الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرأسمالية (رواية الأرواح الشريرة) 2

فضيلة يوسف

2015 / 6 / 4
الادارة و الاقتصاد


على الرغم من أن شركة Tatasمنخرطة في الأعمال الخيرية منذ ما يقرب من مائة سنة وحتى الآن، تقدّم منح دراسية وتشغّل بعض المعاهد والمستشفيات التعليمية الممتازة، انضمت الشركات الهندية مؤخراً إلى دائرة الضوء في عالم الشركات العالمية القاتلة لخصومها، ولكن عليك أن تكون داهية حتى يتسنى لك معرفة ذلك بالكاد.
قد يبدو للبعض أن النقد في هذا المقال قاسياً نوعاً ما. ومن ناحية أخرى، تكريماً للخصوم ، يمكن قراءته على أنه إقرار للرؤية والمرونة والتطور والعزيمة التي لا تلين من أولئك الذين كرسوا حياتهم للحفاظ على العالم آمناً للرأسمالية.
بدأ تاريخهم الآسر، والذي قد تلاشى من الذاكرة المعاصرة، في الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين ، عندما أصبحت قانونية ، بدأ العمل الخيري للشركات ليحل محل النشاط التبشيري كما الرأسمالية (والإمبريالية) . وضعت مؤسسة Carnegie الأسس الأولى في الولايات المتحدة ، عام 1911 من أرباح شركة Carnegie للصلب؛ ومؤسسة روكفلر، عام 1914 من قبل روكفلر، مؤسس شركة Standard Oil . كانوا Ambanis و Tata وقتهم.
ومن المؤسسات الممولة، من مؤسسة روكفلر ،الأمم المتحدة، وكالة الاستخبارات المركزية، ومجلس العلاقات الخارجية، متحف نيويورك الأكثر من رائع للفن الحديث، وبطبيعة الحال، مركز روكفلر في نيويورك (حيث نُزعت جدارية دييغو ريفيرا التي تصور خبث وفسق الرأسماليين وبسالة لينين. (أخذت حرية التعبير يوم عطلة).
كان روكفلر الملياردير الأميركي الأول، وأغنى رجل في العالم ، وهو مؤيد لأبراهام لنكولن ويؤيد إلغاء الرق والممتنع عن المسكرات. ويعتقد أن أمواله هبة من الله، لأنه يحبه .
وهنا مقتطفات من واحدة من قصائد بابلو نيرودا المبكرة عن شركة Standard Oil:
الأباطرة السمان في نيويورك
هم قتلة يبتسمون بلطف
الذين يشترون الحرير والنايلون، والسيجار
طغاة ومستبدون حقيرون .
يشترون البلدان والشعوب، والبحار، والشرطة، وحكام البلدان ،
في مناطق بعيدة حيث يخزن الفقراء ذُرتهم
مثلما يخزن البخلاء ذهبهم
أيقظتهم ستاندرد أويل ،
وألبستهم الزي الرسمي ،
وجعلت الشقيق عدّواً .
باراغواي تحارب حربها،
ويتلاشى البوليفيون بعيداً
في الغابة مع مدافعهم الرشاشة.
اغتيل الرئيس لقطرة من النفط ،
مليون فدان مرهونة ،
إعدامات سريعة ومخيفة على أضواء الصباح المبكر ،
سجون جديدة للثوار،
في باتاغونيا، خيانة،
تناثرت طلقات تحت أضواء القمر البترولية،
تغيير وزاري خفي..
في العاصمة،
همس
مثل جريان النفط،
يشتد الصوت ، وسترى
كيف تتألق رسائل النفط من ستاندرد فوق الغيوم،
فوق البحار، في منزلك،
ملقية الضوء على ممتلكاتهم .
عندما ظهرت المؤسسات الخيرية التابعة للشركات ، في الولايات المتحدة، حدث جدل حاد حول المنشأ والشرعية وانعدام المساءلة. اقترح الكثيرون أنه إذا كان عند الشركات الكثير من المال الفائض، ينبغي رفع أجور العاملين بها. (خرجت هذه الاقتراحات الفاحشة في تلك الأيام، حتى من أمريكا.) إن فكرة هذه المؤسسات، أصبحت مألوفة الآن، كانت في الواقع قفزة من الخيال في عالم الأعمال. الاعفاء من الضرائب ، وأوضاع قانونية وموارد ضخمة في فترة وجيزة- وتقريباً غير خاضعة للمساءلة كلياً وغير شفافة، إنها أفضل طريقة لاستثمار الثروة الاقتصادية في رأس المال السياسي والاجتماعي والثقافي، لتحويل الأموال إلى سلطة. ما أفضل طريقة للمرابين لاستخدام نسبة ضئيلة من أرباحهم لإدارة العالم؟ وإلا كيف أن بيل غيتس، الذي يعرف شيئاً أو شيئين عن أجهزة الكمبيوتر، يجد نفسه مصمماً لسياسات التعليم والصحة والزراعة، ليس فقط لحكومة الولايات المتحدة، ولكن بالنسبة للحكومات في جميع أنحاء العالم ؟
شهد العالم بعض الأعمال الخيرية لهذه المؤسسات عبر السنين (تشغيل المكتبات العامة، والقضاء على الأمراض) . بدأ الاتصال المباشر بين الشركات والمؤسسات التي تقدم الهبات بالاضمحلال. وفي نهاية المطاف، وتلاشى تماماً. والآن حتى أولئك الذين يعتبرون أنفسهم من اليساريين لا يخجلون من قبول الهبات من هذه المؤسسات.
بدأت الرأسمالية الأمريكية منذ العشرينيات تنظر إلى الخارج، وعينها على المواد الخام والأسواق الخارجية. بدأت بوضع الأسس لصياغة فكرة الحوكمة العالمية. في عام 1924، بنت مؤسسة روكفلر ومؤسسة كارنيجي معاً ما يسمى اليوم مجموعة الضغط الأكثر نفوذاً في السياسة الخارجية في العالم، (مجلس العلاقات الخارجية (CFR)) ، الذي موّلته لاحقاً مؤسسة فورد كذلك. وبحلول عام 1947، تم إنشاء وكالة المخابرات المركزية ( CIA ) التي عملت بشكل وثيق مع (CFR) على مر السنين، وقد شملت عضوية ال CFR) ) 22 من وزراء الخارجية الأمريكيين، وكان هناك خمسة أعضاء من ( CFR ) في اللجنة التوجيهية التي خططت للأمم المتحدة عام 1943، وبمنحة مقدارها 8.5 مليون دولار من مؤسسة روكفلر تم شراء الأرض التي أقيم مقر الأمم المتحدة في نيويورك عليها.
كان 11 من رؤساء البنك الدولي منذ عام 1946، (الرجال الذين قدموا أنفسهم على أنهم أصحاب رسالة للقضاء على الفقر في العالم ) أعضاء من( CFR) . (وكان الاستثناء الوحيد George Woods . وكان جورج عضواً في مجلس أمناء مؤسسة روكفلر ونائب رئيس بنك Chase-Manhattan).
قرر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن الدولار الأمريكي يجب أن يكون عملة الاحتياط في العالم، وذلك من أجل تعزيز تغلغل رأس المال العالمي، فإنه سيكون من الضروري عولمة وتوحيد الممارسات التجارية في السوق المفتوحة. ومن أجل تحقيق هذه الغاية يُنفق قدراً كبيراً من المال لتعزيز الحكم الرشيد (طالما أنهم يسيطرون على الموضوع )، ومفهوم سيادة القانون (شريطة أن يكون لهم رأي في صنع القوانين) ومئات برامج مكافحة الفساد (للمحافظة على النظام الذي وُضع في المكان.) اثنان من أكثر المنظمات المبهمة غير الخاضعة للمساءلة في العالم تُطالب بالشفافية والمساءلة من حكومات البلدان الأكثر فقراً.
وبالنظر إلى أن البنك الدولي يوّجه السياسات الاقتصادية في العالم الثالث بشكل أو بآخر، فإنه أرغمهم على فتح أسواق البلدان واحداً تلو الآخر للتمويل العالمي، يمكن القول أن العمل الخيري للشركات تحوّل إلى الأعمال الأكثر البصيرة في كل العصور .
سوّقت إدارات المؤسسات التجارية الخيرية، ووجهت قوتها ووضعت قطعها على رقعة الشطرنج، من خلال نظام لأندية النخبة ومراكز الفكر، ويتم دخول وخروج الأعضاء منها خلال الأبواب الدوارة. وعلى عكس العديد من نظريات المؤامرة في التدوير، ولا سيما بين الجماعات اليسارية، لا يوجد أسرار، شيطانية، أو ماسونية في مثل هذا الترتيب. وهو لا يختلف كثيراً عن طريقة الشركات التي تستخدم شركات وهمية وحسابات خارجية لنقل وإدارة الأموال سوى أن العملة هي القوة، وليس المال.
أُنشئت اللجنة الثلاثية عام 1973، لمجلس العلاقات الخارجية ( CFR ) من قبل ديفيد روكفلر، الرئيس السابق لمستشار الأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي (مؤسس المجاهدين الأفغان، أسلاف طالبان)، وبنك Chase-Manhattan وأعضاء من القطاع الخاص رفيعي المستوى . وكان الغرض منها خلق رابطة من الصداقة والتعاون بين النخب في أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان. وقد أصبحت اللجنة الآن خماسية ، لأنها تضم أعضاء من الصين والهند. (مديرو بعض الشركات في الهند والصين).
معهد Aspen هو النادي الدولي للنخب المحلية ورجال الأعمال والبيروقراطيين والسياسيين، وله فروع في عدة بلدان. Tarun Das هو مديرمعهد آسبن في الهند وغوتام ثابار هو الرئيس. العديد من كبار المسؤولين في معهد ماكينزي العالمي (المقترح للمر الصناعي من دلهي مومباي) أعضاء في مجلس العلاقات الخارجية، واللجنة الثلاثية ومعهد آسبن.
أُنشئت مؤسسة فورد (مؤسسة أكثر ليبرالية من مؤسسة روكفلر على الرغم من أنهما يعملان معاً باستمرار) في عام 1936.ولها أيديولوجية واضحة المعالم وتعمل بشكل وثيق للغاية مع وزارة الخارجية الامريكية. مشروعها تعميق الديمقراطية و "الحكم الرشيد" ، وهي جزء لا يتجزأ من نظام Bretton Woods لتوحيد الممارسات التجارية وتعزيز الكفاءة في السوق الحرة. عندما حل الشيوعيون مكان الفاشيين عدواً رقم واحد لحكومة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ، أصبح هناك حاجة إلى أنواع جديدة من المؤسسات للتعامل مع الحرب الباردة.
قامت مؤسسة فورد بتمويل RAND (مؤسسة البحوث والتنمية)، وهي مؤسسة عسكرية فكرية بدأت بعمل أبحاث حول الأسلحة لوزارة الدفاع الامريكية. وفي عام 1952، ولإحباط "الجهد الشيوعي المستمر واختراق وتعطيل الدول الحرة"، أنشأت "صندوق الجمهورية "، الذي تحوّل بعد ذلك إلى (مركز دراسات الديمقراطية ) واستخدم باختصار لشن الحرب الباردة بذكاء دون تجاوزات مكارثية . ومن خلال هذه العدسة التي نحتاجها لعرض العمل الذي تقوم به مؤسسة فورد، والملايين من الدولارات التي استثمرتها في الهند وتمويلها للفنانين والمخرجين والناشطين، والصرف السخي على الدراسات الجامعية والمنح الدراسية.
أعلنت مؤسسة فورد "أهداف البشرية في المستقبل " ، وتشمل تداخلاتها في حركات سياسية شعبية محلياً ودولياً. قدمت في الولايات المتحدة، الملايين على شكل منح وقروض لدعم حركة التسليف والادخار التي كان رائدها ، Filene، في عام 1919.يعتقد Filene بخلق مجتمع استهلاكي جماعي من خلال منح العمال بطاقات الائتمان وكانت فكرة راديكالية متطرفة في ذلك الوقت. وفي الواقع، أن النصف الآخر من مبادىء Filene كان توزيع الدخل القومي بشكل أكثر عدلاً . أخذ الرأسماليون النصف الأول من اقتراح Filene، وصرفوا القروض "الميسرة " بعشرات الملايين من الدولارات للعمال ، وتحولت الطبقة العاملة في الولايات المتحدة إلى أشخاص مدينون بشكل دائم ويجرون للحاق بركب أنماط حياتهم.
بعد سنوات عديدة، تدّفقت هذه الفكرة ووصلت الى الريف الفقير في بنغلاديش عندما أتى محمد يونس وبنك جرامين بالقروض الصغيرة للفلاحين الجوعى وكانت عواقبها وخيمة. شركات التمويل الصغيرة في الهند مسؤولة عن مئات من حالات الانتحار، انتحر 200 شخص في ولاية Andhra Pradesh عام 2010فقط.نشرت جريدة يومية مؤخراً رسالة انتحار من فتاة تبلغ من العمر 18 عاماً أُجبرت على تسليم 150 روبية ، رسوم مدرستها، للبلطجية العاملين في شركة التمويل الصغرى. وقالت في رسالتها " قوموا بالعمل الجاد واكسبوا المال. لا تأخذوا القروض ".
يوجد الكثير من المال في البلدان الفقيرة، وعدد قليل من جوائز نوبل أيضاً.

قامت مؤسسة روكفلر وفورد ، بتمويل العديد من المنظمات غير الحكومية والمؤسسات التعليمية الدولية، في الخمسينيات وبدأت في العمل كملحقات لحكومة الولايات المتحدة التي كانت في ذلك الوقت تعمل على اسقاط الحكومات المنتخبة ديمقراطياً في أمريكا اللاتينية وإيران وإندونيسيا. (وهو نفس الوقت تقريباً الذي دخلت به إلى الهند، ثم دول عدم الانحياز، ولكن متوجهة بوضوح نحو الاتحاد السوفيتي.). دعمت مؤسسة فورد دروساً في الاقتصاد على غرار الولايات المتحدة في الجامعة الإندونيسية. لعب الطلبة الاندونيسيين النخبة، الذين تدربوا على مكافحة التمرد من قبل ضباط الجيش الأمريكي، دوراً حاسماً في انقلاب 1965 المدعوم من وكالة المخابرات المركزية في إندونيسيا التي جلبت الجنرال سوهارتو إلى السلطة. سدد الجنرال سوهارتو الثمن لمعلميه من خلال ذبح مئات الآلاف من الشيوعيين.
بعد ثماني سنوات ، نُقل الطلاب التشيليون الشباب، الذي عُرفوا بعد ذلك باسم (أولاد شيكاغو) ، الى الولايات المتحدة ليكونوا مدربين في الاقتصاد الليبرالي الجديد على يد Milton Friedman في جامعة شيكاغو (منحة روكفلر)، في إطار التحضير لانقلاب 1973 الذي قُتل فيه سلفادور الليندي، وجلب الجنرال بينوشيت وعهد فرق الموت والاختفاء والإرهاب التي استمرت لمدة سبعة عشر عاما المدعومة من وكالة المخابرات المركزية. (كانت جريمة الليندي أنه منتخب ديمقراطياً واشتراكياً وقام بتأميم المناجم في تشيلي.).
في عام 1957، أنشأت مؤسسة روكفلر جائزة Ramon Magsaysay لقادة المجتمع المحلي في آسيا. سميت باسم رئيس الفلبين، الحليف المهم في الحملة الأمريكية ضد الشيوعية في جنوب شرق آسيا. وفي عام 2000، أنشأت مؤسسة فورد جائزة Ramon Magsaysay للقياديين الشباب. تعتبر هذه الجائزة ، الجائزة المرموقة بين الفنانين والناشطين والعاملين في المجتمع المحلي في الهند. سيد. فاز بها M.S. Subbulakshmi , Satyajit Ray ، وكذلك Jayaprakash Narayan وأحد خيرة الصحفيين الهند، P. Sainath. ولكنهم فعلوا أكثر مما هو مطلوب للحصول على الجائزة. بشكل عام، فقد أصبحت معياراً لطيفاً عن نوع النشاط "المقبول" وما هو غير مقبول.
ومن المثير للاهتمام، أن حركة مكافحة الفساد التي تعمل بها (Anna Hazare ) كانت من بين ثلاثة فائزين بالجائزة الصيف الماضي (Anna Hazare, Arvind Kejriwal and Kiran Bedi) . Arvind Kejriwalمنظمة غير حكومية ممولة بسخاء من قبل مؤسسة فورد. أما Kiran Bedi فيتم تمويلها من كوكا كولا و Lehman Brothers.
على الرغم من أن Hazare يسمي نفسه غاندي، فإنه دعا إلى قانون (Jan Lokpal Bill) وهو قانون لا يمت لغاندي بصلة ، ونخبوي وخطير. قدمته وسائل إعلام الشركات على مدار الساعة أنه سيكون صوت "الشعب". وعلى عكس حركة احتلوا Wall Street في الولايات المتحدة، إلا أن حركة Hazare لا تتفوه بكلمة ضد الخصخصة، سلطة الشركات أو "الإصلاحات" الاقتصادية. على العكس من ذلك، حوّلت وسائل الإعلام الرئيسية الداعمة للحركة دائرة الضوء بنجاح بعيداً عن فضائح الفساد الضخمة للشركات (والتي قد تتعرض لصحفيين رفيعي المستوى جداً أيضاً)، واستخدمت النقد الشعبي للسياسيين للدعوة لسحب المزيد من الصلاحيات من الحكومة، لمزيد من الإصلاحات ، ومزيد من الخصخصة. (تلقت Hazare جائزة البنك العالمي للخدمة العامة المرموقة في عام 2008). أصدر البنك الدولي بياناً من واشنطن قال انها حركة "رائعة" في سياستها.
مثل كل الإمبرياليين الجيدين ، أعطى ( الخيّرون) أنفسهم مهمة إنشاء وتدريب كادر دولي يؤمن أن الرأسمالية، وبالتالي هيمنة الولايات المتحدة، في مصلحتهم الذاتية. والذي من شأنه أن يساعد حكومة الشركات العالمية الإدارة بطريقة تجعل النخب المحلية في خدمة دائمة للاستعمار. هكذا بدأت غزوة أسس " التعليم والفنون"، التي ستصبح المجال الثالث ضمن نفوذها، بعد السياسة الاقتصادية الخارجية والداخلية. صرفوا (وواصلوا صرف) الملايين من الدولارات على المؤسسات الأكاديمية وطرق التدريس.
وصفت Joan Roelofs في كتابها الرائع أسس السياسة العامة: قناع التعددية كيف تم إعادة تشكيل تدريس العلوم السياسية والدراسات الدولية. قدّم ذلك للمخابرات المركزية والولايات المتحدة مجموعة من الخبرات في مجال اللغات والثقافة الأجنبية لتجنيد أشخاص من بينهم . تواصل وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة العمل مع الطلبة والأساتذة في الجامعات الأمريكية، مما يثير تساؤلات جدية حول أخلاقيات المنح الدراسية. جمع المعلومات للسيطرة على الناس الذين تحكمهم أمر أساسي لأية سلطة حاكمة.
عندما انتشرت مقاومة حيازة الأراضي والسياسات الاقتصادية الجديدة في جميع أنحاء الهند، وفي ظل الحرب المفتوحة في وسط الهند، وكأسلوب للاحتواء، شرعت الحكومة في تنفيذ برنامج واسع للقياسات الحيوية ، ربما يكون واحداً من أكثر مشاريع جمع المعلومات طموحاً وتكلفة في العالم- برنامج الرقم الوطني (UID). لا يوجد عند الناس مياه نظيفة صالحة للشرب، أو مراحيض، أو طعام، أو مال، ولكن سيكون لديهم بطاقات انتخاب وأرقام وطنية ( UID ). هل هي مصادفة أن مشروع (UID ) تديره Nandan Nilekani ، الرئيس التنفيذي السابق لشركة Infosys ، التي تُعني ظاهرياً " بتقديم الخدمات للفقراء"، وستضخ كميات هائلة من المال في صناعة تكنولوجيا المعلومات المحاصرة قليلا؟ في تقدير متحفظ لميزانية ( UID ) تجاوزت ميزانيتها الإنفاق العام السنوي للحكومة الهندية على التعليم. إن "رقمنة" بلد فيه عدد كبير من الناس غير شرعيين إلى حد كبير و"أميين" الجزء الأكبر منهم هم سكان الأحياء الفقيرة، الباعة المتجولين، طائفة ال adivasis الذين يعيشون دون أراض مسجلة سوف يجرّمهم ، ويحولهم من غير شرعيين إلى غير قانونيين. وفكرة انجاز نسخة رقمية من عامة الشعب تضع القوى الضخمة في أيدي دولة بوليسية متصلبة على نحو متزايد. هاجس التكنوقراطي Nilekani في جمع البيانات يتسق مع هاجس بيل غيتس بقواعد البيانات الرقمية، "أهداف رقمية"، " تقدم البطاقات ". كما لو أن نقص المعلومات هو سبب الجوع في العالم، وليس الاستعمار والديون والأرباح الموجهة ، وسياسات الشركات.
مؤسسات الشركات الخيرية هي أكبر الممولين للعلوم الاجتماعية والفنون، ومنح الدورات والمنح الدراسية في "دراسات التنمية"، و"دراسات المجتمع"، و"الدراسات الثقافية"، و"العلوم السلوكية" و "حقوق الإنسان". كما فتحت الجامعات الأمريكية أبوابها للطلاب الدوليين، ومئات الآلاف من الطلاب والأطفال من نخبة العالم الثالث ، وتدفع عن أولئك الذين لا يستطيعون تحمل رسوم المنح الدراسية. اليوم في بلدان مثل الهند وباكستان بالكاد تجد أسرة بين الطبقات المتوسطة - العليا التي ليس لديها طفل درس في الولايات المتحدة. من صفوفهم خرج العلماء الجيدين والأكاديميين، ولكن أيضاً رئيس الوزراء، وزراء المالية والاقتصاديين والمحامين والمصرفيين والبيروقراطيين الذين ساعدوا على فتح اقتصادات بلدانهم على الشركات العالمية.
تم تكريم الخريجين في الاقتصاد والعلوم السياسية ( بدعم من المؤسسات المرتبطة بالشركات ) في تمويل البحوث والمنح والهبات والوظائف. اما خريجو المؤسسات غير الودية من وجهة نظرهم فقد وجدوا أنفسهم دون تمويل ومهمشين ومعزولين ، تم وقف مقرراتهم التدريسية . تدريجياً، يمكن تخيل هشاشة الادعاء السطحي بالتسامح والتعددية الثقافية (حيث نقرأ في العنصرية والقومية المسعورة، الشوفينية العرقية أو الخوف من الإسلام في أي لحظة ترويج للحرب) . بدأت ايدلوجية الاقتصاد الحر تهيمن على الخطاب. فعلت ذلك لدرجة أنه لم يعد يُنظر إليها على أنها أيديولوجية على الإطلاق. أصبحت الوضع الافتراضي الطبيعي . انها مخترقة الطبيعية، وتحديها يبدو سخيفاً ومقصوراً على فئة معينة مثل تحدي الواقع نفسه. خطوة سهلة وسريعة "لا يوجد بديل".
الآن فقط، وبفضل حركة احتلوا (Occupy Wall Street)، ظهرت لغة أخرى في شوارع الولايات المتحدة والجامعات. ويحمل طلاب لافتات تقول "حرب الأغنياء" أو "لا مانع لدينا من كونك غنياً ، ولكننا نمانع شراء حكومتنا" ، ما يقرب من ثورة في حد ذاتها.
بعد قرن واحد منذ بدء العمل الخيري للشركات أصبحت جزءاً من حياتنا كما كوكا كولا. هناك الآن ملايين من المنظمات غير الربحية، وكثير منها على اتصال من خلال متاهة مالية بيزنطية إلى مؤسسات أكبر. وهذا القطاع "المستقل" لديه أصول تبلغ قيمتها ما يقرب من 450 مليار دولار. أكبرها مؤسسة بيل غيتس (21 مليار دولار)، تليها مؤسسة Lilly (16 مليار دولار)، ومؤسسة فورد (15 مليار دولار).
فرض صندوق النقد الدولي على الحكومات ضبط الهيكليات، وأدّى ليّ ذراع الحكومات إلى تقليص الإنفاق العام على الصحة والتعليم ورعاية الأطفال، والتنمية، تقدّمت المنظمات غير الحكومية . خصخصة كل شيء تعني أيضاً صلاحيات أكبر للمنظمات غير الحكومية . اختفت الوظائف ومصادر الرزق ، فأصبحت المنظمات غير الحكومية مصدراً هاماً للعمالة، المنظمات الأهلية ليست كلها سيئة بالتأكيد. من ملايين المنظمات غير الحكومية، يقوم البعض منها بأعمال راديكالية مميزة ، وسيكون سيئاً النظر إلى جميع المنظمات غير الحكومية نفس النظرة . ومع ذلك، فإن المنظمات غير الحكومية التي تمولها الشركات أو المؤسسات التابعة لها وسيلة المال العالمي لشراء حصص في حركات المقاومة، مثل المساهمين في شراء أسهم الشركات، ومن ثم محاولة السيطرة عليها من الداخل. يجلسون مثل عقد الجهاز العصبي المركزي، مسارات يتدفق منها التمويل العالمي. وهي تعمل مثل أجهزة الإرسال وأجهزة الاستقبال، وامتصاص الصدمات، والتنبيه لكل تحرك ، وعدم إزعاج حكومات الدول المضيفة لهم على الإطلاق. (تطلب مؤسسة فورد من المنظمات التي تمولها التوقيع على تعهد لهذا الغرض) . وتكون بمثابة أجهزة تنصت بقصد أو بغير قصد من خلال تقاريرها وورش العمل والأنشطة التي تقوم بها حيث تقدم البيانات إلى نظام مراقبة عدواني على نحو متزايد للولايات المتحدة . كلما كانت المنطقة أكثر اضطراباً ، زادت أعداد المنظمات غير الحكومية فيها.
بخبث، عندما ترغب الحكومة أو صحافة الشركات في تشويه الحركات الشعبية الحقيقية، مثل Narmada Bachao Andolan ، أو حركة الاحتجاج ضد المفاعل النووي Koodankulam، يتهمون هذه الحركات بأنها منظمات غير حكومية تتلقى "تمويلاً أجنبياً" . إنهم يعرفون جيداً أن معظم المنظمات غير الحكومية، وبخاصة تلك التي تتلقى تمويلاً جيداً، تعزز مشروع عولمة الشركات، وليس إحباطه.
مسلحة بالمليارات، تجوب هذه المنظمات غير الحكومية العالم، وتحوّل الثوار المحتملين إلى نشطاء مأجورين وتستدرج الفنانين والمثقفين والسينمائيين، بلطف بعيداً عن المواجهة الجذرية، تبشرهم بالتعددية الثقافية والمساواة بين الجنسين، التنمية وتطور المجتمع في خطاب مصاغ بلغة الهوية السياسية وحقوق الإنسان.
مترجم
ARUNDHATI ROY








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تطور كبير فى أسعار الذهب بالسوق المصرية


.. صندوق النقد يحذر... أزمة الشرق الأوسط تربك الاقتصاد في المنط




.. صندوق النقد الدولي: تحرير سعر الصرف عزز تدفق رؤوس الأموال لل


.. عقوبات أميركية على شخصيات بارزة وشركات إنتاج الطائرات المسيّ




.. متحدث مجلس الوزراء لـ خالد أبو بكر: الأزمة الاقتصادية لها عد