الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقبرة براغ وشواهد قبورنا

الصديق بودوارة

2015 / 7 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


في روايته المدهشة " مقبرة براغ " ، يتحسس " أمبيرتو إيكو " بقلمه وكأنه مبضع جراح ، لا أقول جراحاً ماهراً ، فهذه الصفة قد تبدو بليدةً بعض الشئ ، لكنه جراح موجع ، لا مبالي ، مستهتر ولا يلقي بالاً للأقنعة . لهذا تجرحنا جمل .... وعباراته ، ولهذا تبدو الرواية وفي بعض سطورها وكأنها صفعة موجهة لنا نحن بالذات .
(( هو ذا ، إذن ، إذا أردنا أن نمنع هؤلاء الشبان من ارتكاب أخطاء ، أفضل طريقة هي وضعهم في السجن بعض الوقت . ))
هكذا يخاطب ضابط المخابرات بطل الرواية " سيمونيني " ، وهو يستعد لإقحامه في عمل تجسسي لصالح دولته .
أحياناً تضيء لك جملةٌ عابرة درباً يكتنفه الظلام ، وتمسك بيدك عبارة مكتوبة ولو من ألف عام ، ربما لتدلك على زاوية مجهولة من زوايا ذهنك المتعب ، وكأنها بُعثت من جديد من أجلك خصيصاً . فهل لعبارات "أمبيرتو إيكو " علاقة بهذا الأمر ؟
مع كل ما يجري حولنا ، وفينا ، أصبحنا مضطرين لإعادة النظر تماماً في استراتيجية التفكير لدينا ، ونمطية نظرتنا للقيم الكبرى ، ومع ما نراه يومياً من انفلات تصرفات المندفعين كالسيل الجارف عبر شوارع مدننا ، أصبحنا نفكر جدياً مع " إيكو " ، ونهمس لأنفسنا بلا حروف : هل كان من الأفضل لو منعنا هؤلاء من ارتكاب الأخطاء ، حتى ولو أضطرنا الأمر إلى وضعهم في السجن لبعض الوقت ؟
السجن ليس حالة استبداد دائمة ، وهذه ليست جملة مقتبسة من أحد ، بقدر ما هي فكرة تومض في الذاكرة بعد مشاهدة مقطع فيديو يسّوق للبشاعة بلا مقابل .
كما أن السجن ليس صورة مسطحة ذات وجه واحد ، إنه كيان رباعي الأبعاد ، وربما خماسي أيضاً ، فالسجن ، ليس دائماً ذلك المكان الخفي الذي يوضع فيه من هم يشكلون خطراً على المجتمع ، أنه قد يكون أيضاً حالة قهر نوضع فيها نحن ، نحن الغالبية الصامتة المغلوبة على أمرها ، نحن الذين تُحصى أعدادنا بالملايين ، لكنها ملايين مسالمة لا تملك في جيوبها رصاصةً واحدة ، ولم تمسك بقطعة سلاح في حياتها ، لكنها تُساق قهراً إلى سجنٍ نفسي كبير ، ومريع أيضاً ، حيث تُجبر على التلفت يميناً وشمالاً عند كل مفترق ، وأمام كل مخبز ، وجنب أي محل بقالة ، خوفاً من سجانٍ مدجج بنمطٍ شاذ من التفكير يجعله خطراً مميتاً يتهدد فكرة الحياة الآمنة ذاتها ودون رادع أو مانع .
هنا يتسع معنى السجن ، ويغدو حجرة سوداء مظلمة شاسعة المساحة ، تتسع للملايين ، حجرة سجانها عدد محدود من الشواذ ، يتفوقون بامتلاكهم قطع الحديد المتأهبة لاطلاق الرصاص بلا أدنى رحمة .
هنا بالذات ، وعند هذا المشهد المؤلم ، يولد سؤال ملح ، أليس من العدل أحياناً أن يصبح السجن ضرورة للبعض ، حتى لا تتورط الحياة بأسرها في سجنٍ لا تستحقه ؟
وخلاصة الفكرة ، أن من يصادر رأيك عندما تكتب ، فهو يضعك في سجن ، ومن يطلق رصاص رشاشه على صدرك ، فهو يضعك في سجن ، ومن يقتلك غيلةً فهو يضعك في سجن ، ومن يغتصب منزلك ، فهو يضعك في سجن ، ومن يسرق قوت عيالك ، فهو يضعك في سجن ، ومن يختطفك ليطالب بفدية فهو يضعك في سجن ، ومن يقمع انسانيتك ويسحقك كنملة ، فهو يضعك في سجن . ومن يحرمك وطنك فهو يضعك في سجن .
