجمالي عل نسق الإفراد من خلال إدراج مادة غير مألوفة في النص تضفي أبعادا دلالية وإيحائية( )، مما يمنح القصة خصوصية تميزها عن غيرها.
ولعلي أرى بأن التحفيزات الجمالية التي اعتنى بها طلال قاسم في روايته الواحد، تجلت على أكثر من مستوى، وإن كان قد اعتمد كثيراً وكثيراً جداً على الحبكة في التحفيز القرائي على أسس جمالية، وبغض النظر عن تركيزه المشبع ذاك على الحبكة، والذي لم يجره الى إجتراح الرواية بقالب تقليدي أو مألوف، نجده يعتمد آلية التصوير في التعبير عن حدث بعينه أو شيء ما جوهري في حدث ما من أحداث الرواية، باستخدامه لتعبيرات مغايرة وغير بليدة أبداً مثل تعبير (العضو الوجودي)، حيث نجد توصيفاً اصطلاحياً (مبتكراً) للكاتب ينأى بالحدث الجنسي المتوقع في لحظة ما عن أي إيحاء مباشر له، ليبقى الحدث متلائماً مع السياق المعرفي (الأبستمولوجي) للرواية، وهي تتعامل مع الحقيقة الوجودية بتأمل عميق، ومثير للكثير من التساؤلات التي تطفو على سطح ذهنية القارئ وهو يحاول أثناء وبعد القراءة أن يسبر غور الفكرة، للوصول الى مغزى الكاتب.. وهو ما يمكن القول بأنه غير متاح في هذه الرواية.
أما على مستوى الشخصية، وبحسب ما رأى توماشفسكي فيها كائنا غير حقيقي، وإن ما يظهر لنا ما هو إلا قناع Persona) )، الذي يتمظهر كحالة سيكولوجية تشكل وجهة نظر شعورية يكمن وراءها الإنسان، الذي يحدد بميوله النفسية واستعداداته البنائية ومزاياه الخلقية، وظهر عنده البطل بصورته (السلبية والإيجابية) وفق المهمة التي ينجزها في العمل القصصي( ) إلا أنه لا يرى في ظهور (البطل) أمرا ضروريا لصياغة المتن الحكائي، فهذا المتن باعتباره نظام حوافز يمكن أن يستغني كليا عن البطل وعن خصائصه المميزة (لأن) "البطل يترتب عن طريق تحويل المادة إلى مبنى، ويشكل من جهة وسيلة للوصول فيما بين الحوافز، ومن جهة أخرى تحفيزا مشخصا لتلك الصلة" ( ).
وفي رواية الواحد، تبدو معالجة مسألة البطولة والشخصية البطلة، ذات تشكيل متعدد ومتوازي، كما أسلفت آنفاً بشأن تآزر الشخصيات الثلاث (ابراهيم/ جاك، سام، ويليامز)، في صنع الأحداث على نحو كان محفزاً للغاية للاستمرار في الحكي والوصول بالقارئ الى ما يمكن اعتباره لا نقطة النهاية بل نقطة البداية. ثم أن التهويم الثنائي في شخصية (ابراهيم/ جاك)، على طول الرواية، كان بارعاً جاداً حتى أن القارئ لا يشعر بأي مشكلة من كون ابراهيم هو جاك، أو يشعر بالانقطاع في تسلسل الأحداث، أو في تباعد المسافة النفسية بينه وبين هذه الشخصية في أي لحظة من لحظات الزمن في الرواية.

تخبرنا حبكة الرواية وعلى نحو غير مبالغ بالحذر، بأن حدث الاستيقاظ خلق مشكلة: سؤال الوجود، وأن الوجود الحقيقي – كما نعتقد – ليس إلا كينونة قائمة في حلم ما يحلم به شخص واحد، وتستدعي هذه الرؤية مشكلة أخرى أكثر خطورة، وهو سؤال المستقبل: ماذا لو استيقظ هذا الحالم، ماذا عساه يكون مصيرنا؟؟!
في الحقيقة أن البنية الحكائية والمعرفية لرواية الواحد تدعونا بالضرورة الى خوض غمار تجربة (اختبار وإعادة اختبار قناعاتنا) بشأن ما نعتقد بأنها إجابات كافية وشافية لتساؤلات كبرى لازالت موضوع الفكر البشري حتى اليوم: من أين جئنا؟ والى أين نسير؟ وما الغاية من هذا كله؟- وذلك من خلال خطة الكاتب الفائقة التماسك في جذبنا الى هذه المنطقة الحساسة، ودفعنا للتحقق من حقيقة ما يجري معنا ومن حولنا.
هذا البناء والتكوين المعرفي (الأبستمولوجي) لتفاصيل أحداث الرواية، التي مع ذلك تحتفظ بواقعيتها الى أقصى درجة، فلا نجدها تنفصل عن الواقع الفعلي الذي يمكن تقديره والتماسه في دائرة الزمان والمكان المعاصر، إلا في الفصل الأخير منها فقط، والذي أعطى تلميحات قوية تشير الى القصة المعتمدة في الكتب السماوية عن الطريقة التي وجد بها الإنسان على كوكب الأرض، دون إظهار أي تصديق أو تسليم بأي شيء من ذلك، وإنما بدا الأمر وكأن الكاتب قرر أن تكون نهاية قادرة على أن تجد لها توافقاً ما معها في ذهنية القارئ، بشكل قد لا تجد معه مشارب القراء المختلفة أي داعي للتحفظ، وإن كنت أثق بأن هذا أمراً بعيد المنال، إلا إني أحتسب للكاتب القيام بهذه الخطوة واتخاذ قراره بأن تكون النهاية بذلك النحو، فتلك في نظري كانت مجازفة كبيرة، لكنها بالفعل أظهرت ثقة الكاتب بمذهبه وهو ليس إلا مذهب احترام عقلية القارئ.
ختاماً.. وبكلمات مقتضبة وسهلة المنال، أستطيع القول أن رواية الواحد لــ طلال قاسم تمثل بحق إشعار موثق بدخول الرواية اليمنية طور الرواية العالمية الحديثة، كما أنها بحد ذاتها يمكن أن تكون حافزاً ملهماً للعشرات من المبدعين اليمنيين الذين أثق بأنهم قادرين على إذهالنا بأعمال نوعية مماثلة تعطي الرواية اليمنية زخم حضورها وتواجدها على المستويين العربي والعالمي..-
**
الهوامش:
( 1) توماشفسكي، نظرية المنهج الشكلي: ص 180.
( 2) المرجع السابق، 193
( 3) المرجع السابق، 194
( 4) مبروك، آليات المنهج الشكلي، مرجع سابق، 52
( 5) توماشفسكي، مرجع سابق، 197
(6 ) مبروك ، مرجع سابق، 52
( 7) حميد الحمداني، بنية النص السردي، الطبعة الثالثة (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع 2000م)23
( 8) توماشفسكي، مرجع سابق، 200/201
( 9) الحمداني، مرجع سابق، 23
(10 ) مبروك، آليات المنهج الشكلي، مرجع سابق، 53 .
(11 ) توماشفسكي، مرجع سابق، 203/204
(12 ) المرجع السابق،








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا