الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ويمينها مشغولة بعناقِ

الصديق بودوارة

2015 / 6 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


"سعيد بن حميد الكاتب" ، عامل الخراج بالرقة لدى العباسيين ، يتأهب للسفر فيودع جاريته الممفضلة "شفيع" ، وأثناء الوداع كان يضحك ليزيل عنها وجع الرحيل الجارف ، وكانت تبكي من ماتعانيه من ألم الفراق الطويل .
أثناء ذلك ، أنشد "سعيد" بيتين من الشعر ، نكاد ننشدهما الآن ونحن نعاني من مانعانيه ، غير أن عصر الجواري لم يعد حاضراً الآن :
(( ودعتها والدمع يقطرُ بيننا .. وكذلك كل مودع بفراق
شُغلت بتنشيف الدموعِ شمالها .. ويمينها مشغولة بعناق . ))
ولكن ، لماذا أشغل وقتكم الثمين بحكايةً قديمة عن فراق قديم ؟ وعن جاريةٍ انشغل شمالها بكفكفة الدموع ، ويمينها بالعناق ؟
إنه التشظي بين موقفين ، وهو فعل المراوحة بين اتجاهٍ وخلافه ، وهو الارتباك بين النقيض ونقيضه ، وهو أيضاً ذلك التزاحم بين لسانين والفم واحد .
هو هكذا ، مشهد دولي غريب ، ربما لم يشهده العالم من قبل ، بحيث يستطيع هواة التنبؤ أن يصنفوه بارتياح ضمن علامات نهاية العالم التي تتحدث عنها الكتب .
سوف أغادر الآن مشهد الجارية الحسناء وعاشقها المغادر ، لنتمعن معاً في مشهدٍ أكبر ينشغل بنفس المعنى وتفاصيله أيضاً ، الشمال مشغولة بتنشيف الدموع ، واليمين بالعناق .
في أقصى الشرق ، ثمة دب روسي عتيد ، خبيرٌ في بيان المتاهات المحيرة ، قوى في ذراعيه ، ضعيف في معدته ، تنشغل شماله بالغرب الذي يتربص به من مطلع الدهر إلى مغيبه ، بينما تنشغل يمينه بحديقته الخلفية الثمينة ، أوكرانيا وما أدراك ما أوكرانيا ، حيث القرم ،ومملكة الغاز الكبيرة ، وقنبلة الأقليات الموقوتة ، وهمزة الوصل أو القطع مع أوروبا المتربصة على الدوام .
روسيا إذن تعانق بيد ، وتمسح الدمع بيد ، هناك ، في سوريا ، حيث معضلة الأسد وخط التماس المتأجج مع التطرف المدجج بالسلاح ، وسؤال التقسيم الذي لا ينتهي .
على أن التشظي ليس حكراً على الروس فقط ، إنه يطال أيضاً خصومهم الألداء ، حيث أمريكا أوباما المترددة المرتبكة ، ولكن ، القوية أيضاً ، إذ أن ضعف شخصية أوباما لم يطغ بعد على قوة الساعد الأميركي الذي أسسته الهياكل المتينة الراسخة تقنياً وإدارياً وسياسياً أيضاً ، إن ارتباك الرئيس في النظم الغربية لا يدمر الدولة ، لأن الرئيس عندهم مجرد موظف عام ينفذ أوامر منظومة كبرى لا تسقط بسقوطه في أغلب الأحيان .
أمريكا تفعل ما تفعله جارية " سعيد الكاتب" ، إنها تفاوض إيران وتبيع لها ملفها النووي مقابل بعض المرح في العراق وسوريا ، وتتابع أحداث سوريا وتتدخل في العراق ، وتلتقط قادة التطرف المهمين بملقط العمليات الخاصة ، أو تقتلهم بقناص الطائرات بدون طيار ، هذا في الشرق ، اما في الغرب ، فهي تناوش الروس في حديقتهم الخلفية ، وتقايضهم بالغاز وبمجاميع الانفصاليين ، بينما تلتفت من جديد بقلق بالغ إلى عدم ثقتها بالاتحاد الأوربي الذي تغازله الصين كلما سنحت لها الظروف .
أورويا ليست بمنأى عن هذه الازدواجية ، إنها تتوجس خيفةً من التطرف ، وتعاني كل مرة جرحاً جديداً يضرب أمنها الداخلي ، وتعيش طيلة الوقت بين نارين ، أما مواطن أوروبي يهاجر إلى الشرق ليتطرف ويموت هناك ، وأما نفس المواطن ، يهاجر ويتطرف لكنه لا يموت ، بل يرجع مدججاً بالكراهية لكل ما هو غربي ، مستعداً لتفجير نفسه في أول مبنى يعج بالناس ليضرب منظومة الأمن القومي في مقتل .
إن أوريا تصنع لنا السم كالعادة ، لكنها أصبحت تتذوقه بين الحين والآخر ، وهذا ما يقلقها الآن .
في الشرق ، ثمة عشرات الجواري يعانقن بيد ويمسحن الدموع بيد ، هناك العراق الذي يتشظى شيعة وسنة وأكراد ، ويركض بين الجبهات ، حيث يتوزع ولاء الشيعة بين شيعة ينتمون الى العراق وآخرون تدفع بهم عقيدتهم إلى أحضان ايران ، وبين سنة ينتهجون الوسطية ويتمسكون بها ، وآخرون يمسكون بالتطرف سلاحاً يفجرون به الجميع ، وبين أكراد يجمعهم الاحساس بالخطر فيدافعون عن أراضيهم ويحاولون أن يكسبوا كل يوم ثقة العالم الخارجي بوحدة صفوفهم عوضاً عن تمزق العرب الذي اعتاد عليه الجميع .
في سوريا يبدو المشهد مخيفاً بالفعل ، لم يعد أحد يحصي أعداد الضحايا الآن ، فقد أصبح الأمر حرباً آلية يخوضها رجال آليون ، وسوقاً يزدحم بالمضاربين من كل وطن ، وفي أثناء ذلك يبدو الجيش السوري لغزاً يجنح نحو الخيال ، وسؤالاً يحتاج إلى إجابة ، كيف لم يتمزق بعد هذا الجيش الذي يتناوشه الرصاص من كل جانب ؟ وأي آلية استطاعت حمايته من عوامل التعرية الجبارة التي تحيط به منذ سنوات خمس عجاف ؟
يحدث هذا وسط غياب مفاجيء للدور السياسي الذي مارسته لفترة شخصيات المعارضة السورية في الخارج ، فجأة أطفأ الجميع أنوار غرفهم وخلدوا إلى النوم العميق تاركين أجساد النازحين للرصاص ، وكرامتهم للمذلة ، وبطونهم للجوع .
في الداخل ثمة فوضى قتال عارمة ، أكثر من 500 فصيل وكتيبة ،تتوزع الولاءات بين اسلاميين ومستقلين ، وبين أعداء الأمس وأصدقاء اليوم ، وبين حواجز ولواءات ، وبين كر وفر ، وبين سقوط مدينة وقصف أحياء .
لا شيء يبدأ أو ينتهي في الجبهة السورية ، سوى التدخل الأجنبي الذي يبدأ كل يوم من جديد .
في مصر وتونس ، ثمة يد يبني الدولة ، ويد أخرى تحاول هدمها ، هناك مشروع استقرار يتأسس ، يقابله مشروع تطرف يريد أن يقيم دولته ، ولا يعترف بغيره ، ولا يفاوض ولا يجادل في الأمر .
في ليبيا ، يتعانق الجميع ، ويبكي الجميع ، ويضحك الجميع أيضاً .
في ليبيا ، ساسة بلا تجربة يخوضون غمار لعبة سياسية ، وقامات قصيرة تناوش مشروعاً سياسياً شاهق الارتفاع .
في ليبيا ، أوروبا تخذل أنصارها ، وتجهل أنها ستدفع بعد حين ثمن هذا الخذلان ، وفي ليبيا أمريكا تختار الحليف الخطأ ، وستدرك بعد حين أنها أسلمت قيادها لرئيس مهزوز يعاني من عقدة اسمها " بلد المنشأ " ، فما أنتجته " كينيا " ، لا يمكن له أن يحكم " أمريكا " ، ولو تحصل على كل ما في العالم من أصوات الناخبين .
في ليبيا ، صراع بين فرقاء ، سيحتم عليهم الأمر الواقع أن يتحدوا في نهاية المطاف ، قبل أن ينطبق عليهم ذلك المثل القديم : أكلتُ يوم أكل الثور الأبيض .
في السودان ، ثمة يد في الجنوب ، حيث تضع اسرائيل أيديها ، ويد أخرى في الشمال ،حيث سوء ادارة كل شيء ، وحيث "عصا البشير" تريد أن تتحول إلى "عصا موسى" ، لكن الأنبياء لا يتبرعون بعصيهم إلى أحد ياسيادة الرئيس المنتخب على الدوام .
في اليمن ، ثمة إيران تتواجد ، تصنع من عجينة " اليمن السعيد " ، وصفة تعاسة فائقة الجودة للجار السعودي اللدود ، وتخلق من الحوثيين أعداء لأنفسهم قبل حتى أن يكونوا أعداءً لغيرهم .
في اليمن لا سعادة في الأمر ، كل ماهناك دمار وأبنية تهدم وتطرف ينام ملء جفنيه بينما يموت المئات في جبهة قتال عبثية لا طائل من وراءها .
هذا هو المشهد ، لا أحد ينجو من التشظي ، ولا أحد يسمو فوق أن يتشتت كل شيء فيه بين حل وآخر ، وبين موقف ونقيضه ، وبين يومٍ ويوم آخر مختلف .
مشهد مريع ، عواصفه مميتة ، ودهاليزه بلا حدود ، ومتاهته بلا بصيص نور . سوى الأمل في رحمة الله.
وكأننا نرى الآن جارية " سعيد الكاتب" القديمة ، وكأننا نسمعه يصف لنا ما حدث في تلك اللحظة المشحونة منذ أيام بني العباس الآفلة ، قائلاً وبلغة عربية متينة السبك :
(( ودعتها والدمع يقطرُ بيننا .. وكذلك كل مودع بقراق
شُغلت بتنشيف الدموعِ شمالها .. ويمينها مشغولة بعناق . ))








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هي نعمت شفيق؟ ولماذا اتهمت بتأجيج الأوضاع في الجامعات الأ


.. لماذا تحارب الدول التطبيق الأكثر فرفشة وشبابًا؟ | ببساطة مع




.. سهرات ومعارض ثقافية.. المدينة القديمة في طرابلس الليبية تعود


.. لبنان وإسرائيل.. نقطة اللاعودة؟ | #الظهيرة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف بنى تحتية لحزب الله جنوبي لبنا