الخلاصة أن هؤلاء الطغاة يشكون للعالم من سجنٍ واحد ويطالبون باغلاقه للأبد بداعي حقوق الانسان ، وما إن يتم إخراجهم منه وسط احتفالات عالمية منمقة ، حتى يبدأوا على الفور في تشييد ألف سجن للناس ، سجون بلا عدد ، سجن في الذاكرة ـ وآخر في الذهن ، وثالث في العقيدة ، ورابع في الأمان ، إلى ما لايحصى من المباني الكريهة التي تستعد لاستضافتك في أي وقت .
وهنا تعود فكرة " إيكو " الأولى يطل برأسه من جديد :
(( هو ذا ، إذن ، إذا أردنا أن نمنع هؤلاء الشبان من ارتكاب أخطاء ، أفضل طريقة هي وضعهم في السجن بعض الوقت . ))
(2)
جملة أخرى ، وادٍ جديد من التأمل قادتني إليه عبارة سحرية كتبها صاحب "مقبرة براغ " المذهلة :
(( المتحمسون هم حثالة الدنيا ، لأنه بعملهم ، وبالمبادئ الغامضة التي يتحمسون لها ، تندلع الحروب والثورات . وبما أنني فهمت الآن أنه في هذا العالم لا يمكن أبداً الحد من عدد المتحمسين ، فلم لا أستغل حماسهم لفائدتي ؟ ))
المتحمسون هم حثالة الدنيا ، تبدو هذه الجملة للوهلة الأولى صادمة ، بل ومستفزة إلى أقصى الحدود ، ويخيل إلى القارئ أنها تمس شرف أولئك الطلاب المجتهدين والعلماء الأفاضل والبحاث الذين يداومون على الغوص في بطون الكتب .
لكن هذا ليس صحيحاً على الاطلاق ، وذلك لأننا فقدنا منذ زمن طويل بوصلة البحث الصحيح عن المعنى ، بعد أن ملأ غبار هذه الأحداث صدورنا ، وأعمى بصائرنا هذا الضوء المميت للخطب العصماء المدوية .
لا شئ من هذا صحيح ، ولا علاقة لهؤلاء بالأمر ، لأنك إذا ما تحليت بالبصيرة عوضاً عن البصر ، لأدركت فعلاً أن المتحمسين هم كما قال " إيكو " ، حثالة الدنيا .
إنهم أولئك الذين يتوترون لأتفه الأسباب ، ويرفعون عقيرتهم بالصراخ ، لأن الحديث بنبرة هادئة يحتاج إلى معرفة ، ولأنهم يفتقرون إلى أبسط مقومات المعرفة ، فهم يتجنبونها بلا تردد ، ويستبدلون منهج البحث عنها بمنهج أكثر سهولة ، إنه منهج الضجيج الذي لا يحتوي في طياته على أي دعوة لمعرفة المزيد .
إنهم المنجرفون بسهولة مع أول تيار يصادفهم ، فهم مع العنف البشع ، ومع الضرب المبرح ، ومع الخيانة الكريهة ، إنهم عشاق " التمادي " في كل صوره ، لهذا هم أولئك الذين لا "يتورعون" . وهنا تكمن المأساة .
هؤلاء هم من عناهم الرجل بعبارته ، وهؤلاء هم من يقودون المرحلة الآن ، فعلى امتداد هذه الدول العربية المقصودة بالحديث ، من تونس إلى ليبيا مروراً بالعراق ثم اليمن ، لن تجد من يتصدر المشهد سوى هؤلاء المتحمسون الذين عناهم " إيكو " في روايته .
إنهم وحدهم من يتوزعون المقاعد ، ويعتلون المنصات ، ويتوزعون على مفاصل اتخاذ القرار ، ويناوشون بعضهم بلا حساب ، ويخلقون للأغلبية الصامتة المقهورة حروبها الصغيرة التي تغرق فيها لبعض الوقت ، وما أن ينتهي هذا " البعض " ، حتى يكونوا قد أكملوا لها حرباً صغيرة أخرى تستغرق منها وقتاً طويلاً آخر ، وهكذا ، حتى تكمل الأرض دورانها حول الشمس ذات يوم .
لا أحد يمكنه أن يستوعب بصيرة روائي ، هذا ما اعتقده بشكل شخصي ، وليس من الصدفة أن حكومات هذه الدول المتعاقبة لا يوجد من بينها وزراءها أديب واحد ، ولا حتى استاذ تاريخ واحد ، ربما لأن " البصيرة" هنا ليست البضاعة المطلوبة ، ما هو مطلوب هنا هو " غض البصيرة " بديلاً عن " غض البصر " .
هذا هو الدرس الذي ينبغي أن نتعلمه من " أمبيرتو أيكو " ، الايطالي المدهش ، صاحب الرواية المدهشة " مقبرة براغ " .
إنه درس المعنى ، ودرس التأمل في ما وراء الجمل المنحوتة باتقان على أديم الورق .
ولكن ، من قال إننا أمة نتعلم ؟ بل من قال إننا أمة تجيد القراءة من الأساس ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل