الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة المسمارية

حامد خيري الحيدر

2015 / 3 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لم يكن ابتكار السومريون لأقدم أسلوب للتدوين في تاريخ الحضارات القديمة حدثاً عارضاً في التاريخ الانساني، بل أعتبر بحق واحداً من أَعظم الانجازات الحضارية في تاريخ البشرية، وضع حداً فاصلاً بين مرحلتين أساسيتين من مراحل التطور الحضاري، حيث انتهت مرحلة عصور ما قبل التاريخ لتبدأ بعدها مرحلة العصور التاريخية. وقد حدث هذا الانجاز الرائع في مدينة (الوركاء)، وتحديداً الطبقة الرابعة منها، في الدور المعروف بأسم (جمدة نصر) الذي يؤرخ بحدود 3200 ق.م، ليكون مكملاً ومتوجاً لثورة الأستيطان المدني التي حدثت في هذه المدينة عند منتصف الألف الرابع ق.م. حيث كان الدافع لهذا الابتكار هو الحاجة لتوثيق الواردات الاقتصادية للمعابد، التي كانت المحُرّكة والمُسّيرة لدفة المجتمع آنذاك. لقد عرف هذا الأسلوب من التدوين أو الكتابة بأسم (الكتابة المسمارية) نظراً لأشكالها التي تشبه المسامير، علماً أنه لايصح أطلاق هذه التسمية على المراحل البدائية الأولى من هذه الكتابة، بل في مراحلها اللاحقة فقط بعد أن أصبحت العلامات المكتوبة تأخذ الأشكال أعلاه، نتيجة شكل وطريقة الكتابة بالأقلام المعمولة من القصب على الواح الطين الذي أصبح المادة الأساسية للكتابة، لتوفره وخفة وزنه ولسهولة تشكيله بأشكال وأحجام مختلفة حسب الحاجة. كما يجدر الاشارة الى أنه قد تمت الكتابة كذلك على مواد أخرى أيضاً كالحجر والخشب والعظم.
لقد مرت (الكتابة المسمارية) بثلاث مراحل تطورية قبل أن تصل الى مرحلة النضوج التي أمكن للكاتب من خلالها توضيح أفكاره المختلفة....
سميّ الطور الأول أو البدائي منها ب(الطور الصوري)، فيه كان يتم كتابة الأشياء برسم صورها فقط، لذلك كانت الكتابة في هذا الطور محدودة الأستخدام ولم يتم بها تدوين لغة معينة، أنما كانت مجرد جداول نقشت فيها أشكالاً لحيوانات ومنتوجات زراعية وأدوات عمل كانت تمثل الواردات الاقتصادية للمعابد كما أسلف، حيث عثر على تلك الكتابات. ومن المرجح كثيراً أن الأختام المنبسطة التي أبتكرها أنسان وادي الرافدين في مطلع الألف الخامس ق.م وما كانت تظهره من أشكال على الطين عند الطباعة هي التي أوحت لأبتكار هذا النوع من الكتابة.
وفي فترة عصر فجر السلالات الأول 3000_2800 ق.م دخلت الكتابة طورها الثاني الذي سميّ (الطور الرمزي)، وهنا لم يعد رسم الصور السابقة يقصد به معناها المجرد أنما معان أخرى جانبية مشتقة منها.... مثلا ً ترسم صورة الشمس للتعبير عن الضوء أو الحرارة أو النهار، أو يكون رسم صورة القدم للتعبير عن المشي والحركة، وصورة النهر للدلالة على السقي والارواء، والمحراث للدلالة على الزراعة. وغيرها من المعاني الكثيرة الأخرى. كل ذلك أدى الى أستخدام عدد هائل من العلامات وصل في هذه الفترة الى ما يقارب 3000 علامة، وهو عدد لم يكن الألمام به بالأمر اليسير طبعاً. من الجدير ذكره هنا ولعدم نضوج أسلوب الكتابة في الطورين السابقين فأنه يُفضل تسمية فترتهما الممتدة 3200_2800 ق.م بالفترة الشبيهة بالكتابية أو الشبيهة بالتاريخية.
ثم دخلت الكتابة طورها الثالث الذي سميّ (الطور الصوتي) في عصر فجر السلالات الثاني 2800_2600 ق.م، حيث استخدمت العلامات المرسومة ليس من أجل معناها الصوري أو الرمزي انما لتمثل مقاطع صوتية يتم من خلالها تدوين لغة محكية، فكانت تجمع العلامات التي تمثل تلك المقاطع لتشكيل كلمات منطوقة. ويقصد بالمقطع الصوتي هنا (صوت علة+صوت صحيح وبالعكس)... مثل (كي) أو (لو) أو (شا) وغيرها، أو أن يكون المقطع الصوتي (صوتين صحيحين بينهما صوت علة وبالعكس)... مثل (ليل) أو (كًال) أو (لام) وغيرها... وبتجميع تلك المقاطع يتم تكوين الكلمة المدونة.. مثل القول في السومرية...(لو_كًال) بمعنى (مَلك)، (كا_لام) بمعنى (اقليم أو بلد)، (أين_سي) بمعنى (أمير)، (كا_شي_تين) بمعنى (خمر)، (سان_كًا) بمعنى كاهن. ومثل القول في الأكدية... (أي_كا_رو) بمعنى (فلاح)، (أبي_نو) بمعنى (محراث)، (كًيش_مار) بمعنى (نخلة)، (مور_سو) بمعنى (مرض)، وغير ذلك من الكلمات. وقد صاحب هذا التغيير في مدلول العلامات تغير في شكلها أيضاً، حيث أخذت تفقد شكلها الصوري القديم تدرجياً لتأخذ أشكالاً أخرى محّورة عنها. ويرجع السبب في ذلك كون الطين وهو المادة الأساسية المستخدمة في الكتابة كان غير ملائم لرسم صور الأشياء لكنه ملائم جداً لنقش علامات بشكل خطوط مستقيمة، وذلك بضغط طرف القلم ذو الرأس المثلث المعمول من القصب أو الخشب قليلاً على وجه اللوح فتتكون نتيجة لذلك خطوطاً أفقية وعمودية وزوايا مائلة، كما أعطى الشكل المثلث لطرف القلم تلك الخطوط رؤوساً تشبه المسامير، لتأخذ من هنا شكلها وميزتها وتسميتها المعروفة. ومع تطور هذا الاسلوب فقد تم اختزال عدد كبير من العلامات في هذا الطور ليبقى ما مستخدم منها حوالي 800 علامة، ثم الى عدد أقل في الفترات اللاحقة. وبهذه الطريقة أصبح بمقدور الكاتب تدوين لغته المحكية التي بواسطتها أمكنه التعبير عن أفكاره ومعتقداته وانجازاته الحضارية. فكتب على الواح الطين مختلف شؤون الحياة، ادب، فلك، طب، نصوص قانونية، نصوص دينية... وغيرها الكثير. وقد كشفت التنقيبات الأثرية على آلاف الألواح المسمارية في معظم مدن وادي الرافدين مما جعلها الحضارة الأكثر غزارة بنصوصها المكتوبة المكتشفة مقارنة ً بالحضارات القديمة الأخرى. طبعاً يعود الفضل في ذلك الى قابلية الطين (المادة الأساسية المستخدمة في الكتابة) على مقاومة عوامل الزمن خصوصاً أذا تعرض للفخر، لتصل الينا بشكل وهيئة سليمتين في الغالب، فتكون مرآة تعكس واقع حياة شعب الرافدين وشعوب منطقة الشرق القديم قبل أكثر من 5000 سنة.
أن ما يجدر الاشارة والتنويه اليه هو أن البعض يعتقد خطأ ً أن الكتابة المسمارية هي لغة، حيث ترد أحياناً هنا وهناك للأسف عبارة (اللغة المسمارية) وهذا ليس صحيح على الأطلاق، أنما هي وسيلة لتدوين لغة محكية معينة. على هذا الأساس فقد دوّن بهذا الأسلوب من الكتابة العديد من اللغات القديمة... حيث أستخدمت لتدوين لغتين أساسيتين في وادي الرافدين هما السومرية والأكدية خلال فترة الألف الثالث ق.م. أما في فترة الألف الثاني ق.م فقد غلب عليها التدوين باللغة الأكدية بلهجتيها البابلية والأشورية، بعد افول اللغة السومرية نتيجة انحسار دور السومريين السياسي. كما أنتشرت الكتابة المسمارية الى مناطق واسعة من الشرق القديم، لتصبح بالرغم من صعوبتها وسيلة التدوين الرئيسية هناك. وقد ساعد هذا الأنتشار على أنتقال العديد من الأوجه الحضارية الرافدية الى تلك المناطق خاصة المعتقدات الدينية والنتاجات الأدبية. ففي بلاد أيران أستخدمت الكتابة المسمارية لتدوين كلا ً من اللغتين العيلامية والفارسية منذ منتصف الألف الثالث ق.م وحتى الألف الأول ق.م. كما أستخدمها (الحيثيون) في أسيا الصغرى لتدوين لغتهم خلال الألف الثاني ق.م . وفي فترة مبكرة نسبياً أنتقلت الى بلاد الشام، حيث أكـتشفت في مدينة (أبلا) القديمة آلاف الألواح المسمارية التي دونت بها لغة أهل المدينة خلال منتصف الألف الثالث ق.م. كما أستخدم الكتابة المسمارية كلا ً من (الحوريين) و(الميتانيين) اللذين أستوطنوا شمال سورية لتدوين لغتيهما خلال الألف الثاني ق.م. كما وصلت هذه الكتابة الى بلاد (الأورارتو) في أرمينيا لتدوين اللغة (ألأورارتية) في مطلع الألف الأول ق.م... وخلال النصف الثاني من الألف الثاني ق.م أصبحت الكتابة المسمارية الوسيلة الرئيسة لتدوين المراسلات المتبادلة وكذلك الوثائق والمعاهدات السياسية المبرمة بين ملوك وحكام وادي الرفدين ووادي النيل وبلاد الشام وأسيا الصغرى، بعد أن اصبحت اللغة الأكدية بلهجتها البابلية في هذه الفترة اللغة الدبلوماسية الأولى في منطقة الشرق الأدنى القديم، كما تبين ذلك رسائل (تل العمارنة) في وادي النيل، حيث كشف هناك عن مئات الرسائل والوثائق المدونة بالخط المسماري على الوح من الطين، وباللغة الأكدية البابلية، التي وضّحت طبيعة العلاقات السياسية بين هذه البلدان خلال تلك الفترة.
لقد دعت صعوبة الكتابة المسمارية المقطعية، وشدة تعقيدها وكثرة علاماتها الى البحث عن طريقة أسهل للكتابة. فبدأ الميل نحو الكتابة الهجائية الحرفية التي كان قد أبتكرها الفينييقيون في منتصف الألف الثاني ق.م، وطورها من بعدهم الآراميون لتصبح الوسيلة البديلة السهلة للتدوين خلال الألف الأول ق.م في منطقة الشرق القديم. وكان ذلك أيذاناً بنهاية الكتابة المسمارية التي أخذت بالانحسار تدريجياً، حيث أنحصر استخدامها في تدوين بعض النصوص الدينية داخل المعابد لاعتبارات خاصة تعلق بقدسيتها من وجهة نظر رجال الدين. حتى أنقرضت تماماً في منتصف القرن الأول الميلادي، وهي الفترة التي وصل الينا منها آخر لوح مسماري.

المصادر
1_ طه باقر ... مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة / الجزء الاول
2_ فوزي رشيد ... قواعد اللغة السومرية
3_ عامر سليمان ... اللغة الاكدية .. تاريخها وتدوينها وقواعدها
4_ بهيجة خليل أسماعيل ... الكتابة ... موسوعة حضارة العراق/الجزء الأول
5_ صموئيل نوح كريمر ... من الواح سومر ... ترجمة/ طه باقر
6_ L.A. Liptin … The Akkadian Language
7_ S.N. Kramer … The Sumerians
8_ G.R. Driver … Semitic Writing From Pictograph to Alphabet








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تقارير عن ضربة إسرائيلية ضد إيران وغموض حول التفاصيل | الأخب


.. إيران وإسرائيل .. توتر ثم تصعيد-محسوب- • فرانس 24 / FRANCE 2




.. بعد هجوم أصفهان: هل انتهت جولة -المواجهة المباشرة- الحالية ب


.. لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا




.. نار بين #إيران و #إسرائيل..فهل تزود #واشنطن إسرائيل بالقنبلة