الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نقد الخطاب الإسلامي ح 3 .. القرآن ليس كلام الله

سليم سوزه

2015 / 6 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا تكمن مشكلة النص في تاريخيته فقط وانما في طبيعته الحوارية ايضاً Dialogic Nature أو ما يسمّيها الناقد الروسي ميخائيل باختين هيتروكلوسيا Heteroglossia - طبيعة متعددة الاصوات (فينسنت 1090). فنظرة فاحصة لأي نص لن تكفي لفهمه ما لم نطلع على الحوار النائم في ثناياه ونتعرف على مجموعة الاصوات المشكّلة له. ليس أي نص، بغض النظر عن زمانه ومكانه، سوى حوار معقد يحاكي صوتاً مؤيداً أو رافضاً لظاهرة إجتماعية معينة. لتقريب الموضوع أكثر، إن كل نص نقرؤه ليس نصاً أحادياً يحمل فكرة مستقلة تشير الى قائلها فحسب ، وأنما نص متعدد الاصوات ينقل لنا حواراً حول ظاهرة ما. نص لم يولد من فراغ بل من رؤية تؤيد او تعارض فكرة موجودة في المجتمع سلفاً. هذا هو بإختصار معنى الهيتروكلوسيا حسب وصف باختين. أما أنا فأسمّي هذه الطبيعة الحوارية للنص "بصدى النص".

النص هو صدى لطبيعة الحوار الجاري حول قضية معينة في المجتمع ، أما رافضٌ لها أو مؤيد. محاولة فهم النص دون النظر لصداه تكون محاولة ناقصة يموت فيها المعنى ويصبح النص جامداً غير ذي قيمة.

فمثلاً، حين نقرأ الآية القرآنية "وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت" (التكوير 8-9). سنكتشف في الحال أن هناك حواراً إجتماعياً كامناً تنقله لنا هذه الآية. هذا النص هو صدى لظاهرة إجتماعية قديمة عند العرب، اذ كانت تُدفن الفتاة الصغيرة حيّة ، ذلك لأنها قد تجلب العار لأهلها في المستقبل. ثمّة أصوات متعددة في الحوار القرآني أعلاه ، صوت يدفن الفتاة الصغيرة حيّة، وصوت يرفض هذه الظاهرة بالتأكيد، وآخر يقف على الحياد ربما. جاء النص القرآني معارضاً لهذه الظاهرة الإجتماعية مطالباً بإيقافها. أي أنه إصطف مع صوتٍ ضد صوتٍ آخر. لم تكن الآية لتنزل لولا وجود هذه الظاهرة فعلاً. ومثل هذه الآية كل النصوص الأخرى دون إستثناء. كل النصوص مُحفَّزة بشيء ما وليس هناك نص بريء ونقي من هذا التحفيز. ما لم نفهم صدى النص وعلاقته بالمجتمع والظاهرة المُحفِّزة له لن نفهم النص نفسه ولن نفك شفرته ومعانيه أبداً.

من هذا المنطلق، يشبّه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا النص بسجادة محاكة لا يمكن حلّها وفك معانيها ما لم نفكّك شبكة الخيوط المعقدة ونصل للخيط الأوّلي المستعمل فيها (فينسنت ص 1697). وحده الحائك مَن له القدرة على نسج هذه الخيوط مع بعض ليصنع لنا سجادة متكاملة. كلما نسج الخيوط بطريقة مختلفة كلما حصل على شكلٍ جديد. هو مستخدم للخيط فحسب وليس صانعاً مبدعاً له. وكذا الحال مع النص. كلما ركّب الكاتب كلماته بطريقة مختلفة كلما حصلنا على معنى مختلف، فكل المعنى في اللغة ولا يوجد شيءٌ خارجها. الكاتب مثل الحائك، مستخدم ماهر للغة وليس صانعاً مبدعاً لها. ليس صانعاً مبدعاً للأفكار بل مترجماً أو بالأحرى ناقلاً لغوياً لها فحسب، طالما الفكرة موجودة أصلاً في اللغة وليس خارجها. لا يأتي الكاتب بشيءٍ جديد سوى القدرة على ترتيب الكلمات لتعطي معاني جديدة قيلت مسبقاً بشكلٍ ما. يقول دريدا ما معناه: لقد قالت اللغة كل شيء. لم يعد هناك شيءٌ جديد ليأتي به المؤلف. لقد أُرهقت اللغة تماماً (فينسنت ص 1698).

ومثل دريدا ميشيل فوكو ، هذا القائل بموت المؤلف. هو أيضاً يصل الى نفس النتيجة. بالنسبة له، كل شيء موجود في قاموس اللغة وليس المؤلف سوى موظف في هذا القاموس. يقول فوكو ما معناه : لقد مات المؤلف وصار مجرد وظيفة للغة (فينسنت 1481).

موت المؤلف يعني موت مفهوم الكاتب الواحد ليصبح للنص أكثر من كاتب. لا يوجد للنص كاتب واحد أبدعه من فراغ ، بل مجموعة من الكتّاب ساهموا (بتحفيز بعضهم بعضاً) في نسج النص وإظهاره بشكله الحالي. لقد حاكوا كلهم هذا النص بالافعال وردود الافعال فصاروا كلهم آباءه. هذا النص ذو طبيعة حوارية متعددة (هيتروكلوسيا) على تعبير باختين أو صدى لتلك الاصوات برمتها كما أسمّيها ، وليس صوت كاتب واحد فحسب. القارئ الجيد، حسب قول شيخ التفكيك دريدا، هو ذلك الذي لا يُخدع بمظهر النص بل يفكّك نسيجه الظاهري ليصل الى خيوط معانيه الأوليّة ، وهكذا يعرف آباء النص ويتعرف على الاصوات التي شكّلت بنيته الأساسية.

بالعودة الى آية الموءودة أعلاه ، هل هذه الآية كلام الله؟
لا أقصد المعنى السطحي للسؤال قطعاً، أي هل كتبها بشر أم هي وحي من الله، فهذا ليس موضوعي هنا، وإنما أبحث عن صدى النص ، آبائه ، الهيتروكلوسيا الكامنة فيه ، خيوط نسيجه الأوليّة.

الآية وجميع آيات القرآن هي ليست كلام الله ، بل صدى للظواهر الإجتماعية التي حصلت في المجتمع العربي قبل ١-;-٤-;-٠-;-٠-;- عاماً. هناك قاتل يدفن إبنته الصغيرة وهي حيّة ، وهناك مجتمع يرى هذه الظاهرة ولا يتحرك. هناك رافض خجول لا يقوى على الاعتراض. هناك طفلة بريئة موءودة بالحياة. هناك نبي ومصلح إجتماعي كبير يحاول التصدي لهذه الظاهرة. هذه كلها أصوات شكّلت البنية الأساسية للنص القرآني أعلاه. لولا هذه الأصوات وهذه الحوارية المعقدة ما كان هناك نص يشجب ظاهرة الوأد. نص أيّد صوت المصلح وشجب صوت القاتل والمجتمع. يعني أنه نص نزل كرد فعل وليس فعلاً مستقلاً بذاته. هناك ظاهرة إجتماعية حفّزت النص ولم ينزل هذا النص من فراغ. هذه هي الطبيعة الحوارية للنص القرآني ، الطبيعة التي نسجت خيوط ومعاني نصوص القرآن برمتها. فمَن نسج النص القرآني وكتبه هي تلك الأصوات وليس صوت الله. كلهم مشتركون بكتابة القرآن. كلهم آباؤه. لا يوجد مؤلف واحد للقرآن.
بهذا المعنى ، القرآن ليس كلام الله بل كلامهم. الله ليس مؤلف القرآن بالمفهوم الفوكوّي ، أي مبتدعه من فراغ ، وإنما هو ناقل لحواريات إجتماعية معقدة. هو يؤيد ظاهرة ما أو يرفضها فحسب. القرآن "صدى" لتلك الظواهر الإجتماعية ليس إلا.
علاقة النص القرآني بالظاهرة الإجتماعية علاقة عضوية متينة وبدون هذه الظواهر لا يكون هناك قرآن من الأساس.
لا مؤلف للقرآن سوى تلك الظواهر.

إن كان إذن هذا القرآن الذي بين أيدينا "صدىً" لظواهر إجتماعية قديمة لم تعد موجودة الآن، فأيّ "صدى" جديد يقدمه القرآن اليوم على ضوء حاضرنا الآني؟

يتبع .....


هوامش:
* القرآن
* فينسنت ليتش Vincent Leitch كتاب: The Norton Anthology of Theory and Criticism طبعة نيويورك 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - صدقت
كامل حرب ( 2015 / 6 / 28 - 20:10 )
شكرا جذيلا لمقال قوى يسرد الحقيقه البدويه القاسيه

اخر الافلام

.. الأرجنتين تلاحق وزيرا إيرانيا بتهمة تفجير مركز يهودي


.. وفاة زعيم الإخوان في اليمن.. إرث من الجدل والدجل




.. بحجة الأعياد اليهودية.. الاحتلال يغلق الحرم الإبراهيمي لمدة


.. المسلمون في بنغلاديش يصلون صلاة الاستسقاء طلبا للمطر




.. بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري