الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس: التجديد الديني بين تطاول المفكرين وتبرير المشايخ

محمد الحمّار

2015 / 5 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تعرف الساحة الفكرية والشعبية في تونس من حين لآخر رجّة تقيم الدنيا ولا تقعدها. مع العلم أنّ هذه الرجات تحدث بعنوان التجديد الديني و تقديم ما يطلق عليه مصطلح "قراءة معاصرة للإسلام". ويتراوح فحوى الرجّات بين تحليل الخمر وإباحة البِغاء (المؤرخ محمد الطالبي) و الإيحاء بأنّ عدد الصلوات (الخمس) قد لا يكون "ملزما" وبأنّه "يمكن للمسلمين أن لا يصوموا وأن يعوّضوا الصوم بإطعام مسكين أو مساكين"(أستاذ الحضارة عبد المجيد الشرفي في كتابه "مرجعيات الإسلام السياسي")، مرورا بقرار عدم لزوم قضاء ما فات من الصلوات ("الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين") أو بالمطالبة بتحوير قانون الميراث باتجاه التساوي بين الجنسين (على عكس ما ينص عليه النص القرآني- عدة أطراف).

ولئن كانت النخب منقسمة بشأن فحوى هذه الرجات "التجديدية"، والآراء تتراوح بين الرفض والاستساغة، فإنّ السواد الأعظم من الناس ظلوا مصدومين إجمالا حيال ما يعتبرونه شطحات سفسطائية. فما حقيقة المشكلة، وهل أنّ الرجات نابعة حقا من فكر تجديدي، وهل أنّ التصدي لها، إن بالنقد أم بالتوبيخ (الشيخ محمد على كيوة – تجاه محمد الطالبي- مثالا)، يعتبر تصحيحا في محله أم أنه غير كاف لوضع النقاط على الحروف وللارتقاء بالفكرالإسلامي؟

لا شك أنّ مجتمعنا بحاجة إلى هبّة تجديدية للفكر الديني حتى يستعيد توازنه وتستوي أنظمة الحياة المتعددة فيه على سكة التقدم والرقي. ومن المضحكات المبكيات أن يقع الحديث عن الشروع في ضبط إجراءات الإصلاح التربوي دون الانتباه إلى أنّ التجديد الديني، الذي يمثل حجر الأساس لكل إصلاح، لم يحصل بعدُ و بالتالي فإنّ الفشل سيكون مآل الإصلاح في شتى المجالات.

في السياق نفسه، لا أعتقد أنّ الحاجة إلى التجديد الديني تتطلب تحليل الخمر (ولا حتى التأكيد على تحريمه) أو التقليص من عدد الصلوات أو تحوير العقائد أو العبادات الأصلية الأخرى. فالحضارة الإسلامية ازدهرت عبر العصور دونما تحوير في نظام العقائد والعبادات. وإذا كانت المعاملات هي التي تستوجب التجديد فذلك يعني أنّ العقل - الذي من المفترض أن يستنبطها ويتحكم بها- هو المطالب بالتجديد. وتجديد العقل ليس بحاجة إلى خدمات علماء الدين دون سواهم وإنما يستدعي تضافر الاختصاصات، كما سنرى لاحقا.

نخلص إلى أنّ محاولات الطالبي والشرفي وغيرهما ليست سوى منعكسات شرطية réflexes conditionnels يدعي أصحابها التجديد بينما هي من تداعيات غياب التجديد، أي من مضاعفات الإبقاء على باب الاجتهاد مقفلا. وإلا فلماذا لم يحصل إجماعٌ حول تسمية مثل هذه المحاولات اجتهادا لو كانت تستجيب لحاجيات المؤمنين؟

في الجهة المقابلة أعاين أنّ السواد الأعظم من الناس عادة ما يكونوا بحاجة إلى لمسات علمية دينية من عند جهات توافقها الرأي وتشاركها نفس القراءة للدين الحنيف. وهذا مما يبرر إلى حدٍّ ما تدخّلَ بعض الجهات المختصة في علوم الدين لإخماد النار التي تسببت في إضرامها رياح التجديد (المزعوم) التي أثارها بعض المفكرين حين زاغ فكرهم عن المجال الذي يحتاج إلى التفكير. على الرغم من ذلك فإنّ الملفت هو أنّ هذه الجهات "المصحِّحة" هي نفسها متورطة في الوضع الذي آلت إليه المسألة الدينية. أما البراهين على تورطهم فنعرض أهمها في ما يلي:

*من يرى في نفسه القدرة على الاجتهاد في الدين لا يعلم أنه مطالب بأن يكون ملمّا أيضا بالعلوم الكونية.
*الباحث في الدين لا يحاول أبدا أن يكون علمه متضافرا مع علوم الآخرين.
*المتخصص في العلوم الشرعية لا ينتبه أبدا إلى ضرورة إحداث آلية تعالج المشكلتين السابقتين.
*من يحرص على أن لا يحشر غير المختص في الدين أنفَه في الدين يجهل أنه المتسبب الأول في ظاهرة حشر الأنف هذه.

ويتجلى تعنّت الساهرين على الفكر الديني من ناحية، واعتداد النخب الزاعمة للتجديد من ناحية ثانية، من خلال تقييم مردود الندوات العلمية (حول اللغة، الدين، الاقتصاد، المجتمع الخ)، حيث إنّه لا وجود لمؤشر على أنّ البلاد والعباد سيكسبون من هذه الندوات أية فائدةً تذكر. فتوصياتها ومضاميننا عادة ما تبقى حبرا على ورق. كيف لا والحال أنّ هؤلاء وأولئك يتطرقون إلى مواضيع مصيرية لكن بعقل منفصم. الفئة الأولى تجانب العلوم فيبقى علمها الديني معزولا عن الواقع، والفئة الأخرى تتوخى التعالم scientisme بما أنها مفصولة عن الفكر الديني وبالتالي عن الفكر الشعبي.

في ضوء هذا، أعتقد أنه لا مفر من أن يجنح الطرفان إلى المسك بـ"العروة الوثقى التي لا انفصام لها" (سورة البقرة: 256). ذلك هو التجديد الديني الذي يصلح بالزمن الراهن. ليس التجديد أن نؤلف "قراءة للإسلام" قد لا تفعل سوى أنها تزيد الوضع الفكري والسياسي تشنجا وتعقيدا. مع هذا، هنالك صنف واحد مقبول من القراءة الجديدة؛ تلك التي تأتي كنتيجة لتضافر الأفكار والآراء والمواقف، لا عبر تحوير ممنهج للمناسك يفتقد إلى مبرر ( حتى لو افترضنا جدلا أنّ بعض هذه المناسك لم ينل الإجماع تاريخيا).

فالتجديد اليوم هو المادة التي ستجنّب المجتمع مشاهدة جحافل ممن يؤمنون بمشايخ الدين - المطوّعين للإسلام من أجل خدمة أجندات أجنبية مثلا- إيمانهم بالأولياء الصالحين كواسطة بينهم وبين الخالق. التجديد اليوم هو إسعاف المجتمع كي لا يظل رهينة لحزمة من الأفكار الخاطئة التي لا توَلد سوى الشذوذ العقدي على غرار الزعم بأنّ جُل مجتمعاتنا لا تقيم الدين وبالتالي فهي مارقة عن الدين و بحاجة إلى الأسلمة.

إنّ إقامة الدين – الاستمساك بالعروة الوثقى- لئن لم يتغير منهجُها جوهريا فهي بحاجة إلى منهج جديد ليحيي مَنهجَهَا. فإقامة الدين حاصلة لدى الأفراد والمجتمعات أما الحديث عن غياب إقامة الدين فهو مجرد انطباع. لكنه انطباع خطير لأنه ولّد مخرجات خطيرة. ومن أهم هذه المخرجات رغبة فئة عريضة من المسلمين أسلمة المجتمع وبالموازاة تأسيس ما يسمى بالدولة الإسلامية. وبالتالي عوضا عن البحث عن الحقيقة الكامنة وراء الانطباع لكي يتقدموا، اكتفى هؤلاء بالتشبث بالانطباع وبمخرجاته الخطيرة وكأنها عقيدة جديدة في الإسلام. بينما نزل هذا الوهم على الأمة الإسلامية قاطبة كنتيجة طبيعية لتخاذلها في مجال اضطلاعها بمسؤوليات الاستخلاف وما تتطلبه من إتباع للمعارف والعلوم ومن إرادة ومشيئة للتغيير.

لذا فالمنهج المحرِّر لمنهج إقامة الدين اليوم يشترط أن تكون الأسبقية لتوَحُّدِ المسلمين حول أهداف موحِّدة بدلا عن أن يمكثوا منقسمين إلى أطياف وطوائف لكل منها هدفها الذي تريد أن تفرضه على الطيف/الطائفة الأخرى.

مثلا، ليس البِرّ أن تعمل على إسقاط نظام الأسد في سوريا أو نظام فلان أو علان بينما أنت لم تتبين أهدافك كمسلم. في الحقيقة، لا أكترث حين أراك تعمل على إسقاط حاكم أو نظام حكم في بلدك مع أني لست مدافعا عن الحكام المستبدين وأتمنى سقوطهم. لكني أنزعج حين أعلم أنّ دافع الرغبة في الإسقاط عندك هي صفتك المسلمة دون سواها. وأنزعج أكثر حين أتيقن من أنك تشاء أن تجسّد إيمانك في عملٍ يتخذ قالب الجدية والجري وراء حقٍّ بينما أراك غافلا عن أشياء عديدة هي حقٌّ لك ويلحّ عليك الإسلام أن تستردّها أو أن توجدها. أما الحقوق التي هي بحاجة إلى شعورك بالواجب حيالها ومن أجل كسبها فتشتمل على حقوق حفظ النفس والكرامة والجسد والمال والطبيعة والمجتمع.

هكذا فإنّ صد المتلاعبين بثروات بلادك واجب، والضرب على أيدي المتاجرين بالأطفال وتشغيلهم في ظروف لاإنسانية واجب، والاصطفاف إلى جانب المعارضين لحكامهم في الغرب من أجل إيقاف الانتهاكات المضادة لحقوق الإنسان واجب، ناهيك أنك مطالب بالإدلاء بدلوك بخصوص كيفية الإسهام في تحرير الأراضي المسلوبة، ولك في القضية الفلسطينية أعظم نموذج عن هذا الواجب المقدس.

إنّ منهجك القاضي بأن تنطلق من المعنى (العقيدة الإسلامية) لتغيّر الوجود (في سوريا وفي ليبيا وفي العراق وبلاد العرب والمسلمين) منهج مقلوب. لقد قلبَه التاريخ وقلبته ابستمولوجيا العصر الراهن (الاتصال والتواصل بالخصوص) وأنت لم تنتبه للانقلاب. فبدلا عن انطلاقك من المعنى، أنت مطالب الآن بالانطلاق من العلم. فعلاقتك بالأشياء التي تريد إيجادها يُديرها العلم. إذن أنت مطالب باكتساب الوسائل العلمية التي ستخوّل لك تغيير الوجود.

لكن ها أنك تصطدم بعائق كبير سببُه انقلاب المنهج وعدم وعيك به: إلى حد الآن أنت تتجنب توظيف عقيدتك في ما يستوجب التوظيف؛ في مجال تملُّكِ الوسائل العلمية. بينما أنت تعمد إلى توظيف العقيدة في ما لا يحتمل التوظيف؛ في مجال الهدم بنيّة البناء. زد على ذلك فأنت لا فقط تقوم بالتوظيف في غير محله وإنما تفعل ذلك بلا علم. كأني بك وسّمت نفسك خبيرا في المقاولات ومع هذا فأنت لا تملك لا الخبرة ولا الصلاحية و لا المعدات اللازمة لنسف بناية، ولو كانت آيلة للسقوط. بل إنك تعمد إلى نسف بنايات في حالة جيدة. بهذا الصنيع، أنت فقط تؤجل ميلادك كمسلم استباقي وتؤبد وجودك في العالم العدمي.

يوم تقول لي إنك أدركت اللغز من وراء تقدّم الأمم الأخرى وتبينتَ أنّ قوى – أهلية وعالمية - تعرقل سيرك نحو الارتقاء وأنك قررت التخطيط لإبعاد حجارة العثرة عن طريقك، سأكون أول من يغتبط لتوافق إسلامك مع أهدافك وسأساندك في رغبتك بإسقاط نظام الحكم في بلدك أو في بلد ثانٍ لو أثبتّ لي أنه حجر عثرة هو الآخر أمام ارتقائك كمسلم.

بالنهاية، ما الذي يمنع جلّ المسلمين من سلك هذا النهج و يزجّ بهم في متاهات إسقاط الأنظمة؟ وأيهما أفضل، أن أنقلب على نظام الحكم في بلدي مع عدم إشباع شخصيتي المسلمة والتسبب في التعاكس بين الإسلام والأهداف، أم أن أعمل على تحقيق أهدافي الرامية إلى الارتقاء بحياتي وبحياة بلدي وقومي، مما سيسهل تلبية حاجياتي الدينية كنتيجة لسعيي الدءوب إلى الرقي، مع ترك مصير الحاكم حتى يستوي في الخانة الخاصة به والتي لا تضع إسلامي في ميزانٍ غير ميزانه الأصلي؟

بالمحصلة، أن تكون إدارة الحياة العمومية وكذلك إدارة الشؤون الدولية سابقة للإقامة المباشرة للدين، قد تكون من روافد الإقامة المعاصرة لدينٍ أزلي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هكذا يكون الفكر والفهم والوعى والادراك
شاهر الشرقاوى ( 2015 / 5 / 9 - 17:07 )
ولا اروع ..ولا ابدع ..ولا اوضح .ولا اجرأ ولا احق من هكذا افكار وتنوير وفهم عال وراق للدين والايمان ومعنى التجديد ..اؤيدك واناصرك بكل ما اوتيت من قوة وعلم وفهم للايمان واليقين الحق بالله وبمحمد وبالاسلام استاذى الفاضل الكبير محمد الحمّار المفكر والمجدد الاسلامى الكبير

.
تحياتى وعظيم تقديرى لشخصك وفكرك وايمانك ووطنيتك وعروبتك وقوميتك ..ولحريتك النبيلة الاصيلة


2 - نور الله ذاتك
محمد الحمّار ( 2015 / 5 / 9 - 20:04 )
أخي الأستاذ شاهر،
يسعدني جدا تفاعل حضرتك مع الفكرة المطروحة. أتمنى أن تتاح لنا فرصا للقاء وتبادل الأفكار والتصورات والإسهام في حراك فكري يعود بالنفع على مصر وتونس وعلى سائر بلاد المسلمين.

اخر الافلام

.. هيئة البث الإسرائيلية: مصر تعمل على دفع مفاوضات غزة للتأثير


.. صباح العربية | محمد أورفلي يكشف وصفة تطوير المطعم رقم 1 في ا




.. روسيا: ظهور منشآت نووية للناتو في بولندا يجعلها هدفا عسكريا


.. هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي




.. انطلاق معرض بكين الدولي للسيارات وسط حرب أسعار في قطاع السيا