الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقفة احتجاج في قاعة محاضرات مغلقة*

جوزفين كوركيس البوتاني

2015 / 5 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


دخل الأستاذ الى قاعة المحاضرات وهو يحيي طلبته ثم شرع يتحدث بصوت حاد: "قبل ان نبدأ المحاضرة، دعنا نقف دقيقة تضامن واحتجاج على ارواح شهدائنا من الأخوة الفلسطينيين!"

فوقف الجميع وقفتهم لدقيقة كاملة وهم صامتين بوجوه يرتسم عليها الحزن. الكل ساخط في داخله ولكنه يرفض الإعلان عن سخطه خوفًا او خجلاً او خشية التعرض للفصل او السخرية من قبل البقية في القاعة. وانتهت الدقيقة وأذن الاستاذ لطلبته بالجلوس وشرع كل يهيئ اوراقه للبدء في كتابة المحاضرة، إلا طالبًا واحدًا بقي حيث هو واقف وعلامات الاحتجاج مرسومة على وجهه. حمحم الاستاذ وقال: "بامكانك الجلوس إن شئت. ام انك نسيت؟" ولم يتحرك الطالب. ظل حيث هو صامتًا ومتذمرًا مما أغاض الأستاذ فكرر الآخير كلامه آمرًا اياه بالجلوس. ومضت دقيقة اخرى اعتذر بعدها الطالب من الاستاذ وجلس. استغرب الاستاذ وتقدم منه قائلاً: "ماذا اصابك يا بني؟ هلا وضحّت لي اذا سمحت؟ لماذا اطلت الوقوف؟"

فاجاب الطالب بصوت حازم: "لقد اضفت دقيقتان من عندي من اجل شهدائنا نحن. من اجل مفقودينا. من اجل مرضانا الذين بلا دواء. وقفت احتجاجًا وتضامنًا مع بلدي المغلوب على امره. لقد مضى اكثر من عقدين ونحن نضحي بأرواح لا تعد ولا تحصى. وقفت احتجاجًا على هذا الحصار الذي دمر حياة شعب بأكمله. وقفت اجلالاً للشيوخ وللأطفال. للذين هاجروا ويهاجرون مجبرين بحثًا عن لقمة عيش، عن خيمة سلام تضمهم. شعبي أولى بالوقوف من اي شعب آخر حاليًا. هذا لا يعني بأني لا احب فلسطين، وإنما فلسطين لديها من يقف لها، ولكن من يقف معنا نحن؟ من يمد يد العون لنا؟ فمنذ بداية الحصار وانا اتابع الأخبار في كل الإذاعات العربية ولم اجد إلا قلة ممن ينصفوننا ويناشدون دول العالم لخلاصنا. لم اجد أصوات عربية كثيرة تشد من أزرنا. فكل برامجهم عن تنمية شعوبهم. وأما نحن فلا احد يأبه بنا وكأننا لسنا على الخارطة. لقد رموا بنا جانبًا ليهتموا بالحديث عن تصدير نفطهم واستيراد ما يحلو لهم. يتحدثون حتى عن البراري، عن الأسكيمو، وحتى عن التبت إلا عن معاناتنا نحن! يبثون برامج عن التطور العلمي ولهم قنوات خاصة لتعليم شبابهم عن الحاسوب والإنترنت وعن ركن المرأة وعن الله وعن يوم الحساب، ولكني لم اسمع اصواتًا تذكر تتطرق للعراق ولمآسيه، بل على العكس من ذلك، لقد بتنا نشكل خطرًا عليهم. لن انسى ما حييت وقوف بعض من الدول التي تدعي العروبة ضدنا مع العدو. ليتنا نعرف من هو عدونا الحقيقي! ولن انسى دولاً اخرى وقفت مع حكومتنا المستبدة ضد شعبنا بحجة إننا نستحق ذلك! ولن انسى دولاً جاهدت للابقاء على الحصار الاقتصادي حفاظًا على مصالحها تحت فلسفة مبطنة عنوانها "الحياة مصالح"!

واضاف قائلاً: "لقد وقفت ايضًا نيابة عن الجميع معلنًا احتجاجي على الحكومة وعلى الوضع واطالب بالتغيير واتسآل لماذا لم نسمع يومًا من احد المطالبة بتغيير حقيقي داخل البلد؟ لكم تمنيت ان ارى احتجاج فعلي لا شعائري. صدقني يا استاذ ان شعبي يستحق اكثر من هذا، وإن كانت السلطة فاسدة ولا تروق لهم، فليزيحوها عنا وليجلبوا لنا حكومة غيرها! انهم على علم تام بأن الشعب لا حول له ولا قوة. والآن يا استاذي هل عرفت لماذا احتج؟ ام انك لست معي؟ قل لي كيف نقف مع فلسطين ونحن عاجزون عن الوقوف في وجه حكومتنا المستبدة؟ من سيقف معنا؟ من سيفتح باب الأمل لنا؟ لقد سئمنا هذا الحصار ومخلفاته!"

صمت الجميع وتنهد الأستاذ وهو يرمق الطالب بنظرة حب واحترام فائقين وقال له: "ارى بأنك تود قلب النظام؟" وقاطعه الطالب: "لا يا استاذ. اود خلق نظام حقيقي وفعلي وليس قلبه!"
"العلة تكمن هنا." اضاف الطالب مشيرًا الى رأسه. وبقي واقفًا حتى يأذن الاستاذ له بالجلوس ولكن الأخير لم يفعل هذه المرة. فوقف الطلاب الواحد تلو الآخر معلنين تضامنهم مع زميلهم الشهم الذي ايقظ الغيرة في نفوسهم فصاحوا هاتفين بصوت واحد: "نقف لأجل العراق الحر. لأجل مرضانا. لأجل اطفالنا. لأجل شيوخنا. ولأجل مستقبلنا. نقف ضد كل من تسول له نفسه بهدم بلدنا. نقف من اجل العاطلين عن العمل. نرفض كل من يحاول تقطيع بلدنا كما يحلو له. فنحن ابناءه له الحق علينا كما لنا نحن الحق عليه. نحن سادته وعبيده في آن واحد."

وجلس الجميع بعدها ملتزمين الصمت ومنتظرين التعليق من استاذهم، ولكن الاستاذ خانته العبرة وغمرته موجة من الفرح رغم كل المآسي التي يمر بها الوطن. لقد اكتشف بان طلبته ليسوا تافهين وسطحيين كما كان يظنهم لمجرد انهم يلبسون ملابس شبابية غربية. ما جرى في القاعة اثبت له بأن نظرته لهم لم تكن دقيقة حيث اكتشف بانهم سادة انفسهم. بل هم سادة من نوع خاص يليقون بالعراق ويليق العراق بهم. انهم لحق اصحاب نظرة بعيدة. فأخذ الطبشور وكتب على اللوحة: عاش العراق مكرمًا بين الأمم!

حدث هذا كله في قاعة مغلقة ولم يشهده احد سوى الاستاذ وطلبته. كان احتجاجًا بسيطًا وربما بلا تأثير يذكر، ولكن يكفي انه حدث والبقية ستأتي لاحقًا؟....

*كتبت هذه المقالة اثناء فترة الحصار الاقتصادي المفروض على العراق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توترات متصاعدة في جامعات أمريكية مرموقة | الأخبار


.. !الرئيس الألماني يزور تركيا حاملا 60 كيلوغرام من الشاورما




.. مئات الإسرائيليين ينتقدون سياسة نتنياهو ويطالبون بتحرير الره


.. ماذا تتضمن حزمة دعم أوكرانيا التي يصوت عليها مجلس الشيوخ الأ




.. اتهام أميركي لحماس بالسعي لحرب إقليمية ونتنياهو يعلن تكثيف ا