الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التناقضات الفكرية والجمالية في مسرحية -مَن السما -!

صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)

2015 / 4 / 21
الادب والفن


المقدمة
أسهمت التحولات السياسية والاجتماعية التي أفرزتها الحروب العالمية في الكشف عن أساليب إخراجية إمتلكت خصوصيتها في التعبير عن تلك المتغيرات ،ويعد المسرح الوثائقي الذي تبناه المخرج الألماني (أرفين بيسكاتور) احدها، وذلك لخصوصيته في التعاطي مع الوثائق على مختلف أشكالها ،سواء تلك التي كان يعمد إلى عرضها على شكل شرائح ضمن منظومة العرض أو تلك الأفكار التي تأسس عليها العرض المسرحي ،ذلك انه كان يسعى في مسرحه إلى إعادة إنتاج الاحداث من أجل خلق حافز عند المتلقي للثورة على السياسات الخاطئة ، وقد أفاد المخرج (برتولد بريخت) من تجربة المسرح الوثائقي وعمل على تطويرها وتحويل تلك الوثائق المجردة من الدراما ، إلى متن حكائي متجانس ضمن تصور إخراجي واضح تحت مسمى (المسرح الملحمي)، من جهة اخرى فإن صفحات الحرب لم تتوقف عند الشكل الوثائقي المعارض للسلطة ، بل تعداه إلى أشكال مسرحية أخرى كانت تساند التوجه السياسي عبر إنتاج اشكال مسرحية (دعائية) تعمل على تكوين صورة مسرحية مغايرة تسهم في إجتذاب شرائح موالية للسلطة ، وقد أفاد المسرح العراقي من تلك الاساليب لاسيما في حقبة الحرب ، إذ بدا واضحاً ان السلطة الحاكمة كانت تعمل جاهدة على إنتاج العديد من المسرحيات (الدعائية) من اجل دعم توجهاتها العسكرية والقمعية، بينما راح عدد من المخرجين الذين إتخذوا من المسرح الوثائقي والملحمي إسلوباً في تحقيق الرؤى الإخراجية ، وبذلك ظلت الظاهرة المسرحية قائمة على متناقضين أحدهما (دعائي) يعيش في كنف السلطة وينتج طروحاتها ، والآخر سياسي (وثائقي ، ملحمي) يعمل على إنتاج فرضيات فكرية تعمل على الكشف عن جرائم الحرب وبشاعتها ، وتأتي إشتغالات العرض المسرحي ( مَن السما) تأليف وإخراج(مناضل داود) تمثيل ( أحمد مونيكا ، علي نجم الدين ، هند نزار ) سينوغرافيا (بشار عصام) موسيقى (أدور كاظم)، التي قدمت على خشبة المسرح الوطني مؤخراً ، بوصفه عرضاً يحتكم على العديد من المغالطات الفكرية التي أراد المخرج من خلالها الإشتغال على منطقة وسطية بين الدعائي والوثائقي ، من دون إمتلاك القدرة على معالجة التناقضات التي اطاحت بالرؤية الإخراجية .

التناقضات الدرامية في نص المؤلف:
تعد فكرة الإطاحة بالمؤلف والعمل على إيجاد بدائل متباينة تسهم في إنتاج عرض مسرحي قادر على إختزال جميع التفاصيل التي إرتبطت بالزخرفة اللغوية إبتداءً وليس إنتهاء بالمتن السردي الوصفي للحدث الدرامي ، الامر الذي عملت التجارب المسرحية الحديثة على تجاوزه مستفيدة من مقترحات المخرج المؤلف الذي عمد إلى تبني صياغة المتن النصي بما ينسجم والرؤية الإخراجية ، إلا أن تلك المقترحات خضعت بدورها إلى إشتراطات فكرية وجمالية بات المخرج المؤلف ملزماً بتطبيقها داخل منظومة العرض المسرحي ، الأمر الذي لم يبدو حاضراً في نص مؤلف ومخرج (مَن السما) الذي عمل فيه على تقديم خطوط درامية متقاطعة فيما بينها ، في صياغة تبدو أقرب إلى الدراما التلفزيونية منها إلى العرض المسرحي، وقد بدا ذلك واضحاً في آلية تشكيل البناء الدرامي ، وذلك عن طريق تكوين خطوط درامية متوازية ترتبط بالشخصيات ذاتها ولكن مايختلف هو الحدث الدرامي والمقترح المكاني ، حيث بدا واضحاً ان المؤلف قد كتب حكايتين منفصلتين عن بعضهما البعض أو الأصح انه كتب نصين دراميين تختلف بنية كل منهما عن الآخر ، وفجأة قرر العمل على عقد قران بينهما، وكانت النتيجة طفل هجين حمل أسماً أكثر تشظياً من والديه ، وقد نتج عن ذلك الهجين المركب شخصيات درامية مفككة إحتكمت على ملفوظات لغوية كلائشية لم تترك للمتلقي حرية التعاطي معها على نحو يسمح بتأويلها أو إعادة إنتاجها ضمن سياق العرض المسرحي ، على الرغم من ان عنوان النص الدرامي قد إحتكم على العديد من المقترحات التأويلية، بدءاً بالمقترح الديني المتوافر في النص القرآني ، وليس إنتهاءً بما يمكن أن تجود به السماء ، إلا أن المؤلف عمل على إقصائها جميعاً مكتفياً بمقطع لفظي عابر تبوح به شخصية منشطرة ومتشظية بين بطل عقائدي وقاتل، لم يتمكن المؤلف من بلورتها تحت مسمى معين ، ويعود ذلك على نحو اساس إلى إعتماد المؤلف على أفكار واقعية لم تزل حاضرة في وعي المتلقي ، إذ بدا واضحاً ان المؤلف قد سعى إلى المزاوجة بين حدثين منفصلين إرتبط احدهما بحادثة إعتداء حصلت في بغداد وتناولتها الصحف المحلية ، وتتمثل بالإعتداء على عدد من (بيوت الهوى) وادت إلى جريمة قتل بشعة لعدد من النساء ، والحادثة الاخرى إرتبطت بوقائع الصراع الطائفي في سوريا لاسيما مايتعلق بحماية المراقد المقدسة فيها من قبل (عناصر مسلحة غير نظامية ) والتي تكفلت بحماية تلك المراقد لاسيما مرقد (السيدة زينب ) في دمشق وغيرها، من جهة اخرى فإن المؤلف لم يعمل على إيجاد علاقة درامية بين الواقعتين بل إن الصراع إنسحب ليشمل(الحشد الشعبي) الذي بدا حضوره دخيلا على النص الدرامي، إلا ان المخرج المؤلف كشف عن حضوره في المشهد الاخير للعرض بوصفه حارساً للبلاد ، وهي إشارة تحسب للمخرج المؤلف، ذلك أنه قرر أخيراً الوصول بالمتلقي إلى مياه المعنى النقية.

تناقضات الرؤية الاخراجية والسينوغرافيا:
إعتمد المخرج على تطبيق المقترحات التي توافرت في النص الدرامي ، من دون العمل على فرض رؤية إخراجية تسهم في إعادة بناء النص على نحو بصري ، بل على العكس من ذلك فإن المخرج عمل على خلق تكوينات منظرية إيقونية ثابتة المعنى والدلالة على الرغم من محاولاته في تفكيكها وتركيبها، إلا انه وقع في تناقض بصري أسهم في إنهيار المنظومة الاخراجية لاسيما في مشهد الرقص الذي يبدو ان المخرج قد تغافل عن الشكل الايقوني للمزارات الدينية والمرتبط بوعي المتلقي الجمعي والذي كشف عنه في المشاهد الاولى للعرض ، فضلاعن ذلك فإن المعالجة البصرية بدت متواضعة فيما يتعلق بتغيير بنية المكان عبر وضع تشكيلة من قناني الشراب الزجاجية للدلالة على ان المكان قد تحول إلى (مرقص ليلي) ، من جهة اخرى فإن إعتماد المخرج على المنظر الثابت والكتل الديكورية أسهم في خلق الرتابة البصرية لاسيما فيما يتعلق بمفردات ديكورية ذات معنى محدد كما في (حوض الماء) الذي حاول مصمم السينوغرافيا في بعض المواضع إضفاء بعض المقترحات الجمالية عليه ، إلا ان محاولاته ظلت في الحدود نفسها، كما أن إعتماد المخرج على إدخال قطع مجتزأة من المنظر ومحاولة إعادة تركيبها بدت متواضعة ذلك أن القطعة المنظرية الكبرى اسهمت في الكشف عن المعنى في لحظات العرض الأولى، حتى ان الحاجة إلى إضافة قطع تكميلية لم تعد ضرورية ، بل على العكس فإن إصرار المخرج على إدخالها ضمن نسق العرض أسهم في إضافة رتابة جديدة إلى إيقاع العرض المرتبك أساساً .
فضلا عن ماتقدم فإن المخرج إعتمد على توظيف الأغاني المحلية السورية التي لم تكن إختياراً مناسباً في التعبير عن الثقافة المجتمعية ، بل على العكس من ذلك ، فقد أسهمت في إنتاج تناقض سمعي يضاف إلى تلك التصورات البصرية التي جاء بها المخرج بوصفها إشتراطات الرؤية الإخراجية، وكان الأجدر به الحفاظ على النسق السمعي الذي إعتمده مع المقطوعات الموسيقية التي تجسدت على نحو جمالي في مقطوعات (أدور كاظم ) الموسيقية.

جماليات الأداء وهشاشة الشخصيات:
بدا واضحاً للمتلقي إحتكام العرض على فجوات وخروقات فكرية لم يعمل المخرج على تجاوزها سواء على مستوى البنية النصية أو على مستوى التشكيل السينوغرافي ، وليس إنتهاء بالاداء التمثيلي ، على الرغم من ان المخرج إستطاع تقديم عدد من الممثلين الذين إمتلك كل منهم حضوره الفاعل على خشبة المسرح ، بدءاً من الممثلة الشابة ( هند نزار) التي تفجرت موهبتها الأدائية في تجسيد الشخصية ، وإحتكامها على منظومة لفظية متنوعة إستطاعت من خلالها التعبير باللهجة المحلية العراقية واللهجة السورية على حد سواء ، إلا ان المخرج لم يدرك أن موهبة (هند) لم تزل غير قادرة على إمتلاك ادواتها الصوتية التي بدت مرتبكة بعد النصف الاول من المسرحية ، ويعود ذلك إلى ان المخرج لم يعمل على ايجاد بدائل تعبيرية تسهم في مساعدة الممثلة على إستعادة طاقتها الادائية اللفظية، وبدا واضحاً إمتلاكها قدرة تعبيرية مكنتها من تقديم عدد من اللوحات الراقصة على نحو متقن ، الأمر الذي كشف عن حجم الهوة بين أداء الممثلة والشخصية الدرامية ، وقد تجسدت تلك الحالة على نحو أكثر عمقاً في أداء الممثل (علي نجم) الذي كان أميناً في تجسيد ملاحظات المخرج ، إلا انه وقع في مصيدة الشخصية المشوشة فكرياً ، ذلك أن إمتلاك القدرة على تجسيد حالة معينة والتحول إلى حالة أخرى للشخصية نفسها ظلت بها حاجة إلى مرتكزات فكرية يتكيء الممثل عليها من اجل أن يكون التحول منسجماً مع الشخصية الدرامية ، وقد بدا ذلك غائباً في مواضع عدة في تلك الشخصية ، فإذا كان المخرج يسعى وراء تهشيم الفعل الطائفي من خلال جعل الممثل / الشخصية يعمد إلى إقامة صلاة يجمع فيها كل المذاهب والاديان السماوية في تكوين بصري محدد ، فإن ذلك جاء سطحياً وإنفعالياً في التعاطي مع فكرة بهذا العمق ، كما ان عملية إنتقال الشخصية/ الممثل من مكان إلى اخر ومن سلوك أدائي إلى آخر مغاير تماماً كما في مشاهد قتل (بائعات الهوى) في بغداد ، والتحول إلى بطل (عقائدي) يسعى جاهداً لحماية المراقد المقدسة من الأرهابيين ، عبر عنه الممثل الذي كانت به حاجة إلى إكتشاف سلوك أدائي يسنجم مع حجم ذلك التحول ، فضلا عن أمتلاكه سلوكاً أدائياً مغايراً يكون فيه قادراً على التخلص من سلوك الشخصية التي بدت في مشاهد العرض الأولى قريبة من سلوك المرضى النفسيين ؛ من جهته فإن الممثل ( أحمد مونيكا) بما يمتلك من قدرة ادائية متميزة أستطاع من خلالها الانتباه إلى خطوط التحول في الشخصية التي جسدها ، إلا انه وقع في شراك التفسيرات الإخراجية للشخصية التي دوّنها المخرج المؤلف واحكم قبضته على سلوكها على الرغم من التناقض الفاضح في بنيتها الدرامية ، والذي تجسد على نحو حقيقي في تبني الشخصية/ الممثل سلوك (الرجل الشاذ جنسياً) الذي يمر بحالة تحول من دون أن يكشف عن أسباب فكرية تنسجم مع حجم ذلك التحول ، ذلك أن المخرج المؤلف إعتمد في مدونته النصية والإخراجية على خلق مفارقة من اجل التعبير عن حالة حب لاتنسجم مع الاحداث الدرامية الامر الذي جعل الممثل بمعزل عن الشخصية والعرض على حد سواء ، وذهبت جهوده الادائية أدراج السماء تاركاً الـ( مَن) يبحث عن (سمائه).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما