الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العودة الى الحي ( استحضارا لذكرى صديقي -المجنون- )

الشرقي لبريز
اعلامي وكاتب مغربي

(Lebriz Ech-cherki)

2015 / 4 / 19
الادب والفن


عاد الى الحي الذي ولد فيه بعد غيبة طويلة، تجاوزت العشر سنوات او اكثر استقبله شيوخ الحي و شبابه بحفاوة بليغة، لا احد من سكان الحي الذين استقبلوه يعرف اسباب عودته، و لإشباع فضولهم نظموا الاستقبال، كنت أراقب نظارتهم من بعيد، أدركت من خلال نظراته ان له شوق كبير للحي الذي ولد و نشأ فيه، انه الان حقيقة قائمة، و رغم فرحة المستقبلين به و ضجيجهم حوله، الا ان نظراته كانت تعبر عن ثلج يجثم على قلبه، كثلج تموت الحيثان من برده، ثلج لم تذبه حرارة اللقاء،
و لابد من شمس ما ان تسطع على حياته حتي تذيبه، مضي وقتا ليس بالقصير و هو لم يلمز بكلمة واحدة في وجه من استقبلوه، بل لم يبتسم و لو في وجه شيخ واحد، يكتفي بالنظر اليهم، بقدر ما كان يبتسم ابتسامة عارضة في وجه الشباب الذي يقتربون منه، امر محير فعلا و يبعث على طرح اكثر من سؤال و سؤال ؟؟ لما لا يبتسم في وجه الشيوخ ؟ لما ...لما ...؟.
ان عودته هذه المرة مختلفة عما كان عليه في السابق، حيث اختار ان يشيد كوخا من القصدير المتهالك باحد زوايا الحي، و يتخذه مسكنا له، ان الوضع الجديد يطرح الف سؤال و سؤال ؟ اولها السبب الذي يدفع سليل اسرة الاثرياء الى اختيار حياة البؤس ؟ و هو الذي ورث ثروة كبيرة عن ولده ، هذا الاخير ورثها عن ابوه الذي كان يعمل لصالح ادارة الاستعمار المباشر، فجده كان اشتغل موظفا بإحدى الإدارات الفرنسية وراكم ثروة كبيرة انتقلت بعد موته لابنه الوحيد.
الا ان شيوخ الحي من الذين لازالت تربطهم علاقة بعائلته، لم يترددوا في اعطاء تفسيرا للوضع الجديد الذي اختاره، اذا شرعوا يروجون في الحي انه تحث تأثير عمل شيطاني بتحالف مع احد النسوة اللواتي كان يخرج معهن حين كان إطارا بأحد المكاتب الوطنية .
كم من ظلم تعاني منه كل من المرأة و الشيطان في مجتمعنا ؟ انهما متهمان دائما و علي حد قول المثل المغربي " طحت الصمعة علقوا الحجم " و رغم خطورة الاتهام لا تنصب لهما محاكمة عادلة، حتى من طرف عامة الشعب فما بالك في ....؟ .
تبرير ارد منه شيوخ الحي جعل شبابه ينفرون و لا يقتبرون منه .
ثرى من يخدم نشر هذا الخبر بين شباب الحي، أكيد ان المستفيد الاول منه هي عائلته الإقطاعية أولا خصوصا و ان ما قام به نجل العائلة يعد تمردا على العادات و التقاليد، ثم من الاخر الذي له مصلحة في عزله عن شباب الحي ؟ سؤال محير فعلا .
مجموعة اسئلة علقت بذهني و انا ارقب استقباله، عزمت ان ابحث لها عن اجابات، ترددت كثير قبل ان اركب المغامرة و اقترب منه لعلني اجيد ما يشفى غليل فضولي .
و انا اقترب منه رغم الابتسامة العريضة التى كادت تغطي وجهه، و تطرد الحزن الذي لم يفارق محياه مند ان وطأت قدميه حينا، بل الحي الذي رأت عينه نور الحياة فيه، انه يكبرني بحوالي ثلاثة اجيال او ما يربو، كان خوف كبير ينتابني، قد ادرك الامر، فبادرني بالسؤال
هل صدقت انت ايضا انني مجنون فعلا كما يحاول خدام الاقطاع إبهام الكل ؟ .
سؤال صدمني نزل علي كالزلزال، خلخل امور كثيرة بداخلي، اوله هل الاقطاع لازال سائدا بمجتمعنا، و هم الذين درسوا لنا في مقرراتهم، ان الاقطاع كفترة من تطور تاريخ البشرية انتهي ؟ كيف لشخص ينعتونه بالجنون يدرك انهم ينعتونه بهذه الصفة و لا يقوم باي ردة فعل عدوانية اتجاه من يصفونه بالجنون ؟ ...
ثم استرسل قائلا
علك ايضا تريد ان تعريف لما اخترت العودة الى الحي ؟
لم اجبه بل اكتفيت بالنظر اليه دون ان انزل عيني عن عينيه، و بداخلي فعلا رغبة في معرفة السبب، لم ينتظر كثيرا ثم استرسل :
انت فعلا تريد ان تعرف السبب و لا تقول عكس ذلك، لان عينيك تؤكد تلك الرغبة، و لست وحدك من تمتلكه هذه الرغبة بل جل ان لم اقل كل الساكنة يقتسمونها و اياك، مند ان وطئت قدمي الحي
.
استغربت من كلامه لان سر اقتربي منه سببه رغبتي معرفة السبب ، انه قرأ افكاري و استخلاص ما يخالجني.
بقيت انظر اليه و بداخلي مجموعة اسئلة كيف لشخص بهذا الذكاء الحد ان ينعته الاخرون بالجنون ؟ و هل الجنون صفة قدحيه كما يسوقون لنا ؟ ....؟ قطع شريط فكاري قائلا :
الحي جزء من الوطن، بل يمكن اعتبره وطن صغير و من لا يرتبط بحيه، لن يرتبط بوطنه، و الوطن اسم جميل لا ندرك معناه الا اذا احببناه، و الحب ثورة و الثورة لا تمارس خلسة.
عدت الى هذا الحي لان دوره و طرقاته و كل شيء فيه يشهد على ترهات حياتي في طفولتها و مطلع شبابها، عدت لاحس ان لي جدور ضاربة في الارض مثل الاشجار، جدور تمنحني قدرة على الصمود في وجه العواصف و قوة لاستمر و احي ، كما تمنح الجدور للاشجار الحياة، و الصمود لتعيش و تموت واقفة، عودتي لأطرد الاحساس بكوني ريشة في مهب الريح انما كائن له جذور و اصول و له هدف يعيش من و لاجله، عدت لاحي لا لأموت كما يفعل احد انواع السمك، يعود الى مكان ولادته ليموت فيها.
يصمت ردحا من الزمان ليس بالقصير، فكره و كأنه انشغال في امر اكثر اهمية من حديثنا، او امرا طارئ حل، او تذكر شيئا مهما في حياته انسه حضوري، ثم يلتفت الي مخاطبا وفي نفس الوقت يحاول الاعتذار بطريقة لبقة، و خاصة جدا عن هذه الغفوة .
في البدء كانت القبيلة كانت " النية " بين الناس كانت الكلمة ، العهد اساس التعامل، و هو يمارس فعل حكيه هذا بدا اكثر غضبا ، كأن بركانا تفجر بداخله و حممها تتمظهر على شكل كلمات و انفعالات ، تحول الى فرس جامح بعد ان كان الى حدود لحظة قريبة كحمل وديع ، فتغيرت نبرة صوته ليسترسل حديثه و صوته يزاوج بين الغضب و الحزن.
اننا لم و لن نتخلص من جدورنا البدوية مهما فعلنا، انظر الى ذلك المصباح انه شمعة كبيرة كتلك التى كنا نستعملها في الدور أكيد انت لا تعرف معني الدوار، الكانون ، الفخدة ، هذه المصطلحات ستنقرض يوما كما انقرض النمرود وانقرض .... ، سياتي جيل لا يعرف الا اسم الحومة، الدرب و الحي، ان لم تتطور هذه الاسماء الى كلمات اخرى و تصبح لا تساير الموضة .
عاد الصمت ليجثم من جديد على جلستنا، اعتقدت حينها انه يطلب مني المغادرة بطريقة لطيفة ليختلي بنفسه فهممت بالفعل الا انه صرخ في وجه غاضبا.
اكيد لن تكون احسن من ابناء جيلك الذين سيجهلون الكثير، الكثير عن ثقافة شعبهم و عاداتهم ،العادات و التقاليد جزء من ماضينا و من لا ماض له لا حاضر له، و من لا يمتلك ماض لا يمتلك مفاتيح تفسير الحاضر، جيل سيعيش كشخص تجهل جدوره الجينية، في احسن الاحوال ان نال مستوى ما من التعليم الرسمي، سيختار قصرا و طواعية، ان يسكون برجا عاليا يشيده بنفسه من الرمال، الا ان قصره مهدد ان يتهاوى في اي لحظة.
اسمع يا بني : الدور تجمع سكاني بالبادية و سكانه كانوا يعيشون في حب و تعاون ، لا تحكمها المصالح الضيقة ، بساطة العيش تفرض عليهم مجموعة التزمات و واجبات، يحتكمون للجماعة في خلافاتهم، و تكون احكام هذه الاخيرة ملزمة للجميع، غالبا ما تكون احكامها بسيطة تساير إمكانيات المحتكمين، لم يكونوا يوما يحتاجون الى قاض تنفق عليه الدولة مبالغ مهمة، و يتقاضى راتبا شهريا، يصرفه في يوم واحد في حياة البذخ، و عليه تدبير باقي ايام الشهر دون ان تتراكم عليه الديون.
مقدم الجماعة لا يركب افخر السيارات كما يفعل مقدم الحومة، في احسن الاحول له دابة يطعمها حفنة شعير مما تجود به ارضه او ارض الجماعة، التى تعتبر ملكا مشعا لابناء الدوار، بالدور يوجد مجموعة كوانين " م كانون " و يمكن ان نسميه الخيمة الكبيرة التي تضم افراد العائلة الواحدة حيث يوكل تدبير امرها الى اكبرهم سننا، غالبا ما يكون الجد، و في حالة موته توكل المهمة للابن الاكبر، يتم فيها تقسيم عادل للعمل كل حسب قدراته، اما الاكل فغالبا ما يكون جماعيا مصدرها خيرات الارض.
من مجموعة دواوير تتكون الفخدة ، من مجموعة فخاد تتشكل القبيلة، لكل من هذه التنظيمات الاجتماعية قوانين و نواميس خاصة بها، غالبا ما يسهر على تطبيقها شيخ كل واحدة منها ليكون شيخ القبيلة رئيس الجميع .
فجأة يدخل في حالة هسترية من الضحك جعلتني استغرب و أكد اصدق انه فعلا يتصف بتلك الصفة التي الصقها له شيوخ الحي ، يعود فجأة الى حديثه.
ايك تعتقد شيخ القبيلة هو ذلك الشخص حاول أشباه المغنين و مرتزقة الفن تشويه صورته، اما عن وعي وهم يعرفون ما يريدون، يطمحون الى خلق جيلا بلا هوية خدمة لأجندات من لهم مصلحة في وجود جيل منسلخ عن داته، اما الذي يردد كالببغاء عن جهل فيستحق منا كل اللعنات.
استغربت من حديثها، لم افهم شيئا، فاندفعت في مساءلته و لا اعرف هل هو حب الفضول ، منحني السجاعة الكافية لأطلب منها ان يشرح لي اكثر، و معرفتي به لم تتجاوز اللقاء الاول ، لا اعرف ولو الشيء اليسير عن طبائعه و ان كان يحب مثل هذه الامور او يكرهها، مغامرة لم افكر في تبعاتها انما دخلتها.
لابد و انك سمعت تلك الاغنية التي تقول
عفاك يا شيخ القبيلة باغي نشوف جميلة
انا متأكد ان الذي غنها لا يعرف المكانة الرمزية لشيخ القبيلة، و لا المهم التي كانت توكل له من اجل القيام بها، ايضا لا يعرف التزماته، اكرهاته ، هو بأغنيته هذه يبخص من مكانة الشيخ و يحصر مهمته في الإذن او ابلغ المحبوبة .
انتفض و كانه نسي شيئا مهما.
عفوا شيخ القبيلة ليس الشيخ بصورته الممسوخة التي عرفتها انت و ابناء جيلك، المتجسدة في الشخص، التابع لوزارة الداخلية و الذي كانوا يسمونه أجدادنا " الشكام " ، هذه الاخيرة التى وجدت من اجل شيء واحد ستفهمه يوما ما عندما يشتد عودك .
انما هو رجل طاعن في السن أكسبته السنون و التجارب، خبرة و حنكة جعلت منه قادرا على ايجاد الحلول للامور المستعصية لافراد القبيلة، لم يكن يتقاضي اجرا مقابل عمله عكس نسخته المشوهة اليوم الذي يتقاضى اجوار و يتمتع بامتيازات تتضاعف حسب اجتهاداته و قربه من القائد.
ساحكي لك امرا غريبا لم احكيه لغيرك، انت لا تعرف الشيخ محماد، هذا الشخص كان مقدماا لهذا الحي في زمان ماض، ان لم تخني الذاكرة، انت لازلت حديث الولادة او لم تولد بعد، ذات صباح من ايام الشتاء القارس، حيث كنت احب ممارسة رياضتي المحببة قبل ان يستيقظ النوام، وجدته منكبا على ظهره يبحث في موضع رمي القمامة، و لما سألته علاني اساعده في قضاء غرضه بسرعة رحمة به من قساوة برد الك الصباح، رد علي بانه لا يحتاج الى مساعدة لان ما يقوم به ضمن عمله، لا يمكن لشخص عادي ان يفهمه، ادركت حينها انه يبحث في قمامة السكان ليعرف طبيعة غداءهم ....حتي يتمكن من تقديم معلومات اضافية لرئيسه، هذا الاخير ينجز فيها تقريرا لمن هو اسما منه درجة ...
توقف عن ألحكي فجأة و إلتفت الى ، فواجهني بسؤال .
هل انا مجنون كما صوروني لكم ؟
وقفت مشدوه الفكر امام سؤاله، و خصوصا انني من بين الذين صدقوا في لحظة فعلا انه مجنون، و كيف لي ان لا اصدق شيوخ الحي الذين طالما لقنوننا دروسا بل محاضرات في مساوئ الكذب، لم ينتظر جوبي بل، استرسل في كلامه.
الجنون حالة انسانية و من لم يمارسه لحظة، فانه فاقد لجزء من انسانيته، هذا ان كان فعلا قد أدرك انسانيته في لحظة من لحظات حياته، و من يستطيع ان يجن استطاع فعل كل شيء.

ثم صمت ردحا من الزمان و كانه محارب يحاول استرجاع أنفاسه، و يجدد نشاطه بعد جهد بدله في ساحة الوغا.
اسمع يا بني في الحياة مجموعة حقائق، هذه الحقائق تتحول الى فراضيات مع تقدم الوقت لتكون منطلقات للبحث، و لولاها لانتهت الحياة مند زمان من تم فالانسان، يجب ان يتحلى بروح البحث حتي لا تصبح حياته رتيبة و مملة، على الانسان ان يرسم لحياته هدفا، من يعيش بدون هدف مجرد صورة انسان، فالحياة بدون هدف لا تستحق ان تعاش.
وبعد صمت استطراد قائلا و قد تغيرت نبرات صوته و اكتسبت صرامة زائدة.
لا تسألني عن هدفي، لانه سر من اسراري الخاصة ، لن أبوح بها لأحد تحث تأثير اي ظرف من ظروف، أنصحك يا بني ان ترسم هدفا لك في الحياة ليعطها طعما، و يحفزك على العيش.
أدركت انه يتعمد مخاطبتي ببني، و كأنه يحول أن يذكرني و ينصحني، بأنه علي عدم نسيان فارق السن بيننا.
و بعدها جثم الصمت على جلستنا مدة ليست بالقصيرة، اعتقدت حينها انه لم تبقي له رغبة في مجالستي حينها فكرت في المغادرة، و في لحظة و أنا اعتزم تفعيل القرار، ظهرت على محياه ابتسامة عريضة، شككت حينها انه يقرئ ما يدور بداخلي من أفكار، ليطلق العنان للسانه بعدها قائلا
انا الان أصبحت سؤالا بالنسبة لنفسي، سؤالا لكل من يلتقيني سواء أولئك الذين اعرفهم او الذين لا اعرفهم، سؤال لأولئك الذين اتعامل معهم، رغم انني قلصت من معاملاتي مع الاخرين، حتي أضيق مساحة دائرة الذين ساصبح سؤالا عندهم، بل اشك بكوني موجود خارج تفكيرهم، لكن الشيء المتأكد منه انني ولدت مرتين، الاولى من رحم امي، و الثانية من رحم أفكار تراكمت برأسي، افكار تشكل الجزء الكبير منها بفعل الاختلاط بالناس و الاطلاع على تجاربهم.
بعدها ضحك بقهقة كانت مسموعة ملتفتا الي.
لن تعرف سبب عودتي اليوم الى الحي و لن اعدك بتاريخ.
وفهمت من كلامه هذا ان لقاءنا انتهي، انا في الطريق الى البيت، أحسست الخيبة تنتابوني ، لم اعرف لما انتابني هذا الاحساس، تذكرت كيف حصلت الامور بيننا، قلت لنفسي كنت مخطئا حين قصدته لاعرف منه سبب العودة، في حين كانت اذهب لسعيد البقال و اعرف منه كل ما يشفي فضولي،
و اخد منه ما لم أخده خلال هذه الساعات الطوال التى قضيتها مع هذا الشخص، احساس كاد يفقدني إرادتي و رغبتي في معرفة سر العودة ، فالإرادة تتفتت كما تتفتت الكدرة تحث المطر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81