الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجديد نماذج التنمية للقرن الحادي والعشرين - سمير أمين

مجدى عبد الهادى
باحث اقتصادي

(Magdy Abdel-hadi)

2015 / 6 / 21
الادارة و الاقتصاد


تجديد نماذج التنمية للقرن الحادي والعشرين

سميـر أميـن – منتدى العالم الثالث – داكار ، السنغال

ترجمة : مجـدي عبد الهـادي

نُشر المقال الأصلي بالعددين الثالث والرابع من دورية كوديسيريا الإنجليزية لعام 2012 م ، وصدرت ترجمته العربية ضمن العدد (62) لعام 2013 م من الإصدار العربي للدورية ، التي تصدر بالتعاون بين المجلس الأفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية بداكار ومركز البحوث العربية والأفريقية بالقاهرة

-------------------------------------------------------



"قضية التنمية" في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين :

لقد دخل العالم في مرحلة من التحولات العميقة ، ولازال تصور الأسس التي ستحكم مجتمعات القرن الحادي والعشرين غامضاً . وأزمة النظام المالي المشهورة بانهيارات سبتمبر وأكتوبر 2008 م هى علامة دالة على مدى التحولات القادمة .

وحتى الآن ، فما تلهمه تلك الأزمة هو إعادة تقييم منظومية ، خصوصاً فيما يتعلق بأنماط إعادة إنتاج التراكم والنمو ، وطرق الوصول للموارد الطبيعية للكوكب وإدارة استخداماتها (القضايا البيئية) ، وطرق تنظيم المجتمعات (المقرطة ، قضايا الجنوسة ، القضايا المتعلقة بالاختلاف ، وقضايا ضرورات تقدم أشكال المشاركة والديموقراطية السياسية والاجتماعية) ، والتوازن الجيوسياسي ، والقضايا المتعلقة بأمن الشعوب والأمم .

لقد اتخذ تحدى التحولات الراهنة شكله منذ بضعة عقود مضت ، وكان واضحاً تراكم التشوهات في المجتمعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . ورغم ذلك ، ساهم الثنائي العقائدي شبه الأصولي ، حول "السوق" المُتصورة كالمنظم الوحيد لحياة اقتصادية "عقلانية" ، وحول "الديموقراطية الانتخابية التعددية" المُعتبرة كالأداة الحصرية لإدارة الحياة السياسية ، نقول ساهم ذلك الثنائي في حجب خطورة (الأعطال) ، والتملص من تحدي "القضايا الشائكة" ، وذلك من خلال عبارات البرامج الدعائية من نوع "الحكم الرشيد" و "الحرب على الفقر" .

وقد جعلت هذه الأزمة أولوية معالجة هذه "القضايا الشائكة " أمراً ضرورياً . وقد حان الوقت لأجل تغييرات جوهرية في تنظيم عالمنا من الآن فصاعداً ، فالمستقبلات الممكنة (أؤكدها بصيغة الجمع) متباينة وغير واضحة .

يقول البعض أن "عالماً آخر ممكن" ، ونحن نقول أن "عالماً آخر يتكون فعلاً" ، لكن ماذا سوف يكونه ؟ وهل سيكون أفضل حقاً ؟ . هذا أبعد ما يكون عن التأكد .

وفي ظل هذه الظروف ، فمسئولية المفكرين والجهات الفاعلة تجاه التغيير هى مسئولية مصيرية . ولم يعد ممكناً التعامل مع المشاكل على أساس يومي ، ومعزولة عن بعضها بعضاً ، كذا لم يعد ممكناً الثقة في النظريات والمعارف الموروثة .

ويمثل التجديد الضروري لمفاهيم ونماذج "التنمية" جزءً من هذا الجهد ، الذي يدعو لتجديد وتعميق التفكير النظري وإعادة فتح باب المناقشة حول البدائل الممكنة والمرغوبة .



"التنمية" مفهوم مجتمعي وتاريخي :

لا يمكن اختزال مفهوم التنمية إلى مجرد بُعد الإستراتيجية الاقتصادية ، التي تحدد نفسها بالنمو ، أما ربطها بسياسات توزيع اجتماعي للدخل فيعتبر مقبولاً (العدالة الاجتماعية) . ولا يمكن النظر إليها كإستراتيجيات اقتصادية تُوضع إلى جانب مشروعات سياسية مثل الديموقراطية ؛ فالتنمية هى مفهوم مجتمعي يدمج كافة أبعاد الحياة الاجتماعية في وحدة متماسكة .

لقد كان تم فهم التنمية دائماً في إطار ارتباطها بالأهداف التي يحددها المجتمع ، أي السؤال عن إلى أين نريد الذهاب ؟ ، وهذه الأهداف كانت دائماً ذات طابع تاريخي ، بمعنى أن مفهومها يتضمن الانتقال من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى من التحولات المُعولمة ، مع اختلاف من منطقة لأخرى في النظام العالمي .

وبنظرة في التنمية ، كما تم تصورها وتنفيذها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، فهى تساعد في ضبط تلك الجوانب المجتمعية والتاريخية للنماذج الحاكمة لتشكيل الأهداف والوسائل . وفي المرحلة الأولى ، التي تغطي الثلاثة أو الأربعة عقود الأولى ما بعد الحرب ، تم وضع وتنفيذ ثلاث عائلات من النماذج التنموية : نموذج دولة الرفاهة المُطور في الغرب (لأنه كان في الحقيقة نموذجاً للتنمية الاجتماعية) ، ونموذج "الاشتراكية القائمة فعلياً" (السوفيتية والماوية) ، ونموذج البلدان الأفريقية والآسيوية التي استعادت استقلالها (نموذج باندونج) وبلدان أميركا اللاتينية (نظرية التبعية والنظرية التنموية) . أما المرحلة اللاحقة فهى أصل "عقود التنمية" التي شكلتها الأمم المتحدة وكافة المنظمات التنموية الدولية والوطنية (وهو تعبير حُجز للجنوب لاحقاً) . وكانت نماذج هذه المجموعة من الصيغ نتاجاً للتفاعلات بين المفاهيم عالمية النزعة المرتبطة بالعولمة في طور الإنشاء من ناحية ، وصيغ سلطات الدول المسئولة عن إعادة بناء وتحديث الأمم الآسيوية والأفريقية والأمريكو-لاتينية من ناحية أخرى .



التنمية في عصر باندونج :

رغم أن نتائج هذه التفاعلات أنتجت إستراتيجيات اقتصادية وسياسية واجتماعية متباينة ومختلفة من بلد جنوبي إلى آخر وبشكل واضح ، إلا أنه ليس مستحيلاً ( ولا هو غير ضروري ) أن نرسم "خلفية مشتركة هامة" تجمع تلك الإستراتيجيات . وتضفي هذه الإستراتيجيات والمفاهيم التطبيقية المشروعية على طموح الأمم الجنوبية في "التحديث" وفي أن تصبح "بلداناً صناعية" ، لكنها لن تؤدي بالضرورة لأن تصبح "ديموقراطية" ( أياً كان تعريف تلك الديموقراطية ) . وكان هدف بناء اقتصادات قومية متوجهة للداخل هدفاً عاماً ، رغم المدى الواسع التنوع من الوسائل التي أُستخدمت . ومن ثم كان الإطار هو الأمة ، سواء كانت بحجم دولة – قارة أو بحجم دولة متوسطة أو حتى دولة صغيرة . والتقى الهدف بمتطلبات "التنمية المتوجهة للداخل" ، منادياً هنا وهناك بـ "الاعتماد على الذات" ، وإن بصور مختلفة .

وقد كان هذا مرتبطاً بالتغييرات الاجتماعية التي كانت السلطات تريد تنفيذها وضبطها ، سواءً كانت إصلاحات جذرية بشكل أكثر أو أقل (الإصلاح الزراعي ، تأميم و/أو خلق قطاع عام) أو تقدم في الخدمات الاجتماعية (التعليم والصحة في المقام الأول) . ولم تكن هذه البناءات المتوجهة للداخل المُتخيلة "سلطوية" ، بل كانت مُنفتحة على العولمة (توسع التجارة ، استيراد رأس المال والتقنية) التي كانت على ما يبدو قابلة للتفاوض . ويوضح عمل وتدخلات اليونكتاد هذا الطموح متعدد الأهداف لهذه الفترة .

وقد أنتجت عقود من التنمية تحولاتً واسعة النطاق في كل البلدان الجنوبية . وليس من السهل قياس حدودها وأوجه قصورها . فأولاً ، العجز الديموقراطي في أشكال عديدة ، فالبرامج الإستراتيجية المُنفذة كانت موضوعة من أعلى لأسفل ( بواسطة الأنظمة أو "الاستبداد المُستنير" ؟ ) ؛ حيث تُحشد القواعد الشعبية للدعم وليس للمشاركة ووضع التصورات . وفي هذا السياق ، أُستبعدت الاستجابة لتحديات رئيسية من البرامج المُنفذة ، وبالأخص حقوق المرأة (قضايا الجنوسة) والمسائل البيئية طويلة الأجل . لكن من الخطأ رغم ذلك محو الجوانب الإيجابية من إنجازات تلك الفترة ، كالحراك الاجتماعي لأعلى ، الذي ساعد على تكوين طبقات وسطى جديدة أو دعم الموجودة سابقاً في الغالب ، وهى الطبقات غير الموجودة في البلدان الجنوبية ؛ بما فتح الأبواب للتطلعات نحو احترام حقوق الإنسان .

وليس من قبيل الصدفة ، أن البلدان التي حققت تقدماً في فترة باندونج ، دون غيرها ، ومن خلال مزيد من السيطرة الملموسة على تنميتها المُوجهة للداخل ، هى التي تُصنف حالياً ضمن البلدان التي تُسمى الآن بـ "الصاعدة" ، بينما هبطت البلدان الآخرى إلى فئة "العالم الرابع" ، المُوصفة خطأً كمهمشة . فبسبب المشاركة السابقة – أو التطلع للمشاركة – في بناء مستقبل العالم ؛ أصبحت البلدان الأخيرة مضطرة للتكيف معه بشكل سلبي .

وفي أميركا اللاتينية ، لعبت اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية والكاريبي ، بقيادة راؤول بريبيش ، دوراً حاسماً في بذر بذور نظرية التنمية المعاصرة . وتُعرف أطروحاتها بالنظرية التنموية desarrollismo ، التي نُوقشت ونُقدت بشكل واسع ، خصوصاً من مدرسة التبعية .



هذه الصفحة من تاريخ "التنمية" تم طيّها بالتأكيد منذ الثمانينات والتسعينات :

لقد أتاح تآكل وانهيار نماذج التنمية في العقود السابقة الظروف الملائمة للهجوم العام الذي اتخذ إسم "النيوليبرالية و العولمة والأمولة" . ويحدد مؤتمر كانكون عام 1981م ، الذي سيطرت عليه الريجانية والثاتشرية ، لحظة التأسيس للعودة لـ "أصولية السوق" . فكل القضايا الشائكة تم تصفيتها بالتأكيد المجاني على أن "الأسواق" وحدها وبذاتها سوف تحل كل المشاكل . وتم اختزال الانفتاح (المفيد والضروري) على الأسواق العالمية إلى مجرد "التجارة الحرة" . وبينما كان مستحيلاً تطوير تجارة دولية مُنظمة ترعى تقدم الأضعف ، فقد دفع الاندماج المُعولم للأسواق المالية والنقدية ( أي تحرير مزدوج لأسعار صرف العملات وأسعار الفائدة ) هذه العقيدة إلى أقصاها ( أو تجاهلت عن عمد أن الطرق المُستخدمة لخفض مخاطر العوامل الفردية ، قد تزايدت بسبب التحرير المزدوج ، كما فاقمت من الخطر الجماعي ) . بينما كان الاقتصاديون التقليديون قد تم تعبئتهم لشرعنة هذه العقيدة حول السوق .

كانت دوجما السوق قد تكونت في إطار يشترط الإخضاع الكامل للمطالب السياسية والاجتماعية . وأُعتبرت الأمة "بقايا من الماضي" بزعم تجاوزها من قبل العولمة (المُعبر عنها بصيغة عامة وغامضة) ، وأُعتبر تدخل الدولة شيئاً "غير عقلانياً" بطبيعته . وصيغت "ديموقراطية مُعلبة" صالحة لكل زمان ومكان ، مُخفضَة إلى مجرد الاعتماد على نظام التعددية الحزبية الانتخابي ، مُقترناً بإعلان ببضعة حقوق إنسانية . وقد قررت أن توسع الأسواق "النيوليبرالية" القائم على الإفراط في الخصخصة (بما في ذلك الخدمات العامة) سوف يقوّي بذاته التطلعات نحو الصيغة الديموقراطية المُقترحة .

والحقيقة أن تجارب التنمية الواقعية في عقود النيوليبرالية والعولمة والأمولة (من 1985 إلى 2007) لم تثبت بأي حال من الأحوال أيّ من إدعاءات الخيار الذي ُُنفذ . فالإختلالات الموجودة بوضوح في نماذج التنمية ما بعد الحرب ، لم تقلّ بالاعتماد على الليبرالية ، بل على العكس ازدادت سوءاً .

"التنمية" بأفضل معانيها "إنسانية" يجب أن تكون "شاملة" ؛ فتنتج ثماراً تفيد جميع المواطنين المعنيين (وبالأخص أؤلئك المنتمين للطبقات الشعبية) في كل مرحلة من مراحل انتشارها . فهل أنتج النموذج الليبرالي المُعولم – في أفضل حالاته – تنميةً "شاملة" ؟

إن نمو الناتج المحلي الإجمالي ، مهما كان مرتفعاً ، (فيما يسمى بالدول الصاعدة) يستفيد منه بالكامل أقلية (20 % على أقصى تقدير) ، دافعاً الغالبية العظمى الشعبية إلى الهامش ؛ كضحايا للتضخم وحتى لتدهور ظروف معيشتهم . وتم مسح كلمة "تنمية" من الخطاب السائد . وكان المفترض أن هذه الكلمة مترادفة مع تنمية السوق (المُحررة دون قيود) ، التي أُفترض أنها ستحل كل المشاكل . وقد ولدت الإختلالات الكامنة في تطبيق المبادئ المعتمدة أزمة سياسية واقتصادية أكثر عمقاً . وفد ارتبطت الصيغة الديموقراطية – حينما كانت مُطبقة – بتدهورات اجتماعية وليس بتقدم اجتماعي . وفي نهاية المطاف فقدت مشروعيتها وخسرت شعبيتها الجماهيرية برعاية أشباه الأصوليين "الدينيين" و"العرقيين" . وحلت الثيوقراطية [1] أو الإثنوقراطية [2] محل التطلعات نحو الديموقراطية .

ولاشك أنه قد قُدمت مقترحات ذات إمكانات إيجابية بشكل لا يمكن تجاهله خلال العقدين أو الثلاثة عقود الماضية . وهى تتضمن دعماً ملحوظاً لما يتعلق بالمساواة بين الجنسين ، ووعي بالمخاطر التي يسببها إهدار الموارد الطبيعية للكوكب (الاعتماد على نماذج الإنتاج المُهلكة للطاقة بالأخص) ، وتأكيد على حقوق الإنسان وحقوق المجتمع المدني في مواجهة سلطات الدولة . وحتى الآن ، لم تنتج سوى ثماراً ضئيلة بسبب إعاقة الليبرالية لتقدمها . كم أن الاعتراف بالحقائق الثابتة بأن الفقر وعدم الأمن يؤثران على النساء أكثر من الرجال ، يحدّان بنفس الصورة من التقدم في قضايا الجنوسة بالنسبة لنساء الطبقة الوسطى . ولم تُعز الإختلالات التي لُوحظت آثارها إلى جوهر النموذج المقترح ، بل لأسباب قريبة لا تتصل به .

وهكذا طُورت خطابات موازية تراعي "الموضة" بأتفه معاني الكلمة ؛ ولذلك فالحديث عن "خفض الفقر" بتجاهل حقيقة أن النموذج الليبرالي هو سبب اللامساواة المتنامية (المشهودة) ، بل وهو السبب حتى في تزايد التهميش . كما ، يتقيّد الخطاب "البيئوي" نفسه في حدود رؤية التدهور والتهديدات التي يدق أجراس الإنذار بشأنها دون ربطها بمنطق (أو بمناطق) إعادة إنتاج النظام . ونتيجة لذلك ، فملاحظة انخفاض الطلب على الديموقراطية وتعاظم الاتجاه نحو الإستراتيجيات السياسية المنطوية على الإرهاب ، لم تؤد للتساؤل حول النماذج الديموقراطية المُقترحة !! فاستمرت نفس الخطابات عن "الحكم الرشيد" (والتنديد بالفساد) التي لم تثر قضية الطبيعة الاجتماعية لقدرات "الحكم السيئ" . فليس أي من هذه الخطابات مُرض بذاته ؛ لفشله في تحديد القضايا المُثارة بشأن نشر منطق ما يُسمى بالنموذج الليبرالي والمُعولم الجاري تطبيقه .

ومع ذلك ، فرغم الأدلة الملموسة والمشاكل الحقيقية المتفاقمة ، التي كانت جديرة بالانتباه ، لازال النموذج "الليبرالي المعولم" يصف نفسه بأنه "الحل النهائي" و "نهاية التاريخ" . بينما هو لا يمكن الدفاع عنه – ليس فقط للأسباب التي يدفع بها البيئويون (وفي الواقع هى صحيحة كلياً) – لكن أيضاً بسبب مجموعة من الأسباب السياسية والاجتماعية المرتبطة بانتشار اقتصاد النظام ، الذي لم يكن مُتصوراً . كما أن انهيار القطاع المالي من النظام ليس عرضياَ . فعولمة حرية أسواق المال والنقد كانت الحلقة الضعيفة في النموذج ككل . وهذا الانهيار المتوقع (ليس من قبل الاقتصاديين التقليديين بالطبع) يؤكد ضرورة فحص الأبعاد النظامية systemic للأزمة . وفي هذا السياق يجب فتح النقاش حول "قضية التنمية" مرةُ أخرى .

ويهدف البرنامج قيد النظر ، من تحديد الموضوعات الرئيسية التي يجب فتحها والبحث والنقاش بشأنها ، إلى تقديم مقترحات نقدية حولها . وبالتأكيد ، فهذا البرنامج لا يبدأ من الصفر ، بل من البحث والتفكير النقدي في خبرات الماضي (زمن باندونج والنظرية التنموية) والماضي الأقرب (التكيّف الهيكلي) والحاضر (السياسات الحالية في البلدان الصاعدة والاتجاهات الجديدة في أميركا اللاتينية) .

ويشترك منتدى العالم الثالث TWF والمنتدى العالمي للبدائل WFA فعلياً في هذه الحركة النقدية ، مثل مراكز الفكر الأخرى وباقي الباحثين ، ليس فقط في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ، لكن أيضاً في الولايات المتحدة وكندا وأوربا ، كما في بعض المعاهد (مثل : معهد الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية) .

وتستند أصالة هذا المشروع إلى حقيقة كونه يقدم أطروحة أكثر نظامية لجميع الموضوعات (تابع القسم اللاحق) وللمناطق الجنوبية ؛ بما يمكّن من التحرك للأمام تجاه رؤى عامة وشاملة ، مثل تلك التي تقترحها المعاهد الرئيسية للنظام الدولي (منظمة التعاون الدولي والتنمية والبنك الدولي والأقسام المختصة في الإتحاد الأوربي ووكالات التعاون الدولي الرئيسية) .



برنامج مقترح من البحوث والنقاشات :

لقد نظمت شبكات البحث والنقاش المرتبطة بشراكات مع منتدى العالم الثالث TWF والمنتدى العالمي للبدائل WFA في السنوات الأخيرة عدة لقاءات ساعدت في تحديد مجموعة المشاكل ، التي تغطي - مجتمعةً – التحديات الرئيسية التي تواجه المجتمعات الحالية . رغم أن هذه التحديات هى إلى حد ما "دائمة" في العصر الحديث ، فيما تم تجديد التعبير عنها دائماً تبعاً لتطور العالم . وبالنسبة للبلدان النامية ، فهذه التحديات التي يمكن النظر إليها كتحديات تنموية لا يمكن التعاطي معها بـ "العودة لحلول الماضي" (حلول عصر باندونج ما بين 1955 – 1980 في أفريقيا وآسيا) . فلا يمكن أن يكون هناك "طبعة جديدة" من باندونج ، رغم أن نفس التحديات التي لم تجد استجابات مناسبة بعد لازالت قائمة دون تغيير ، اللهم إلا في بُنى النظام والظروف المتحولة لإعادة إنتاجه .

وقد واجهت الحركات الاجتماعية هذه المشاكل بشكل جوهري في العقد الأخير. ولا يمكن تحقير خبراتها النضالية ، لكنها يجب أن تكون موضوعاً لفحص نقدي للإستراتيجيات الضمنية أو الصريحة المُطبقة من خلال نضالاتها ، كذا للسند النظري التي تقوم عليه . ولا يهدف المشروع إلى وضع كاتالوج بمطالب واعتراضات هذه الحركات ، فله هدف أكثر طموحاً ، هو تحديد "القضايا الشائكة" التي تفتقر للدعم النظري الضروري لبحثها كما تفتقر لتطبيق الاستجابات المقترحة التي لديها "خطابات مقنعة" . فتعددية التحليل والمقترحات النظرية القائمة عليه ، بالإضافة لهذه الاستجابات الإستراتيجية المطلوبة لمواجهة التحديات ، كلها أمور ضرورية .

والمقترحات المُحددة للبحث ولساحات الحوار أُستلهمت بشكل مباشر من العمل الذي قام به منتدى العالم الثالث والمنتدى العالمي للبدائل أثناء عِقد 1997 – 2007 ، كما يلي :



المقرطة مُندمجة بالتقدم الاجتماعي مقابل صيغة الديموقراطية المفصولة عن التقدم الاجتماعي :

من المفهوم أن المقرطة تعتبر عملية بلا نهاية – فلا يمكن اختزالها إلى صيغة دائمة – تهتم بكافة جوانب الحياة الاجتماعية وتعبر بقواعدها إلى الأسرة (قضايا الجنوسة) والشركات (مشاركة العاملين) والمجتمع (لامركزة السلطة) والدولة القومية والتجمعات الاقتصادية الإقليمية والعالم . وتتبني عملية المقرطة تعريف الحقوق الفردية والجماعية ، وتحديد / اكتشاف الأشكال المؤسسية الضرورية لتحقيقها واقعياً ، وتنظيم السلطات السياسية والإدارة الاقتصادية (بدءاً من الشركة وصولاً للأمة والعالم) ، كذا تهتم بتحديد القيم الثقافية والأخلاقية .

فكيف يمكننا أن نهيكل جميع القضايا التي تثيرها الديموقراطية ضمن استراتيجيات سياسية واقتصادية تضمن تقدم اجتماعي عالمي ؟



إعادة توحيد قوى العمل :

لقد جعلت تحولات العمل التنظيمي المصاحبة للتجديدات التقنية التي لازالت بسبيلها للانتشار (علوم الكمبيوتر بالذات) الأشكال النضالية والتنظيمية للطبقات العاملة ، والتي كانت فعالة وقتاً ما (النقابات المركزية القوية والأحزاب السياسية التي تشارك في مطالب العمال وإضراباتهم وفي المظاهرات والانتخابات) ، شيئاً من مخلفات الماضي . وبسبب تحطم مكانة الطبقات العاملة والمعدلات العالية للبطالة وعدم الأمان الوظيفي و"القطاع غير الرسمي" ، تحددت بعض التحديات الجديدة . فيما أُديرت السياسات الرسمية لليبرالية للاستفادة من الوضع ، وبالذات من خلال تجاوز المحلية ، بوضع العمال من المناطق المختلفة عبر العالم في منافسة مع بعضهم البعض . لكن الأهم هو أن التغيرات الموضوعية في تنظيم العمل تتعلق بالنقابات والأحزاب السياسية . والافتراض الذي يقوم عليه تعريف نطاق المشكلة ذاك ، هو أن أنظمة السلطة تستطيع دمج أهداف التنمية الاجتماعية فقط عندما تكون الطبقات العاملة قادرة على فرضها .



مسألة زراعية جديدة :

يشكل الفلاحون بالقارات الثلاثة الممثلة للجنوب حوالي نصف البشرية . وبغض النظر عن التنوع في الأوضاع وفي ظروف الإنتاج والتجارة ، تجب ملاحظة أن توسع التحديث من خلال "السوق" قد أدى بعملياته الخاصة إلى تفكيك المجتمعات الزراعية . وقد تسارع هذه التفكك في العقود الأخيرة ، بشكل أسعد المشروع الليبرالي بالتأكيد . والنتيجة ليست سوى تعاظم الإفقار (الغالبية العظمى من الفقراء وممن يعانون سوء التغذية هم من سكان المناطق الريفية) وضغوط الهجرة الكبيرة لحد لا يُطاق . وقد نتج التحضير في الجنوب عن هذه الضغوط ؛ بما أدى إلى تهديد "الضواحي" بالمدن . كذا تعبر عن ضغوط الهجرة تلك المحاولات البائسة للسفر إلى البلدان المتقدمة (لاجئو القوارب الذين أصبحت نهاياتهم المأساوية مسألة اعتيادية بالنسبة لمئات الآلاف من المرشحين في أفريقيا) .

والاستجابة للتحدي تنطوي من البداية على اعتباره هدفاً لا غني عنه لسياسات التنمية الحقيقية : ونعنى تأمين الوصول للأرض (بأدنى درجة ممكنة من التفاوت) لجميع الفلاحين في العالم . والاهتمام بذلك الهدف يقتضي تحديداً لإستراتيجيات السياسات الاقتصادية الكلية المناسبة كذا سياسات المقرطة .

لقد كانت المسألة الزراعية دائماً في قلب التحديات التي واجهت "التحديث" في المجتمعات الأفريقية والآسيوية والأمريكولاتينية . رغم أن تلك التحديات لا تظهر بذات الصورة في المناطق المختلفة . ففي بعض المناطق ، أنتج التاريخ الممتلكات الإقطاعية الكبيرة ، حيث ظهور المجتمعات الزراعية الغنية النامية والحديثة جنباً إلى جنب مع ملاك المساحات الصغيرة الفقيرة الذين لا يملكون أي موارد والفلاحين المعدمين من الأرض والعاطلين غالباً .

فالوصول إلى الأرض والموارد لأجل الزراعة الكفؤة كذا القدرة على توفير تحسينات مستمرة ولائقة لدخل الفلاحين – حتى وإن كانت بطيئة – يتطلب إصلاحات متنوعة الأشكال (الأرض ، إصلاحات تعاونية) مصاحبة لسياسات اقتصادية كلية لما يتعلق بالائتمان والتسويق ، ومُتسقة مع سياسات التصنيع .

وفي الجزء الأعظم من أفريقيا جنوب الصحراء ، تظهر المسألة الزراعية بأشكال مختلفة . فلا يمثل الوصول للأرض - في حد ذاته - بالضرورة شرطاً رئيسياً . والعنصر المركزي في ذلك التحدي هو ضعف الوصول للموارد لأجل زراعة الأرض التي لا تزال غير آمنة لمجرد البقاء فيها ؛ فتتطلب الاستجابة كلاً من سياسات تنمية ريفية خلاقة وسياسات اقتصادية كلية متسقة مع ما كل ما سبق .

فالمسألة الزراعية هى "جديدة" بمعنى أن الإجابات العامة جداً التي قدمتها الليبرالية المنتصرة في العقود الأخيرة هى في الوقت الحاضر محل مراجعة ، بحكم الكوارث الملموسة مثل نقص الغذاء والتدهور الضخم بالمحاصيل .



عولمة اقتصادية قابلة للتفاوض :

ما يُسمى بالعولمة الاقتصادية الليبرالية المُنفذة من قبل المنظمات الدولية التي أُنشئت لهذا الغرض – منظمة التجارة الدولية على الأخص – تتجاهل متطلبات التنمية . وهذه المتطلبات تفرض تحديد القضايا المطروحة للتفاوض العالمي ؛ لتستخدم كتكملة للمفاوضات الاجتماعية الجارية (أو التي بصدد إجراءها) في سياق وطني وربما في سياق إقليمي . وبالمثل هى تتطلب تحديد من يجب أن يشارك في المفاوضات ، مثلاً الحكومات والمنظمات المهنية (الفلاحون مثلاً فيما يتعلق بالتجارة الدولية في السلع الزراعية والمنتجات الغذائية) منظمات المجتمع المدني (منظمات حماية المستهلك وحقوق الطبيعة) وآخرون .



العولمة السياسية الديموقراطية ومتعددة المراكز :

لا يمكن استبعاد البعد الجيوسياسي وحتى الجيواستراتيجي والعسكري من آفاق بناء "عالم آخر أفضل" . كما أن المفاهيم الحاكمة للتنظيم السياسي للمجتمع الدولي التي تم تحديدها بميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وممارسات إدارة النزاعات ، تم وضعها موضع التساؤل في العقود الأخيرة من بين مفاهيم أخرى قريبة من مفهوم "عسكرة العولمة" . وفي واقع الأمر فالنتائج أقرب إلى الفوضى ؛ بما يضع بلدانا بأكملها في مآزق تراجيدية ، اللهم إلا بإعادة بناء الإجماع الذي ينطوي على التفاوض . ويمثل كلُ من تحليل الإستراتيجيات المُنفذة من قبل سلطات القوى المهيمنة وغير المهيمنة ، وتعريف أهداف القانون الدولي (الذي يختزله بعض الناس إلى القانون التجاري) والإجراءات التي تضمن تنفيذها ، الشروط الأساسية الضرورية لإعادة بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب ، يُحتمل أن يكون ديموقراطياً .

الأقلمة [3] لبناء نظام ديموقراطي ، متعدد الأقطاب ، أكثر توازناً :

غالباً ما يتم تصوير الأقلمة كأصل إيجابي في ذاته وفي جميع الظروف . وهذا ليس مؤكداً ، فكون الأقلمة جيدة أم سيئة هو أمر يعتمد على مفاهيم النظام العالمي الذي تتكون لأجله . فهناك أشكال من الأقلمة هى بالكاد كتل تأسيسية لعولمة مالية نيوليبرالية موجودة فعلاً (وحالياً في أزمة) . فهل نستطيع نحن اقتراح أشكال أخرى من الأقلمة ، تتماشى مع أهداف التنمية المُحددة في الفقرات السابقة (تنمية شاملة تمهد الطريق لعملية مقرطة متساوقة مع تقدم اجتماعي ، ومتموضعة ضمن عولمة تفاوضية بذات الروح) ؟

ومشاريع الأقلمة المطروحة للنقاش ضمن هذا السياق لا يمكن أن تكون "اقتصادوية" النزعة ، فهى ملتزمة بتنظيم مبادئ التجارة داخل المجتمع وما بين المجتمع وبقية العالم . كما أنها يجب أن تتسق مع المشاريع السياسية للدول المعنية التي هى على الأقل متقاربة ، ما لم تكن فريدة من نوعها .



الإستراتيجيات السياسية للتحول ومراحلها التنموية التي يجب أخذها بالاعتبار :

تشمل التحولات كلاً من التنظيم الداخلي للمجتمعات القومية وتنظيم النظام العالمي . ويمكن ملاحظتها فقط من خلال النظر للسلسلة المتوالية من المراحل المُتضمنة لتحديد الأهداف قصيرة ومتوسطة الأجل ، كذا آفاق الحضارة طويلة الأجل . وتبدأ الأهداف قصيرة الأجل بمراجعة الاستجابات المطروحة لمواجهة الأزمة (المالية الطابع لكن العامة النطاق) لما سُمي بالنظام النيوليبرالي الذي بسبيله لأن تُُطوى صفحته . وأمامنا استجابات الشعوب وخصوصاً الطبقات الشعبية ، والاستجابات المرغوبة من قبل سلطات الدول . فهل نحن قادرون بهذه الروح على وضع أهداف إستراتيجية متقاربة مع بعضها البعض ؟

وبالطبع لا يمكن تجاهل رؤى الأجل الطويل من النقاش . فأي حضارة إنسانية نتطلع إليها ؟ وهنا يجد تنوع المفاهيم النظرية المتعلقة بتطور المجتمعات وتنوع القيم الثقافية والمجتمعات المُتخيلة مكانهم في هذه المناقشة التي لا مفر منها . فهل التقارب في ظل هذه التنوع ممكن ؟



دور المثقفين :

النقاش حول دور المثقفين (الإبداع) في التاريخ الحقيقي للمجتمعات (مسئوليتنا) ليس أمراً ثانوياً ، رغم أنه قد يبدو متواضع الأهمية . والمثقفين لم يفشلوا في أفريقيا وآسيا (وفي أي مكان) في مواجهة التحدي في الماضي . وليس بوسعهم في هذه اللحظة من التحول العالمي ، سواء للأفضل أم للأسوأ ، أن يتهربوا من مسئوليتهم .


=================================================


[1] الحكم الديني

[2] الحكم الطائفي العرقي

[3] بناء تجمعات إقليمية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قاض بالمحكمة العليا البريطانية يحدد شهر أكتوبر للنظر في دعوى


.. أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 23 أبريل 2024




.. بايدن يعتزم تجميد الأصول الروسية في البنوك الأمريكية.. ما ال


.. توفر 45% من احتياجات السودان النفطية.. تعرف على قدرات مصفاة




.. تراجع الذهب وعيار 21 يسجل 3160 جنيها للجرام