الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاقتصاد السياسي لثورة الياسمين - حكيم بن حمودة

مجدى عبد الهادى
باحث اقتصادي

(Magdy Abdel-hadi)

2015 / 6 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


الاقتصاد السياسي لثورة الياسمين : في انهيار نموذج وتحديات ثورة

حكيم بن حمودة - بنك تنمية أفريقيا - تونس

ترجمة : مجـدي عبد الهـادي

نُشر لأول مرة بدورية "مختارات كوديسيريا" ، العدد (59) عام 2013 م ، التي تصدر عن المجلس الأفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية بداكار بالتعاون مع مركز البحوث العربية والأفريقية بالقاهرة

-------------------------------------------------------

في الأيام الأخيرة ، شهدت تونس تغيراً كبيراً في تاريخها السياسي المعاصر . تغير سمح لها بأن تنهي الديكتاتورية الكريهة وتمهد الطريق لبناء نظام ديموقراطي حقيقي ، يستطيع تعزيز فرص نشوء تجربة تاريخية جديدة وبناء حكومة جديدة شاملة مُنفتحة تضع مصالح مواطنيها في قلب اهتماماتها . فثورة الياسمين والرحيل السريع للرئيس السابق كانا معاً قمة الحركة الشعبية الجارفة التي بدأت مع إحراق الشاب محمد البوعزيزي لنفسه في سيدي بوزيد في 17 ديسمبر 2010 م . احتجاجا على إساءات الموظفين الحكوميين . وأثار هذا الفعل اليائس والرمزي تعبئة شعبية قوية استمرت بالنمو رغم القمع والتراجعات والمناورات من قبل النظام القديم ، ووعوده بتبني انفتاحا ديموقراطياً أكبر وعهداً جديداً من الحرية . ولكنه كان متأخراً جداً ... جداً .
فالمظاهرة التي نُظمت في جمعة 14 فبراير 2011 م وسط مدينة تونس كانت لديها العديد من النقاط المشتركة مع الثورات الشعبية العظيمة في التاريخ الحديث ، مثل أحداث مايو 1968 م ومظاهرات حركة "أوطان لأجل العمال" ، كذا براغ وبودابست وجدانسك ، التي تُوجت بسقوط حائط برلين . وقد اكتسحت المظاهرة كل آمال الرئيس السابق بالبقاء في السلطة . وستُسجل كواحد من الأحداث الرئيسية في تاريخ تونس .
آلاف المتظاهرين لعبوا دوراً : شعب من الشباب في الأغلب لم يعرف حكومة غير حكومات بن علي ، فالمناضلين السابقين الذين اعتزلوا النضال سابقاً بسبب الآلة القمعية الضارية وجدواً طعماً جديداً للنضال . وبقيّ أعضاء النقابات وناشطو المجتمع المدني ممن حملوا لواء المقاومة في السراء والضراء ، ولذلك ، فحتى الآن ، لا يملك المرء سوى العجب من تلك القوة التي امتلكوها لمواجهة هكذا نظام قمعي متوحش .
وفي صباح 14 يناير 2011 م ، كان المتظاهرون فرحون محتفون ، لكنهم أيضاً كانوا عازمين ومصممين . فتحدثوا عن "ربيع تونسي" وعصر عربي جديد دون أن يعرفوا أنه بنهاية اليوم سيتحدث الناس عن ثورة الياسمين . فالرجال والنساء من مختلف الأجيال اتحدوا على شعارين : "رحيل بن علي" و "محاكمة رموز الفساد".
ثم وقع صدام قوي بين المتظاهرين الذين احتلوا الشارع الرئيسي وطريق بو رقيبه ، وقوات الشرطة والنظام التي دافعت عن وزارة الداخلية المحاصرة . الأمر الذي استمر طوال الصباح وجزءاً من فترة ما بعد الظهيرة . ففي وضح النهار ، قرر الضباط مُنفذي القانون إخلاء الشارع الرئيسي لتونس بالغاز المسيل للدموع وصد المقاومين الباقين بالهراوات . ووضعت القوات بالتالي حداً للتجمع الفريد وأعلنت الشرطة حالة الطوارئ . ومع ذلك تحقق انتصار باهظ الثمن ، وبدأ التليفزيون يعلو بما كان العديد قد بدأوا يتهامسون به : لقد ذهب الرئيس وانتصرت الثورة الشعبية .
اجتاحت تونس موجة من الابتهاج والنشوة ، وهى موجة عبرت عن نفسها بحماس ودون تردد على محطات التلفاز والراديو ، فقد تحرروا فجأة من الخوف والقلق الذي أخرسهم لسنوات . ولكنه كان فرحاً خيمت عليه ساعات من القلق الذي سببه الإرهاب والجنون القاتل الذي أعدت له المجموعات المُسلحة ، بأمل إعادة النظام القديم عن طريق خلق فوضى : وكان رهان الشعب على دور خدمات الأمن رهاناً خاسراً ، ذلك الشعب الذي تظاهر رغبةً في الحرية وتعطشاً للكرامة لما يقرب من شهر .
ولم يفشل هذا المخطط الميكيافلي فقط . بل إنه عزز فعلياً العملية الثورية بجعل المواطنين هم الحماة الفعليين للعهد الجديد . فلجان الدفاع الشعبية تضاعفت ، مُفجرةً عودة السياسة لملايين المواطنين ، الذين تم إقصائهم عنها بواسطة نظام بن علي .
هذه الثورة هى موعد مهم مع التاريخ ، ليس فقط لتونس ، بل لكامل العالم العربي ، الذي تمت إدارة معظم بلاده لتجنب الثورات الديموقراطية التي جرت في جميع أنحاء العالم في التسعينيات . فبعد سقوط جدار برلين ، خضع عالم ما بعد الاستعمار أيضاً لتحول ديموقراطي ، وأصبحت الحرية أساساً للأنظمة السياسية المدارية . من أفريقيا إلى آسيا ومن دول أميركا الجنوبية إلى دول أميركا الوسطى . فتراجع الاستبداد في مواجهة الثورات الديموقراطية . مُتيحاً للمواطنين بالتالي تحقيق "تحررهم من الوهم القومي" (اقتباسا من عنوان أحد مقالات هيلي بيجي المُتبصرة) وكتابة صفحة جديدة في التاريخ ما بعد القومي .
كان العالم العربي وحده الذي لم تمسه رياح الحرية التي اجتاحت الجنوب ، والتي تزدريها أنظمتنا الأوتوقراطية . وهذه الأنظمة نفسها التي قاومت الديموقراطية "تحت تهديد السلاح" ، عندما قرر المحافظين الجدد الأمريكيين فرض الحرية على دولنا في أوائل الألفية . ولم تكن محصلة هذه السنوات ، من المغامرة الإمبريالية لتعزيز الديموقراطية من الخارج ، سوى خراب الحروب الأهلية وصعود التعصب في العراق ، مع ابتسامات على شفاه مُستبدينا القدامى الذين تأملوا مواقف الإدارة الأمريكية ، فلن "تذوب الزبدة في الفم" كما تصورت !
وأكدت هذه الإخفاقات المتوالية للديموقراطية في العالم العربي ما كتبه المُستشرقون الجدد دائماً عن الطبيعة المُستحكمة لمجتمعاتنا عندما تواجه الحداثة ورياح الحرية . وأثبت فشل استزراع الديموقراطية في مجتمعاتنا فرضياتهم عن الفصل الضروري ما بين الشرق الأبدي المُرتهن بالخرافات وعدم القدرة على النظر إلى ما وراء رمزية العصر الذهبي من ناحية ، والغرب وحرياته الكونية وحقوق الإنسان من ناحية أخرى .
وهذه الرؤى تم تبنيها من أطراف مختلفة باختلاف ألوان الطيف ، بدءاً من بعض الغربيين الذين استخدموها لتبرير قلة اهتمامهم بالمنطقة ، وصولاً للإسلاميين الذين استخدموها لشرعنة رفضهم للحداثة وإثبات ملائمة الثورة الإسلامية أو الأنظمة الأوتوقراطية التي تستطيع أن تنتقد علنا فرض المعايير الغربية على أراضينا .
لكن ثورة الياسمين ناقضت كل هذه الرؤى وكل هؤلاء الناس راجحي العقول ، الذين راهنوا لسنوات على احتباس مجتمعاتنا في العلاقة المُطلقة مع السماوي والخضوع للآخر الخارجي . فقد أظهرت الثورة وأصداؤها في الدول العربية الأخرى أننا لسنا غرباء عن آفاق الحرية والعقل ، وأن المواطنة النشطة هى هدف يتبناه العرب أيضاً.
واليوم ، تفسح النشوة والحماسة بالنصر والتعبئة الشعبية مجالاً للتأمل والتحليل . فلا شك في أنه في قادم الأيام ، ستكون هذه الثورة موضوعاً للبحث والدراسة والتحليل . وهذه المقالة أُعدت كمساهمة في هذه الجهود المدروسة لفهم ودراسة أفضل لهذه الثورة ، في أسبابها الأساسية ومُستقبلها .
ومع وضع هذا بالاعتبار ، فسوف نركز على سؤال محدد ، حول ماهية دور الاقتصاد وموقعه بين أسباب الثورة . ويكتسب هذا السؤال أهميته الخاصة في ضوء حقيقة أن استقرار النظام السياسي في تونس دائماً ما تم إرجاعه لنجاح نموذجه الاقتصادي .
في نظر العديدين ، فالنموذج الاقتصادي الليبرالي المنفتح على العولمة ، كان سبب النمو الاقتصادي القوي لتونس ، والذي دعم تنمية طبقة وسطى كبيرة ، شكلت الأساس الاجتماعي للنظام السياسي والسد المنيع بوجه الإسلاميين . ولعديد من السنوات ، أبرز الخطاب السائد في تونس نجاحات نموذج التنمية كأساس لمشروعية النظام السياسية ، والتي تبرر الصمت عن مثل هذه القضايا المُتعلقة بالحرية والديموقراطية .
وقد تغير الخطاب جذرياً وقت الثورة . فبدلاً من الحديث عن نموذج التنمية الاقتصادية ، تحدث الناس عن سراب تبدده زمرة مافيوية بالفساد والابتزاز . وكان هناك اهتماماً جديداً بالفقر في المناطق الداخلية والإختلالات المتزايدة بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية ، مع الإشارة لأن النموذج كان في مراحله الأخيرة .
وعلاوةً على ذلك ، فقد عملت الأزمات في مناطق التعدين في قفصة 2008 م والمناطق الحدودية في بنقردان وسيدي بوزيد بدءً من خريف 2010 م ، نقول عملت كلها كنقاط انطلاق للثورة التي وضعت في النهاية وثيقة وفاة حكومة بن علي . ويشير آخرون دون تردد لمسألة البطالة وخصوصاً بطالة المتعلمين التي شكلت لسنوات عديدة مضت قيداً جدياً ذي تأثير كبير على نموذج التنمية السائد .
ولذلك ، فالاقتصاد ونموذج التنمية كانا في قلب الجدل الرئيسي .
وتحول نموذج التنمية من كونه عاملاً للاستقرار والنجاح الملحوظ ، إلى هدف للانتقاد منذ بداية الثورة ، ولا يتردد الكثيرون في الإشارة لمسألة القيود الرئيسية للنموذج ، وتأتي مسائل الشفافية والبطالة وعدم التوازن الإقليمي في جذر الأزمة ؛ وهكذا فنموذج التنمية الذي لعب دوره كقوة دعم للنظام السياسي انتهى لحفر قبره .
فالسؤال الذي يثور اليوم يدور حول مدى وزن وتأثير الاقتصاد على الثورة التونسية ؟ فهدفنا هو تحديد ما إذا كانت القضايا الاقتصادية هى السبب الحقيقي للثورة ، أم أن الدافع الحقيقي للثورة هو سياسي في طبيعته ؟ وخصوصاً الاستبداد . فما هو حجم مساهمة القضايا الرمزية والفساد في سقوط نظام بن علي ؟
فهدف هذا المقال هو التأمل في أصول الثورة والتحديات القابعة على طريقها .



سنوات الديكتاتورية عالية التقنية
خلق تغيير الحكومة ووصول بن علي لرأس الدولة في 7 نوفمبر 1987 أمالاً عظيمة لأسباب عديدة . أولها جميعاً ، أن المناخ العام في نهاية عهد بورقيبه والصراع على السلطة على أعلى المستويات سبب قلقاً وحيرة كبيرة حول المستقبل لجميع شرائح المجتمع . علاوةً على أن نهاية النظام اتسمت بالقمع والتعسف المتزايد ، وانفجار المحاكمات والاعتقالات السياسية .
وكانت المحاكمة الأكبر لقيادة ومسئولي الصف الأول لحركة الاتجاه الإسلامي ، بعقوبات ثقيلة ، كانت على ما يبدو أقل من أن ترضي "رب الأمة" الغائب بشكل متزايد ، الذي كان يفضل أن تنزل المحكمة عقوبة الإعدام ضد قادة بعينهم ، وبالأخص راشد الغنوشي ، رأس الحركة . وقادت هذه المحاكمات لتطرف الفصائل الرئيسية ، وخصوصاً شباب الحركة الإسلامية ، الذين اتجه بعضهم لممارسة العنف . فوضع بعض الناشطين الإسلاميين قنبلة في فندق بمنطقة المنستير السياحية ؛ بما أسفر عن مقتل شخص واحد . وكان الهدف هو إضعاف النظام بالهجوم على أساساته الاقتصادية ، بهدف الانتقام من قمع الحركة الإسلامية .
وبالتوازي مع ذلك الهجوم ، الذي لقى اهتماما دولياً ملحوظاً ، كانت هناك موجة من الهجمات التي شنها ناشطين إسلاميين ضد المؤيدين المحليين المسلحين للحزب الحاكم أو للقضاة .
كانت الأجواء في أواخر الثمانينات خطرة ومميتة ، بحيث ظهر التغير الحادث في 7 نوفمبر 1987 م كخلاص لبلد على حافة الانهيار . وتم الترحيب باعتزال "رب الأمة" لـ"أسباب صحية" وبوصول الرئيس الجديد ، باعتباره إزاحة لحمل ثقيل عن كاهل البلد .
ومع ذلك ، تجب الإشارة لأن هذا التغيير في القيادة لم يحقق سعادة كبيرة لأغلبية الشعب ، بل ساد موقف من الحيطة والحذر لشهور عدة . وفي البداية ، لم تكن هناك مظاهرات مهمة لدعم الحكومة الجديدة . وحتى الحزب الحاكم ، الذي عاني من اضطراب قصير باستقالة قائده التاريخي ، كان بطيئاً في وضع كامل دعمه وراء رأس الدولة الجديد ، حيث كان بن علي يتوخي تأسيس حزب رئاسي جديد يصوت له دون تردد . لقد كان هناك العديد من الأسباب للترحيب الفاتر بالحكومة الجديدة ، على رأسها شخصية الرجل القوي الجديد .
فبن علي لم يكن مجهولاً ، وقد أحضر معه ذكريات الأيام السوداء للقمع الذي مارسه النظام الاستبدادي .
وفي الحقيقة ، هو كان مسئولاً عن قوات الشرطة وأشرف على قمع المتظاهرين في احتجاجات 28 يناير 1978 م ، ثم نُفي إلى السفارة التونسية ببولندا أثناء الربيع الديموقراطي القصير في أوائل الثمانينات . ثم تمت دعوته للعودة في أواسط الثمانينات ، عندما تراجعت السلطة عن وعودها بانفتاح ديموقراطي وشعرت بالحاجة لخنق الحركة الاحتجاجية الإسلامية المتنامية .
ولذلك فصورة بن علي ارتبطت بزمن القمع ، ونُظر لوصوله للسلطة بكثير من ضبط النفس وحتى الخوف.
ومع ذلك ، فقط بُذلت بعض الجهود لتحسين صورته بربطه – أثناء تغيير الحكومة - ببضعه مسئولين مدنيين من الحزب الحاكم ، وتحديداً الجناح الليبرالي والاجتماعي ، وبالأخص وزير الشئون الاجتماعية السابق الهادي بكوش ، الذي سيكون أول رئيس وزراء لبن علي .
وبحثت السلطات الجديدة بسرعة إجراءات تهدئة مخاوف الشعب بالتعهد بإصلاح النظام الإستبدادي والمضي بالأمة التونسية على طريق الديموقراطية والتعددية . وتم تضمين هذه التعهدات في الخطاب الذي قرأه الرئيس الجديد في حديثه المُذاع على الراديو والتلفاز ، والذي أصبح العلامة المميزة والتأسيس للنظام الجديد ، رغم أن هذه التعهدات ستوارى التراب بعد سنوات قليلة .
وعلاوةً على ذلك ، عقد الرئيس ورئيس وزرائه حوارات ومحادثات عديدة مع قادة المعارضة ومسئولي الاتحادات ومنظمات المجتمع المدني . وتُوجت هذه المقابلات والحوارات بالإعداد لوثيقة للتوافق الوطني (الميثاق الوطني) والتي وُقعت من قبل مختلف القوى السياسة والاجتماعية وأعلنت الالتزام بتحرير النظام السياسي .
أما الإصلاح الأكثر أهمية فربما كان الإصلاح الدستوري ، الذي وضع حداً للرئاسة مدى الحياة الموروثة من "رب العائلة" . وشهدت هذه الفترة أيضاً ذوبان الجليد في السياسة التونسية التي خبرت ربيعاً جديداً حتى نهاية العقد ، مع تحرير الإعلام وعودة الصحف التي سبق منعها ومصادرتها في الماضي . كما سُمح بصحف معارضة جديدة ، كان أكثرها أهمية "الفجر" الأسبوعية التي كانت تصدرها الحركة الإسلامية ثم اتخذت إسم النهضة ، و"صوت الشعب" La voix du people لسان حال الحزب اليساري المتطرف الذي يقوده حمة الهمامي (حزب العمال الشيوعي التونسي) .
كانت أحزاب المعارضة قادرة على مواصلة أنشطتها بنشاط متزايد . كما كان وقتاً مناسباً لدفعة جديدة للمجتمع المدني وخصوصاً رابطة حقوق الإنسان . وإلى جانب الإصلاحات السياسية ، تعهدت الحكومة أيضاً بمعالجة المشكلات في نظام التراكم وقيود برامج التكيف الهيكلي . وركز الإصلاح الاقتصادي على ثلاثة توجهات رئيسية .
يتصل أولها باستقرار الحسابات الاقتصادية القومية الرئيسية ، حيث سعت الدولة لتحقيق خفض جوهري في العجز الأساسي والتضخم . وهو ما تحقق بسياسات اقتصادية أرثوذكسية ، سعت لإزالة العجوزات الأساسية بخفض الإنفاق ورفع أسعار الفائدة . ومن هذا المنطلق ، جعلت هذه السياسة تحقيق أهداف الحكومة في تخفيض الإختلالات ممكناً ، وبحيث لم يتردد المسئولين الحكوميين في الفخر بمضاهاتهم لمعايير معاهدة ماستريخت ، التي لم تستطع حتى دول متقدمة أعضاء في الإتحاد الأوربي تحقيقها .
وتمثل الاتجاه الثاني في لبرلة الاقتصاد والانفتاح على الأسواق الدولية . وفي هذا الشأن ، عززت الحكومة الجديدة برنامج الإصلاح الذي بدأته في أوائل الثمانينات بالتفاوض على اتفاقات عدة للتجارة الحرة ، كان أهمها المُوقعة مع الإتحاد الأوربي . وأُرفقت المعاهدة ببرنامج مُحدث لمساعدة الشركات على زيادة قدراتها التنافسية لمواجهة تحديثات الشركات الأجنبية . كذا عُقدت اتفاقات تجارية أخرى جديرة بالذكر ، مثل اتفاقية أغادير مع بعض الدول العربية ، والاتفاقية المُوقعة مع تركيا ، وأخرى مع دول أفريقيا جنوب الصحراء . وأدت هذه اللبرلة لاستثمارات أجنبية متزايدة ونمو سريع لصادرات المنتجات المُصنعة ، التي أصبحت المصدر الرئيسي للدخل الأجنبي المصدر في الاقتصاد التونسي .
أما الاتجاه الثالث للإصلاحات فتركز على درجة الأولوية المُعطاة للتقنيات الجديدة . وكانت هذه المسألة في قلب الأزمة المُؤثرة على نمط التنمية القديم القائم على الأيدي العاملة الرخيصة ، كذا الانتقال نحو اقتصاد قائم على قطاعات أكثر تكثيفاً لاستخدام التقنيات الجديدة . فكان الانتقال نحو اقتصاد المعرفة هو مفتاح خطط التنمية الاقتصادية المختلفة ابتداءً من أوائل التسعينات . وأُنشئت وأُديرت سبعة أقطاب للتكنولوجيا ، أشهرها كان الغزالة ، لجذب استثمارات ذات قيمة من الشركات المحلية المبتدئة أو المؤسسات الدولية الكبرى بما فيها ألكاتيل Alcatel وإريكسون Ericsson وإس تي مايكروترونكس STMicroelectronics . وكان هناك أيضاً إرتفاعاً في الاستثمارات في الاتصالات مع تطوير البنية التحتية ، وتغطيةً متزايدة لشبكات الهاتف ووصولاً أفضل وأكثر جودة لشبكة الإنترنت .
وأدت هذه الاختيارات لتطور سريع في التقنيات الجديدة ، خصوصاً في خدمات الإنترنت في تونس . فمزودي الخدمة والاستضافات Publinets (مراكز الإنترنت العامة المدعومة) ومقاهي الإنترنت تكاثرت وحلق جنون التقنية الجديدة فوق مُختلف المناطق .
ومثل بلدان عديدة حول العالم، شهدت تونس هبوطاً قوياً في تكاليف التجهيزات واتصالات الإنترنت بما سمح لأعداد متنامية من مُستخدمي الفضاء الإلكتروني بالهروب من القيود والقمع السائدين في العالم الحقيقي .
وفي النصف الثاني من العقد ، دخلت تونس عصر الويب 2.0 وشاركت في ثورة الشبكات الاجتماعية مع تطور الفيسبوك واليوتيوب والمدونات والأشكال الأخرى من التواصل والشبكات . كما يجب الانتباه لمسألة انتشار الهواتف المحمولة مع تحرير القطاع وظهور ثلاث شركات للخدمة . وستتقارب الإنترنت والهواتف المحمولة قريباً لتقدم فرصاً جديدة للاتصالات ، بما في ذلك القدرة على الإرسال الفوري للصور وملفات الفيديو .
تدريجياً ، يقود التطور في التقنيات الجديدة لتشكيل مجتمع جديد ، مجتمع افتراضي يهرب من ميكانيكيات سيطرة الدولة وصداع البيروقراطية المُترصدة ، ولعب هذا المجتمع الجديد دوراً مهماً في الانشقاق السيبراني في ثورة 14 يناير 2011 م .
لقد كانت التقنيات الجديدة أكثر من مجرد اختيار اقتصادي ، لقد أصبحت إيديولوجيا للنظام في بحثه عن بوصلة وصلة بالعالم الحديث . فالتقنيات الجديدة توفر مصدراً للمشروعية والوفاء بمتطلبات المعاصرة والانتماء للعالم والعصر .
كانت صورة الرئيس المُتحمس للتقنيات الجديدة والإنترنت قد أُبرزت بواسطة أجهزة الإعلام الرسمية لتعزيز صورة راسخة لتونس في الحداثة التكنولوجية . وأُطلقت العديد من المبادرات من طرف الحكومة لإثبات إلتزامها بالتقنيات الجديدة . وكان أكثرها أهمية هو استضافة القمة الدولية لمجتمع المعلومات في عام 2005 م .
هذا الحدث ، الذي كان يُفترض أن يثبت التزام تونس بالحداثة والعالم الواحد ، تحول سريعاً إلى كارثة . ففي كلمته الافتتاحية ، لم يتردد رئيس الإتحاد السويسري في تذكير الجمهور بأن التقنيات الجديدة وعالم الإنترنت لا تتوافق مع القمع ورفض الحرية . وكان هذا إنكاراً جاداً لما اعتقده دائماً النظام الاستبدادي من إمكانية التحديث دون تبني الحداثة والعقلانية ، دون عقل وحريات .
فاعتباراً من 1987 م ، حاولت الحكومة الجديدة إصلاح النظام الاستبدادي المُتخبط وفتح آفاق جديدة للقومية الشائخة التي لم تكن قادرة على إحداث ثورة ديموقراطية . ومع ذلك ، فقد قُطعت هذه المحاولة لإصلاح النظام الاستبدادي سريعاً ببداية العقد التالي ، وعلى الصعيد السياسي ، ذبلت زهور الربيع التونسي الجديد سريعاً وعاود الإستبداد الظهور . فقد عاد النظام إلى طبيعته الأصلية بدءً من أول انتخابات تشريعية ورئاسية حرة ، والتي تميزت بتزوير كبير ، وساعدت الحزب الحاكم على دعم هيمنته على المشهد السياسي .
ثم تعرضت الحركة الإسلامية لقمع عنيف وعشوائي في التسعينات ، وحُكم على قادتها بالنفي أو بالسجن لفترات طويلة . وامتد هذا القمع فيما بعد ليطال المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني، وبالأخص رابطة حقوق الإنسان والروابط المهنية ونقابات المحامين والقضاة .
وأثر إغلاق المجال العام على الإعلام ، فصحف مُستقلة عديدة أُغلقت أو خضعت لرقابة قوية . علاوةً على ذلك ، عززت مركزة الإنفاق الإعلاني من خلال الوكالة التونسية للاتصالات الخارجية ATCE من السيطرة السياسية ، بإخضاع الصحف المُستقلة للإملاءات المالية . وبينما كانت الصحف المُستقلة محكومة بقبضة شديدة الوطأة ، تكاثرت الصحف الموالية للحكومة . وميّزت هذه الصحف نفسها بحملاتها ضد المعارضة وقادة منظمات المجتمع المدني . وأكثر من ذلك ، فقد أفادت لبرلة قطاع الاتصالات هؤلاء القريبين من الحكومة ، الذين كانوا على الجانب المُتلقي لاتفاقات تأسيس محطات تلفاز وراديو جديدة .
الاستبداد والقمع عادا إلى الصدارة . ولم تقتصر عودتهما على الظواهر الحديثة ، كالأحزاب السياسية والصحف ، بل امتدت أيضاً إلى العالم الافتراضي . ففي الواقع ، أدرك النظام سريعاً أن الفضاء السيبراني كان مرتعاً لثقافة تحررية وهدامة . فعالم الويب هرب من الميكانيكيات الشائخة للسيطرة والقمع التقليدي للعالم الحديث ، وخلق عالماً جديداً من التمرد والانشقاق . لكن القمع مد قبضته إلى الفضاء السيبراني عبر حظر مواقع ومدونات المعارضة ، وحتى مواقع بعض الصحف من نوع اللوموند Le Monde والليبراثيون Libération .
بل وصلت السيطرة حتى للتلاعب بصناديق البريد الإلكتروني وحسابات الشبكات الاجتماعية لقادة المعارضة . وهكذا فأداة للتحرر والاستقلال الفردي والهرب من قيود العالم الحديث ، أصبحت مكاناً جديداً للسيطرة والقمع بنظر النظام الاستبدادي . فأخ أورويل الأكبر كان يراقب الشبكة . وذلك يفترض ديكتاتورية عالية التقنية لتتغلب على "الانشقاق السيبراني" بنفس الطريقة التي أخضعت وأخرست بها المعارضة والأصوات المُستقلة في عالم الحداثة التقليدية .
أما على الصعيد الاقتصادي ، فقد مر نموذج التنمية الجديد ببضعة أسابيع مجيدة في التسعينات ، وأُدير ليدعم النمو القوي نسبياً ، والذي كان دائماً أعلى من المتوسط العالمي والإقليمي . ورغم ذلك ، فديناميكيات النمو كان يمكن أن تكون أقوي بكثير كما تشير منظمات دولية عديدة من بينها صندوق النقد الدولي . حيث قُوضت تلك الديناميكيات بسبب قيود خطيرة ، أولها كان الفساد الواضح وسوء الإدارة اللذين تناميا في أوائل التسعينات وأفادا الدوائر الضيقة الأقرب للحكومة ومختلف العشائر المافيوية .
وقد ساهمت هذه الممارسات في تراكم ثروات ضخمة جداً في وقت قصير ، وقبل كل شئ ، السيطرة على قطاعات كبيرة من الاقتصاد ، خصوصاً البنوك والسياحة والإسكان . هذه الثروات المتراكمة ، فضلاً عن مظهريتها الفاجرة ، التي ناقشها كثير من التونسيين سراً ، والتي كشفتها برقيات السفارة الأمريكية المنشورة بواسطة ويكيليكس ، ساهمت في فقدان الشرعية والرفض الشعبي للعشائر المافيوية .
وقبل كل شئ ، أعاق الفساد المتصاعد النمو الاقتصادي . فالقطاع الخاص قلّص استثماراته واستعداده لتحمل المخاطر المُستقبلية ؛ نتيجة لعدم التأكد المُتصاعد بسبب الفساد والنقص في الشفافية . فاعتمد موقف الانتظار والترقب الذي ساد لسنوات ، فكان التركيز على عدد كبير من المجالس الوزارية المُقيدة العاجزة عن تغيير الوضع ؛ وهكذا كانت مساهمة القطاع الخاص في ديناميكيات النمو أقل من المتوقع .
وأدت قيود نموذج التنمية والعقبات على طريق الانتقال نحو النمو كثيف رأس المال إلى بطالة عميقة ، خصوصاً بين الخريجين . وتقدر الأرقام الرسمية معدل البطالة بـ 14 % عام 2008 م . رغم أنها تبلغ بين الشباب من عمر 20 إلى 24 سنة 30 % و 19 % بين حاملي الشهادات .
وبالإضافة للبطالة ، كان هناك تفاوت متزايد بين المناطق ويأس كبير في المناطق الداخلية حيث انخفضت أنشطة الزراعة والتعدين . هذا التفاوت والبطالة المتزايدين في هذه المناطق سببا الثورة الأولى في 2008 م ، مع الانتفاضات في حوض التعدين . وفي وقت لاحق ، اشتعلت المناطق الحدودية مع ليبيا بسبب تكاثر العلامات الحمراء المُعيقة للتحركات السكانية بين البلدين .
هذه اللامساواة والفوضى واليأس السائدة بهذه المناطق كانت الأسباب الكامنة وراء الفعل اليائس الذي قام به الرجل الذي يُنظر إليه باعتباره الشهيد الأول والمُفجر لثورة الياسمين .
وقد تعمقت العقبات الكامنة بالنموذج بسبب الأزمة العالمية في 2008 م ، التي ضربت موجاتها الصادمة تونس بعنف . فهبط النمو الاقتصادي بقوة في 2009 م وحتى بشكل أكثر حدة في 2010 م . وأيضاً الصادرات انخفضت بشكل ملحوظ ، خصوصاً للإتحاد الأوربي ، الذي استمر الشريك التجاري الرئيسي لتونس . وبزغ عام 2010 م في تونس في وسط الأزمة ، بينما تنفصل السلطات السياسية بشكل متزايد عن المجتمع وترد على مطالبه بقمع متزايد . وفي نفس الوقت ، انتشرت أعنف الشائعات والتلميحات عن صراعات السلطة بين المجموعات المُحيطة بالرئيس . وكان هناك تصاعد في الفساد وانكشاف للثروات المافيوية ؛ ما عزز من الرفض ومشاعر السخط بين الناس . فيما كان خنق الإعلام وحتى التحكم الأكثر عدوانية وقمعية بالفضاء السيبراني لا سابق له ، وبما ساهم في خلق أجواء ثقيلة وغير مريحة خلال عام 2010 م . فكان المناخ مُتفجراً ومُشبعاً بعنف غير مسبوق ، ينفجر بشكل غير مفهوم وخارج السيطرة في كل تجمع جماهيري كبير ، خصوصاً أثناء مباريات كرة القدم . وقد اشتد هذا المناخ الضار بسبب الأزمة الاقتصادية التي أثرت بشدة على الاقتصاد التونسي ، وكانت سبباً في بطالة وتفاوت متزايدين ... كان وقتاً كئيباً في أواخر 2010 م وكانت الأجواء مُنذرة .
كانت روح العصر تذكر بشكل غريب بالأيام الأخيرة لنظام "رب الأمة" قبل مجي نظام بن علي (CODESRIA Bulletin, Nos 1 & 2, 2011 Page 27 in 1987) . لكن بفارق واحد مهم ، هذه المرة لم يقد فشل المحاولة الثانية لإصلاح النظام الاستبدادي لبداية جديدة ، بل لثورة شعبية حقيقية . وكانت هذه نقطة انطلاق ثورة الياسمين .



تحديات الثورة التونسية
في هذا السياق من الغضب العظيم وخيبة الأمل الهائلة سيقوم محمد البوعزيزي بفعله اليائس الذي سيصبح الفعل المؤسس للثورة الشعبية في تونس . وسيخدم فعله كعامل حفاز لحركة اجتماعية واسعة ستطيح بنظام استبدادي جعل القمع استجابته الوحيدة للحركة الاجتماعية والمعارضة السياسية .
في البداية ، كانت حركة المحرومين والعاطلين وفاقدي الأمل . فهؤلاء المنبوذين – كثير منهم من حاملي الشهادات العاطلين لبعض الوقت – كانوا في قلب الثورة ، في كل المناطق الداخلية والاحتجاجات الاجتماعية الكبيرة في مناطق عديدة ، من قفصة إلى القصرين ومن الكاف إلى جندوبة .
وقد هربت هذه الحركات الاجتماعية من قبضة الأحزاب السياسية التقليدية وجعلت الشغب والتمرد وسائلها الرئيسية للفعل السياسي . وهذه الاختيارات فرضت نفسها بسبب إغلاق المجال السياسي الشرعي وتقليص فرص التعبير والتفاوض .
ورد النظام الاستبدادي على الحركات الاجتماعية بالقمع والادعاء ، فالعقاب وسوء المعاملة وأحياناً الدعاية المُنمقة أثناء احتفالات عام الشباب ، مثلت طريقة تفاعلاته مع الحركات الاجتماعية . ومع ذلك لم تضعف الحركات بل نمى تأثيرها ، خصوصاً مع تأسيس لجان الدعم في مناطق عديدة أثناء الانتفاضات بحوض التعدين .
وعامل رئيسي آخر كان مُعبأً بقوة ولعب دوراً أساسياً في الثورة التونسية هو المُنشقون السيبرانيون ، فتطور التقنيات الجديدة والإنترنت في تونس أدى للنشوء السريع لمجتمع من المدونين والمُنشقين الإفتراضيين الذين هربوا من قمع السلطات وأساليبها الشمولية التي لم تعد تجدي مع صيغ العمل السياسي الجديدة . وتشكّل مجتمع الويب2.0 وتجاوزت قدرته التعبوية قدرات الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني التقليدية . وهذه الأشكال الجديدة من التعبئة استفادت من ميزة الثورة الرقمية للانخراط في القتال من أجل الديموقراطية ورفض الاستبداد والفساد والمحسوبية .
وهذه المعارضة الجديدة تختلف كثيراً عن المعارضة التقليدية المعاصرة ، فهي تتباعد عن الصورة اللينينية للقيادة الضيقة التي تحضّر لثورة سياسية . وكانت أكثر توزعاً ، معارضة سرية أثبتت استحالة الصمت . كما ألقت بعرض الحائط النماذج القديمة للمركزية الديموقراطية النموذجية للأحزاب الشيوعية ودعت لثقافة سياسية جديدة تتميز بغياب الزعيم الكاريزماتي وبقدر ملحوظ من اللامركزية وتنوع أشكال تنظيمها السياسي .
ويجب ملاحظة أن مجتمع الويب2.0 المدني هذا دعى لثقافة سياسية جديدة تتميز بالتعددية والتنوع ، مُبتعدةً عن المُخططات الإيديولوجية الكبرى وروايات عالم أفضل الموروثة من الحداثة . والجديد ، هو الثقافة السياسية التحررية الهادمة للنماذج الكلاسيكية ، وقبل كل شي نماذج المجتمعات المغلقة والتصورات المُنغلقة .
فالتمرد السيبراني الجديد ، وحيث أصبحت الحرية والديموقراطية قيماً أساسية ، رفعت لواء ثقافة سياسية جديدة . وربما كانت هذه الثقافة السياسية الجديدة هى ما يفسر كون الأحزاب الإسلامية والأحزاب اليسارية المتطرفة الداعية لثورة شاملة وجدت صعوبة في أخذ دور رئيسي ، وبالتالي كانت هامشيتها منذ بدأت الأحداث وفي مُجمل الحركات الاجتماعية التي بدأت منذ الانتفاضات في حوض التعدين في 2008 م .
لقد لعبت معارضة الويب 2.0 دوراً هاماً في التعبئة القوية بشجب القمع وبإنتاج خطابات جديدة مُناقضة لخطاب الهيمنة ؛ وبالتالي الكسر الناجح لاحتكار الروايات والخطابات التي لازالت تتمسك بها الأنظمة الإست بداية حتى الآن . ومن هذا المنظور ، فالثورة التونسية ونظيرتها المصرية أصبحتا أولى ثورات ما بعد الحداثة .
وتجدر الإشارة أيضاً إلى دور قوى المعارضة الجذرية في الثورة ، والتي تشمل أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني خصوصاً "إتحاد الشغل" الذي يجب التذكير بدوره كبادئ لمظاهرات 13 و 14 يناير .
ورغم ذلك ، فمساهمة الأحزاب ، كما سبق وأشرنا ، لم تصل لذات النطاق الذي وصلته الحركات الاجتماعية . ولكن ما يجب ملاحظته هو أن الأحزاب ، خصوصاً تلك التي رفضت الالتحاق بالحكومة ، قد خضعت لقمع قاس وشهدت تقليص مُرعب للمساحة المُتاحة لها للعمل السياسي .
وكان الالتقاء بين هذه الأشكال المختلفة للتعبئة منبعاً لثورة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر لتونس . فالثورة قرعت أجراس الموت لنظام استبدادي رافقت عزلته المتزايدة تصاعد استبداده . نظام خفض الفضاء السياسي بشكل كبير ليجعل طاغيته الفاعل الوحيد المسموح له بلعب دور سياسي .
أيضاً أسس النظام الفساد والمحسوبية كأسس لممارسة السلطة . وفي السنوات الأخيرة ، أصبح التسلط والاستبداد والمحسوبية الخصائص الرئيسية للنظام ، وكانوا أساس الانقسام المتزايد أبداً بين النظام والمجتمع . بينما لم تكن الانتفاضات في حوض التعدين والحشود في المناطق الداخلية ، مثل حشود المجتمع المدني شاملةً رابطة حقوق الإنسان والروابط المستقلة كنقابات المحامين والصحفيين والقضاة ، أقول لم تكن جميعها قادرة على وقف الانحدار الحلزوني للنظام في هوة العسف الاستبدادي .
وسيتطلب الأمر الفعل اليائس لمحمد البوعزيزي لإقناع الحركات الاجتماعية ومتمردي الفضاء السيبراني والمعارضة السياسية والمجتمع ككل ، بالذهاب لما بعد نقطة اللاعودة والبدء بثورة ستطيح في نهاية الأمر بالنظام الاستبدادي ، وتصبح نقطة انطلاق ربيع عربي حقيقي في العالم العربي ، سيجبر بدوره الحكومة المصرية على الركوع .
وتكمن أهمية هذه الثورة في نجاحها في التغلب على الخوف السائد الذي فرضه النظام الاستبدادي على المجتمع بمجمله . فقد تم تطوير الشرطة والمخابرات بحيث أصبحت قادرة على تخلل النسيج الاجتماعي كله ، ونجحوا قبل كل شئ في إقناع العامة بكونهم في كل مكان وبأن "الأخ الأكبر" يراقبهم كل الوقت . وأن يحذروا من أؤلئك الذين يسعون لتحدي النظام القائم فردياً أو جماعياً !!
أما أمثال هؤلاء الأخيرين فخضعوا لقمع عنيف ، كما في حالة الحركة الإسلامية وبعض الشخصيات من أمثال المحامي محمد عبو ومُنصف المرزوقي والصحفي توفيق بن طارق وشخصيات أخرى عديدة . فمن الآن فصاعداً سيتهامس الناس فقط ، وبدلاً من أن يتحدثوا عالياً يتمتمون . وبدلاً من التعبير عن آرائهم بوضوح فسيُلمحون بها بلامبالاة .
لكن هذه المواقف والمخاوف كانت منبعاً لشعور لا مثيل له بالعار في مُجمل الجسد الاجتماعي . فالناس كانوا خجلين من الخضوع للاستبداد . وفي مواجهة هذه الهزيمة على أيدي النظام الاستبدادي ساد الشعور بالعار . وهذا الشعور بالمهانة سيطر على النخبة التي هجرت الحياة المدنية والمجال السياسي بحثاً عن ملجأ في المجال الخاص ؛ وبالتالي الهرب من غضب النظام . وهكذا تُرك المجال العام للاستبداد والفظاظة والسوقية وأحياناً العنف المجاني ؛ بما دفع الجسد الاجتماعي للهرب من الثقل الكئيب للقمع . وقد كانت الثورة لحظة هامة في التاريخ الحديث بقدر ما مكنت الجسد الاجتماعي من التغلب على مخاوفه واستعادة كرامته .
لقد كانت الثورة التونسية وسقوط الديكتاتور المصري لحظات حاسمة بقدر ما جعلت ممكناً التغلب على النبوءات الاستشراقية المُعنونة بمقولة "الاستثناء العربي" وعدم الأهلية المُفترض في العالم العربي للتخلص من أساطيره وحلمه بالعودة للأيام المجيدة للمدينة المنورة . وبالطبع تجب الإشارة لأن أحداث النصف الثاني من القرن الماضي قد دعمت إدعاءاتهم . فقد ظل العالم العربي صامتاً أثناء الثورات الديموقراطية العظمى الثلاثة منذ سقوط الديكتاتوريات الأوربية الجنوبية في السبعينات وفي أميركا اللاتينية في الثمانينات ، وفي التسعينات "الديموقراطيات الشعبية" السابقة في أفريقيا .
فخلال كل هذه الأوقات من النشوة والابتهاج الديموقراطي ، ظل العرب مخلصين لقومياتهم التي نمّت الاستبداد بشكل متزايد وأغلقت الأبواب أمام رياح الحرية . فصممهم لصفارات الإنذار الداعية للديموقراطية كانت سبباً للافتراضات والأطروحات عن الاستثناء العربي ونقص الديموقراطيين في منطقة لازالت غارقة في الأسطورة وتقديم الإلهيات ، وبالتالي عدم القدرة على تحرير الفرد . لكن هذه الثورات أظهرت أن الاستثناء العربي غير موجود ، وأن هذه المنطقة تسعى مثلها مثل الأخريات للالتحاق بالحركة الكونية للحرية والعقل .
ومنذ النصر ورحيل الرئيس السابق في 14 يناير 2011 م وتونس مُواجهه بتحديات بناء نظام ديموقراطي جديد ومُنفتح . وهناك نوعان من التحديات : تحديات قصيرة الأجل ، وأخرى متوسطة وطويلة الأجل .
وفي إطار قصيرة الأجل ، يبدو أن الثورة التونسية مُواجهه بثلاثة مشاغل رئيسية : أولها هو المتصل بانفجار المطالب القطاعية التي تمكن النظام الاستبدادي من احتوائها والتي تتكاثر الآن كالفطر وتطلب حلولاً ، وبالرغم من أن معالجة هذه المطالب مهم ، إلا أنه من الواضح أنها تهدد توازنات اقتصادية دقيقة . والنوع الثاني من التحديات ترتبط بالأمن ، وتتصل بتفكيك أجهزة الأمن السابقة المُعتمدة على العشائر المافيوية وصعوبات إعادة البناء . ويجب وضع قضية الأمن بين أولويات الحكومة الجديدة لضمان عودة ظروف الحياة العادية وإحباط هذا الحنين للنظام القديم من باب تمجيده باعتباره مدافعاً عن النظام والقانون . أما النوع الثالث من التحديات ، فيتصل بصعوبات تشغيل مؤسسات الدولة . وما تجب ملاحظته بخصوص الصعوبات هو رجوعها في جزء منها لمقاومة الحزب الحاكم السابق وفي جزء آخر لـ"أخطاء التعيينات" بالنسبة لمسئولي بعض المناصب . ومن هذا المنطلق ، فمن الضروري بالنسبة لجميع التعيينات أن تخضع لتوافق واسع وأن يُعهد بها لشخصيات محترمة تستطيع النجاح في استعادة المشروعية للمؤسسات .
أيضاً تحديات المدى المتوسط والطويل كبيرة . وعلى هذا المستوى ، يجب تسليط الضوء على ثلاث قضايا رئيسية .
الأولى تتعلق بالإصلاحات السياسية وبناء نظام ديموقراطي جديد ، وقد اضطلعت لجنة من الخبراء والحقوقيين رفيعي المستوى برئاسة البروفيسور عياض بن عاشور للبحث في تنمية أرضية تونس في الحرية والحداثة الاقتصادية . أما الثانية فذات طبيعة اقتصادية ، وتتعلق بتحديد نموذج جديد للتنمية يضمن انتقالا حقيقياً نحو اقتصاد يقوم على المعرفة والتقنيات الجديدة . وسيتطلب هذا النموذج قطعاً مع السياسات الاقتصادية للماضي ، والتي خلافاً لتلك المُطبقة في الدول الناشئة ، تفتقر للرؤية والطموح . وأخيراً ، فالقضية الأخيرة هى ظهور نخبة سياسية جديدة وقيادة قادرة على شق الطريق للتغيير الاجتماعي والثورة الديموقراطية .
لقد كانت الثورة الشعبية في تونس لحظةً هامة من النشوة والحرية والتحرر من الاستبدادية التي كانت في صلب المشروع القومي . ومن الضروري لعصر الحرية الجديد أن يتجسد في مؤسسات ديموقراطية جديدة ومشروع تنمية شامل جديد يسمح لتونس بالانضمام لمصاف الدول الناشئة الجديدة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر