الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهاب ..... قصة قصيرة

محمد مهاجر

2015 / 5 / 17
الادب والفن


جاء وجماعته قبل دقائق عديدة من بدء العملية واتجه مباشرة الى الحديقة ثم جلس على اول كرسى يصادفه ولم يتحدث مع اى انسان. بعد دقائق لاحظ اعوانه بانه ظل ساهما قطبا لا يتحدث الا لماما, ولما طال صمته تطوع بعضهم وقدم له بعض الاقتراحات لكنه رفضها تماما. لم يناقشوه لانهم يعرفون انه انسان عنيد ومعتد بنفسه عظيم الاعتداد. وبالبرغم من تفرد الظرف الا انهم توقعوا الا يؤثر الحزن فيه ولا ينهار باكيا بل يظل على سجيته. "الرجال لا يبكون", كان يردد هذه العبارة كثيرا

انتصب واقفا ثم عدل عمامته وشاله المرصع بالذهب ورفع عصاة الابنوس ثم تحرك فتحركت معه المجموعة. استغرق وقتا طويلا فى الوضوء, وكان احيانا يغمض عينيه ويضغط عليهما باصابعه ويظل على هذه الحال لعدة دقائق ثم يعيد الوضوء من جديد. ولان الوقت كان مبكرا لصلاة المغرب, فقد مل الرجال من الانتظار لكن لم يجرؤ اى منهم على مغادرة المكان

تجمعوا قرب المدخل ولما التفت اليهم خبر حالهم فصرفهم واختلى بنفسه. لم يهن عليهم ذلك لانهم كانوا يعلمون انه سيحتاج الى من يظل قريبا منه. عونا على ذلك فقد ظل يحبهم حبا كثيرا ويعاملهم كاخوة لا كاجراء. وكانوا يتوقعون ان يقع الاحتمال الاكثر سوءا, وان صدق ذلك فسيصبح الرجل فى حالة تحتاج منهم ان يقدموا له مساعدة عاجلة اوللتدخل لمنع الضرر. وهم يعلمون انه ذو شمم كبير, بيد ان المرء دائما يحتاج لاناس حوله

ما ان سمع الصوت الاتى من على البعد حتى تعرف عليه بسرعة فتبسم حينا ما ثم التفت لكى يبوح باحاديث كثيرة لكنه لم يجد اى من رفاقه على مقربة منه. وكان الرجال قد ابتعدوا قليلا. وأغمض الرجل عينيه من جديد وضغط عليها فرأى ذلك الجسم الحديدي الحاد يخترق جسم شهاب وسمع صراخه يعلو ثم يعلو ثم تتكاثر منه اصوات الاستغاثة وتزداد وضوحا. وفجأة اخذ الصوت يتجه نحو الهدوء ثم رويدا أصبح صوت المؤذن يطغى عليه ويصفو وينجلي, فأنهى الرجل الوضوء بسرعة لكي لاتفوته صلاة الجماعة

كان يكثر من مدح شهاب ويقول لرفاقه انه ذكى جدا وشجاع جلد ومثابر شديد الشكيمة قوى العزم وهو باهر الشموخ غزيرة عزة نفسه. وانتظر الرجل عودة رفاقه لكى يحكى لهم الكثير عن شهاب لكنه شعر بيد تربت على كتفه فادار جسمه بسرعة. واعتذر الطبيب بشده لانه احس بانه افسد على الرجل حالة سكونه واستغراقه فى التفكير, ومع ذلك لم يضع وقتا كثيرا فاعطى الرجل اوراقا لكى يوقع عليها

عاد الطبيب الى غرفة العمليات وقام بتفقد اعضاء الفريق الطبى المنهمكين فى اكمال الترتيبات واجراء المراجعات اللازمة حتى تتم العملية بصورة سلسلة. وحين عاد الرجل من الصلاة وجد ان الحميع ينتظره. لم يضع وقته فى الحديث بل توجه مباشرة الى شهاب فوضع يده على رأسه ومسح على شعره ثم على عنقه الناعم وانحنى فقبله على جبينه ثم اعتدل واقفا


حين اطمأن الطبيب وتيقن من اكتمال كل التجهيزات اشار لفريقه بان الوقت قد حان. كان شهاب ساكنا لم يبد اى امارات انهاك او وجل, اما الطبيب فكان يتنقل سريعا بين مجموعات الفريق الطبي لكي يتأكد بنفسه من صحة كل شئ. والتفت الطبيب الى الرجل وقال له:"جاهز يا فارس". كان يعلم انه يحب لقب الفارس الذى كاد ان يطمس اسمه الحقيقى, وهو فارس بلا شك. وكان الفارس فى تلك الاثناء يوزع نظراته بين عزيزه شهاب وأعضاء الفريق الطبي ويحاول بقدر الامكان ان يخفى قلقه الشديد

فى لحظة امتلاء الحقنة بالسائل غشيت الفارس رعشة خفيفة، غير ان شخصا او اثنين رصدا ذلك. كانت الحقنة كبيرة جدا وفظيعة. فظيعة لدرجة ان الجميع قد اتفق فيما بعد ان يطلق عليها لقب المسدس. وكان الدافع لذلك هو حقيقة تحفزها الشديد لدفع الاذى الكبير كله والفزع الشيطانى والرعب عين الرعب, هذه كلها تود ان تدفعها قريبا جدا من شهاب, وحين تاتى اللحظة المناسبة تباغت الجميع فتنفذ امرها رغم انف الجميع

كانت الممرضات تقفن ملتصقات بشهاب ومستعدات لتنفيذ ما يطلب منهن. وفي لحظة إختراق الجسم الشيطانى المتخم بالسائل جسد العزيز كانت كل واحدة منهن تضع يدها على جزء من جسمه. وبعكس ما توقعن فلم يبد شهب أى ملامح للتالم بل ظل على سجية الجلد كما عود الجميع. تبسم الفارس لما ادرك بان عزيزه قد اثلج صدره, ومع ذلك فقد كان الجميع على يقين بان اى مشاعر للرجل بالتفاؤل تعد امرا غريبا

لم يمض وقت طويل حتى ادرك الجميع بان مفعول الحقنة قد بدات سماته تظهر للعلن. كانت الأرجل تنشد وتنبسط والجسم يتشنج بسرعة وبشكل مخيف، اما عضلات البطن فكانت تتقلص بوضوح وبوتيرة عالية. كان الما مقيما كأن مجموعة كبيرة من الابر كانت تمارس وخزا جماعيا ساديا على البطن والرأس معا، هكذا وصف الفارس حال عزيزه فيما بعد. ووضعت الممرضات أيديهن على الرأس والبطن والارجل وضغطن جيدا. بخبرتهن كن يعرفن الموضع الأكثر ايلاما فى مثل هذه الحالات, وكن احيانا يمسحن مسحاً خفيفا ناعما على الظهر والعنق

جزع الفارس حين علم بان الحرارة قد ارتفعت بصورة مفاجئة ومرعبة. وفى لحظة ما حاول شهاب اجبار نفسه على التقيؤ لكنه فشل. وحين لج الرجل فى طلبه عمدت الممرضات على استخدام كل وسيلة تساعد على خفض الحرارة على وجه السرعة. وبالعكس فقد رفض الطبيب اعطاء شهاب اى حقنة لتخفيف الألم وقال لهم بان الحال لن يدوم طويلا. ولما وجد الفارس ان اجتهاد النساء لتخفيف الحرارة قد اتى اكله, انفرجت اساريره, لكن مسرته لم تدم طويلا فقد حم الجسد بعد دقائق قليلة ورجع الألم من جديد واشتد. واصبح شهاب يحرك جسمه سريعا ذات اليمين وذات اليسار ويتلوي وينتفض بقوة كبيرة وبشكل سريع ومفاجئ ولم ينجح تكامل جهود الجميع فى تثبيته فى مكان واحد. ومع علمهم بالمصير المحتمل الا انهم لم يتخاذلوا واستمر دأبهم فحققوا نجاحا. وحين اطمأنوا انه قد رضخ للامر الواقع, ترك بعضم العمل وظلوا يراقبون

فى وقت وجيز اصبح لون البشرة داكنا جدا وانتفخت الأشداق وتورمت الشفاه. وكان واضحا ان امرا ما يضايقه لكنه يحاول جهده كله التغلب عليه. وفى لحظة ما اصبح كتمانه مستحيلا فخرج رغما عنه ، مادة صفراء داكنة ثخينة خرجت من فمه وتتابع تدفقها. واصبح المكان ذو نتانة لا تطاق. وبسرعة هب اعضاء الفريق فنظفوه المكان وغسلوا وجه شهاب ورطبوا له جسمه. تبسم شهاب ابتسامة سريعة غريبة. بالنسبة للبعض فقد كانت ابتسامة ذات سحر لكن اى منهم لم يتبينها جيدا. اخيرا إقترب الفارس ووضع يده على عنق شهاب وقبل جبينه

اعتدل الفارس وتبسم ثم اسند ذقنه على كفيه المطبقين ثم وجه بصره بعيدا. كان يظن ان معجزة قد حدثت. ولما طال شروده سحب احد معاونيه اليد وجذبها الى اسفل فانحنى الفارس واحس باصابعه توضع على العينين. كانت ابتسامة شهاب هامدة كانها مرسومة على منحوتة من الحجر الصلد. وهز الجميع رؤوسهم واحاطتهم مشاعر الاعجاب به, وفى نفس الوقت عمهم الحزن الشديد . إلى أخر لحظة كان مصمما على ألا يبدي أي مظاهر للجبن. وسكن الجميع ما عدا الفارس الذى فرك العينين مرار ثم تحرك رويدا رويدا متراجعا إلى الخلف

رملي البشرة أخذ من التبر لونه البديع الشامخ وعزته المتجذرة وارتباطه الدائم بالنصر. حين يعدو كان يضرب الأرض ضربا كمن يشعر بالذهب يمور من تحت أقدامه. أغر باهر الوجه مليح الطلة ذو طلاوة نادرة. حين أطلق عليه اسم شهاب كان يعلم أنه سوف لن يخيب ظنه أبدا، فكان سيد للسماء مهابا أناف على كل الأنجم. بعد انتهاء السباق الأخير كان يضرب برجله على الأرض ويبرز صدره الضخم إلى الأمام ويستدير يمنة ويسرى، كان يريد إظهار حمده وفخره بالنصر المؤزر. وحين اقترب منه الفارس وربت على كتفه الناعمو اخبر معاونيه بانه كان مفتونا بجمال قوامه وقوته ومثابرته والتزامه الدائم بما عاهد عليه من تحقيق الأفضل المبجل

في أول سباق حسب الجميع أنه خاسر لا محاله لكنه خيب ظنهم في الثواني الاخيرة. ومنذ تلك اللحظة تشبث برايات النصر جيدا حتى أصبح الناس لا يتحدثون إلا عن مقدار الفارق الزمني بينه وبين منافسيه. وتبسم الفارس من جديد، كان مغمض العينين وهو يستمع إلى نفس الصوت الذي غشاه قبل الغروب, نفس الرنين والجرس الحلو. وقدر الرجال أنه انشا يحلم كعادته, ومع ذلك لم يقدر اي منهم أن يثير الأمر علنا خشية من ان يفسدوا عليه طعم الذكريات الأثيرة. كان العزيز يستبسل أيما استبسال لاتقان التدريب، رغم القسوة، وعود الجميع على طول الأناة والا يتحجج بالإصابة. وافاق الفارس وفتح عينيه وألقى نظرة أخرى على الفرس. واصبح على يقين من الحقيقة لكنه ظل مصرا على ألا يبدي اى مشاعر لوعة او كرب وترك الناس منهمكين في إنهاء أعمالهم وإتجه نحو دورة المياه

قبل الدخول توقف وفكر في أن الامر لا يعدو ان يكون الا غيبوبة, وقال: " لا. ليس هو الموت", لكنه عاد الى رشده حين اعاد ترتيب الاحداث وتدبرها بروية. فتح صنبور الماء البارد وغسل وجهه ويديه ثم اعاد العملية من جديد. وضع العمامة جانبا ثم ترك الماء البارد ينساب على ناصيته ووجهه ثم أغمض عينيه وسكن. اعتدل وفتح عينيه ثم تمتم بحديث ما. كان يعلم أن المرض عضال وان إنهاء حياة الفرس امر لا مناص منه, لكن الحزن هزمه حين واجه لحظة الفقد الاليم

أصبح الفارس يجاهد نفسه بقوة كي يمنعها لكن الدمعة اللاذعة تسللت هاربة من مقلتيه، ساخنة وحامضة. وضع اصابعه على جبهته ثم سمح لنفسه بحرية البكاء فانتحب وشهق كثيرا. وبعد فترة أحني رأسه مجددا وترك الماء البارد ينساب من الصنبور إلى راسه ووجهه. وشعر ببرودة نادرة تعم جسمه واحس براحة أبدية . وبكى من جديد لكنه قرر هجر الماء. وبعد ان افرغ كل ما بداخله تحرك بهدوء الى الخارج. وكان يعتقد بانه قد افرغ كل شئ وعاد كما كان لكن دمعة منفلتة فضحته. اخذ طرف شاله وجففها ثم مشى بثبات متجها نحو سيارته المتوقفة على مسافة ليست ببعيدة. وكان الرجال فى تلك اللحظات ينتظرونه
-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أشرف زكي: أشرف عبد الغفور كان من رموز الفن في مصر والعالم ا


.. المخرج خالد جلال: الفنان أشرف عبد الغفور كان واحدا من أفضل ا




.. شريف منير يروج لشخصيته في فيلم السرب قبل عرضه 1 مايو


.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح




.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار