الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرفة جراحة المفاهيم

جمال البزويقي

2015 / 5 / 21
الادب والفن


- أماميةً قوم عند قوم رجائعُ .. ما رأيك استيفان ؟
- رأيي ؟ ليس لعاطلٍ مثلي رأيٌ بهذا العنان (و قد كان يريه بياض الجيبان)
لقد نجح في الانقطاع عن التدخين بمجرد ما أن تخرج بعد محاولاته العديدة التي بائت بالفشل "فللبطالة فوائد كثيرة" قال متمتما و هو يتملق بائع السجائر الذي دلف للمقهى بمشية متنهدة، أمسى جل مزاجه تعكر في تفكر في تذكر .. لم يعد ذلك المتفائل الذي يتملق صورة أمه مناجيا خاطره "ستفخرين بابنك قدر جرحك في صنعه"، لقد أمسى الآن فردا آخر، عجوزا غير أشيب يتقن كيف يتفاخر، و قد نحتت فيه صلد الأيام عزيمة تبدع صنع مخارج الأزمات و مباسم المطبات .. و قد سار في فكره غريقاً كما سارت يده في جيبه اليسرى ..
- جيبي الأيسر فارغ دائما و في الأيمن مفاتيح المنزل و ثمن القهوى ، أتراني ان نقلت النقود الى جيبي الأيسر أمسى انتهازيا، أتراه سيصير يمينيا؟ أهو ثوري هكذا و قبضتي من تملأ كله ؟
انه مجنون الجدال و مدمن التسائل و الاعتدال ماقتٌ للابتذال، يخيل لمجالسه أنه محض ثرثار مدمن لعشبة البلاد لكن رفيقه الوحيد من يدري أي أيقونة هذا الذي صنعته سهول المنطقة .
- هِيْ أنت ، أشردت مجددا ؟؟! قل لي .. ألازلت متمسكا بفكرتك المجنونة ؟ (خاطبه صديقه)
- أي واحدة منها ؟
- أن تقوم بعملية جراحية لأمك المريضة بالسرطان !!
- أجل .. أتساعدني كممرض ؟
- ستجنني يوما ما يا رجل .. أدري أنك خريج كلية طب بتــ...
- (قاطعه) بتميز لأني بعت هكتارات عائلتي
- أجل أجل .. لكنها أمك كما أنك لا تملك أي أدوات أو غرفة جراحة أو حتى معقم، خلتك تمزح يوم أخبرتني
- لدي مكيف بالمنزل و ماكرويف و بعض الضمادات..
عنيد يقال عن عناده أنه سبب فشله، لقد رفض عرض متخرجين من دفعته في التكفل بما يلزم مع سرطان أمه لكنه رفض جميع العروض: يقول أن "فاريجي" محض حزبي خائن، و رفض دعوة "الهاشمي" كبير الأطباء بالمستشفى الجهوي لأنه لا يضع صورة حاكم البلاد بمكتبه كرخصة لعيادته و فقط بل لأنه يحبه و هو يجعل حجمها أكبر في كل سنة كما يقول .. و قد قرر بعد عناء طويل من التفكير و تحصين الابرات الأربع المصنوعة من زعاف الأفاعي أن يقوم بالعملية الجراحية بنفسه ، مؤمنا بأن المرض الذي صنعته الأنظمة لا يداوى الا بمستشفيات الشعب و لأنه "ما من مستشفى للشعب بالبلاد" حسب قوله فقد قرر صنع عيادته الخاصة .
- استيفان صديقي .. لن تنصفك سوى الثورة، علينا بالثورة .
- الثورة التي تصنع تنتهي بمسرحية حزبية .. قل أننا علينا تعجيلها .
- أنت تدقق بالمفاهيم كثيرا و سيأخرك ذلك كما أرى
- فل تكن ثورة المفاهيم، ثورة على كل المفاهيم المسلوبة التي تمثلنا و تلخصنا -تلخص تاريخنا- لكنها تخدم نقيضنا .. ان أبشع ما يسرق منا هي مفاهيمنا يا "دولور"
- قد تكون محقا ( وهو يشعل سجارة) لكن الجماهير أغبى من أن تفهم ما تقول .
- الجماهير غبية لأن ذكائنا ليس جماهيريا .. اسمعني .. ليس هناك ثورة تنفجر من بُعبُعان نفسها (كان يفضل مصطلح بعبعان لأنه مشتق من حشرة معروفة بالمنطقة) علينا أن نثور على أنفسنا أولا على ما طبعنا به عبر سنين التعليم الأجوف و التدين المزيف، في ذاتنا شخوص كثيرة تتصارع على عرش احتكامنا و دائما ما تفشل ذاتنا المبدئية في اعتلاء السلطة لأنه ليس في الواقع الاجتماعي ما يساعدها على ذلك، لكن في مدارس الفكر و تجارب الأقوام و الحضارات ما يدعم طرحها طرح الانسانية ..
- دولة العمال تقصد
- كلا قبل ذلك .. أقصد دولة كل واحد منا في ذاته ، دولة المفاهيم التي تقمعك ما ان تبحث عن تفسير منطقي للاتحاقك بالأحزاب الحقيرة، أو لاجتيازك لمباراة شرطة، على ما تحفض كل شعارات تحرر المرأة و مجلداتها لكنك لازلت لعوبا برقة النساء و عاجز عن صنع امرأة واحدة متحررة، عن كل تزمتاتك و أنت تعرف أنك مخطئ، أتحدث عن مقدرتك في الاخلاص للواء دون أن تستسلم بما أصابه من بلاء، عن اجتهادك حين اشتد البأس و تعب الكثيرون (بدأ صوته يعلوا و يتسارع) عن العناد و الثبات، عن الأم الصغيرة (يقصد أمه) ضحية الأم المسلوبة الكبيرة (يقصد وطنه) عن كل ما يمكن أن يشكل سطور يومياتك .... اني ... اني .... متأكد الآن أكثر من أي وقت أني أعيش من أجل أن أحصل على الموت الذي سيكون بداية حياتي الأبدية .
أنهى عنفوان حديثه متناولا رشفة طويلة من كوب قهواه طالبا من رفيقه دولور أن يقوما ليذهبا حيث خططا، كان قد طلب من استيفان أن يرافقه ليذهب و يخطب "رقية" خاصة و أنه يتيم الأبوين بعد أن توفيا على الطريق الساحلي للبلاد الذي يقال أنه تعمدت ثعبنته لتقل السياحة، فلم يجد استيفان سوى القبول ليرافقه لسببان : الأول أن دولور من كبار المقربين له رغم فارق السن و الثاني أنه متشوق ليتعرف رقية التي لا تفارق شفتي دولور و لا هاتفه و لا أي شيء منه
- يا الاهي !! ألم تجد امرأة باسمٍ حسن بدل رقية هذه ؟ انها تبدوا كترقية أو برقية ( كانا يسرعان و ينظران بالساعة محترسان من برك الماء في الطريف لأن لا تتسخ ثيابهما الجديدة)
- رقية انسانة راقية لقد اعتصمت العام الفائت بباب منزل أبيها مطالبة بالعدالة و النضج في التعامل بعد أن اجتمع جل الساكنة في فصاحة لسانها، لقد كان ينهب ما تكسبه من معمل الحلوى و ..
- (قاطعه) أجل أجل أكاد أحفظ منك الأسطوانة ، و من يكون أباها ؟
- لا أدري فقد عرفتها بعد أن أفرج عني مباشرة و هي ليست بالمدة االطويلة
- (غنى مقاطع من أغاني فرنسية و أضاف) نصف مفرملات الثورة من ألعوبات النساء و ها أنت يا صديقي الوسيم ستتقزم أحلامك الى منزل و سيارة و طفل مطيع ..
قاطعهما وصولهما لباب المنزل و قد كان هناك رجل ينتظرهما بقد نحيف و شوارب كثيفة تبدوا عليه تقرحات الشمس و بعض من تجاعيد الابتسام قرب العينين .. رحب بهما و أجلسهما بغرفة الضيوف التي كانت مزينة بما بدى أنها آيات و قصار صور .. ابتهج دولور شيءا ما فقد كان يبدوا أن الرجل لطيف و شعبي الطباع و قد كانا يتمتمان فقاطعهما .
- أهلا أهلا و سهلا .. ما بال ضيفينا أيحتاجان شيءا ؟
- كلا شكرا لك لقد عبر لي العريس عن راحته تجاهك كأب للعروس انه مرتبك و أنت تدري شباب اليوم و خجله الغريب ها ها .. (أجابه ايستيفان بابتسامته المزمجرة)
- شكرا لك لكني لست أباها ( و قد كان يتملق الدرج ) لحظة يبدوا أن من تقصدان قد وصل ( كان لا زال مبتسما لم يتوقف عن الابتسام مذ وصل الضيوف)
كانت قرقعة حذاء الوافد بطيئة و حادة على بلاط المنزل كدقات الحداد على السندان و قد كان اقباله عليهما مميز اذ توقف فجأة و توقف دولور و ستيفان متفاجئان.
- مذا!! ... بُندُق؟ مذا تفعل هنا ؟ (همس استيفان باستفهام حاد)
- مذا تفعلان أنتما هنا .. هذا منزلي (صمت الجميع قرابة ربع دقيقة متبادلين للنظرات) لا تقل لي أن دولور أتى ليخطب ابنتي
لقد كان بندق والد رقية و قد كان السجان أيضا، السجان الذي أرى دولور أسوأ لحظات حياته فقد كان مكلفا بالمعتقلين السياسيين ، لقد كانت صدمة كبرى و لقاءا غريبا جليديا رغم حر صيف العشية، حاول استيفان أن يرسي تفكيره بضفة الصواب و هو يتملق كبار الواشين و المرتزقين بالمنطقة .. قاطعهما بندق بعد أن أضاف خطوات قليلة تجاههما .
- اجلسا ، أنا أمزح لا أظنني سأمتنع عنك دولور كزوج لابنتي فأنا أحفظك شبرا شبرا شعرة شعرة، خاصة أنه قيل لي أنك مختار كمعلم تحت التدريب
لم يكن ليخفى خبر انتقاء دولور بوفد المعلمين الجدد على بندق حتى لو خفي على كل سكان البلدة، كما أنه ما كان ليخفى على ايستيفان وجه دولور المحمر و عيناه الموشكتان على البكاء كحبتي بنادورة تكادان أن تنفجرا، استطرد بندق فجأة و قال .
- اجلسا يا منتجي الشغب بالبلاد لكي ننتج اتفاقات ستكون باب علاقة جديدة (زين حديثه بابتسامة مجموعة لطرف واحد)
- (قاطعه ايستيفان) لن نتنتج في حياتك سوى ما تضعه بدورة المياه لكي يذهب للأمريكان الكفرة (وهو ينظر للصور المعلقة) و ينتجوا بها الغاز الذي يطبخ لك حبيبتك البطاطة لتكرر العملية الى أن تنفجر أنت أو تنفجر البلاد من أثقال أمثالك أيها الحثالة
أمسك ايستيفان يد دولور المتجمد و خرجا بسرعة البرق و قد بدا و هما ينزلان الدرج أن هناك مجمعا من النسوة كان يتنصت من مكان ما ..,,
كان موقفا غريبا و صعبا و مجنونا بما أضافه استيفان، هو يدري أن دولور سيعاني الكثير الآن و سيفقد تركيزه مما سيؤثر سلبا على بقية الرفاق بمجلس الخلية الذي يبنيه، و هو يدري أنه خيار صعب، كما هو الأمر بالنسبة لأمه و كل الخيارات التي تضعك أمام أمرين : يا اما التنازل و الراحة، و الا الكفاح و مبادئك والكل يعاديك بالشمس الوضاحة .
أمسى يدري الآن أن ثورة المفاهيم الآن لم تعد محض حديث مقاهي بل وجب أن تكون نقطة نقاش الخلية في أقرب مجلس و قد كان و هو يتملق صدمة دولور الذي يحسب بلاط الرصيف في ارتباكه أن يدري أنه عليه بالعمل الدؤوب كي لا يفقد الشباب ..,,
أمسك المفاتيح في جيبه اليمنى و مضى متعجرفا منتفضا ,,, عاقد العزم على أن لا تغرب الشمس الا و قد قام بأمر مفصلي فان كانت رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة ، فالثورة تبدأ باعراب جملة .

_____________________________________________________________
مساهمة أردنا أن نتواصل بها و قرائنا في سياق اقبالنا على التحضير لنشر أولى أعمالنا الأدبية لذى فل ترسل انطباعاتكم الى الايميل التالي : [email protected]
مع أملي أن لا يكون تحفظي على النص الأصلي قد أفقد المقتطف أهليته للقائكم .... التحية بين السطور لكم
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81