الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القانون وصعود الرأسماليّة (جزءٌ ثاني)

ديفد وايتهاوس

2015 / 7 / 4
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


2015 -;-فريق «ما العمل؟»-;-



الفترة الثالثة: العبوديّة

تبيّن سجّلات مُستعمرة فيرجينيا جليًا أنّ أوّل عشرين إفريقيّ وصلوا عام 1619 للمُستعمرة لم يكونوا عبيدًا، بل كانوا خدمًا سَخَرة[*]، يصبحون أحرارًا بعد نهاية مدّة عقدِهم. وشاركَهم في هذه الحالة الكثير من الأوروبيّين في المُستعمَرة، مع تواجِد فوارِقٍ حتى في ذلك الوقت، إذ أنّ الإفريقيّين – على عكس الأوروبيّين – أتوا لـ«العالم الجديد» رُغمًا عنهم. كان بالإمكان فرضُ خدمةٍ مدى الحياة على الخادم المسّخر في حال ارتكب بجريمة الهرب، ولكن لم يكن هنالك تسخيرٌ متوارث على مدى الحياة مُرتبطٌ بمفهوم العِرق.

كانت العبوديّة واقعًا غير قانونيّة تحت القانون الإنكليزيّ[†]، فالإنسان – ببساطة – لا يمكن أن يكون أَحَدَ الأملاكِ القانونيّة لإنسانٍ آخر. وكنتيجةٍ لذلك، حين أنشأ المُستعمِرون العبوديّة كعلاقةٍ اجتماعيّة على مرّ الثمانين سنة تَلت، كان البناءُ القانونيّ المتعلّق بِها صَنيعةً محليّة ارتجاليّة. وِمن ثمّ أصبحَت قوانين فيرجينيا الجديدة نموذجًا لقوانين العبوديّة في المستعمرات الأمريكيّة الجنوبيّة.

كانَ هنالك دافِعان رئيسيّان لتحويل الإفريقيين لعبيدٍ متوارثين: أحدهما هو النقص المُزمن للعمالة في المستعمرات، ففي النصف الثاني من القرن بدأت إمداداتُ الخدم السَخَرة من أماكِن مثل إنكلترا وأسكوتلندا بالنضوب، ونتيجةً لذلك كان سِعرُ نقلهم عبر المحيط في ارتفاع بينما ظلّت أسعارُ الإفريقيين المُختطفين مُنخفِضة. والدافِعُ الرئيسيّ الآخر لخلقِ الفروقات العرقية هو أنّ كلًا مِن الخدم البيض والسّود كانوا يتعاونون مع بعضهم البعض للهروب من هذه الخدميّة الإلزاميّة، ومع مرور الوقت، اتّحدوا في انتفاضاتٍ مباشرة ضدّ أسيادهم. إذً كان التمييز العرقيّ يُفهَمُ لأسبابٍ اقتصادية، أصبح أيضًا مفهومًا كطريقةٍ للتحكّم بالفئات العاملة – أي كسياسة «فرِّق تَسُد».

حين وضع القانون بعين الاعتبار إمكانيّةَ التعامل مع الإفريقيين كأملاكٍ خاصّة، لم تُحلّ مسألة ما إذا كانوا لا يزالون بشرًا قانونًا بإمكانهم إبرام عقودٍ وامتلاكُ أملاكٍ خاصّة وإدلاء شهاداتٍ في المحاكم وما إلى ذلك. وكانت أحدُ المسائل القانونيّة الأولى الناتِجة عن هذا الوضع تتعلّق بكيفيّة التعامل مع طفلٍ والدُه سيّدٌ أبيض وأمّه امرأة سوداء مُستعبدة. فوِفقَ القانون العام الإنكليزي، تتبع مرتبة الطِفل الاجتماعيّة مرتبةَ والِده، وبذا يكون الطِفل حرًا ويحقّ له الوراثة. أما في المُستعمرات، فقد طَرحَ ذلك للأسياد سيناريواتٍ مُقلقة، وهي أنّ الأطفال الأحرار سيتمّ تربيتهم مسكن العبيد، ومن ثمّ سيطالبون بحقوقهم حين يبلغون رُشدَهم.

حلّ مجلس البورِجسيين في فيرجينا تِلك المشكلة، إذ أقرّ بأنّ القانون يجب أن يُعامِل العبيد مِثل معاملته لحيواناتِ المزرعة، لا كالبَشَر. ونسلُ حيوانات المزرعة تُملَك من قِبل مالِك الأم أيًا كان. ووِفقًا لذلك، فطِفلُ سيّدِ العبيد وعبدَتِه سيكون مُلكًا خاصًا للسّيد، لا وريثًا له. ومع مرورِ الوقت، جُرِّد العبيد من حقوق البشر أكثر فأكثر، لدرجةِ أنّه في آخر المطاف، خسر الإفريقيّون أبسط الحقوق: حقّ الحياة. فلم يعد القانون يعتبرُ قَتلَ السيّد لعبدِه جريمةَ قتل؛ اكتمل هنا التحوّل تمامًا، فهبطت مرتبة ذوي الأصول الإفريقيّة من كونهم عمالةً مُنتجة حتى وصلوا لوضعٍ قانونيّ مكافئ لوسائل الإنتاج.

وتجدر الإشارة هنا لكون قوانين تنظيم العبوديّة لم تظلّ كما هي. بحلول وقتِ الثورة الأمريكيّة، ومع الإبقاء على العبيد في وضعهم هذا كمُمتلكَات، حين أتى وقتُ كِتابةِ الدّستور أرادَ الأسياد، على الرّغمِ من ذلك – أن يصبح لديهم ممثّلون أكثَر في مجلس الشّيوخ، وبذلك أرادوا لعبيدهم أن يُعتَبروا بشرًا لا أملاكًا. رفض مندوبو الشّمال، وبذا حصلت تسوية واتّفقوا على احتساب كلّ عبدٍ كثلاثة أخماس إنسان.

ولكن بعدئذٍ حين أتى وقت كتابة «وثيقة الحقوق»، غيّر الأسيادُ رأيهم وأرادوا أن يُعتبَر العبيد – رغم كلّ ما جرى – مُمتلكاتٍ لا بشر. وذلك كان لأنّ التعديل الخامس يضمن أَن لا يُحرَمَ أيّ إنسانٍ من حياته أو حريّته أو أملاكه دون الإجراءاتِ القانونيّة اللازمة. والأسياد كانوا يمارسون فِعلًا حِرمان الإفريقيين من حريّتهم، لا بل كان لهم حريّة حِرمانِهم من حياتهم. ولهذا السّبب، حمى التعديلُ الخامس حقّ الأسياد في معاملة البشر كممتلكاتِ عِوضًا عن حماية حقوق العبيد في الحياة أو الحريّة. كلُّ من عمِل على وثيقة الحقوق فِهم جيّدًا أنّ هذا هو معنى التعديل الخامس.

وصولًا للحرب الأهليّة، عامَل القانون العبيد كبشرٍ أو كممتلكات حسب ما تماشى مع مصلحة أسيادِهم في الوقت المعنيّ. وهذا يذكّرنا أنّ القانون ليس مجرّد مرآةٍ للعلاقات الاجتماعيّة، وليس إطارًا كاملًا أو شفافًا يبيّن كيفيّة جريان المعاملات الاجتماعيّة في الحياة الحقيقيّة. ففي آخر المطاف، القانون أداةٌ بالإمكان استخدامها ضدّ الآخرين، فيما يناسب من يمتلكون القوّة لتوظيفه. وفي بعض الأحيان – بالطبع – يتجاهل الظالمون القانون ببساطة.

مُلخّص الفقرات الثلاث

قبل الانتقال للعمَلِ المأجور، فلنربط حكام بعض المواضيع التي قُدِّمت مُسبقًا. نظرنا لنموّ ثلاثة أشكالٍ من الممتلكات القانونيّة: البضائع المُتداوَلة والأراضي والرقيق. كلٌ من هذه الممتلكات برَزت بسبب تطوّرات في العلاقاتِ الطبقيّة.

فبالنّسبة لتداوِل البضائع، أغلبُ التطوّرات حصلت في أوساط التجّار أنفسهم، ومعهم مجموعاتٌ حضريّة مرتبطة مثل المصرفيين. وهذه العلاقات هي التي تجعل من توصيفِ القانونِ كقواعد لِـلُعبةٍ ما أمرًا معقولًا جدًا. ففي هذه الحالة، يلعبُ كلّ المشاركين فيها ملئ إرادتهم، وهنالك هدفٌ واضح يتشاركُهُ كلّ اللاعبين، ألا وهو درّ الأرباح. لاحقًا أصبحت الأرضُ سِلعةً من خلال صراعٍ طويلٍ من قِبل التجّار وحُلفائهم مع طبقة النبلاء الإقطاعيّة. أدّى تدميرُ العلاقات الاجتماعيّة الإقطاعيّة لتهجير أعدادٍ كبيرة من الفلّاحين مِن أراضيهم. أنشأت عمليّة الصراع الطبقيّ هذه إيديولوجية جديدة؛ وهي مجموعة من الأفكار التي تبرّر دورَ الطبقة المُستغِلّة بينما تسترُ وتُشوّش على ما يجري في الواقع، وهذه الأفكارُ حول القانون أصبحت عناصرًا في دعوى متحيّزة لهذا المجتمع الجديد أثناء انبثاقِه من المجتمع القديم.

هؤلاء المنظّرون تضمّنوا في آخر المطاف نفرًا من المفكّرين البورجوازيّين المتألقين، مثِل: توماس هوبس وجون لوك وروسو وجيفرسون وماديسون. لم يتّفق أولئك على كلّ شيء، ولكنّنا لا نزال نعيش مع كثيرٍ من أفكارِهم. وأحدها هو المفهوم الذي رأيناه: الشخص القانونيّ المُجرّد صاحب حقٍ متساويٍ في الامتلاكِ وحريّة التصرّف بالممتلكات حسب إرادته. هذه الأفكار توسّعت لتضمّن مفاهيمًا حول المواطنين الأحرار المتساوين، الذين من خلال حرّيتهم يصبحون كياناتٍ منفصلة تملك حقوقًا متنوّعة بما يتجاوز حقوق الملكيّة. والطريقة الشرعيّة لهؤلاء الأشخاص-الكيانات للدّخول في علاقاتٍ اجتماعيّة هو من خلال اتّفاقيّاتٍ طوعيّة على غرارِ العقود. وأخيرًا، توسّع تشبيه القانون باللعبة ليتضمّن حَكمًا، وهو الدولة المركزيّة التي – من المفترض أن – توازن مصالِح العناصر المجتمعيّة المُختلِفة.

وسأكتفي هنا بنقدِ هذه الأفكار باستخدام جُملتين فقط.

أولًا: البشر ليسوا كياناتٍ مُنعزِلَة بل هم غالِبًا جزءٌ لا يتجزّأ من علاقاتٍ اجتماعيّة لم يختاروها غالِبًا.

ثانيًا: ينهارُ هنا تشبيه القانون باللعبة وذلك لأنّ المشاركة لم تُعد طوعيّة، وذلك بسبب كون الانقساماتِ الطبقيّة في المجتمع تُعطي اللاعبين أهدافًا مُختلفة، ولأنّ الدولة ليست مُحايدة في هذه الحالة.

وثالث أنواع الممتلكات التي ذُكِرت هي الرقيق. أصبحَ الإفريقيّون عبيدًا لأنّهم خسِروا سلسلة مِن النّضالات، بدأً من وقتِ أُسِرُوا في إفريقيا. خلق نظام العبوديّة في العالم الجديد أحاجيَ جديدة للمنظّرين، فكيف من الممكن أن يكون شخصٌ ما مُلكًا لآخر إن كانوا كُلّهم أحرارًا ومتساوين؟ وكيف بإمكانك الزّعم بأنك تُلغي الرُتَب والمكانات القانونيّة حين تمرِّرُ قوانينًا واحِدًا تلو الآخر لتعريف مرتبةٍ اجتماعيّةٍ مُخضَعةٍ جديدة؟ لم تُحلّ هذه الأحاجي عن طريق استخراجِ مفاهيمٍ من القوانين، بل أنشئتً عِوضًا عن إيديولوجيّة العنصريّة. باختصار: بعض البشرِ ليسوا فِعلًا بشرًا…وذلك أمرٌ مُتوارَث. هذه الأيدولوجية لم تُبنى على القانون بل على البيولوجيا. ولكونِها مبنيّةً على البيولوجيا لا القانون، فحتى حين أُلغيت مرتبةُ العبوديّة قانونيًا، ظلّت إيديولوجيّة تفوّقيّة البِيض (white supremacy) مكانها.

الفقرة الرابِعة: قوّة العمَل (labor power)

يقودنا كلّ ذلك للطبقة العاملة ولنوعِ الممتلكات الذي يملكُه العمّال، ألا وهي «قوّة العَمَل»: وهي الشيء الذي يبيعُه العمّال لرؤسائهم مقابِل الأجور. مِثلها مثل باقي أنواع الملكيّات، يسهل فهمها حين ننظر للتاريخ الاجتماعي الذي أعطاها أهميّتها. فالطبقة العاملة الحديثة – أولًا وقبل كلّ شيء – هي نتاجُ نزوحٍ أو تهجيرٍ اجتماعيّ، والسِمة الفيصليّة للعمّال هي أنّ صِلتهم بوسائلِ الإنتاج قد قُطِعَت، فلم يعودوا يملكون الأرض التي تتيحُ لهم دعمَ أنفسهم عن طريق الزراعة ولا يملكون الأدوات أو المعامل التي تُتيحُ لهم أن يكون مُنتجين مستقلّين للبضائع المُتاجَر بِها.

تكوّنت الطبقة العاملة الأمريكيّة من ثلاث مصادر رئيسيّة، أي ثلاثة فئات من الناس: أحد هذه الفئات هي الأمريكيّون ذوي الأصول الإفريقيّة الذين أصبحوا عمّالًا مأجورين بعد الانعتاق، وقد فقدوا وسائِل إنتاجِهم مُسبقًا حين اختُطِفوا من إفريقيا. وثاني فئة تضمّنت الحِرفيين المَهرة الذين خسروا استقلالهم واضطّروا لعرض أنفسهم للعمَل كعمّالٍ مأجورين. وأمّا ثالِثُها – وأكبرها – فقد تضمّنت أولئك الذين عمِلوا سابقًا كمزارعين لأجلِ معيشتهم الخاصّة؛ وقد توجّهوا نحو العمل المأجور حين أجبرتهم القوى السياسيّة أو العسكريّة أو قوى السوق على ترك الزراعة.

بالنسبة للأمريكيّين الأفارِقة، كان العمَل المأجور خطوةً للأمام مِن العبوديّة والمُؤاكرَة. وبالنسبة للحِرفيين المَهرة، فبضعهم أصبَحوا رأسماليين صناعيين، ولكنّ الأغلب خسروا استقلالَهم لعدم قدرتهم على التنافس مع المنتجين الصناعيين. وأغلب ذلك حصَل ما بين 1760 و1860. وأمّا بالنسبة للمزارعين السابقين، فبعضهم أتى من عوائل مزارعة أمريكيّة لم تتمكّن من تغطية احتياجاتها اليوميّة في العقود التي تبِعت الثورة الأمريكيّة، وكثيرٌ منهم أتوا للولاياتِ المتّحدة ليجدوا عملًا لأنّهم كانوا لاجئين من حركات التسييج في إنكلترا وأسكوتلندا. وأدّى مضيّ المَصنَعة لتوسّع كبير في القوّة العامِلة المأجورة، جاذِبًا أيديًا عامِلة فيما بدى كنهرٍ متدفّقٍ أبديّ نبعَ ممّن طُرِدوا من مزارعِهم في كلّ أرجاء أوروبا. وذلك لأنّ الرأسماليّة فرَضَت نوعًا من أنوعًا التسييج على المزارعين أينما انتشرت منظومتها. وعلى الساحل الغربيّ كانت هنالك موجاتٌ متتابعة من المهاجرين الآسيويين في القرن التاسع عشر، ولكنّها كانت ذات قيودٍ أكثر وذات تحكّمٍ أكبر مِن قِبل الرؤساء، أكثر مما كانت الهجرة الأوروبيّة إلى الساحل الشرقي.

متى ما قُطِعت صِلةُ العمّال بوسائل الإنتاج، لا تظلّ لهم إلّا مادّة إنتاجيّة واحدة: وهي أدمغتُهم وأجسادهم. وهذه أمورٌ لا يبيعونها للرأسماليين، إذ أنّ ذلك سيجعلُ منهم عبيدًا. توفّر أدمغُة العمّال وأجسادهم لهم قوّةَ العمل – وهي المِيزة المجرّدة التي أطلق عليها كارل ماركس مسمّى «قوّة العمل». إذًا، فالعمّال يبيعون طاقتهم الإنتاجيّة لأصحابِ العمَل إمّا لمشاريعَ محدّدة أو لفترات محدّدة من الزمن.

حين يحتكر أصحابُ العمَل وسائل الإنتاج، تُجبَر الجماهيرُ العاملة على بيع «قوّتها العاملة» لكي تبقى على قيدِ الحياة؛ وهذا هو الهدف حين ينضجُ رأس المال تمامًا ويترأس الرأسماليّون نظامًا رأسماليًا. حين يجلب العمّال قدراتهم العاملة إلى السوق، فهنا هم يُدفعون لمنافسةٍ مع بقيّة العمّال القائمين بالوظيفة نفسها. وهذه المنافسة تدفع سعر قوّة العمل – أو ما يسمّى بالأجور – إلى الأسفل. لدى العمّال هنا حريّة الابتعادِ عن صفقةِ عملٍ ما مع رئيسٍ ما، ولكنّهم سيجبرون على إبرامٍ صفقة ما مع رئيس آخر، والأرجح أنّ الصفقة الثانية ستتشابَه مع الصفقة الأولى، وذلك لأنّ الرئيس سيعرض عليه «السعر الجاري» – أو «سعر السّوق» – لهذا النّوع من العمل.

وحين أصبحَ العمّال الأمريكيّون قوّة جماهيريّة لأولِ مرّة في القرن التاسع عشر، بدأوا بطرحِ مقاومةٍ جماعيّة، مُستخدمين المظاهرات وأعمال الشّغب والإضرابات، واستجابت البورجوازيّة بتوسعة وسائل القمع القانونيّة، بالتّحديد عن طريق خلقِ قوّاتِ شرطةٍ متفرِّغة للسيطرة على الحشود المدينيّة.[‡] ولكنّ الغريبَ في الأمر هو أنّ الرأسماليّين لم يحتاجوا لفتحِ آفاقٍ قانونيّة جديدة للتعامِل مع سلعة «قوّة العمَل» ذاتِها، فأغلبُ الأدواتِ القانونيّة للتعامل مع قوّة العمل استُخرِجَت مباشرةً من القوانين المتعلّقة بالعقود. فكما رأينا، قد يكون العقد طِوعيًا – إن نظرنا للطوعيّة بالمعنى الحرفيّ – ولكنّ ابتداءَ طرفين بقوىً تفاوضيّة متفاوِتة يزرَع تفاوتاتهم الاجتماعيّة في بنودِ العقد ذاتِها؛ وذلك ينطبق على اتّفاقيّاتِ العمَل سواءً أكانت مُرسَّمةً قانونيًا أم لم تكن.

وحسب معرفتي، لم تستخدم القوانينُ الأمريكية أبدًا مُصطلحًا يتوافق تمامًا مع مصطلح «قوّة العمل»، ولكنّ تنظيم سوق قوّة العمل يرجع للقانون الإنكليزي العام. على سبيل المثال، تعامل القانون العام مع النقابات والإضرابات كمؤامرات إجراميّة، وحين وحّد العمّال قواهم لرفع أجورِهم اتُّهِموا بـ«تقييد التجارة». كما نرى هنا، فحين يأتي العمّال بسلعتهم – ألا وهي قوّة العمل – إلى السوق، فمن المفترض لهم أن يتنافسوا مع بعضهم البعض، ولكي نستعير عبارةً من الحركة العمّاليّة الأمريكيّة: يقوم العمّال بـ«إخراجِ الأجور خارِجَ ساحة المنافسة» حِين يقومون بأيّ عملٍ جماعيّ، مِن تكوين النقابات أو القيام بإضرابات.

أجبر إصرار العمّال على النضال أخيرًا المحكمة العليا على تقنين النقابات عام 1842 (في قضيّة Commonwealth ضدّ Hunt). كان على العمّال بالطّبع أن يستمرّوا بالنضال منذ ذلك الوقت للإبقاء على حقوقِ تكوين النقابات. وأثّرَت نِضالاتٌ جماعيّة أخرى على سوقِ العمل بُطُرقٍ سياسيّة، مثل حركة الحدّ الأدنى للأجور أو الحدّ القانوني لطول يوم العمل. على الرّغم كلّ من ذلك، فإن النّفوذَ العمّاليّ الجماعي على سوق العمل محدودٌ مقارنة بتلاعب البورجوازيّة في السّوق. وفي الفترة النيوليبراليّة – أي منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي – دفعت الطبقة الرأسماليّة العالميّة تجاه «مرونة» سوق العمل، إذ قاموا بإلغاء القوانين التي أدّت لـ«جمودٍ» في توظيف العمالة – مثل تشريعات الحماية[§] والعديد من حقوقِ النقابات.

خُلاصَة:

هذه التلاعُبات القانونيّة لسوقِ العمَل واضِحة، ولكنّنا سنُنهي هذا المقال عن طريق التّركيزِ على نوعٍ خاص من التدخّل في سوق العمل قد لا يكون واضِحًا: ويتمثّل هذا التدخّل في انبعاثٍ جديد لفروقات الرُتب القانونيّة. فإن كُنت تحمِل مرتبة قانونيّة مُنخفَضة فهنالك حُزمَة كاملة من القوانين المصمّمة للتعاملِ معَك ومع أقرانِك، ومعنى ذلك عمومًا هو أنّك تفتقِد للحقوقِ التي يتمتّعُ بِها الآخرون.

تُدِين الإيديولوجيا البورجوازيّة فروقات الرُتب الاجتماعيّة ولكنّ الرأسماليّة لم تعِش يومًا بدون هذه الفروقات، ولدينا مِثالٌ واضِح في الاستعباد، ولكن كان هنالك فرقٌ مستمرّ في الحقوقِ القانونيّة ما بين البالغين والأطفال، وبين الرجال والنساء، والسّود والبيض (تحت نِظام «جيم كرو»)، وبين المثليين جنسيًا والغيريين، وبين عمّال المزارع وعمّال المصانِع، وبين أعضاء النقابات وغيرهم.

يعلمُ من ناضلوا لأجل حقوقِ الزواج المتساوية جيدًا أنّ هنالك فرقًا كبيرًا ما بين الوضعِ القانونيّ للمتزوجين وغيرِ المتزوجين. فهذه الفروقات تُضرُّ بمن يقعون في الرُتَبِ الاجتماعيّة المتدنيّة إمّا عن طريق تقييد حقوقِهم المدنيّة وتخفيض أجورِهم وتأزيم مستواهم المعيشيّ، أو عن طريق جعلِهم عُرضةً لمخاطِرَ خاصّةٍ بِهم. وفي الوقت ذاتِه، تعمل هذه الفروقات في الرُتَب القانونيّة على تخفيض سعر القوّة العامِلة بأكملها مِن خلال إشعال التنافس وإعاقة المقاومة الجماعيّة.

لعِبت الفروقات في المرتبة القانونيّة دورًا مهمًا في تقويض المكاسِب التي حقّقها العمّال والأمريكيّون الأفارِقة في فترة الطفرة الاقتصاديّة والنضال الاجتماعيّ ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة. كما برهنت ميشيل أليكسندر – على سبيل المثال – أنّ تعداد المساجين الكبير في الولايات المتّحدة كوّن نظام «جيم كرو الجديد» صنع بِدورِهِ طبقة مواطنين من الدّرجة الثانية نشأت من تعداد المساجين المتنامي وأصحاب السّوابِق [إذ فاق تعداد المساجين في الولايات المتّحدة المليونيّ سجين، وهي الأولى عالميًا مِن هذه الناحية]، وعددٌ كبيرٌ منهم الأمريكيّون أفارِقة على نحوٍ غير متناسِب مع تعدادهم السّكانيّ. [وذلِك نتيجة السّياسات العنصريّة المُستهدِفة لهذِه الفئة السّكانيّة والمُستهدِفة لغيرها من الأقلّيات، وهذا الاستهداف الذي تلا حركة الحقوق المدنيّة أدّى لتضاعف تعداد المساجين في الولايات المتّحدة بما يفوق 500% خلال ثلاثة عقودٍ مضت].

ومِن الأرجح أنّ أعظمُ تأثيرٍ على سوقِ العمَل يأتي من تفرقة المرتبة ما بين المواطِن والمهاجر. والمهاجرون من غير الحاملين للوثائق [أو من يسمّون بـ«المهاجرين غير الشّرعيين»] يعملون بالطّبع تحت أسوء العوائق القانونيّة، فمنذُ عام 1980 ازدادَ عدد القاطِنين خارِج بلدانِهم الأصليّة عالميًا أكثر من الضّعف، ليتجاوز الـ230 مليون شخص. ليس كلّ هؤلاء مواطنين في بلاد الهجرة، وما بين 15% لـ20% منهم لا يحملون وثائق هِجرة.

من غير الممكن أنّ نحرم أيَّ عاملًا من حقّ الهجرة لإيجادِ حياةٍ أفضل، فهذه المشاكِل ليست من خطأِ العمّال أنفسهم، بل أصحاب العَمل هم من بنوا هذه العوائق القانونيّة أمام المهاجرين في بادئ الأمر، وهم من تلاعبوا بالقوانين وكيفيّة فرضها لتشكيل الطبقة العاملة التي يُريدون. هذه السّياسات زادت من حدّة التنافُس والانقسام في الطبقات العاملة العالميّة وبالتالي خفّضت سعر القوّة العاملة عالميًا.

وبجانب الهجرة الدوليّة، يجب أن نأخذ نظرةً خاصّة على الهجرة الداخليّة في الصّين، هذه الدولة التي تمارس نوعًا من الفصل العنصريّ القانونيّ. فحين ينتقل المزارعون الصّينيّون من جزءٍ ما من الدولة لآخر للحصولِ على أعمالٍ مأجورة، يخسرون بذلك حُزمةً مهمّة من حقوقِ المواطنة، ويرِثُ أطفالُهم مكانَتهم كمواطنين من الدّرجة الثانية. وكانت نتيجة ذلك أن أصبح المهاجرون هؤلاء أحد أقلّ عمّال العالم أجورًا.

هذه الأرقام جديرة بالملاحظة، فمع أنّ الهِجرة ما بين الدول ازدادت بمقدار 130 مليون منذ عام 1980، فقد زادت الهجرة الداخلية في الفترة ذاتها في الصّين بمقدارٍ أكبر، لتصل لحواليّ 220 مليون صينيّ انخفضت رُتبَتهم القانونيّة لينضموا لليد العاملة المأجورة. وهذا العدد يفوق تعداد العمّال غير الموثّقين عالميًا بخمس مرّات. ومنذ 1980، خدعت قوانين الفصل العنصريّ الصينيّة هؤلاء العمّال وسرقت منهم ما يتجاوز الترليون دولار من الفوائد.

استفادت الشّركات التي تكسبُ أموالًا في الصّين من هذه المنظومة الاجتماعيّة ذات المستويين، واستفادت الشركات خارج الصّين لأنّ «السعر الصّيني» للقوّة العاملة ساعد على دفع العمّال عالميًا لسباقٍ دوليٍّ إلى القاع.

المفارقة – إن صحّت تسميتها بذلك – هو أنّ الهجوم على الطبقة العامِلة العالميّة جرى تحت الراية النيوليبراليّة المنادية بـ«الحرّية» و«المساواة» و«سحر الأسواق الحّرة» – في الوقت نفسه الذي عمِلت فيه الدول البورجوازيّة على تقييد حرّيات العمّال وتعزيز اللا مساواة القانونيّة داخِل الطبقة العاملة، والانخراط في تلاعباتٍ شاسعة في أسواق العمل الوطنيّة والعالميّة.

المصدر: WorxinTheory

--------------------------------------------------------------------------------

مُلاحظات المُترجم:

[*](indentured servitude) أو، نظام السُّخْرة التأجيريّ: نظام يتمّ من خلاله تسخير مَدينٍ من قبل مقرضه حتى يتمّ دفع الدين

[†] وفّر القانون الإنكليزي العام قاعدة أساسٍ للنظام القانونيّ الأمريكيّ، إذ نمى القانون العام من الممارسات القانونيّة الإنكليزيّة، مدعومًا مِن السّلطة الملكيّة، بدون تأثيرٍ كبير مِن قِبل القانون الروماني. ويشدّد النّظام الأنكلو-أمريكي على أهميّة السوابق القانونيّة أكثر من القوانين الوطنيّة المُستنبطة من القانون الروماني. (مُلاحظة الكاتب)

[‡] أُنظر «أصول الشرطة ودورها في حماية الرأسماليّة»، لكاتِب نفسه

[§] تشريعاتُ الحماية كانت قوانينَ وُضِعت لحماية النّساء والأطفال، مِنها توفير حدّ أدنى للأجور والحدّ من ساعات العمل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي