الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جوزف بلاتير وابن الرومي

الصديق بودوارة

2015 / 6 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


"ولي وطن آليتُ ألا أبيعه .. وألا أرى غيري له الدهرُ مالكا "
هذه هو "ابن الرومي" يخبرنا أنه لن يبيع وطنه ، وهذه بادرةٌ طيبة من مواطن طيب ، لكنه يخيفنا بعد ذلك ، ويدفع بالهواجس في صدورنا عندما يتجاوز الحد فيطور حالة الحب هذه الى حالة امتلاك وجشع تملك ، فيردف بعجز بيت بشع يقول :
"وألا أرى غيري له الدهرُ مالكا"

هنا ، تتملك المواطن "ابن الرومي" حالة تغول على الحب ، فيبدأ في الدخول إلى ملكوت الاحساس بالتملك ، إنه يعلن عن نيته في تحويل "الحبيب" إلى عقار لا يريد أن يتنازل عنه لأحد ، ولا ينبغي لأحدٍ أن ينازعه ملكيته أيضاً .
هذه هي مشكلتنا مع الموّلد "ابن الرومي" ، فهل يحق لنا الآن أن نوجه اللوم إلى السويسري "جوزيف بلاتر" لأنه تمسك بعشقه لكرسي رئاسة الفيفا لولايةٍ خامسة على التوالي ؟
شخصياً ، لا اعتقد ، لأننا صرنا اليوم ،وعن جدارة" أساتذة التملك والأنانية حتى بالنسبة لشعب متحضر كالشعب السويسري ، ها قد صرنا سادة العالم أيها الأخوة ، ولو تعلق الأمر بدروس ممارسة الطغيان على أكمل وجه .
الكثيرون من العرب هاجموا موقف "جوزيف بلاتر" ، ونددوا بتمسكه بالسلطة رغم تجاوزه الثامنة والسبعين ، واعتبروا اصراره على تجاهل فضيحة الرشاوى وشبهة الفساد في الصرح الكروي الكبير ، اعتبروه صفاقةً متناهية لا تليق بمواطن دولة متحضرة كسويسرا التي تصنع للعالم منذ عقود الذوق الرفيع والساعات الفاخرة .

لكن "جوزيف بلاتر" أيها السادة ،ليس سوى مواطن سويسري تتلمذ ذات يوم في مدرسة شاعر موّلد رباه العرب وأشرفوا على تنمية ذائقته في الشعر والحياة معاً ، فإذا أردنا لوم السويسري ، فلا مفر لنا من أن نتوجه باللوم إلى مواطننا الشاعر "ابن الرومي" ، لأنه قدّم لبلاتر المادة الخام لمفهوم التملك ، ألم أخبركم أننا اساتذة العالم في الاستبداد ؟
كلنا اليوم هذا المواطن السويسري ، وكلنا اليوم ذاك الشاعر المفوه ، وكلنا اليوم عجز بيت مشحون بالتملك الذي تفوح منه رائحة استبداد عفن :
"وألا أرى غيري له الدهرُ مالكا "

كلنا تزوجنا الوطن دون أن ندفع المهر ، وكلنا أحببناه كما نعتقد ، بينما نحن في الحقيقة نحب وجوهنا المنعكسة على مراياه اللامعة ، وكلنا عشقناه كما نظن ، بينما نحن في الحقيقة نعشق تفردنا بامتلاكه ، ونستمتع بكونه جاريةً ترقص لنا ، وتحفظ من أجلنا قصائد الشعر ، وتطبخ لنا أطيب الطعام ، وتسقينا من يديها ما لذ من شراب .

كلنا مارسنا الحب مع الوطن ، ولكن ، دون أن نمنحه لحظة حبٍ واحدة ، فقد تخصصنا فقط في استهلاك الحب منه ،دون أن نصدّر إليه .
هكذا نحن ، على امتداد هذه الخريطة العربية الشاسعة ، ثمة مواطنون عرب ، اشاوس ، يجيدون ركوب الخيل ، ويقرضون الشعر ، ويتزوجون مثنى وثلاث ورباع ، ويقمعون نصف المجتمع مقابل طغيان النصف الآخر ، ويغضبون إذا تحاوروا ، ويصرخون إذا اختلفوا ، ويتقاتلون إذا تبادلوا وجهات النظر ،ويقتلون بعضهم إذا لم يتبادلوها .

كل هؤلاء ، يحبون وطنهم الآن .
يحبونه في سوريا إلى حد امتهانه وبيعه للتشدد والدمار بلا حساب ، ويحبونه في اليمن إلى درجة إهدائه على طبق من ذهب إلى امبراطورية الفرس القديمة التي تستيقظ الآن على أقل من المهل ، ويحبونه في العراق ، إلى مستويات فائقة وصلت إلى تقسيمٍ حقيقي مخيف بين رصاص شيعي وآخر سني ، وبين تراب يحتكره الأكراد ،ومدن يتنازع فيها العرب ، وبين سيارة يفخخها شيعي ، وعربة نصف نقل يملأها سني بالمتفجرات .
ويحبونه في ليبيا ، إلى حد ثمالة لم يسمع به أحد ، ربما لأن "هيرودوتس" الاغريقي قال ذات يومٍ إن من ليبيا يأتي دائماً الجديد ، فأردنا اليوم أن نؤكد أن ما تفوه به "هيرودوتس" هو كلام صحيح لا يصدر إلا عن حكيم بالوراثة ، لهذا صرنا نمارس الحب مع ليبيا بثقافة الكراهية ، وصار كل منا يريد ليبيا عشيقة سرية له ، وملك يمين مباح له دون غيره ، إننا نهتك عرض ليبيا ايها السادة دون أن نتوقف عن التغزل بعينيها ليل نهار .
نهتك عرضها ، ونؤلف لها الأغاني الوطنية ، ونهيم بها عشقاً ،بينما نقضمها قطعةً قطعة ونلوك لحمها الطري بلا خجل .
هذا هوالحب ، وهذه هي رؤيتنا الحداثية لقصديتنا القديمة الشهيرة ، "وقف عليها الحب" ، فهل صار حبنا لك ياليبيا "أرض وقف" يريدها الجميع ؟
هذه هو حبنا الآن ، غريزة تملك بشعة ، ورفض قاطع لمبدأ المشاركة ، وصفر كبيرٍ في الحوار وتبادل وجهات النظر ، واخفاق لا مثيل له في امتحان الوطنية والانتماء ، وتبجح كريه عندما يتعلق الأمر بنداءات التدخل الأجنبي . فهل سبق لأحدكم أن تأمل ملامح الليبي عندما يسمع باحتمال " تدخل أجنبي" في بلاده ؟

إنه يتحول بقدرة قادر إلى أوداج منتفخة ، وعروق نافرة ، ودماء تتدفق في شرايينها ، وغضب يهدر ، وزلزال يدمر ، وبركان تطيح حممه بكل شيء .
هذه هي الصورة بحذافيرها ، إنه يرى التدخل الأجنبي حبيباً آخر ينازعه العشق ، وفارس غرام يريد حصته من كعكة العروس ، ولأنه يرفض من الأساس مبدأ المشاركة ، فهو يرفض .
إنه لا يتصدى لفكرة التدخل الأجنبي بدافع الوطنية يا سادة ، بل بهاجس الأنانية الذي يملأ صدره ويملك عليه مشاعره .
لا حدود للجشع هنا ، ولا نهاية لعقلية الاستبداد ، ولا مفر الآن من الاعتراف بحقيقة مرة كحنظل المساحات الجرداء الشاسعة . إن مفهوم الوطن لم يكتمل عندنا بعد ، فلا زلنا تلك القبيلة الليبية القديمة التي قادت ذات يوم الاغريق الغزاة إلى حدود مدينة شحات ، حتى تتخلص من وجود الغرباء بها .

لازلنا أولئك "الجيلجامي" الطيبيين ، الذين تخيلوا أن الاغريق ستركونهم في حالهم وسيكتفون بشحات وحدها ، فإذا بهم يعودون إليهم بعد سنوات بعد أن اشتد عودهم ،جيوشاً مدججة بالحديد تجتاح مضاربهم وتستبد بهم بلا رحمة .
هكذا هو التاريخ ، لا يغفل حرفاً في كتابه ، ولا يغفر لمخطيء ، ولا ينسى زلة غافل ، ولا يصفح عن ذنب خائن .
هكذا هوالتاريخ يا سادة ، حكاية لا تجامل ، ولن يتجاهل يوماً أننا تملكنا ليبيا دون أن نحبها ، وأننا عشقنا ليبيا دون أن نشعر نحوها بالمودة ، وأننا مارسنا معها الأنانية كأبشع ما تكون ، وأننا رفضنا بشكل قاطع أن يشاركنا حبها أحد ، وأن ستة ملايين ليبي أحب كل منهم ليبيا على هواه ، وجعلها حديقته الخلفية الخاصة ، وظل يلعق دمائها ليرتوي ، وينهش من لحمها ليشبع ، ويقتبس من نور عينيها لكي لا ترتبك خطاه عندما يحل الظلام .
هكذا نحن أيها السادة ، فبأي حق سنلوم نحن العرب ، مواطناً سويسرياً يدعى "جوزيف بلاتر" كل ذنبه أنه مارس نفس ما نمارسه الآن ، ولكن ، بحق وطن آخر يقال له "الفيفا" ، فرفض أن يمتلكه غيره ، ورفض أن يتنازل عن عرشه لأحد ، وأصر كعادة الطغاة على أن يهرب إلى الأمام ، حاملاً وطنه في حقيبة ، وقد سجن شمسه وجباله وأنهاره في خزانةٍ من حديد لكي لا يتمتع بها غيره ، ولا يهنأ به سواه .
هذه هو المواطن السويسري "جوزيف بلاتر" ، تلميذ ذلك الشاعر المفوه "ابن الرومي" ، ذلك الذي أنشد ذات يوم :
"ولي وطن آليتُ ألا أبيعه .. وألا أرى غيري له الدهرُ مالكا "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية توقف رجلاً هدد بتفجير نفسه في القنصلية الإير


.. نتنياهو يرفع صوته ضد وزيرة الخارجية الألمانية




.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط