الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة مرْميّة....قصة قصيرة

جمال حكمت عبيد

2015 / 6 / 19
الادب والفن


ذات صباح مشمس وعلى ساحل بحر الشمال كان قرص الشمس يرتفع في السماء بهدوء سألني صديقي الهولندي: هل جمَعَتك ذكريات مع البحر في بلدك؟
قلت له: لم أرَ البحر في حياتي لكن جمعتني ذكريات أماكن أخرى.
- ماهي تلك الأماكن؟
- دعني أتذكر..
- إبتَسمَ وقال: هل نسيت ذكرياتك يا رجل؟
- نعم
- كيف
- انتظرْ.. تذكرت :
في بلادي كنت أسير في الأزقة الضيّقة أحتمي تحت سقوف بيوت الشناشيل كي لا تبللني حبات المطر، أخزن بذاكرتي كل شيء جميل يسقط عليه نظري وعلى وقع أنغام المطر يختمر المشهد في مخيلتي وينتفخ كالعجين شريط ذكرياتي، وشهواتي كانت تطير في دهاليز رغباتها مليئة بالحُبِّ كحبوب اللقاح تتنقل بزهوٍ بين الأزهار و مروج الحقول الخضراء وأشجار النخيل.. كانت ذاكرتي تقفز هنا وتنطرح هناك كالطفل المحبوب.. نشطة ثائرة كغريزتي تثار حتى بسفاد العصافير.
اِبتسم صاحبي وقال لي: وبعد؟
- في إحدى الأيام ومن حيث لا أدرى ودون موعدٍ سُلِب فيه وطني وسُلبت معه ذكرياتي.
- من هذا الزائر ؟
- هو إنسان وليس إنسان هو دولة هو صاروخ يصرخ هو طائرات تقصف وترمي اوجاعاً دامية هو ريح سوداء عصفت بلدي وشاعت الفرقة فيه. افعاله خبَطت ذاكرتي جعلتني أتخبَّط في حياتي أذهب يميناً وشمالاً، أضرب الحيطان كعصفورٍ دخل غفلة غرفتي واحتارَ في الخروج منها. اِمتَصَّ الزائر عنوة رحيق ذكرياتي كنحل العسل دويه صار يوجع أذني.. أفرغ ذاكرتي فتشتت ذكرياتي ، القى بها جوفاء خالية لا حلو فيها. رماها بعيداً، سبَحتُ بها فوق أرض جدباء أبحث عن واحة في الصحراء تعيد لملمتها لتحيا . بينما عيناي الفارغة تنظر بشغفٍ أقواس منعطفات ذكرياتي ، وعقلي يبحث عن واقع يذكيه كي يجد مخرجاً لحياتي.
-هل وجدتها ؟
- نعم :عندما ترك الغريب وطني وولى ...
- وماذا حدث بعد؟
- الذي حدث غطّت سحب سوداء سماء بلادي أمطرت على الناس خبثاً وفرقة، متلفعة بوشاح الدين فصدقوها أبناء بلدي .
- وهل طالتك أمطارها ؟
- نعم
- كيف
- هزيز رياح عاتية جاءت مع السحب لَفَّة ذاكرتي وما عدتُ أرى الأشياء واضحة فيها فكل شيء تغير في بلادي ، برَمَت الريح ذاكرتي كخيط المغزل حاكتها وصارت بساطاً مطروحاً في الممراتِ . داست عليه العباد حتى مُعِسَت فلصَقَت كالعلكة بكِعابِ أحذيتهم .. محبوسة بين البساط والنِعال... صراخها عوى في أذني كنباح كلب تركته القافلة... سُحِقَت ذاكرتي من كثر الدوْس عليها حتى صارت طيناً، تشظَّت بين الكِعابِ تتنقل بمداسات السائرين دون أن يحسوا بها وبأوجاعها .
- كيف؟
- لقد اختاروا رمي ذاكرتهم وذكرياتهم الجميلة والقديمة .
- في لحظة ما انتبَه أحَدَهم رآى شيئاً ما لصق في نِعاله، لم يأبه بها، عند خروجه مسح ذاكرتي على حافة الرصيف. سار وتوارى عن الأنظار في عتمة الليل، تركها تتلوى تطلب العون للملمتها. عند الصباح جاء عامل رث الثياب وجدها على الرصيف عالقة يحمل مكنسة ، أزالها ورماها في الحاوية ، ثم جاءت مركبة كبيرة أخذتها بعيداً ألْقتها فوق تلال الأزبال..
- أيعقل هذا صار الناس في بلدكم يرمون الذاكرة والذكريات الجميلة في الأزبال؟
- نعم لولا أني استفقتُ هناك من حٌلْمي واخذتُ أبحث في التلال عن بقايا ذاكرتي، العَن تلك الجراثيم التي هاجَمَتها.. دخان كثيف متصاعد نحو السماء كانت محرقة ترمى بها الأزبال .. انتظرت دور ذاكرتي في الحرق وأنا في حيرة من أمري أأتركها تُرمى وتُحرق!! أم أحاول الهروب بها الصقها على ورقة تطير مع الريح كي أنجيها .. ما بين دخان المحرقة والفضاء الواسع رسَمتُ خارطتي.
أخذَت الحَسْرة صاحبي ..مسَك بيدي.. قال: دعنا ننزل البحر.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - محبتي للقاص الجميل
هاتف بشبوش ( 2015 / 6 / 19 - 20:05 )
تحياتي للصديق جمال على كل هذه الراوائع


2 - شكر
جمال حكمت عبيد ( 2015 / 6 / 21 - 23:27 )
الناقد والشاعر والصديق الجميل هاتف بشبوش اسعدني تواجدك معي

اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و