الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا واشنطن ولا موسكو، لا الرياض ولا طهران، حرب التحرير الشعبية، مجالس شعبية في كل مكان، الثورة مستمرة، وكل السلطات والثروات للشعب

حسان خالد شاتيلا

2015 / 7 / 20
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


ثورة الخامس عشر من أذار:

لا واشنطن ولا موسكو، لا الرياض ولا طهران،
حرب التحرير الشعبية، مجالس شعبية في كل مكان،
الثورة مستمرة، وكل السلطات والثروات للشعب (*)
حسان خالد شاتيلا

أولا: الأزمة الثورية
لم تنجح ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية للعام 2011 في اسقاط النظام الرأسمالي البيروقراطي خلال فترة زمانية قصيرة أو متوسطة. إلا أن الظروف الموضوعية للثورة ما تزال، على المدى المتوسط والبعيد، مستمرة. فقد مضت السنوات الأربع الأولى من تاريخ الثورة التي تَستَهل سنتها الخامسة، في ما لا تزال ثورة الطبقات الشعبية على حالها من العفوية والتلقائية، دون أن تُحرز الثورة الشعبية أي تقدُّم يُذٍكَر على أرض المعركة بوجهيها السياسي والعسكري. ذلكم على نقيض من الثورة المضادة التي تتغَلَّب، بمعايير موازين القوى، حتى غاية اليوم، على الثورة الشعبية، وتحرز مصالحها تقدما ما في ساحة المعركة. حيث الاقتتال على أشده ما بين قوى متناقضة في ما بينها، دولية إمبريالية، إقليمية إمبراطورية متناحرة، جنبا إلى جنب مع السلطة السورية والمعارضة، كل منها يريد أن يَفرض بمنأى عن غيره من الأطراف نفوذه على سورية. الحالة السورية، بهذا المعنى، أَقرب ما تكون إلى الأزمة الثورية منها إلى الثورة الشعبية المظفَّرة. الأزمة الثورية صراعٌ ما بين سلطتين اثنتين. من جهة، السلطة الحاكمة بقوة العنف والقمع والسلاح، وقد باتت عاجزة عن تلبية الحد الأدنى من المطالب الشعبية، معيشية، حياتية، وسياسية. سلطة الشعب، بالمقابل، والتي تنفجر، بعدما بَلغت قدرة الطبقات الشعبية على تحمُّل سلطة الرأسمالية البيروقراطية ذروتها، ولم تعد تطيق المزيد من الظلم والحرمان والقمع والبطالة والجوع والمرض ولو ليوم واحد إضافي.
الدولة السورية، أو ما كان تبقى منها عشية الانقلاب العسكري للجنرال الأب حافظ أسد (16 تشرين الثاني 19750)، بدأت تأخذ، مع احتكار هذا الأخير لكل السلطات لنفسه، بموجب دستور العام 1973 ، طورا متقدما من التفكُّك والتحلُّل. لما فطس هذا الأخير، وخلفه على المُلْكُ ابنه بشار، فإن الابن ورث عن أبيه سلطات مطلقة بلا دولة. فكرَّس السلطات للبورجوازية البيروقراطية، بالتواطؤ أو بالتحالف مع غرف التجارة والصناعة. كرَّس لها بالفساد ثم بالفساد، بالإرهاب والظلم والتعذيب والقهر والهيمنة. أما وقد دَخلت سورية في مرحلة الأزمة الثورية، فإن من الصعوبة بمكان تشييد دولة حيث أي وجود للدولة مهما قل شأنه بمعايير الحقوق الدستورية، وعلى أرض الواقع معدوم، باستثناء الأجهزة القمعية لسلطات تَستمد وجودها من قوة السلاح وتعاطي الفساد والإفساد.
من ضمن الشروط ال ضرورية للأزمة الثورية، قبل أن تتحوَّل إلى ثورة شعبية، تفكُّك الدولة، وانهيار بناها الإيديولوجية. هذه الشروط لولا أنها متوفِّرة في سورية منذ ما يزيد عن العقد الواحد، لَمَا نشأت الأزمة الثورية في الخامس عشر من آذار للعام 2011. غياب الإيديولوجية التي نبذت أباءها، زكي الأرسوزي، ميشيل عفلق، صلاح الدين البيطار، ساطع الحصري أو حتى صدقي إسماعيل، وغيرهم كثر، كُرِّسَت َ لتقديس "القائد إلى الأبد حافظ الأسد"، حتى أن هذا الأخير يَرتفع في مراتب القداسة إلى حد التأليه، إن لم يكن لدى عامة الشعب، ففي إطار العصبيات الأثنية. السلطات الثلاث أصبحت أجهزة إدارية لتدوير الفساد. الاستخبارات العسكرية دمَّرَت، بهذا المعنى الدولة، أو ما كان بقي منها عشية انقلاب تشرين الثاني 1970. ذلك أن الأب الجنرال الأسد الأول، إذ هو يجمع بين يديه كل السلطات بلا استثناء، فإنه يُلغي، أول ما يُلغي، حزب البعث العربي الاشتراكي وأيديولوجيته، ومنها بوجه خاص "المنطلقات النظرية" التي كانت بمثابة خارطة الطريق لحركة 23 شباط 1966 ، اليسارية الثورية. ثم إن الأب مُنِحَ بموجب دستورٍ قُصُّ بمقص قاسٍ وقاطع بلا معيار إنساني، أيا كان هذا المعيار، قُصَّ على مقياس عبادة الفرد وتكريس كل أجهزة الحكم لعبادته. مُنِح، مما مُنح إليه، تشكيل محاكم ذات صلة بالأمن القومي أو حلِّها. فرضُ حالة الطوارئ والأحكام العرفية أو إلغائها. إصدار مراسيم بالقوانين من غير العودة للسلطة التشريعية. كما خُوِّل بموجبَّ هذا الدستور تشكيل المحاكم أو حلِّها، منها سيئة السمعة "محكمة الأمن القومي"،أو محكمة "أمن الدولة" التي تَتهم بالخيانة كل من يَمُثل أمامها. ما يضع السلطة القضائية، تحت أمرة الاستخبارات العسكرية، لتصبح مسرحا تهريجيا للدمى المتحرِّكة، ومثالا حيا على الفساد الذي ينخر في السطات والمجتمع على حد سواء. الشرطة القضائية، من حيث هي الأداة التنفيذية للحكومة، مَسَخَت قوانين السير والمرور، أو مخالفة القوانين المدنية والجزائية، إلى برطيل كي يغض رجل الأمن نظره عن المخالفة أو الجُنحة. القانون، الحق والعدالة، أضحى كل منها مهزلة يتندَّر المواطنون بحكاياتها.
1)- تكتيك واحد مهما تغيَّرَت الظروف !!
بيد أن الأزمة الثورية تحولَّت، مع نشوء "الجش الحر"، وتأسيس "المجلس الوطني.." ثم "الائتلاف الوطني.." و"هيئة التنسيق.."، إلى أزمة أكثر تعقيدا من الأزمة الثورية. حالة متطورة في صلب الأزمة الثورية. هذه الحالة تتَّسع للثورة المضادة التي تَجمع ما بين خليط غير متجانس من أعداء الثورة. هذا الخليط من القوى يتراصف جنبا إلى جنب، كل حسب سياسته، لا يلتقي مع غيره إلا حول مهمة واحدة، ألا وهي طمس الثورة الشعبية، والحيلولة، مهما يبلغ الثمن ويطول الزمان، دون أن يَنتزع الشعب في سورية الحكم من سلطة تتعايش منذ "الحركة التصحيحية" بقيادة الجنرال الأسد الأول، (16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970)، مع السياسات الدولية، كالاعتراف بالقرارين 242 و 338 اللذين ينصان بلغة النكرة والمبني للمجهول، على عقد مفاوضات مع إسرائيل لا/"استرجاع أراض محتلة"، والتعايش مع السياسات الإقليمية، والسياسات السورية، بما في ذلك ما أُصطِلِح على تسميته بال/"معارضة" التي تَمضي، منذ تولية بشار أسد حاكما مطلق الصلاحيات والسلطات، وحتى غاية اليوم، تَمضي خطواتٍ تكتيكية - في نهاية المطاف، وطالما هي توافق على التفاوض مع السلطة – تَمضي خطوات تكتيكية قدما إلى الأمام، على وتيرة تكتيك "الإصلاح التدريجي والسلمي". هذا، بالإشارة إلى أن الاختلاف وليس الخلاف ما بين "جبهة الإنقاذ والتغيير.." و "هيئة التنسيق.." ، من جهة، و"المجلس الوطني.."، و"الائتلاف.."، من جهة ثانية، اختلاف في المواقف، وليس اختلافا، من حيث درجة التمسك بهذا التكتيك بحذافيره، أو تأويله بصورة أقل أو أكثر مطاَّطيَّة، بحيث يَرفض هذا الطرف أو ذاك دونما تخَلٍّ عن هذا التكتيك الإصلاحي أكثر من اللازم، أن يتفاوض مع بشار، وإن كان يجالس وزير خارجيته، وربما كان هذا الطرف المطّاطي، يحبِّذُ، علاوة على ذلك، التفاوض مع اللواء علي مملوك أو غيره من الحرس القديم أصحاب الأيدي الطاهرة التي لم تتلوَّث بدماء الشعب منذ بدء الثورة في الخامس عشر من آذار.

2)- الضمني والعلني:
غير أن هذه الحالة المعقدة من الأزمة الثورية، وإن كانت اليوم، وفي الحاضر من الأيام، أضعف من أن تقاوِم الأزمة الثورية الثورة المضادة، فإن هذه الأخيرة، تنهزم، من جهة وفي نهاية المطاف وعلى المدى المتوسط والقريب، تَنهَزِ أمام مقاومة الشعب للسلطات إيَّاها المتآمرة ضده. كي تتشكَّل، من جهة ثانية، عبر المسار الزمني للأزمة الثورية، سلطات شعبية مناهضة للسلطة الحاكمة، وذلك عبر التحولات قيد الإمكان للجان الشعبية. كل ذلك، يأتي أو لا يأتي، يُقْدِمُ بشجاعة الثوار، أو يتأخر بعقلانية الحكماء الرصينين، على تشكيل "السلطة الشعبية الثورية"، من الطبقات الشعبية، ومجموعات ناشئة ما بعد بداية الثورة من اليسار الثوري.

في هذه الأثناء، فإن الصراع مستمر ما بين الطبقات الشعبية والثورة المضادة، وإن كان هذا الصراع يَخضع لحالتي الضمنية والعلنية. فإذا كانت التناقضات ما بين قوى الثورة المضادة المتصارعة غير قابلة للذوبان، وكانت موازين القوى في ما بينها متساوية، فإن أيا من هذه القوى لن ينجح في بسط نفوذه بصورة انفرادية على سورية مهما امتدَّت أزمنة الحرب السورية. هذه حرب مرشَّحة للاستمرار، ما بقيت القوى في الساحات الدولية والإقليمية والسورية على حالها من التناقض والصراع، ضمن الحبال التي تطوِّق الحلبة السورية من كل جانب. سورية، على هذا النحو، تتحوَّل ،على مسار من أزمنة الثورة المضادة، إلى ساحة حرب ما بين هذه القوى التي تنقل حروبها من حدودها الدولية لتزجَّ بها في ساحة حرب دولية إقليمية في سورية. ما أشبه سورية، من هذه الجهة، بالأزمة الثورية في اليمن، والتي تحوَّلت أزمتها الثورية إلى اقتتال بين إمبراطورية آل سعود والإمبراطورية الإيرانية. لكن الأزمنة المجهولة لنهاية الحرب السورية بين كل هذه الأطراف، الحرب متعدِّدة الجبهات والأزمنة في ساحة الصراع السورية، تَمنح أمام اليسار الشيوعي والقومي فرصة زمانية كافية، أو صيرورة زمانية، كي ما يبني منظماته، ويَنتقل بالثورة الشعبية من العفوية إلى العمل الواعي المنظَّم. ثمة ثورة شعبية تنطلق في المجتمع السوري، حسب ما يتبيَّن من المظاهرات المتفرقة هنا وهناك،. ثورة تتعثر، تفتقد للقيادة اليسارية الثورية، تتأقلم مع الأزمة الثورية، تبدو في الظاهر وكأنها مهزومة، بيد أنها، بحدِّها وتعريفها الضمني، تتطور وتصير على المسار الزماني للثورة المستمرة.

3)- حظر السياسة عن الشعب: الحظر القديم منه والحديث
هذه السلطة الحاكمة حتى غاية هذه الساعة، تفتقد للجذور الشعبية طالما هي تلغي المجتمع بجميع تشكيلاته، وإن كانت البورجوازيتين القديمة والجديدة تساندانها. فقد قاومت السلطةُ الثورة َالشعبية بكل الوسائل كي ما تَحُول دون انتقال الحكم للشعب. بيد أنها، بالمقابل، أبقت بدهاء ماكر على صلاتها، بصورة متباينة من حيث متانة هذه الصلات وجدِّيتها، مع جميع الأطراف الدولية، والإقليمية، بالإضافة إلى المعارضة السورية المتنقلة ما بين عواصم العالم تستجدي منها التدخل العسكري والسياسي لإنجاز ما اصطلحوا، بصورة محض اعتباطية، على تسميته ب/"لانتقال الديمقراطي".

ها هي "المرحلة الانتقالية"، تتكون في جنيف وموسكو عبر السراديب المظلمة للسياسة الدولية، وفي الجب العميق للسلطة ومعارضتها، وكلتاهما مقطوعة الصلة بالمجتمع والشعب. القيادي ميشيل كيلو يفضح هذه القطيعة بجرأة وموضوعية، كما يأتي ذكره أدناه. هذا التكتيك الإصلاحي، التدريجي، السلمي تكتيك بورجوازي، طالما يتعامى عن رؤية التكوين الاقتصادي المجتمعي، وما آلت إليه بناه العليا والتحتية . الأمر الذي يُعتبر جزءً لا يتجزأ من التكوين البنيوي للسلطة السورية، سواء في ما يتعلق بالقطيعة مع الشعب، كما الإصلاح البورجوازي. ما دام هذا النظام، من حيث تعريفه، يُعَرَّف بأنه استخباراتي، تجسسي، ولصوصي. هذا، في ما يمُّدُّ هذا المحور السلطة بأسباب البقاء لمدة قد تمتد، حسب مقاييس المُنَجِّمين العسكريين، لتصل إلى عقد من الزمان، أو أكثر، لاسيما وأن المعارضة بجميع تشكيلاتها الداخلية والخارجية، على حد سواء، والسياسة الدولية التي أصبحت أداة بيد الإمبريالية، شأنها شأن النظام، تُعزِّز من قوة الثورة المضادة، ضد الثورة الشعبية. ذلك أن هذا النمط من الاستبداد والاستغلال والظلم والحرمان في سورية، والذي يستمر منذ أربعة عقود ونيفٍ، ليس على مثال غيره من الأنظمة القمعية في العالم وعبر التاريخ، مهما بلغت هذه الأخيرة من أعلى الدرجات في سلم الاستبداد والاستغلال. إلا أن الثورة الشعبية، وهي تصير، تتطور وتتحوَّل، عبر زمانها السياسي، وفي الظروف الموضوعية للأزمة الثورية، فإنها، وإن صارت إلى حالة الكمون، حيثما توجد الأحياء الفقيرة، وضواحي المدن الكبرى، وفي بلدات وقرى صغار الفلاحين، وفي مخيمات الملايين من اللاجئين السوريين، غير أن حالة الكمون هذه، إذا ما توفَّرت للظروف الموضوعية الثورية التي تسود في الحالة السورية ما تفتقد إليه من تماسك تنظيمي حول برنامج سياسي واستراتيجية ثورية، أي القيادة اليسارية الثورية. فإن الأزمة الثورية مؤهلة، في مثل هذه الحالة وما أن تتوفر أمامها الظروف السياسية الموضوعية، مؤَهَلَةٌ للتَغَلُّب على الثورة المضادة بكافة تكويناتها، بما في ذلك مرحلة "الانتقال الديمقراطي" المزعوم. إذ إن ما هو كامن لن يلبث أن يتحول إلى ثورة علانية ضد الثورة المضادة بجميع تشكيلاتها، الدولية، الإقليمية والسورية.

حيثما توجد اليوم هذه المناطق السكنية التي تستوعب أكثرية الشعب، وفي مخيَّمات الهجرة التي تتسع اليوم للملايين، فإن الثورة الشعبية، وإن كانت تجتاز مرحلة من الكمون المؤقت، فإن ذاكرة الطبقات الشعبية تستعيد ماضي هذه السلطة التي نكَّلت بالشعبين الفلسطيني واللبناني، واضطهدت الشعب الكردي، قبل أن تتخطى بدرجات عالية التوتر كلَّ ما كان الشعب في بلاد الشام يعَرِفه من ظلم ووحشية التتار والمغول وهولاكو والعثمانيين والفرنسيين. ثمة أصوات في الشارع بدأت تتعالى، هنا وهناك، مطالبة بتأسيس معارضة وطنية، هتافات تناهت إلى مسامع ميشيل كيلو الذي يَفضح في مقالة له سياسة "الائتلاف"، ويدعو فيه إلى مقاطعته (ميشيل كيلو، ماذا لو تركنا الائتلاف، لندن، جريدة العربي، 22 أيار/مايو 2015).

السيدة ميرا نمر، وهي من أصدقاء المواقع اليسارية والشيوعية عبر صفحات فايسبوك، تلاحظ بدورها "أن عودة الشارع الشعبي الوطني داخل سوريا للسياسة مُجدّداً على نحو كثيف مُؤخّراً، فالنّاس هنا تستشعر تهديداً وجوديّاً الآن هي التي لم يعُد لديها ما تخسره و في ظلّ الوضع الاقتصادي-الاجتماعي و الإنساني الكارثي القائم .... و أتابع بنفسي - على حد قولها- حالات توسّع تنظيمي نوعيّة جديدة رائعة و متحمّسة للعمل رغم كلّ المخاطر و الصعوبات، و طروحاتنا الوطنيّة الديمقراطيّة الجذريّة تلاقي روجاً واسعاً في الشارع .. و يسعدني هذا". وترى كاتبة هذا التعليق أن الحالة الراهنة للحراك الشعبي تبعث على "تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة"، على حد قول أنطونيو غرامشي (فايسبوك، سوريا الثورة، 31/05/ 2015).

ثمة، في الأسابيع والأيام القليلة الماضية والقريبة من الحاضر أو الملازمة له أكثر من ظاهرة تدلِّل أن عهدا جديدا من يقظة الشارع السوري، هي الآن فيقيد التكوين.

4)- ثورة ما بين محورين اثنين: "أيديولوجية الحرب الطائفية"
السلطة الحاكمة تَستمد قوتها من السياسة الدولية وتوابعها الإقليمية، بالإضافة إلى السورية "المعارضة" التي تجري على غرار السلطة وراء القوى الدولية والإقليمية. إن مستقبل كلٌّ منها، في ما يتعلق باستمرارها على المدى المتوسط والبعيد، يتوقف على تحويل سورية، كما يحدث بالفعل على أرض الواقع، إلى حلبة للملاكمة الجماعية أو الدولية. في هذا السياق، فإن السلطة الحاكمة تستمد استمرارها، بوجه خاص، من سياسة خارجية قوامها المحور دمشق- حزب الله- بغداد- طهران- موسكو. هذه السلطة تَستمد أسباب استمرارها من هذا المحور. حتى أن التكوينات المجتمعية للشعب في سورية، تلك ما كان منها موروثا عن عصور من الاستبداد الشرقي الذي يُلغي المجتمع، بمقارنتها، وهي البالية، القديمة والموروثة، بدور هذا المحور الحديث في تقنياته الحربية، المعاصر من حيث أدواته وأساليبه الدبلوماسية، تبدو، ثانويةً أمام ما تحمله الصراعات ما بين هذه السلطات، دولية وسورية، تبدو محورية في جميع الحالات. فالسلطة تفتقد للقاعدة الشعبية. بل، وإنها تستغني عن المجتمع، شأنها شأن "المعارضة"، ما عدا ما كان منها ذات صلة بتراكم رأس المال وعالم الأعمال، الزبائن، السماسرة، والمتعهدون، إلخ. فالطائفية، على سبيل المثال، لا قيمة لها في ما يتعلق بديمومة السلطة، طالما يمدُّها هذا المحور المعاصر المتقدِّم في ترسانته الحربية وخزا-نه المالية، يمدُّها بأسباب الاستمرار، الدولي والإقليمي، بل وحتى السوري منها. إن السلطة، علاوة على ذلك، تحافظ في الخفاء على صلاتها بأجهزة استخبارات الدول الإمبريالية، وفي مقدمتها الأمريكية والفرنسية. حتى أن الطائفية، من حيث هي عصبية تَحمل المجتمعات العشائرية والقبائلية إلى السلطة، تفقد أمام العوامل الدولية والإقليمية، الكثير من أهميتها. لاسيما، وإن الجاه والمال والمُلْكَ، ما يلبث-على حد قول ابن خلدون - أن يمزق العصبية، والطائفية منها من باب أولى. الدين السياسي، أي إيديولوجية السلطة، يأتي عليه انحلال العصبية، وتفكُّك المُلْكُ. هذا ما آلت إليه، على سبيل المثال، "الطائفية العلوية" من حيث هي أيديولوجية السلطات السائدة، والتي تتمزٌق روابطها منذ انقضاض الجنرال أسد الأول على سواه من العلويين، كي ما يسوق البلاد على مسارات السياسات الدولية، ومثيلاتها الإقليمية. ثمة صراعات سياسية طبقية دامية أحيانا، مكتومة أحيانا أخرى، في "الطائفة العلوية" تُخفيها الإيديولوجيا الطائفية المستمدة من علم الجماعات الثقافية (أثنولوجيا)، والاستشراق. هذه الأيديولوجية تؤَدِّي وظائفها التشويهية على خير وجه، وتمد، إلى حينٍ، السلطات والمعارضة، على حد سواء، ببعضٍ من أسباب البقاء الثانوية، إذا ما قورِنت بالدور الرئيس للمحور السياسي العابر للدول من جنوب لبنان إلى موسكو، عبر سورية والعراق وإيران. هذه الفضلات من الاستبداد الشرقي لا قيمة لها، على سبيل المثال، أمام المحدثات الأمريكية الإيرانية.

5)- السلطة الشعبية نقيض لسياسة المحاور- "الشعب السوري واحد واحد":
إذا كان التكوين الاقتصادي الاجتماعي مصدرا رئيسا للثورة، فإن السلطة الشعبية قيد النشوء إن عاجلا أو آجلا، ضمن الآزمة الثورية، لا تمت، من حيث نشوئها، بأية صلة إلى المحورين الاثنين. بل وإنها معادية لهما. هذا، إن لم تكن نشبت ضد هذين المحورين الاثنين، حسب ما يتبيِّن من الشعارات العفوية للطبقات الشعبية في سورية، والتي كانت تؤَكِّد على الوحدة الوطنية، وترفض الطائفية والمذهبية الدينية. غير أن التداعيات اللاحقة منذ الشهر السادس للثورة، أي ما بعد نشوء "الجيش الحر"، وتأسيس المعارضة ذات الرأسين، "الائتلاف.."، و "هيئة التنسيق.."، فإن الصراع الإقليمي ما بين هذين المحورين الاثنين، يجد لنفسه، عبر المعارضة والجيش الحر ذي الاستقلال الكامل عن المعارضة السياسية، ممرا يتيح له، أو هكذا يبدو في الظاهر، أن يحوِّل الأزمة الثورية من صراع مجتمعي سياسي، أي طبقي، إلى ملف ساخن في المحافل الدولية. مما يؤدي إلى طمس ومسخ الطبيعة المجتمعية السياسية للأزمة الثورية، بحيث يَحِلُّ الصراع الإيديولوجي محل الأزمة الثورية السياسية المجتمعية ما بين سلطة الشعب وسلطة الاستخبارات الفاسدة والمُفسِدَة.

ما هذا الصراع الإيديولوجي الافتراضي ما بين المذاهب السنية والفرق الشيعية سوى الوجه المقلوب لقطعة نقدية واحدة اسمها العولمة النيوليبرالية. هذه الأخيرة تحاول دوما اختراق الحدود القومية، وفرض سيطرة اللغة الإنجليزية، والصينية عما قريب، وتدمير النقابات، وتمزيق الأمة الواحدة، والإتيان على الأحزاب، وفي مقدمتها الأحزاب الشيوعية واليسارية. إنها تجعل أيضا من الانسان مجرد بضاعة للبيع والشراء، وتنشر تيمية (فيتيشيزم) السلعة كي تلقى علاقات السوق الرأسمالية رواجا. وتنشر ثقافة الإرهاب، والعنف، محل سياسة السلام وسيادة القانون والحرية. إن تدويل الأزمة الثورية، وتشجيع الصراع الطائفي، يسير جنبا إلى جنب مع أولوية الحروب الإقليمية على الدبلوماسية، وذلك على نقيض ما كان سائدا إبان "الحرب الباردة"، ومن ثم "التعايش السلمي"، حيث كانت الأولوية للدبلوماسية، فإذا ما فشلت وساطاتها وحلولها، فإن ما لم تحرزه السياسة تحاول الحرب العسكرية أن تنجزه بنفسها. وتمزيق الأمة الواحدة. هذا الزمان ولَّى بعدما أصبح الحل عسكريا في المقام الأول، ثم يليه العمل السياسي والحلول الدبلوماسية. ما يجري في القوقاز والبلقان مثال حي على هذه المعادلة الجديدة وليدة العولمة النيوليبرالية.

6)- القطيعة مع السلطة والمعارضة والمنظَّمات شبه العسكرية:
القطيعة مع كلٍ من السلطة القمعية المهيمنة، والمعارضة المزيَّفَة، والتنظيمات شبه العسكرية بلا استثناء لأيٍّ منها، شرطُ ٌ مُلزِمٌ، دونه، تنشأ السلطة الشعبية الثورية في إطار الأزمة الثورية مُشَوَّهَةٌ على مثال السلطة والمعارضة. ذلك أن ما يُقْصَدُ من وراء القطيعة ما بين السلطة الشعبية الثورية حتى وإن كانت ما تزال افتراضية، إنما يشمل القطيعة المعرفية والسياسية والدولية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. قطيعة مع الماضي الإيديولوجي (أنظمة الحكم والتشريع والأمن والقضاء المدني وغيره من محاكم) الموروث عن نمط إنتاج الاستبداد الشرقي والانحطاط العثماني. القطيعة مع الموروث السلفي عما يسمَّى ب/"عصر النهضة العربية" التي تعود إلى الوراء كلما تاقت إلى التقدُّم نحو الأمام. القطيعة السياسية مع الدين بحيث تَحْذُفُ السياسة والقانون والإنسان الاجتماعي (ليس الفرد) والطبيعة المادية، كل ما يمت بصلة إلى الميراث، فتأخذ أولوية السياسة على كل ما عداها مكان الدين والإرث وعلم الأخلاق والفلسفة، إلخ. قطيعة ثقافية، إعلامية، تربوية وتعليمية. قطيعة معرفية منحازة إلى الطبقات الشعبية، من حيث هي مصدر المعرفة المعاصر، ومرجعها في ما يتعلق بكل ما هو معلوم. إن لم تكن هذه القطيعة تاريخية، معرفية مادية، فإن العقلانية المثالية والتجريبية، تقف عائقا أمام الثورة الشاملة، أو تطور الأزمة الثورية، على المدى المتوسط والبعيد، من ثورة عفوية تلقائية إلى ثورة اشتراكية، واعية ومنظَّمَة.

7)- الأقنعة الأيديولوجية للسلطات الحاكمة في سورية وفى العالم:
"القيادات العلوية" التي لقيت حتفها على مذبح السلطة منذ الحركة إياها، كثرةٌ متعددة الانتماءات السياسية، ولا علاقة لها، سوى جزافا، أو بمنطق الأيديولوجيا، بالحكم السياسي. فالطائفية في سورية، من حيث هي مقولة، مفهوم أو نظرية بلباس علمي، مستَمَدَّة من علم الاجتماع الثقافي (الأثنولوجيا)، وعلم الاجتماع السياسي، إنما تُشَكِّل السلاح الإيديولوجي للثورة المضادة في سورية. هي التي تروِّج للطائفية بجميع تشكيلاتها في سورية. به ووراءه تُخفي امتداداتها الدولية والإقليمية. السلطة من جهتها تستمد ديمومتها من طائرات "التحالف" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تخترق السماء السورية بالاتفاق مع "القصر" في دمشق، وليس من هذه "الطائفة" أو تلك. إن "سيد" الشام يخاف الطائفة، طائفت"ه"، خوفا لا يساويه سوى مَقتل أخ بيد أخيه، والاقتتال حتى الموت من أجل السلطة، ضمن الآسرة التي فَقَدَت تمسكها بروابط الصلات الدموية الواحدة. يا حافظ ويا رفعت! ما أشبه الأول والثاني بقابيل وهابيل. الأخ الأصغر ينقلب عسكريا على أخيه الكبير، حتى أن هذا الأخير يُحرِّم على أخيه الصغير أن تدوس قدمه الأرض السورية. يا ماهر ويا آصف.! يا غازي ويا عماد! يا ويا! فإذا افترضنا أن العصبيَّة حَمَلَت طائفة ما إلى السلطة، فإن السلطة سرعان ما مزَّقت العصبية. بل وإنها تستفيد، في عهدي الأب والابن، الأسد رقم واحد والأسد رقم اثنين، من علاقاتها المشبوهة بالإسلام شيه العسكري بجميع مكوِّناته المجتمعية الثقافية، على الرغم من تناقضاته الذاتية بين الفرق والمذاهب. بل وإنها، علاوة على ذلك، ويا لها من مفارقة واقعية، تُعوِّل على العلاقات الدولية والإقليمية، وليس الدينية، للعثور على مخرج سياسي من الحالة السورية، فتراها تحتضن، في جنيف وموسكو وطهران وباريس، المعارضة التابعة بدورها للسياسة الدولية ! إن هذين المحورين، لكل منهما أيديولوجية يتسلح بها. آل سعود والوهابية السنيَّة من جهة، وفرق الشيعة ورأس المال الإيراني، من جهة ثانية. فإذا كانت الحرب ما بين هذين المحورين تتخفى بلباس أيديولوجي، فإنها، مهما امتدت، اتَّسَعَت واشتَعَلَت، تبقى محدودة أو محصورة في نطاقها الأيديولوجي، أي الحروب ما بين السلطات الحاكمة والدول إن وُجِدَت، وعلى رأسها الإمبريالية الجديدة أو العولمة النيوليبرالية. كل هؤلاء، مجتمعين ومتفرِّقين، يتقاتلون في ما بينهم فوق التراب السوري والعراقي، من أجل أن يَسبق أحدهم الآخر، في خنق الشعب في سورية والعراق وكردستان، وكي يطمس أولا وأخيرا ثوراتَها إلى ما تحت البنى الأيديولوجية العليا.

الثورة المستمرة ، من جهتها، تشق زمانها التاريخي على مسار سياسي مغاير ونقيض لكل ما عداه. مسار غير إيديولوجي. مسار من القطيعة المعرفية مع الإيديولوجيا والأثنولوجيا وعلم الاجتماع السياسي. هذا هو، بالمقابل مسار الثورة المادية التاريخية، والذي يتكوَّن بالقطيعة مع السياسة الدولية والإقليمية. مسار الاستراتيجية الثورية لتشيد السلطة الشعبية الثورية في ما حضر، مسارها لاستيلاء الطبقات الشعبية على السلطة.

8)- الأيديولوجية الليبرالية خوذة حديدية عسكرية على رأس المعارضة المزَيَّفَة لمحاربة السلطة الشعبية:
إذا كانت إيديولوجية الصراع الطائفي ما بين السنة والشيعة تجد لنفسها ممرا إلى أرض الواقع عبر المعارضة المُزَيَّفَة، وفصائل شبه عسكرية متحاربة في ما بينها، وكان الإسلام شبه العسكري هو الحامل المتنقل والمنتشر للإيديولوجية الطائفية، فإن هذه الأخيرة عاجزة عن تعميم الفتنة الدينية، وإن كانت تحقق لنفسها مكاسب جزئية متفرقة هنا وهناك، وتنتهي، في نهاية المطاف، إلى الشلل أمام الحلقة الصلبة، حلقة السلطة العسكرية الاستخباراتية التي تتحطم على أسوارها الثورة المضادة بجميع أشكالها، طالما تمضي الطبقات الشعبية التي تشكل أكثرية الشعب السوري قدما في قطيعتها الكاملة مع كل من المعارضة المُزَيَّفِة، والإسلام شبه العسكري، والسلطة المهيمنة، والسياسة الدولية، والتوابع الإقليمية لهذه الأخيرة.

في تطور لاحق ومتَّصل، تظهر في الآونة الأخيرة بوادر قوية من الدول الإمبريالية تشي بأن هذه الأخيرة تَقْلُب سياستها رأسا على عقب. إذ هي تُرغِم، في الوقت نفسه، حلفاءَها الإقليميين، وبصورة خاصة إيران وتركيا، ناهيكم وآل سعود وآل خليفة ونهيان، على اللحاق بما يستجد في سياستها إزاء السلطة السورية الحاكمة من تطورات. فواشنطن والمؤتمرون بها تنكص بوعودها التي كانت قطعتها للمعارضة، في ما يتعلق بتسليح "القوى العسكرية المعتدلة" وتدريبها. فإذا بها تحجب عن الجيش الحر وغيره من جيوش "معتدلة"، حسب القاموس السياسي الأمريكي الأوروبي، ما كانت وَعَدَت به من أسلحة. ولم تفِ بتعهدها تدريب ألفين اثنين من القوى المعتدلة إياها. أخيراً، وليس آخراً، فإن الدول الإمبريالية تطلب من حلفائها والمؤتمرين بها، توجيه كل جهودهم الدبلوماسية والعسكرية لمحاربة الإسلام شبه العسكري، وكفِّ يدها عن النظام المهيمن بدمشق. ذلك أن سياسة المحاور الإقليمية، محور طهران، بغداد، دمشق وحزب الله، والمحور الإمبريالي الرجعي بما في ذلك الثورة المضادة المئويةمن حيث تعداد مكوِّناتها، يرتد كل محور منهما ضد أصحابه، وذلك من جراء اتساع وكثافة ما يحتله الإسلام شبه العسكري في سورية والعراق، وارتداد هذا الأخير ضد مصدره في الرياض والدوحة وإسطنبول وطهران. هذا من جهة. أضف إلى ذلك، أن طهران وإسطنبول ودمشق تخشى من اتساع النفوذ المجتمعي، السياسي والعسكري للأكراد، حيثما يوجدون على امتداد الحدور السورية التركية، والسورية العراقية. انتصارات البشمرغا في العراق وسورية تثير مخاوف طهران ودمشق وإسطنبول. مما يضع الحالة الإقليمية أمام خطرين اثنين، الإسلام شبه العسكري، والمقاتلين الأكراد. هذا، وإن الاتصالات المستمرة ما بين واشنطن وطهران، وإن كانت ذات صلة بالملف النووي الإيراني، إلا أنها، في الوقت نفسه، ليست غريبة عن التخلي عن سياسة المحاور، لاستبدالها بجبهة عريضة لمحاربة خطر الإسلام شبه العسكري، على المدى القريب والمتوسط، وتقليص الاعتماد عسكريا على المقاتلين الأكراد إلى جانب كل من بغداد ودمشق ضد الإسلام شبه العسكري، كي لا يهدِّد الشعب الكردي على مدى متوسط وبعيد، وحدة أراضي كل من سورية وتركيا على حدة، والحفاظ على السيادة الوطنية للدولتين التركية و"السورية" (بافتراض أن الدولة السورية لم تتفكك وتنحل ليحل محلها سلطات عسكرية استخباراتية) على كامل التراب الوطني لكل من تركيا وسورية.

اعلم، علاوة على ذلك، أن الإمبريالية تشجِّع بقوة ما يسمَّى بالمعارضة على البدء بحوار جدي مع سلطة العسكر والاستخبارات والقتلة والمجرمين واللصوص. إذ إنها مقتنعة أن المعركة الرئيسة هي ما بين الإسلام شبه العسكري، وتحالف واسع بين شعوب المنطقة مع القوى العظمى، تحت سقف الأمم المتحدة، وفي ظل وصايةٍ من شجر النخيل في شبه الجزيرة العربية.

ثمة قطيعة كاملة وحاسمة ما بين السلطة الشعبية قيد الإنجاز وأيديولوجيات المحاور الدينية. ثمة قطيعة مماثلة ما بين السلطة الشعبية قيد الإنجاز ضمن الأزمة الثورية والسياسة الدولية ومحاورها الإقليمية. ثمة أيضا سلطة شعبية قيد التشييد تواكب تفتح يسار شيوعي وقومي جديد من رحم الأزمة الثورية. ثمة إدراك قوى لدى السلطة الشعبية، وإن كانت في قيد التشييد، مؤداه أن المحورين الاثنين معاديان للشيوعية، واليسار، والطموحات القومية للعرب والأكراد وغيرهما من شعوب آريَّيه وساميَّة. ثمة، علاوة على كل ذلك، يقين لدى الطبقات الشعبية يُفيد أن البورجوازية البيروقراطية، والثورة المضادة المئوية من حيث الكم، عاكفتان على تذليل المصاعب أمام أنصاف الحلول على ظهر الطبقات الشعبية في سورية، فوق رفاة نحو ثلاثمائة ألف قتيل، وسبعة ملايين مشرد، أربعة ملايين منهم في مخيمات الهجرة، والثلاثة ملايين الأخرى مشردة في ما تبقى من حارات وحدائق عامة.
ثمة، أخيرا وليس آخرا، خطاب إيديولوجي، قديم حديثٌ، يطل علينا من تحت الخوذة العسكرية للإمبريالية والمؤتمرين بها ينادي ب/"الوحدة الوطنية" لإلحاق الهزيمة بأعداء الشعب في سورية من "إرهابين" سلفيين ووهابيين، ويشجِّع في الوقت نفسه المعارضة على توحيد صفوفها، بما يساعد على وفاق وطني، سلطة البورجوازية البيروقراطية طرف رئيس ضمن هذا الوفاق.

9)- الأزمة الثورية مرشَّحَةٌ للاستمرار مدة طويلة:
منذ الشهر السادس للثورة، اتضح أن الأزمة الثورية التي كانت حتى هذا التاريخ قِصراً على الصراع ما بين سلطة الشعب، وسلطة العسكريتاريا، اتضح أن الأزمة لكثرة السلطات المتصارعة في ما بينها، فضلا عن تلقي السلطة السورية دعما ماديا ودبلوماسيا بدون سقف وحساب، من طهران وموسكو، اتضح أن الأزمة ستكون طويلة الأمد. حتى إنها مرشَّحة للامتداد مدة تتراوح ما بين عشر سنوات أُخر؛ أقل من ذلك بقليل، أو أكثر من ذلك بقليل. السبب وراء استطالات زمان الأزمة الثورية يعود، بالإضافة إلى أن حرب الشوارع أو حرب العصابات أقوى من الحرب الكلاسيكية وأسلحتها، بما في ذلك تلك المسمَّاة أسلحة الدمار الشامل. حرب التحرير الشعبية شأنها شأن "انتفاضة الحجارة" الأولى والثانية، أقوى وأنجع من القنبلة النووية والقنابل السامَّة والبراميل المتفجرة والصواريخ الموجَّهة والطائرات ومركز الاستعلامات الأمريكي (سي.إن.أي). فحرب "الجماعات الإسلامية المسلَّحة" في الجزائر استمرت أكثر من عقد واحد من الزمان. بل، وإن أصداءها الصارخة ما تزال تُسمع اليوم في الجزائر. ناهيكم، وأن واشنطن بعد مرور أكثر من عشر سنوات على احتلالها لأفغانستان والعراق، فشلت ثم فشلت حتى في فرض منطقة آمنة مستقرة في كابول وبغداد. إسرائيل، بالرغم من أنها تشن الحرب تلوى الأخرى ضد غزة الصامدة، فإنها تفشل بدورها في فرض ما تسميه أمنها. إنها تُهزم شر هزيمة أمام الصمود البطولي الخارق للعادة للشعب الفلسطيني في غزة.

إذا القينا الأن نظرة متمعنة إلى الحرب الضروس في سورية، حرب البراميل المتفجرة، وصواريخ سكود، وأسلحة الدمار الشامل، فإن زمان الأزمة الثورية ما بين سلطة الشعب وسلطة العسكريتاريا مستمرٌ وفق وتيرة مضطرة متأزِّمة، وعلى إيقاع زماني ما أن يصعد عبره غضب الطبقات الشعبية حيال السلطة الحاكمة نحو الأعلى، حتى يهبط من خلاله إلى ما تحت خيانات "الائتلاف البورجوازي"، وفرامل "هيئة التنسيق .."، والتي تخفِّف من وقع الصدمة القادمة من الطبقات الشعبية، والموجَّهِة إلى سلطة العسكريتاريا وأجهزة الاستخبارات. (ظهور الثورة المضادة مع تشكيل "الجيش الحر" وتشييد كلا من "الائتلاف" و"هيئة التنسيق"، ثم "جيش الفتح" الذي يرافق نشؤه اتساع الرقعة المتحركة للإسلام شبه العسكري، يشكِّل التناقض الرئيس ما بين الطبقات الشعبية من جهة، والثورة المضادة بما في ذلك السلطة الحكمة، والمعارضة المزيَّفة والإسلام شبه العسكري، من جهة ثانية؛ كما يأتي الحديث عنه في ما يأتي من صفحات).

10)- الظروف الموضوعية للثورة المستمرة متوفِّرة:
إلى) ذلك، فإن الحالة السورية، في بدء السنة الخامسة من ثورة الخامس عشر من أيار، وبعدما نَجَحَت الثورة المضادة في الانفراد، إلى هذا الحد أو ذاك، بالساحة الدبلوماسية على أقل تقدير، ما دامت القوى العسكرية في ساحة القتال تسخر كالإمبريالية من هكذا معارضة، فإن الحالة السورية تشي بأن الطبقات الشعبية لم تستطع ترجيح القوى السياسية والعسكرية على أرض المعركة لصالح السلطة الشعبية، بعدما سُرٍقَت منها المبادرة، ومُسِخَت ثورتها. لكن الظروف المادية الموضوعية للأزمة الثورية، أي التكوين الاقتصادي المجتمعي ببنيتيه العليا والتحتية ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي البيروقراطي، وهي، أي الظروف الموضوعية، ظاهرة للعيان، علانية وملموسة في الواقع، تشي في ما هو ضمني وممكن وضروري، بأن الظروف الموضوعية تُشَكِّل بصورة ضمنية ظروفا ملائمة أمام الثورة المستمرة، طالما تَعْجَز الثورة المضادة بتكويناتها المائة، تعجز عن إيجاد الحلول الناجعة التي تستجيب للاحتياجات المعيشية والحياتية للطبقات الشعبية، وهي، أي الثورة المضادة، مكوَّنَةٌ مما هو نقيضٌ لمهام التطور والتنمية، والتي ترافق في الوقت نفسه قضايا السيادة الوطنية، ومهام التحرر الوطني، ما دامت هذه الثورة المضادة رديف للعولمة النيوليبرالية، أو الإمبريالية الجديدة. إن معارضة قوامها السياسيين البورجوازيين والشرائح ميسورة الحال من الطبقات الوسطى، تَصول وتجول عبر المسار الزماني لتاريخها السياسي، في مسلسل طويل من المفاوضات مع الإمبريالية المتخفية بقناع السياسة الدولية، دون أن تعير أي انتباه لأهالي الأحياء الشعبية، وضواحي المدن الكبرى، والبلدات والقرى ومخيمات في البلدان المجاورة تتسع لأربعة ملايين مهاجر لا مأوى لهم فوق الأرض السورية.

11)- التنظيمات شبه العسكرية عبء غليظ على الثورة الشعبية:
منذ تشوء "الجيش الحر" في الشهر السادس من تاريخ الثورة، والتكوين شبه العسكري ما فتئ يحتل مقام الأولوية التكتيكية أمام الثورة السياسية. فقد تنقَّلَ العمل العسكري من توظيفه كبديل للثورة الشعبية السياسية والثورية، إلى طغيانه على كل ما هو سياسي مجتمعي. بل، وإن البيانات السياسية للمعارضة، أيا كانت هذه المعارضة، يمينية أو يسارية، مضادة للثورة أو حامل لها، تختفي بصورة شبه كلِّيَّة لتترك مكانها للبلاغات العسكرية الصادرة عن هذا أو ذاك من تنظيم شبه عسكري. فالجيش الحر القديم، وجيش الفتح الحديث، وما بينهما من تنظيمات شبه عسكرية إسلامية، تأتي لتقضي بصورة مبرمة على النضال السياسي الشعبي. إنها منذ الساعة الأولى لنشوء "الجيش الحر"، تصبُّ، إن لم تكن تبدأ، من حيث هي فريق مؤسِّس للثورة المضادة، حسب ما يتبيِّن بصراحة وقحة من التصريحات التي يدلي بها مؤسس هذ الجيش وهو يعلن عبر قناة الجزيرة عن تأسيسه، ويوجِّه، في الوقت نفسه وبصلافة لا مثيل لها، نداءً إلى الدول الإمبريالية كي تتدخل عسكريا "لحماية" الشعب السوري من الهلاك تحت نيران الجيش النظامي. هذا الجيش "الحر" ما لبث أن انقسم على نفسه بصورة علانية ما بين قيادة أركان ومجلس عسكري أعلي. هذا الانقسام الذي كان بمثابة الإعلان عن إبادة الجيش الحر بنفسه ولنفسه، أو بصورة ذاتية.

هذا الجيش، بدوره كمقدِّمة، من حيث توقيت نشوئه، للتنظيمات شبه العسكرية والمعارضة المزيَّفَة، وكل ما يندرج في ملف الثورة المضادة، ينساق على مسار عسكري يودي إلى الدمار الذاتي، من جهة، ودمار العمران من جهة ثانية. تكتيك الحرب الشاملة، جبهة عسكرية ضد جبهة عسكرية، وتكتيك احتلال المواقع تارة، والحرب الشاملة على جميع الجبهات العسكرية، من جهة ثانية، يؤدي إلى الدمار، حيثما يظهر هكذا جيش، لدى احتلاله لمدينة ما، حيُّ ما أو بلدة ما، لدى احتلاله لها لمدة محدودة، مهما استمر أو تقلَّص هذا الاحتلال زمانيا، يرافقه دمار لدى احتلا الجيش الحر للموقع المكتظ بالسكان، أو لدى إخلائه تحت وابل من نيران الجيش النظامي للموقع الذي كان يحتله الجيش الحر. ففي الحالتين، فإن التكتيك العسكري للجيش الحر، يرافقه دمار ما بعده دمار، أقناء الاحتلال، من جهة، وأثناء الانسحاب، من جهة ثانية. هذه مصيبة ترافق الأزمة الثورية منذ الشهر السادس للثورة، وحتى غاية اليوم. ذلك أن التنظيمات شبه العسكرية الإسلامية، تَعتَمِد، بخلاف ما يشاع، نفس التكتيك، أي الجرب الشاملة، أو جبهة عسكرية ضد جبهة مماثلة. إنها ليست حرب مواقع كما تزعم أجهزة الإعلام، طالما يهدف احتلال الموقع إلى الدفاع عنه، وتأسيس نظام سياسي مجتمعي إسلامي، أو بناء امتداد جديد للدولة الإسلامية، وحكم الخليفة "المسلم"، فكأن الإسلام في سورية أضحى إسلاما صينيا ماويا.

في جميع الأحوال، فإن نبذ كافة التنظيمات شبه العسكرية لحرب الشوارع، أو حرب العصابات، أي نبذ التنظيم شبه العسكري الشعبي والسري، وتخليه عن اعتماد نظام الخلايا محدودة العدد، والتي ما أن تشن هجومها ضد هدف من مواقع السلطة، المدنية والعسكرية، أو السلطة بجميع أشكالها، حتى تسارع إلى التواري عن الأنظار، بما يؤدي إلى إبادة قيادات النظام، وتفريغ أقبية الاستخبارات، من السجناء من الثوار، وقتل الجلادين، بما ينتهي، أيضا، إلى إنهاك السلطة الحاكمة، وإتاحة فرصة أوسع للانشقاقات والانقسامات ضمن أجهزة السلطة المهيمنة، العسكرية منها، السياسية والاستخباراتية. إن التنظيمات شبه العسكرية، السائدة في ساحة القتال بسورية تفتقد افتقادا كاملا، باستثناء الإسلامية منها، لاستراتيجية شعبية وثورية، وبرنامج سياسي للمرحلة الانتقالية يستجيب للضرورات القومية والسياسية الطبقية. إنها حاجز عسكري مدجَّج بالأسلحة يسد الطريق أمام انتشار خلايا الحرب الثورية المنتشرة والموزَّعة في جميع أنحاء البلاد، من الحارة أو الزقاق، إلى المدينة بأحيائها السكنية، التجارية والإدارية.

في جميع الأحوال، فإن الكفاح السياسي والعسكري لتشييد سلطة شعبية ثورية، والنضال كي ما تستعد الطبقات الشعبية لمجابهة مرحلة انتقالية تقودها الثورة المضادة وأدواتها، ونشر ثقافة الثورة المستمرة، كل ذلك غائبٌ عن ساحة القتال السياسي والعسكري غياب اليسار الشيوعي والقومي عن الميدان.

عسكرة الأزمة الثورية تَقتَحم البرامج السياسية لليسار الثوري، من باب إغلاق الحرب ضد النظام، والانكفاء إلى ما قبل تشكيل الجيش الحر، أي العودة إلى العمل السياسي الجماهيري الذي كان يملآ الساحات بعفوية وتلقائية، والذي يُفاجِئ المُتتَّبِع أمام انحسار ما كانت التجمُّعات الجماهيرية تبتكره من أساليب جديدة من التجمهر، كالشعارات الجديدة التي تنبثق من أعماق الوعي الشعبي، والأغاني التي تشجِّع الطبقات الشعبية على المضي قدما حتى غاية نهاية الطريق. لنقل مرحلة الثوري الفنان الذي شُوِّه جسديا أبشع التشنيع لأنه، في إحدى أهازيجه الشعبية، شتم الأسرة المالكة، أبا عن جدٍّ، ومن رأسها حتي أخماس قدميها. هذا الانحسار للساحة الجماهيرية السياسية، والذي يُخلي مكانه للعمل شبه العسكري، ليس مسألةً جوهرية في ما يحدث من انحسار سياسي شعبي، ومَدٍّ عسكري. نعم، فإن الشعب يُخلى ساحة المعركة، عندما يُخْتَرق العمل السياسي الجماهيري بالِعمليات العسكرية التي تختلط، في حينه، بالمظاهرات الشعبية. مما يؤدى إلى مقتل المئات، ومن ثم الألوف، من جراء المعارك الحربية التي لم تعد تميِّز ما بين المقاومة المسلَّحة للجيش الحر، والجماهير الشعبية السلمية الثائرة، والجيش النظامي المجرم والخائن. فلقد اختلط الحابل بالنابل، بدعوى أن زجَّ الجيش الحر يأتي للدفاع عن المتظاهرين أمام جرائم الجيش النظامي !

مسألة العمل العسكري في الثورة ليست لُبَّ ما يطرأ من تحوُّل سياسي نحو عسكرة الثورة. لأن الشيوعيين واليسار الثوري القومي يَعرفون أن اسقاط النظام العسكري الاستخباراتي لن يتم بفضل العمل السياسي وحده ليس غير، حتى لو يستمر عقودا من الزمان. إنما يُعْتَبَر حمل السلاح لإسقاط النظام، ضرورة لا مفر منها، وهي مفروضة على الشعب بالرغم عنه. لأن ضحايا المعارك العسكرية، والتي تضحى قتالا بالجو، وغارات جوية تُلقى خلالها البراميل المتفجِّرة وأسلحة الدمار الشامل فوق رؤوس الشعب في أحيائه الشعبية، فإن الأهالي وحدهم هم الضحايا، وهم الذين يَضْحُون لاجئين مشرَّدين أو شهداء. العنف الثوري كالقتال المسلِّح يُفرض دوما وأبدا من النظام الإرهابي الحاكم، ومن قِبَل المُسْتَغِلِّين، على التكوين الأضعف في المعركة. أي أن المقاومة العسكرية للنظام الإرهابي، شأنها شأن العنف الثوري، تُشكل رد فعل الضعيف أمام القوى، المُسْتَغَل أمام مُستغِلَّه، واليساري الثوري مقابل اليميني الرجعي الفاشي. لذا، فإن المسالة، ليست كامنة في العمل العسكري بحد ذاته، إن صح التعبير، وإنما بتوقيته في المعركة السياسية العسكرية لإسقاط النظام. توقيتُه وطبيعتُه هي التي تُشكِّل المحور الرئيس للنقاش حول ما إذا كانت الثورة الشعبية ثورةً مسلَّحةً أم لا. الأمر الذي يَعني، بتعبير آخر، أن العلَّة وراء العطب الذي يرافق كل التنظيمات العسكرية في الساحة السورية، لا علاقة لها بالعمل العسكري بحدِّ ذاته، والذي يجد كامل مبرِّراته بمقابل إرهاب النظام الحاكم الإرهابي، الذي يفتك بالطبقات الشعبية في جميع الأحوال، بل حتى وإن كان نضالها ضده يكتفي بالهتافات، وحدها لا غير، المعادية للاستبداد. مصدر العلَّة وراء هذا العطب التكتيكي في ثورة الخامس عشر من آذار يكمن، إن وُجِدَ، يَكمن في سياسات وبرامج هذه التنظيمات شبه العسكرية، إسلامية وغيرها، سواء بسواء. إن الطبقات الشعبية لا تنفر من المعركة العسكرية لإسقاط النظام لحبِّها أو كراهيتها للعنف، حتى لو كان يأتي لمقاومة إرهاب السلطة، وإنما تأتي السمعة السيئة التي تَلْحق بالتنظيمات العسكرية من مصدر واحد، أو من جراء سبب واحد، ألا وهو، من جهة أولى، افتقاد كل هذه التنظيمات العسكرية لاستراتيجية ثورية وبرنامج سياسي ثوري، ولأن هذه التنظيمات شبه العسكرية، تأتي، من جهة ثانية، قبل أن ينضج العمل السياسي الثوري. الأمر الذي يُشَكِّل عائقا، يصعب الالتفاف حوله، أمام التطور السياسي للأزمة الثورية. باختصار شديد، فإن التنظيمات العسكرية، باستثناء العشرات من اليساريين الثوريين، شيوعيين وقوميين الذين حملوا السلاح لمحاربة السلطة الإرهابية، إن هذه التنظيمات اعتباراً من "الجيش الحر"، وحتى غاية "داعش" و"النصرة"، وغير هاتين من تنظيمات شبه عسكرية، دينية وغير دينية، سواء أكانت إسلامية أم لا، فإنها تنتمي سياسيا وعسكريا للثورة المضادة.

12)- ثورة ضد العولمة النيوليبرالية: بواكير سورِيَّة للمقاومة، وبداءات للطغيان الإمبريالي:
الرأسمالية العالمية وقد بلغت طورا متقدِّما في عدوانها العسكري الصريح أحيانا، والمختبئ تارة أخرى خلف الحروب الأهلية، هبَّت واقفة، مدجَّجَةً بشتى أنواع أسلحتها، الإعلامية منها قبل العسكرية والسياسية، وهي مصمِّمَة على إجهاض ثورة الخامس عشر من آذار للعام 2011 في سورية، بمقدار ما تحمله هذه الثورة من احتياطي هائل في حربها ضد العولمة النيوليبرالية. هبَّت بكل قواها، وفي مقدمتها الإعلامية، ومن ثم العسكرية ما قبل الدبلوماسية، للحيلولة دون أن يُمسك الشعب في سورية وممثليه الثوريين بزمام الدولة. انظر إلى أوباما، وإلى جانبه هولاند ووزير خارجيته فابيوس، كيف هم يَسخرون من المعارضة السورية المُزَيَّقَة بالوعود المعسولة بحماية الشعب السوري، وهم أنفسهم مصدر العولمة النيوليبرالية في حربها ضد الشعب السوري !! الشعب في سورية يخيفهم بوطنييه وقوميِّه وطبقاته الشعبية، وحدويين عرب، وشعب كردي عنيد لا يُقهر لا أمام الجيش السوري الخائن، ولا أمام تركيا الأطلسية، وصراع طبقي بنمطيه الاثنين، العالمي والمجتمعي السوري. هذا شعب المقاومة من أيام السلطان عبد الحميد، والعامِيَّات، مرورا بعدنان مندريس والملك فيصل الثاني، وحتى غاية الخامس عشر من آذار، وما يلي ما بعد هذا التاريخ من أزمنة غير متناهية على مسارات من معاداة الصهيوينة، ومقاومة المجتمع الشعبي للعولمة النيوليبرالية.

13)- ثورة مستمرة، ثورة مضادة:
الحالة السورية في مطلع السنة الخامسة للثورة، ساحة دامية للصراع ما بين الثورة المستمرة والثورة المضادة، لن تتوقف بعد اليوم، مالم تنتصر الأولى منها على الثانية، أو تهزم الأولى هزيمة لن يبقى لسورية ما بعد ذلك، اسمها وشعبها، لن يبقى لها وجودٌ ضمن الحدود السياسية لمعاهدة المستر سايكس والمسيو بيكو. الثورة ضد العولمة النيوليبرالية التي تُلَوِّث الأجواء السورية في النصف الثاني من العقد الأول للقرن الواحد والعشرين (2005- 2011)، تبدأ في اليوم الأول للثورة. بخلاف الثورة المضادة، فإن الثورة المستمرة التي تستمد ديمومتها من التكوين الاقتصادي الاجتماعي لسورية، وبناها العليا والتحتية، ما تزال تبحث عن مسارها، وتنقِّب عن حاملها التنظيمي، استراتيجيتها وتكتيكها. فإذا كانت التكوينات اليسارية التي تنشأ مع الأيام الأولى للثورة من رحم الظروف الموضوعية للمجتمع السوري، لم تتصارع في ما بينها، إما لأن كلا منها يحتفظ بحدوده، أو إما لأنها تتوق إلى العمل اليساري الموحد في جبهة. لم تتصارع في ما بينها، إلا أنها لم تجد حتى غاية الآن ما يجمع بينها في تنظيم واحد، اتحادي، كونفدرالي. ذلك بخلاف الثورة المضادة التي تتسع كل يوم لمزيد من الصراعات لا يُحصى لها عدد في قوائم من المنظمَّات المسلمة شبه العسكرية، ولا تُعرف حتى الآن نهاية لها، طالما تشبه الدجاجة التي تبيض كل يوم المزيد من الفراخ.

"الشعب السوري لا يقبل الذل"، ويثور ضده. الشعب السوري لم يتراجع خطوة واحدة إلى الوراء عن نضاله بشتى الأشكال لإسقاط نظام الأسد الثاني. هذا الشعب لم يَرْفَع صوتا ينادي ب/"وقف حمَّام الدم"، و"وقف النزيف..". المثقفون في المهجر من مصر، أوروبا والولايات المتحدة، أشباه المثقفين، هم وحدهم الذين يلوكون كالبقر والجمال الخطاب الذي ينادي ظلما وعدوانا باسم الشعب السوري ب/"بوقف النزيف..". غير أن الشعب السوري، بخلاف المثقفين، ماضٍ في طريقه على مسار الثورة المستمرة، لن يَسقط على مسارهاـ ولن يَحيد عنه، ولن يَعرِف ما يعرفه الأشقاء في تونس ومصر واليمن والبحرين والعراق، طالما يَحْمِلُهُ مسار الثورة المستمرة، نحو مستقبل ثوري واعٍ ومنظَّم. ما تَعْرضه القنوات التلفزيونية من تحقيقات مصوَّرة قادمة من مخيمات المهاجرين السوريين إلى تركيا ولبنان والأردن تقشعر له الأبدان، عندما يتناهى للمشاهد صوت امرأة في الخمسين من عمرها فَقَدَت دارها وزوجها وأحد أبنائها قبل أن "تهرب" من سورية. وبالرغم من ذلك، فإنها لم تتسول من السلطات السورية الرحمة والغفران، وهي وإن بكت بصورة قاسية سرعان ما تَهزِم دموعها، فلأنها كانت تشتم الأسد الثاني، وتتمنى له القصاص العادل الذي يستحقه، وهي، في جميع الأحوال، لم تطالب مرة واحدة، على نقيض ما يفعله المثقفون من فنادقهم بدرجة بالاس، مئات المرات كل يوم مطالبين ب/"وقف نزيف الدم رأفة بالشعب السوري الشهيد". كيف للشعب السوري أن يطالب بالرحمة في ما نسبةً مجهولة العدد من العاملين ما تزال منذ الحكم العثماني تتقاضى أجرا أسبوعيا أو بالمياومة من صاحب الدكان أو رب العمل و"المعلم" الحداد والنجار والفران والكهربائي، والبقال، واللحام، والحمَّال في أسواق الهال والبزورية وغيرها من أسواق مهنية، والسواق، والصنَّاع لدى دكان تمديد أنابيب المياه والمراحيض، والخدَّام الريفيين من بنات الفلاحين المعدمين لدى البورجوازيين الحضر، وكل من يتجاهلهم قانون العمل، أو يغض النظر عن الشروط القانونية لعملهم كأجراء للمهنيين والحرفيين. ناهيكم، أيضا، أن متوسط ساعات العمل لدى أصحاب الدخل المحدود تبلغ رقما قياسيا في سورية، إذ يُسجِّل نحو 14 ساعة أو أكثر يوميا وخلال أيام الأسبوع السبعة. مفهوم "الأجير"، أي الإنسان المُستأجَر، كما تُستأجر الدراجة الهوائية والسيارة، ما يزال واسع الاستخدام في مجتمع ينتمي - على حد زعم السلطة - إلى نمط إنتاج فريد من نمطه بين بلدان العالم، وهو ما يسمُّونه "نمط الإنتاج الاجتماعي" !! ثمة، بالإضافة إلى كل ذلك ظاهرة في عالم العمل واسعة الانتشار في المجتمع السوري هي "البروليتارية الرثة"، ذات السمعة السيئة حسب التعريف العلمي لها، والذي يصنِّفهم ضمن صنف من الأجراء، والسخرة، وممن يرتزقون مما ترمي به البورجوازية الحضرية من طعام ومكافآت مالية، وفضلات، وذلك بالإضافة إلى اللصوص، والحرامية، والجانحين والمجرمين.

التكوين الاقتصادي الاجتماعي في سورية، إذا ما أُضيف إليه سبعة ملايين مشرد بلا مأوى من جراء قصف السكان بالبراميل المتفجِّرة والصواريخ، والذين يُشَكِّلون بنسبة عالية من الفقر في سورية ما قبل الثورة، والتي تتجاوز 50 بالمائة من السكان الذين يعيشون تحت مستوى الفقر، هذا، بالإضافة إلى النسبة العالية من العاطلين عن العمل، ومنهم حملة الشهادات الجامعية، فضلا عن ألوف السجناء السياسيين ممن يَحْظِر عليهم القانون، العمل في القطاع العام.. هذا التكوين الاقتصادي الاجتماعي مهيأ لقلب بناه العليا والتحتية رأسا على عقب إذا ما توفَّر الإطار التنظيمي السياسي للثورة الشعبية على مسار الاشتراكية.

بالمحصلة، فإن أضرار العولمة النيوليبرالية، بالإضافة إلى أضرارها العسكرية، تَحكم على مجتمع الشعب في سورية أن يعاني من الظلم والعذاب والقهر والقتل والتشوُّه والعجز الجسماني نتيجة الحروب ما لم يعان مثله بدرجات متفاوتة من حيث خطورتها سوى حالات نادرة من الشعوب، منهم مذبحة الأرمن أثناء الحرب العالمية الأولى، ومحرقة اليهود على أيدي الفاشية والنازية أثناء الحرب العالمة الثانية، ونكبة فلسطين، ومعركة ستالينغراد، وتهجير الأكراد مرارا وتكرارا في العراق وإيران وتركيا وسورية.

14)- أُسطورة الربيع العربي:
إضافةُ فصل الربيع إلى سورية مسرحية ُساخرة من تأليف العولمة النيوليبرالية التي تَنشُر في العالم أجمع هذا المضاف إليه إلى كل الثورات التي عَرفت حالة من النجاح في بداية تاريخها، ثم تحوَّلَت إلى خريف مرذول. ما ذلك إلا إمعانا من العولمة النيوليبرالية في تعميم حالة من الإحباط لدى شعوب لم تصل ثوراتها إلى أهدافها الليبرالية المنسجمة مع معايير العولمة، كالديمقراطية والحرية والاستهلاك. فصل الربيع عبارة عن سخرية أخرى تضاف إلى سابقتها، ولا تقل عنها لذعا ساخنا بالشعب السوري. وَصْفُ هذه الحالة بأنها ربيع، تراه مستمدٌ من الطبيعة أم من التاريخ؟. سواء أكانت هذه الصفة المضافة مستمدة من الطبيعة أم من التاريخ، فإنها في الحالتين "سورية الفصول الأربعة". هذا التمثل للتاريخ من حيث هو نفسه الطبيعة، وسورية في مثل هذه الحالة تجتاز الفصول الأربعة، وتمر على الربيع مرور الكرام. لاسيما وأن الطبيعة في المادية التاريخية هي أم التاريخ. في هاتين الحالتين، الطبيعة والتاريخ، فإن سورية تَعْرِف الفصول الأربعة. فصل الثورة الشعبية، التلقائية والعفوية للشعب السوري. يليه فصل الثورة المضادة. ثم يأتي فصل ثالث معدوم التسمية لأنه أشبه ما يكون بالمطرقة التي تسحق كل محاولة ترمي إلى مصادرة ثورة الخامس عشر من آذار ولصق تسمية ما بها. من هذه المصادرات أولها وأقدمها، وهي التي تُسمَّى بلغة المثقفين ب/"الربيع العربي". الفصل الرابع والخامس أشبه ما يكون بالفصول السادسة والسابعة والثامنة،. إنها أشبه ما تكون بالساعة الخامسة والعشرين. إنه فصل الثورة المستمرة والذي يُنسب إليه كل ما يليه من فصول، وكلها فصول للثورة المستمرة.

ثمة، هنا، علاقة وثيقة ما بين الطبيعة والتاريخ. فالطبيعة أمُ التاريخ، وهذا الأخير، أي المجتمع الإنساني هو من صنع الطبيعة، ومنها بًتَكوَّن. ثمة صلة، حسب المادية التاريخية، هي نفسها صلة التطور والتحوُّل التي تربط ما بين تطور الطبيعة الكونية، وظهور المجتمع الإنساني من تلافيفها. الصلة، بهذا المعنى وثيقة ما بين تطور الطبيعة وانتقالها من عصر إلى آخر، وتطور المجتمع الإنساني الذ ينتقل في الطبيعة، بها ومنها، من العصر الحجري، إلى عصر النار، فالصيد، والزراعة، وما يواكب هذا الانتقال وثيق الصلة بتطور الطبيعة الكونية من العلاقات الأمريسية إلى العلاقات الأبريسية. في ما يتنقل المجتمع في نفس الوقت، وبصورة موازية لصلته بالطبيعة وتَسخير الانسان الاجتماعي لها، من مجتمع الجماعة المشاعية البدائية، إلى مجتمع الرق والعبودية والتي ما تزال خلالها المعرفة تيمية (فيتيشيسم)، ومنها إلى الإقطاع، فالصناعة وتكوُّن البورجوازية معها.

ثانيا: البديل للعولمة النيوليبرالية
معلوم ومفقود

1)- يمين ويسار:
تَمنحُ الوتيرة الزمانية لسلطة الشعب ضمن الإيقاع الزماني للأزمة الثورية أمام اليسار الشيوعي والقومي فرصة تاريخية تُلزِمُه بالاتحاد في جبهة ثورية، كي ما يتكوَّن التنظيم اليساري، بحيث تنتهي الأزمة الثورية إلى ثورة شعبية، بأفق اشتراكي، تحرري، منحاز لمجتمع الطبقات الشعبية، وللديمقراطية بأوسع مضامينها المجتمعية والسياسية. إنها الفرصة الأخيرة، إن صح التعبير، المتاحة أمام اليسار الثوري في سورية، كي ما يُشَيِّد جبهة موحَّدَة تَهزم المعارضة البورجوازية، وتَحُوْلُ دون أن تقع الطبقات الشعبية وسلطتها ضمن إطار الأزمة الثورية فريسة هيِّنة لمؤامرات الائتلاف وهيئة التنسيق، لاسيما وأن حبك المؤامرات وتدبير الانقلابات العسكرية التي تقفز ما فوق الشعب، وتتجاهل المصالح الحياتية والمعيشية للطبقات الشعبية، وهي بالجوهر غير معنية بالطبقات الشعبية وثورتها، لاسيما وأن حبك المؤتمرات يحتل حيزا واسعا في السياسة البورجوازية والإصلاحية. بتعبير آخر، فإن مجتمع الطبقات الشعبية السوري يسير اليوم فوق حبل التوازن المحفوف من جهتيه بهوة عميقة وخطيرة من كل طرف. علما أن البنية المسلكية التاريخية للأحزاب في سورية وقادتها، غالبا ما كان يقود بالاعتماد على سياسة التآمر والانقلابات العسكرية والغدر بالحليف، إلى السقوط في إحدى هاتين الهوَّتين، لتنتهي، على هذا النحو، المرحلة من التغيير والتحولات السياسية المجتمعية إلى النكبة، أو النكسة، أو الهزيمة، أو التسلط الاستبدادي القمعي لهيمنة البورجوازية.

لذا، فإن الكفاح اليساري الثوري من أجل بلوغ الهدف الضروري والمُلزِم، أي تغيير البنيتين العليا والتحتية، هو وحده الذي يُنْقِذ السلطة الشعبية من سحقها تحت ثقل المؤامرات الدولية والاٌقليمية للمعارضة المُزَيَّفَة. فإما إنقاذ السلطة الشعبية ضمن الأزمة الثورية إذا ما تكوَّن اليسار الموحَّد، من السقوط في احدى الهاويتين. أو إما أن تُسلَب وتُنهَب الثورة الكامنة والضمنية في هذه المرحلة، تُباع وتُشترى، هي والمصالح الطبقية والقومية والتحررية للشعب، حول الطاولات الدبلوماسية في جنيف أو موسكو أو القاهرة وإسطنبول. حينئذٍ تنتهي الأزمة الثورية إلى نظام ما هو سوى استمرار جديد لنظام قديم؛ حكم المؤسسة العسكرية السورية. إذ إن الأزمة الثورية تنشب على إيقاع زماني يردَّد "الشعب السوري واحد واحد"، و"الشعب السوري لا يطيق الذل". ثم تضطرب بوتيرة زمانية غير مستقرة ما بين أزمنة الثورة المضادة، التي تنقسم بدورها إلى مائة زمان، عسكري، ديني، سياسي، إقليمي، دولي، وسوري. هذا هو بعينه تكاثر المتصارعين في ما بينهم لسحق السلطة الشعبية ضمن الأزمة الثورية، ولانتزاع السلطة من الرأسمالية البيروقراطية، ليس من أجل القضاء عليها، وإنما لزجِّها في سوق العولمة النيوليبرالية.

إن الشيوعيين واليسار القومي يقفون اليوم أمام مهمة رئيسة واحدة، هي الانتقال بالأزمة الثورية إلى ثورة شعبية، سياسية من حيث المصدر والمنطلق، عسكرية ، في نهاية الأمر، عندما تتوفر كل الأسباب المؤدِية إلى ردم البنيتين العليا والتحتية للسلطة المسيطرة. مهمة رئيسة أمام اليسار قوامها الانتقال بالأزمة الثورية إلى ثورة شعبية سياسية تهزم الثورة المضادة بكل مكوِّناتها، وتُسقط النظام الحاكم، بعدما تُنجز الانتقال بعفوية الطبقات الشعبية وتلقائيتها في صراعها مع السلطة، إلى العمل الواعي المنظَّم. لذا، فإن لغة المفاوضات على لسان "هيئة التنسيق.." التي ما تزال تَعتَبِر أن جيش المؤسَّسة العسكرية وأجهزتها الاستخباراتية القمعية، هو"جيشٌ وطنيٌ"، "جيش الدولة" وتتفاخر به، وتدعو إلى التفاوض معه، شأنها في ذلك شأن "الائتلاف.." الذي يجلس جنبا إلى جنب مع السلطة، ما وراء جدران كاتمة للأسرار.

إن كل ما تقدَّم هنا يبيِّن إن الأزمة الثورية، وما يرافقها من صراع ما بين سلطة الطبقات الشعبية، والثورة المضادة المئوية التعداد، إنما يَشْطُر المجتمع في سورية إلى شطرين اثنين، اليمين واليسار.

2)- السياسة السورية مربوطة بزيل العولمة النيوليبرالية أو الإمبريالية الجديدة:
السياسة الدولية للحكَّام، من بورجوازيين بيروقراطيين، وأرباب عمل في النقابات الصناعية والزراعية والتجارية والمهنية، تُهادِن، منذ 16 تشرين الثاني 1970 (ما يسمَّى ب/"الحركة التصحيحية" للجنرال أسد) تُهادن الإمبريالية بجميع رؤوسها، الأمريكية والأوروبية وغيرها. فإذا كانت هذه البورجوازية التي تُرَسِّخ الأجهزة القمعية واللصوصية محلَّ الدولة السورية الغابرة، إذا كانت معادية لإسرائيل والصهيونية، على حد زعمها، فإن سياستها حيال الإمبريالية قوامها مشاكسة هذه الأخيرة، والتمرد عليها بحدود المقبول من الناحية الإعلامية البحتة، بين حين وآخر، لحيازة مكانة أفضل ضمن الشراكة معها. هذه هي السياسة الدولية للبورجوازية البيروقراطية وحلفائها. الاعتراف بالقرارين الدوليين 242 و 338 اللذين ينصان على التفاوض مع إسرائيل لاسترجاع أراضٍ محتلَّة، على سبيل المثال، وليس الحصر، الخضوع للوساطة الأمريكية غداة الهزيمة العسكرية في "حرب تشرين"، أو ما يسمَّى (ب/"الرحلات المكُّو كيَّة لكسينجر")، رفُض الجنرال أسد إمداد منظمة التحرير بما كان اليسار البعثي (حركة 23 شباط/فبراير 1970) أو القيادة القطرية لحزب البعث في سورية تعتزم تنفيذه للحؤول دون أن تَنجَحَ الأسرة الهاشمية في طرد المقاتلين الفلسطينيين من الأردن، الجنرال، الأسد الأول، لم يوفِّر وسيلة لإخضاع المنظمات الفلسطينية الفدائية ووضعها تحت جناحه، معاداته بلا تهاون لشعارات حرب التحرير الشعبية و"المجالسية في كل مكان"، والتي كان اليسار الفلسطيني وشرائح من اليسار العربي تناضل من أجلها، غزو لبنان بالتفاهم مع الإمبريالية العالمية والرجعية العربية، وعلى رأسها آل سعود، لتنحية الفلسطينيين بقوة المدفعية السورية من لبنان، وإرغام المنظمات المقاتلة منها على الهجرة إلى تونس، المشاركة العسكرية في التحالف الدولي، في ظل القرار الدولي بالحرب ضد العراق لإرغامه على الانسحاب من الكويت، مساندته لإيران ضد العراق في حرب الخليج الأولى (1980-1990)، ثم وقوفه مكتوف الأيدي أمام الغزو الإمبريالي للعراق، تبنيه لسياسة "محاربة الإرهاب" الدولية إذعانا منه للإمبريالية ما بعد تدمير البرجين الاثنين بنيويورك، انضمام سورية لاتحاد دول حوض المتوسط الذي يشجِّع البلدان المنتسبة إليه على التعاون الاقتصادي على أسس من الليبرالية الجديدة أو "العولمة النيوليبرالية"، هذا مع الإشارة، بالتشديد، إلى أن برنامج هذه المنظمة ينص على تحويل حوض المتوسط في العام 2020 إلى سوق حرة ليبرالية، وأخيراً وليس آخرا، اعتزام السياسة البورجوازية في سورية عقدَ اتفاقية شراكة اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، إلخ.

3)- صراعٌ طبقيٌ مُكَوَّن من وبتقسيم العمل في العالم
لن يسقط التكوين الاقتصادي الاجتماعي للنظام من تلقاء نفسه. التفاحة تهوي من غصنها إلى الأرض ما أن تنضج. أما النظام العسكري البوليسي، فإنه مرشَّح للاستمرار عقداً من الزمان، أقل أو أكثر من ذلك. هذا من جراء الافتقاد للبديل عن وحشية العولمة النيوليبرالية أو الإمبريالية الجديدة التي تشعل الحروب "المحلية" في عدد كبير من البلدان. في نيجيريا ،النيجر ومالي ، في الصومال والسودان، في ليبيا واليمن، وعلى امتداد منطقة جنوب الصحراء الأفريقية، حيث يوجد النفط ومعدن اليورانيوم في القارة الأفريقية، ثم في العراق والشام، في أفغانستان وباكستان، في القوقاز والبلقان، ناهيكم وأعمال العنف المنتشرة في كثرة من البلدان، منها الهند ومصر وتونس، على سبيل المثال لا غير.
هذه الحروب المنتشرة هنا وهناك لم يُغفَل سرها منذ العقد الثامن من القرن الماضي على الحركات المجتمعية المناوئة للعولمة النيوليبرالية. كان من الجلي الواضح، من وجهة نظر هذه الحركات التي تنادي ب/"عالم من نمط آخر جديد"، أن الإمبريالية الجديدة، وإن كانت الحروب تفتح أمامها مخرجا من أزمتها الاقتصادية المزمنة، فإنها لن تخوض حروبا في البلدان المتخلِّفة للخروج من أزمتها الاقتصادية المستعصية المُسْتَحكمَة. لكن الرأسمالية العالمية تستعيض عن حروبها الكلاسيكية باهظة التكاليف على خزائن مالية عاجزة، بالنزاعات المحلية التي تتحول بتشجيع من العولمة النيوليبرالية إلى حروب محلية لا نهاية لها، ونزاعات أثنية إيديولوجية تُكرِّس لتوزيع العمل بين الدول وبلدانها على الصعيد العالمي، كي تموِّه أيضا الظروف الموضوعية للصراع الطبقي العالمي، وثيق الصلة بتبعية كاملة لتقسيم العمل في العالم، وتوزيعه بين الدول الرأسمالية الكبرى، بما يَحُول دون ولادة قوى إنتاجية في البلدان المتخلِّفة تُخلُّ بتوزيع العمل في العالم، طالما يُؤدِّي التقليص من نمو قوى الإنتاج في البلدان المتأخرة إلى ارتفاع من حصة البلدان الإمبريالية من حصتها في نظام توزيع العمل على الصعيد العالمي. لكن انقلاب الحروب الإيديولوجية الطائفية إلى ثورات شعبية، إذا ما تطورت الحروب الإيديولوجية إلى ثورة دائمة تَهزم وتدحض الإيديولوجية الطائفية، مما يؤدي بالتالي إلى إطالة عمر الأزمة الاقتصادية لنمط الانتاج الرأسمالي في دول الإمبريالية وبلدانها . إن إيديولوجية النزاعات الأثنية تُخفي وتشوِّه نضال الشعوب وكفاحها المرير والبطولي من أجل انتزاع حصة أكبر في توزيع العمل، حصَّةٌ تتساوى قيمتها المالية مع فائض القيمة، وتتعادل فيها أجرة العامل مع ثمن مبيع البضاعة من إنتاجه في السوق.

4)- عنفٌ إسلاميٌ مضاد للإرهاب الإمبريالي وإرهاب الدول (**):
الغزو العسكري الإمبريالي لأفغانستان أولا، ثم العراق ثانيا، يُسجِّل لنمط من حرب ما أن تنتهي من العمليات العسكرية للاحتلال، فإنها ما تلبث أن تتحول من حالة سياسية إلى حروب "طائفية". الإيديولوجيات الأثنية هي الطاغية المهيمنة حيث توجد حروب ونزاعات محلية في عالمنا الراهن. عالم العولمة النيوليبرالية أو الإمبريالية الجديدة. فالإرهاب الإمبريالي المتخفِّي وراء هذه الإيديولوجيات يولِّد بدوره عنفا مضادا في إطار إيديولوجي هو الآخر، أو في إطار العنف الثوري ونقيضه الثورة المضادة.. بيد أن العنف الإسلامي المضاد لإرهاب الدول والإمبريالية يبقى عنفا مضادا للثورة الشعبية طالما سرعان ما يرتدي رغما عنه قناع الإيديولوجية الأثنية. فالإسلام شبه العسكري وإن كان نقيضا لإرهاب الدول، ولإرهاب الإمبريالية، إلا أن أيديولوجيته الغارقة في جبِّ الماضي السحيق تَحُول دون انتقاله من حالة العنف المسلم إلى حالة من العنف الثوري، تَستمد مبرِّراتها، ككل برنامج سياسي ثوري، من البرنامج الاستراتيجي الثوري. مصدر التعويق دون إحراز هذا الانتقال من الأيديولوجية الدينية إلى العنف الثوري تتكفل برعايته إمبراطورية آل سعود وإمبراطورية آل خليفة ، وإمبراطورية بوتين.
إن ما يكتشفه المُعْدَمون المظلومون من الشعب السوري، ما كان ليخطر على بال الجماهير الشعبية التي اندفعت في ثورتها العفوية غير مُتهيِّبة أمام شتى أنواع أسلحة الجيش السلطوي، وذلك في ما كانت الضحايا من أبناء الطبقات الشعبية يتساقطون، منذ الأيام الأولى للثورة بالمئات والألوف. فالثورة العفوية للطبقات الشعبية تجاهلت تحت تأثير اندفاعاتها التلقائية في مواجهتها لنظام الرأسمالية البيروقراطية، ماضي هذا النظام الذي نكَّل وما يزال يُنَكِّلٌ بالشعبين الفلسطيني واللبناني وأجيالٍ من الأكراد. بل وإنها داست، منذ الخطوة الأولى للثورة، على تكتيك الإصلاح التدريجي السلمي. غير أن العفوية والتلقائية الثورية للطبقات الشعبية في سورية، إذ هي تفتقد إلى العمل الواعي المنظَّم، والاستراتيجية الثورية، والبرنامج السياسي الثوري، فإن هذه الثغرة الفارغة تترك أمام الثورة المضادة بجميع تشكيلاتها ، ومنها عنف الإسلام شبه العسكري، والمعارضة المزيفة من حيث هي حليف لكل من الإمبريالية والرجعية العربية، وإرهاب السلطة المهيمنة الحاكمة، تَترُكُ فسحةً واسعة أمام أعداء الثورة الشعبية. بل وإن هذه الثغرة ضمن الثورة تُنتِج نقيضها، أو ما هو نفيٌ لها. أي إنها تنفي نفسها بنفسها عندما يظهر ضمنها عدوا لها يستبيح ويُبيد ويُفَظِّع بالطبقات الشعبية باسم الإسلام شبه العسكري. إن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، على غرار مثيلاتها من منظمات مسلمة شبه عسكرية، إذا كانت هي تمارس العنف الإسلامي المضاد لإرهاب الإمبريالية، فإن أيديولوجيتها الأثنية تُحَوِّل العنف الإسلامي إلى ثورة مضادة يقف جنبا إلى جنب مع الجيش الحر، وجيش الفتح، والجيش النظامي، وغير هذه وتلك من مُكَوِّنات الثورة المضادة. فإن لم تكن إلى جانب الإمبريالية بصورة صريحة، فإلى جانت المعارضة المزيَّفة، وهي في الحالتين تحارب الثورة المستمرة. إن غياب اليسار الثوري، الشيوعي والقومي، عن ساحة الصراع، يُنتِجُ، في نهاية المطاف، نقيضه الذي يأتي من رحمه ليقضي عليه وينفيه.
5)- العنف الثوري، العنف الإسلامي، العنف الفردي، إرهاب الدولة والإرهاب الإمبريالي:
ثمة "نظريات" للعنف، تَزعم كل منها أن نظريتها تمسك بتعريف العنف من تلافيفه. بيد أن هذه النظريات تُجْمِع، بالمحصِّلة، على الخلط بين العنف، العنف الثوري، والإرهاب، كل وفق مذهبها الفلسفي، الدينين السياسي، أو القانوني والنفساني. بيد أن الشيوعي الفرنسي جورج لابيكا (انظر المرجع السابق) ، يرفض أي تعريف للعنف ما لم يُرفق بصفة، بتصنيف أو بمضاف إليه. ثمة عنف، بهذا المعنى، في الحياة الزوجية، على سبيل المثال، وهو يختلف جوهريا عن العنف النفساني الفصامي لتلاميذ المدارس في الولايات المتحدة، إلخ. في السياق نفسه، فإن الوحش، أيا كان هذا الوحش، ذئبا أم نمرا، شأنه شأن الرعد والزوبعة، ليس عنيفا. لأن العنف، من حيث تعريفه، يُحيل بنا إلى المجتمع الإنساني، ولا علاقة له بالطبيعة، من حيث تصنيف الأنواع، أومن حيث نشرة الأحوال الجوية. غير أن نظريات العنف البورجوازي تتفق في ما بينها حول تعريف واحد، ألا وهو أن العنف أيا كان هذا العنف، ضد القانون، ضد المجتمع، ضد الكنيسة أو الجامع او ضد كنيس يهودي، عنف الزوج ضد زوجته، والأب بحق أولاده، كل هذه الحالات من العنف تَجتمع في ما بينها ضمن إطار واحد، هو العنف. هذه إحدى مكوِّنات العنف التي تخضع للنقد لدى جورج لابيكا، في عمل له بعنوان "نظرية العنف" (مرجع سابق).

يدافع جورج لابيكا عن "العنف الثوري" الذي يختلف عن العنف السياسي أو الاقتصادي وغيرهما من تصنيفات العنف. إنه يميِّز أيضا بين الإرهاب وبين العنف. فالقانون، على سبيل المثال، من الناحية الإيديولوجية، أي من حيث علاقته بالملكية الفردية، وقمع الدولة المُستمَد من الوظيفة القمعية للقانون، يُشكِّل صلة وثيقة بإرهاب الدولة. فانتشار أجهزة التصوير في كل شارع وعلى أبواب دوائر الدولة، أمنية وغير أمنية، والذي يُنَفَّذ بحجةٍ قوامها "مكافحة الإرهاب"، إذا ما فُنِّدَت مراجعه الإيديولوجية، ومنها القانون في المقام الأول من حيث هو الجهاز القمعي للدولة، فإن هذا القانون القمعي يُعْتَبر قانونا إرهابيا. هذا، ولما كان التعميم منطقا للإيديولوجية، فإن نشر ثقافة تُعْتَبِرُ أن كل مسلم، أو كل عربي إرهابي بالتعريف، فإن الدولة أو السلطة القضائية أو الأمنية، هي التي تمارس، في مثل هذه الحالة، الإرهاب. فمنظَّمة القاعدة منظَّمة إرهابية، وطالبان وحماس وحزب الله، وداعش، والنصرة، والألوية الحمراء (الإيطالية)، والعمل المباشر (الفرنسية)، وباند أبادير (الألمانية)، والمقاومة الفلسطينية، كل من هذه المنظَّمات إرهابية بدورها. كلها، خلط ملط مزج، إرهابية. أما الحرب الأمريكية لاحتلال كل من أفغانستان والعراق، فإنها دفاع عن "القانون ضد الإرهاب الوحشي". وبشار أسد، بعدما دمَّر ما بحوزته من أسلحة الدمار الشامل التي تخيف إسرائيل، يَضحى بطلا عالميا من أبطال مكافحة "الإرهاب الإسلامي". باختصار، فإن كل من يرفع صوته، وفق ما يراه جورج لابيكا، للتنديد أو لمحاربة الإمبريالية أو العولمة النيوليبرالية، باعتبار أن هذه الأخيرة هي الوجه الآخر لقطعة نقدية واحدة هي الإمبريالية الجديدة، إنما يُعْتَبَر بمنطق الإيديولوجية الإمبريالية ومثيلتها الرأسمالية، يُعْتَبَر إرهابيا .

مصطلح الإرهاب الذي يَلقى رواجا ما بعده رواج في الإعلام الإمبريالي والثقافة الليبرالية والرأسمالية، يَعْرِف قفزات متتابعة ما بعد الاعتداء على البرجين التوأمين بنيويورك (11 أيلول 2001). الحقيقة الثورية المنحازة معرفيا لحركات التحرر الوطني، والمنظَّمات المعادية للإمبريالية والرأسمالية، تُعْتَبَر، على النقيض من الأولى، عنفا ثوريا، ما أن تندرج في إطار استراتيجية تحررية أو الصراع الطبقي، من حيث هي عمليات تهدف إلى القضاء على النظام الرأسمالي او النظام الاستعماري. عمليات مبرمجة في سياق استراتيجية ثورية تمارس العنف الثوري طالما تقود هذه العمليات إلى التحرر من الاحتلال أو الاستغلال أو القمع. إنها تستمد مبرِّراتها، ليس من القانون الذي يُشكِّل حجر الأساس في كل إيديولوجية قمعية استغلالية معادية للتحر أو إمبريالية، وإنما هي مبرَّرة طالما هي مستمدة من استراتيجية الثورة الاشتراكية، ويأتي تنفيذها بموجب توقيت تكتيكي مبرمج في خدمة الثورة. فإذا كانت عمليات العنف ضد الاستغلال الرأسمالي، او معادية للاحتلال الإمبريالي، إلا أنها فردية، أو انتحارية إذا صح التعبير، وليست تنفيذا لعملية عنف في سياق من توقيت مبرمج ضمن خطة للتحرر من الإمبريالية أو الاستغلال الرأسمالي، فإنها عملية عنف فردية يائسة ليس غير؛ وغالبا ما تُعَبِّر عن غياب أية استراتيجية ثورية في مجتمع بعينه. "العنف الإسلامي"، والصحيح أن الحريٌّ به أن يُسمَّى "العنف المسلم"، ليس إرهابيا كما تزعم الإمبريالية وحلفاؤها، إنما هو عنف معادٍ للأجنبي المُحْتل تاهٍ عن تلمس العنف الثوري، مثله كمثل اليساري المتطرف الذي يُنَفِّذ عملية عنف برفقة العشرات من رفاقه معتقدا أنه يبدأ على هذا النحو الثورة الاشتراكية أو الطريق الاستراتيجي للثورة المعادية للإمبريالية، في ما هو يضل الطريق إلى الثورة لأن برامج "الأحزاب الثورية والشيوعية." خلوٌ من البرنامج الاستراتيجي الثوري، وتعيش تحت سقف الدستور البورجوازي.

لكن ما تمارسه داعش وغيرها من منظمات مسلمة شبه عسكرية من عمليات للعنف المسلم، وإن لم يكن إرهابيا، وحريٌّ به أن يسمى عنفا مسلما، فإن العنف وحده لا يكفي، أيضا، لحشر عنفها ضمن التعريف الأُحادي لكل أنواع وأنماط العنف في عنف واحد، حسب المنطق الإيديولوجي الذي لا يميِّز بين عنفٍ وآخر. غير أن ما تمارسه من عنف مسلم، فإن تصنيفها ضمن عمليات العنف، وإلحاق هذا العنف بمضاف إليه، لا يكفي هنا لتعريفها، لأن ما تمارسه من عنف يشكَّل إحدى ممارسات الثورة المضادة. هذا التعريف أبعد ما يكون عن التعريف البورجوازي الإيديولوجي، طالما يدرج عنفها في سياق سياسي تاريخي موضوعي هو الثورة المضادة. أي إنها تمارس باختصار عنفا مسلما، إن لم يكن إرهابيا فإنه عنف مضادٌ للثورة.

المنظمات المسلمة شبه العسكرية تنتمي إلى نمط من العنف لا يمت بأية صلة إلى العنف الثوري. هذا الأخير، خاصته الرئيسة أنه استراتيجي، يصدر عن قرار سياسي، ويمارس عملياته تنفيذا لأوامر سياسية تنتمي لتكتيك ثوري مُستَمَدٌ بصورة مُلْزِمَة من استراتيجية ثورية. فإذا كانت الدولة المسلمة والمنظمات شبه العسكرية مسلمة بالتعريف، فإن عنفها، وإن لم يكن إرهابيا، فإنه مضاد للثورة ما دام يقتل خبط عشواء بصورة مُعْدمة من أية استراتيجية ثورية . بتعبير آخر، فإن مثل هذا التمييز ببين العنف الإرهابي والعنف المسلم من شأنه أن بفصل الإرهاب عن الإسلامُ، ويُمَيِّز ما بين العنف الإرهابي والعنف المسلم. هذا الأخير تلتصق به صفة المسلم، وتنتفي عنه صفة الإرهاب، لأن عنفه غير مقاس بمعايير أخلاقية، قانونية، دولية، كما هو الحال في التعريف الإيديولوجي بمنطق الإمبريالية، وإنما يُعرَّف بحدٍّ سياسي مجتمعي يقيم الحدَّ ما بين الإرهاب الإمبريالي، والعنف المسلم، والعنف الثوري، والعنف المضاد للثورة.

الإرهاب مهنة أو صنعة تتقنها الإمبريالية والدول والسلطات الحاكمة. كلُ ما عدا ذلك ينتمي للعنف، العنف الثوري، والعنف الإيديولوجي (الديني)، والعنف الفردي المنتشر لدى عدد قليل من اليسار الجذري في العالم. فلتعلم الأجهزة البوليسية والعسكرية والاستخباراتية للإمبريالية، والدول والسلطات، وكلها مستَبِدَّة، أن حوادث القتل في المدارس والجامعات والشوارع في الولايات المتحدة الأمريكية هي وليدة إيديولوجية الإرهاب الإمبريالية، تنشرها وتعمِّمُها في العالم أجمع العولمةُ النيوليبرالية وثقافتها البوليصية. مسلسلات وأفلام العنف والعصابات المسلَّحة تتوالى الواحدة تلو الأخرى عبر الشاشات الصغيرة، وفي دور السينما. حتى أن الانتماء لعصابة المافيا سيتحول، حسب هذا المنوال، إلى مهنة "شريفة". إن حوادث القتل الجماعي بأيدي مراهقين وراشدين في أوروبا والولايات المتحدة تُنسب إلى الجنون. البعض منها يُرتَكب بأيدي مجنَّدين يعودون من القتال في أفغانستان والعراق. كلُّها تُنسب، بالرغم من ذلك، إلى الجنون. نعم، بمعنى أن الجنون والعولمة النيوليبرالية أمر واحدٌ، لا غير.

5)- "في الصيف ضيعت اللبن":
ما هو البديل؟، من هو البديل؟ بالمحصلة، فإن الحل السياسي آلة متلوِّنة ما بين الدبلوماسي والعسكري. في سورية، هذه الألة لحق بها العطب. ثمة حل سياسي واحد. هو حل سياسي وإن كان مسلَّحا. هذا الحل، في عهد العولمة النيوليبرالية أو الإمبريالية الجديدة، أنقلب على رأسه. فما كان الحل العسكري في نهاية مفاوضات سياسية تنتهي إلى الفشل، حلا لاستمرار المعركة بالطرق العسكرية بعدما فشل الحل السياسي، حسب ما كان سائدا في عهدي الحرب الباردة والتعايش السلمي، غير أن هذا المسار من الدبلوماسي إلى العسكري، يضحى الآن، في عهد العولمة النيوليبرالية، معركة تبدأ بالحلول العسكرية لبتر العدو من جميع أعضائه، ثم يأتي الحل الدبلوماسي لتتويج حربٍ عسكرية ناجعة. ثمة، بهذا المعنى، حلٌ سياسي واحد لاغير. هو الحل السياسي وإن كن مسلَّحا. المفرقعات، وقنابل مولوتوف، والسيارات المفخَّخة، والحجارة، مقابل الصواريخ وغيرها من أسلحة عسكرية لجيش المشاة والسلاح الجوي. ثمة، بهذا المنحى، "حلبجة" ثانية مبيدة للعدو، الكردي، العربي ،. يلحق بها مفاوضات سياسية لعدو مجرَّد من السلاح. فإن لم يكن حلم يقظة، فإنه حلمٌ لشعب ينام بصورة مضطربة نوما سطحيا تحت دوي القنابل الآتية إليه، من دوما، حرستا والمعضَّمية، وهو نصف نائم
.
هلمَّا، إذن، بنا إلى القتال حتى غاية سقوط النظام. ليس، فقط،، سقوط هذا الأخير صاحب السمعة السيئة. وإنما ، أيضا، وليعرف اليسار الثوري منذ الآن، فندرجه في برنامجنا السياسي، وإنما، أيضا، البديل من حيث هو المرادف لسقوط النظام. البديل السياسي للنظام الحاكم معدوم. القادم منه كثير الشبه بسلفه الزائل. الحل السياسي العاجل؟ هذا حلم يقظة مرادف لقصة
"في الصيف ضيَّعت اللبن".

بتعبير آخر، مادي تاريخي، ثمة حل سياسي واحد يقول: إن الثورةَ مستمرةٌ، أو إن للثورة ديمومتها، حتى وإن كان زمان الثورة المستمرة يتداخل مع أزمنة الحروب التي تسود حاليا في الساحة السورية. ثمة، إذن، حل سياسي واحد مرادف لاستمرار الثورة في معركتها ضد سائر الحروب المنتشرة في الساحة السورية، دون تمييز بين معارضات، سلطات حاكمة، تحالف إمبريالي، و"فتوحات" مسلمة. إحصاء عدد السكان في الجزائر ما بعد الاستقلال، وإخلائها من "المعمِّرين"، يبلغ، حسب الإحصاء الرسمي الصادر في العام 1962 يبلغ تسعة ملايين جزائري على قيد الحياة، ومليون وتصف المليون استشهدوا في سبيل استقلال الجزائر من الاحتلال الفرنسي. عدد سكان سورية يناهز 23 مليون نسمة. منهم ثلاثمائة ألف قتيل. الاستنتاج من وراء هذا المثال لا يحتاج إلى تعليق.

6)- سلطات البورجوازية البيروقراطية المتحكِّمة أمام مفترقٍ للطرق:
ثورة الخامس عشر من آذار نِتاج لتطور التكوين الاقتصادي الاجتماعي أو بالأحرى لجموده من جراء صعوبات الانتقال إلى الرأسمالية النيوليبرالية. فالبورجوازية البيروقراطية ، من حيث هي تكوين اقتصادي اجتماعي تتطور، إذا توفَّرت أمامها الظروف السياسية، وكانت مستعدَّة لإنجاز تطور سياسي ليبرالي، تتطور نحو التخلي عن البيروقراطية وسلطاتها الإرهابية، وذلك بلحاقها بالإمبريالية ، إذا ما أتاحت الظروف السياسية الداخلية إنجاز هذا الانتقال الضروري لتراكم رأس المال الذي تقع عيناه دوما على تشييد الشركات الكبرى واندماج في نادي العولمة النيوليبرالية، كشريك كامل العضوية. عقدة ُ الشركات الكبرى، وما تستدعيه من ديمقراطية ليبرالية في خدمة المصالح البورجوازية، يسير جنبا إلى جنب مع اتساع المسافة ما بين أجور العمل وأسعار البضاعة في السوق التي تحرَّرت من قيود الدولة، وانضمت إلى آلة الفساد العام. الأمر الذي يؤدي، إذا لم تقفز البورجوازية البيروقراطية نحو حرية بلا حدود في الاستثمارات العالمية، إلى إخلاء السلطة، إما بالدفاع عن تكوينها الاقتصادي الاجتماعي بكل وسائل وأدوات الإرهاب والقمع، وإما الهروب من السوق السورية إلى حيث يَتنقل رأس المال بحرية كاملة.
أيا كان الأمر، فإن البورجوازية البيروقراطية أُم َّالإرهاب في سورية لم تترك أية فرصة أمام تحوُّل النزاع ما بين الإنتاج وعلاقات الإنتاج إلى صراع سياسي طبقي، جماهيري، بأفق ثوري سياسي في بادئ الأمر، ومن ثم عسكري عندما تأتي الساعة مؤذِنَةً بسقوط سلطة البورجوازية البيروقراطية. ففي هاتين الحالتين، الجمود البيروقراطي والتطور الليبرالي، فإن الصراع السياسي الطبقي يبقى في حالة من الكمون والضمنية الكامنة ما لم يتحول عبر برنامج سياسي لاستراتيجية ثورية اشتراكية إلى صراع طبقي صريح. في هاتين الحالتين أيضا، فإن ما يحدث في التكوين الاقتصادي الاجتماعي لسورية، يشير إلى أن الجمود هو الذي يأطِّر السياسة الاقتصادية للبوجوازية البيروقراطية، وأن هذه الأخيرة لما كانت تفشل في تشييد الشركات الاستثمارية الكبرى، فإنها تأخذ طريق الهروب نحو السوق النيوليبرالية العالمية لتوظيف واستثمار ما تكدِّسُه من تراكمٍ لرأس المال. بيد أن غرف التجارة والصناعة والغرف الحرفية والمهنية، بالرغم من أن تفكَّك سلطة البورجوازية البيروقراطية يصب في صالحها، إلا أنها آثرت تعزيز تحالفها مع البيروقراطية الرأسمالية، بانتظار تطور هادئ نحو النيوليبرالية.
7)- هروب رأس مال البورجوازية البيروقراطية، وتفاقم إرهابها:
نظام السلطة العسكري في سورية قوامه طبقةٌ سياسية تبلغ من الشراسة الكاسرة والفظيعة ما لم يكن ليَخْطُرَ على بال شعبٍ عَرِفَ عبر تاريخه الألفي التتار، هولاكو، المغول، الأتراك العثمانيين والانتداب الفرنسي. هذا النظام الطبقي نظام إرهابي لا شبيه له بين أحدث أنواع الأسلحة المعلوماتية الفتَّاكة. لا مثيل له أيضا بين أنواع الوحوش الكاسرة حسب تصنيف الأنواع وتطورها. ذلك أن الطبيعة المادية لم تُنتِج خلال تحوُّلِّها إلى مجتمع إنساني، مثيلا له طوال تاريخها الممتد مليارات السنين. كل ديناصورات العالم على اختلاف صنفها ونوعها اندثرت بفعل تحولات الطبيعة المادية وكوارثها، إلا في سورية. هنا، في سورية، ملجأ يأوي إليه أضخم الديناصورات السياسية العسكرية الإيديولوجية التي تَشن حربا عالمية، إقليمية ومحلِّيَّة. حربٌ من حروب العولمة النيوليبرالية، يختلط فيها الإسلامي العسكري بالعسكري الأمريكي وحلفائه، وبعسكر الجيش النظامي. كل هؤلاء وأولئك يخوضون حربا ضد الطبقات الشعبية.
إن ما تكشف عنه السنوات الأربع الماضية، يُفيد ، وهنا يكمن المصدر الرئيس لثورة الخامس عشر من آذار/مارس، أن النظام الاستغلالي الاستبدادي في سورية ، بعدما فكَّك الدولة وأحلَّ محلَّها السلطات الاستبدادية للبورجوازية البيروقراطية، لم يعد قادرا، بعدما سَرق القطاع العام، وخرَّبه من جراء توظيف ما يساوي ضعف استطاعته الفعلية من العمال، ثم كرَّسه لخدمة القطاع الخاص، لم يعد نظام الطبقة البورجوازية البيروقراطية قادرا على مواجهة التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ما لم يَتَغَيَّر التكوين الاقتصادي الاجتماعي ببنيتيه العليا والتحتية. أي انتشار الشركات التجارية والاستثمارية الكبرى في سورية وفي سوق العولمة، وإجراء انفتاح آخر ليبرالي في المجال السياسي. هذا، بالرغم من أن هذا التناقض يبقى كمرادفه، أي الصراع الطبقي، ضمنيا أو مكتوما في ما هو ضمني ومَطوٍ مالم يتحوَّل بفعل من الاستراتيجية في البرنامج السياسي الثوري إلى صراع طبقي سياسي واقعي ملموس. لا سيما وأن الأحزاب الشيوعية واليسارية، ما قبل الخامس عشر من آذار للعام 2011، وعلى رأسها "تجمع اليسار الماركسي" (تيم)، شأنها شأن النيوليبرالية السياسية، حديثة العهد كتنظيم سياسي في سورية، والتي جَمعَت صفوفَها ضمن ما يُعرف ب/"إعلان دمشق" للعام 2005، طأطأت كلها برؤوسها أمام تكتيك "الإصلاح التدريجي السلمي".
كما أن البورجوازية البيروقراطية لم تعد قادرة على مواجهة هذا الصراع أو التناقض الذي يتفجَّر بأشكال مختلفة، منها التناقض المُحْدَث بين صغار وفقراء الفلاحين، من جهة، والمزارعين من جهة ثانية، منذ الخامس عشر من آذار للعام 2011 بصورة عفوية تلقائية تعادل أقسى أنماط القمع والتعذيب والظلم الذي يمارس ضد اليساريين والديمقراطيين والشيوعيين والطبقات الشعبية منذ نحو خمسة عقود. أضف إلى ذلك، أن انتشار العلاقات الرأسمالية، وارتفاع سقف تراكم رأس المال لدى البورجوازية البيروقراطية المتحالفة مع غرف التجارة والصناعة والمهن الحرة، انتشار هذه العلاقات الذي كان يرافق الانفتاح الليبرالي منذ بداية عهد الابن الأسد الثاني ، وبوجه خاص في النصف الثاني من العقد الأول للقرن الواحد والعشرين، وما يرافقه من ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور، ومنها بوجه خاص، الأُجراء العاملين بالأجر الأسبوعي كل يوم خميس، بالإضافة إلى الصبية الذين يتعلمون الصنعية أو الحرفة من قريب أو جار لهم، وهؤلاء تقل أعمارهم عن الثمان عشرة سنة، وكل من لا يشملهم قانون العمل برعايته وحمايته، ناهيكم وأن متوسط ساعات العمل لدى أصحاب الدخل المحدود يبلغ نحو الثمانين ساعة في الأسبوع الواحد، كان كل ذلك يَفرض على البورجوازية البيروقراطية توسيع العلاقات الليبرالية بما يتماشى مع تراكم رأس المال لدى الطبقة الحاكمة، ويملي عليها تأسيس الشركات الاستثمارية الكبرى.

كانت سورية، على هذا النحو، ما قبل الثورة بفترة قصيرة، مجتمعا وسلطات وغرف تجارية وصناعية على عتبة الانتقال إلى ليبرالية منسجمة مع العولمة، حتى لو كان مثل هذا الانتقال الاقتصادي يَفرض تلميع الصورة السياسية للنظام. لجوء السيد عبد الحليم خدام إلى أوروبا، كان يُؤذن، بوقوع انقلاب عسكري ليبرالي وشيك أو خلال أسابيع معدودات. تصريحاته إلى الصحافة في ما يتعلق بانقلاب عسكري وشيك الوقوع تشي بأن البورجوازية الحاكمة والغرف التجارية والصناعية كانت تقف على عتبة الليبرالية السياسية، أو وبالأحرى اختراق الهوية القومية والذوبان في العولمة النيوليبرالية، بالتعاون مع عدد من كبار الضباط،، لعل الفقيد آصف شوكت واحدا منهم.
8)- التناقض الذاتي للبورجوازية البيروقراطية:
منذ بداية "الانفتاح الاقتصادي" نحو السوق الرأسمالية العالمية في عهد أسد الأول، هذا "الانفتاح" الذي لم يتوقف، في نفس الوقت، عن حماية البورجوازية البيروقراطية وتشجيعها على الاستثمار والفساد والاستغلال، في عهد الأب، فإن الانفتاح الاقتصادي نحو السوق الرأسمالية العالمية، في عهد الابن، قد تجاوز الانفتاح نحو المزيد من الانسجام مع الرأسمالية العالمية: الترخيص لسوق الأوراق المالية، البنوك الأجنبية، والاستثمارات الأجنبية في ميادين الزراعة والصناعة والتجارة، ناهيكم وأن المساعدات والتسهيلات التي كانت من حقوق صغار الفلاحين، انقلبت عليهم لتصبح من نصيب كبار المزارعين. هذا، وغيره مما يطول تعريته وفضحه، في ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية. أما، من الناحية السياسية، فإن الابن كأبيه لم يشفع لحظة واحدة لمعارضيه من يساريين وقوميين وديمقراطيين.
إن الثورة الشعبية تَضَع نظام السلطة المستبدة للبورجوازية أمام مفترقٍ للطرق، كيما توفِّر هذه الأخيرة لأملاكها وحكمها أسباب الاستمرار. فإما الانفتاح الليبرالي باللجوء إلى تغيِّير الأيديولوجيا السائدة للتكوين الاقتصادي الاجتماعي، أي إجراء "إصلاحات" سياسية للبنى العليا ، وتغيِّير البنى التحتية للتكوين الاقتصادي الاجتماعي، أي علاقات الإنتاج بوجه خاص (الخصخصة)، وقانون العمل، وما يرافق هكذا تغيِّيِّر من "إصلاحات" ليبرالية لأنماط ثقافية وعسكرية للاستبداد والاستغلال والقمع الذي يطال قوى الإنتاج والطبقات الشعبية. أو إما بتجميد التكوين الاقتصادي الاجتماعي للسلطة، حتى لو كان ذلك يؤدي إلى مقتل الملايين من الشعب السوري. أي الامتناع عن إصلاحات ليبرالية للبني العليا والبنى التحتية، بانتظار انتصار العولمة النيوليبرالية انتصارا شاملا، إن من الناحية السياسية، أو إن من الناحية الاقتصادية.
مفترق للطرق، يَسحَب البورجوازية البيروقراطية المتسلطة نحو الإمبريالية بوجهها المُحدَث، أي العولمة النيوليبرالية. فإن لم يَأخُذ هذا التغيير مسار الإمبريالية المُحدَثَة، فإن الطريق الآخر يَفْرُض على السلطات البورجوازية المتحكِّمَة حالة من النكوص نحو الوراء. أي تشييد دولة منسَجِمَة مع دويلات آل سعود، أل خليفة وآل نهيان، إن لم تكن هذه الدويلات، في ظل سيطرة السياسة الدولية الإمبريالية، وصِيَّة على "الدولة السورية"، أو مُنتَدَبَة عليها. أو، إن مجلس الأمن الدولي، وقد بات ما بعد سقوط حائط برلين أداةً طيعةً بيد الإمبريالية، يُصدرُ قرارا ينص على فرض الانتداب الدولي على سورية لخلوَّها من القادة السياسيين الكفؤ، ويَعْهَد هذا المجلس الكهنوتي بتنفيذ هذا القرار لآل سعود، وآل نهيان، وآية الله فلان الفلاني، وبطريرك من الكنيسة الأرثوذكسية ترشِّحه موسكو. لم لا، وقد فَقَدَت المعارضة السورية أية صله لها بالطبقات الشعبية، وتَركت مكانها لصعاليك الائتلاف والهيئة وغيرهما كثرٌ !! نعم، في غياب اليسار الشيوعي والقومي، فإن الإمبريالية، حلفاءها الإقليميين والمعارضة المرتبطة يزيلهما، هم، إلى حينٍ، مع "أصحاب الأيدي النظيفة" من سلطة البورجوازية البيروقراطية، أسياد الموقف.
الرأسمالية البيروقراطية، من حيث هي، بالتعريف، نظام فاسد ومُستبِد، فإنها مرتبطة بالسلطة الإرهابية ارتباطا متلازماً لا لا يفصل بينهما سوى سقوط السلطة، باعتبار أن هذه الأخيرة هي مصدر لتراكم رأس المال بفضل توزيع الطبقة الحاكمة للامتيازات الإنشائية ورخص الاستيراد والتصدير وتنفيذ المشاريع الكبرى والمقاولات والتعهُّدات على أعوانها وحلفائها في السوق. فإذا ما سقطت السلطة، ولم تقوى الرأسمالية البيروقراطية على استبدالها بغيرها، فإن هذه الأخيرة تتحول إلى رأسمالية ليبرالية، بما في ذلك بناها العليا. مصر عبد الناصر ومن ثم السادات مثال صريح على انقلاب البورجوازية البيروقراطية على سلطتها. كي ما تتحرر من قيود ما كان يُسمِّى على لسان العلماء السوفييت "الطريق اللارأسمالي للتطور". فإذا كانت الرأسمالية البيروقراطية نظاما إرهابيا من الناحة السياسية الأمنية، وتراقب اليسار والديمقراطيين بلا رحمة، فإنها، من الناحية الاقتصادية تشرف وتتابع تراكم رأس المال حيثما يوجد، بحيث لا تَفْلت منها أية مناسبة لمشاركة مستثمر أو تاجر وغيره، أو فرض محاصصة عليه بالترغيب أو بالترهيب. فالبورجوازية البيروقراطية الإرهابية تتحكم برأس المال، وتحدُّ من تحرره من قيودها القانونية أو العرفية الإرهابية. لذا، فإن اتساع قيمة رأس المال المتراكم يتوق إلى تأسيس الشركات الكبرى التي تَفْلُتُ من مراقبة البيروقراطية، ويطمح إلى الانعتاق من سلطته البورجوازية البيروقراطية، بحيث يتنقل بحرية غير مقيَّدة في جميع أرجاء السوق العالمية والإقليمية.
ثورة الخامس عشر من آذار جاءت في ما كان التكوين الاقتصادي المجتمعي وبنيتيه العليا والتحتية على عتبة الانتقال إلى العولمة النيوليبرالية، او النكوص إلى مزيد من الإرهاب حتى لو طاول عنف السلطة الأوساط الشريكة لها في عالم الاقتصاد والأعمال. إن الظروف السياسية هي وحدها التي تَحُوْلُ أو تتيح الاندماج بالعولمة النيوليبرالية أو الإمبريالية الجديدة. ثورة الخامس عشر من آذار تأتي، أيضا، في ما تتسع المسافات ما بين أسعار الأجور، وقيمة البضائع والعقارات في السوق.
هذا التكوين الاقتصادي الاجتماعي للبورجوازية البيروقراطية، لم يَترك الفرصة، ولو للحظة واحدة، أمام تُحَوُّل النزاع ما بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج إلى صراع سياسي، وبالتالي صراع طبقي بأفق ثوري، نقابي، سياسي سلمي أو مسلَّح. لذا، فإن الصراع الطبقي الذي يتكوَّن عندما يُتَرْجَم إلى برنامج سياسي ذي استراتيجية اشتراكية، أي عندما يَخرج من سياق محض اقتصادي إلى ساحة المعركة السياسية، الصراع الطبقي يبقى، حتى غاية اليوم، في حالته الضمنية المقموعة والكامنة. لأن برامج المعارضة، بما في ذلك "التجمع الوطني الديمقراطي" و"إعلان دمشق"، لم تعر للنزاع ما بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، وما بين أسعار الأجور وقيمة البضائع، ما تستحقه من عناية لا تعلو عليها أية مهمة غيرها. بل، وإنها غاصت في المطالبة بحياء وتهذيب بحقوق الانسان وحرية المجتمع المدني.
-
مرة أخرى يعود غياب اليسار عن قيادة المعركة ضد البورجوازية البيروقراطية ليؤكِّد أن الظروف الاقتصادية الاجتماعية للحالة السورية لا تعرقل لحاق هذه البورجوازية بالإمبريالية الجديدة، وإمبراطوريات آل سعود وآل خليفة وآل نهيان، لا سيما وأن المعارضة متحمِّسَة غاية الحماس للعولمة، وهي، لم يقع حسُّها السياسي، حتى غاية اليوم، على صلة التماهي ما بين العولمة النيوليبرالية والإمبريالية الجديدة. بل إنها بالأحرى تظاهرت بتجاهله.

ثالثاً: "الانتداب" الإمبريالي
من حيث هو "الحل" ل"الملف" السوري، والبديل للسلطة المهيمنة:

1)- إمبريالية داهية، ومعارضة بلهاء:
لم يسخر ويكذِّب على المعارضة في سورية عبر تاريخها، بدءً بمعاهدة المستر سايكس والمسيو بيكو، حتى غاية جنيف الأولى والثانية، وما بينهما من وعود أمريكية وأوروبية بتسليح المعارضة وتدريبها عسكريا، مثلما تسخر الإمبريالية اليوم من معارضة مُزَيَّفَة ما انفكت تعرِّج إلى موسكو وطهران وواشنطن وباريس، حيث تتلقى من الأكاذيب والوعود المعسولة ما يتردَّى بها إلى الحضيض، تحت أكوام من القاذورات الرأسمالية في العالم، وذلك في إشارة إلى "الائتلاف.."، "المجلس الوطني.."، "هيئة التنسيق.."، وغير هذه وتلك من معارضات استعراضية جوالة ما بين إسطنبول وواشنطن تتسوَّل منها "تحرير" سورية بقوة السلاح. الإمبريالية لم تنفِّذ أيا من وعودها العسكرية، وهي تمارس طوال السنوات الأربع الماضية سياسة التسويف والتأجيل الدبلوماسي على هذه المعارضة المزيَّفَة. بل، وإنها بجرأة وقحة تشجع معارضة إسطنبول والقاهرة على التفاوض مع النظام. حتى أن أحد المعارضين "القياديين" يميِّز بذكاء خارق للعادة ما بين إسقاط الابن أسد الثاني، وتغيير النظام، وذلك في تنويه من قِبَلِه بأن مقاومة الشعب تهدف إلى تغيير النظام، وهي غير معنية بالأشخاص والأفراد. ثمة، في هذا السياق من الكذب والسخرية، مقولات سياسية لدى هذه المعارضة تهزأ من الشعب، عنما ترفع شعارات تطالب ب/"التفاوض مع النظام من أجل وقف نزيف الدم، وإنقاذ الشعب من خراب أدهى وأمكر".

إن السياسة الدولية، وهي ما بعد سقوط حائط برلين رديف للإمبريالية، تَسخَر من المعارضة أشد السخرية، حتى إنها أضحت ألعوبة بيد السياسة الدولية. فقد أفادت الأنباء بعد انتظار استمر مدة سنوات ثلاث أن الولايات المتحدة الأمريكية تَعْهِد إلى الأردن بتدريب ألفي مقاتل من "القوى المعتدلة"، ثم ما لبثت الأنباء بعد مرور أشهر من الانتظار أن أفادت أن آل سعود سيقومون بالمهمة، وذلك إلى أن جاءت آخر الأنباء لتفيد أن تركيا الأفندي آردوغان تدرَّب تسعين مقاتلا... .

2)- تسقط كل أشكال المفاوضات مع السلطة:
إن موقع سورية الاستراتيجي، من حيث هي الحلقة الصلبة في ما يتعلق بمستقبل الإمبريالية على الصعيد الإقليمي والعالمي، هو الذي يحمل الرأسمالية العالمية، على الوقوف مكتوفة الأيدي تتفرج على المشهد السوري دونما أي تدخُّل من جهتها لإسقاط النظام. إنها داهية ماكرة تتلاعب وتتلهى بمعارضة كانت وما تزال لعبة بين أيدي العولمة النيوليبرالية. غير أن السخرية والكذب يبلغ منتهاه عندما تشجع الإمبريالية هذه المعارضة على التفاوض مع النظام، في موسكو أو في جنيف، لعلمٍ منها، وهي المستفيدة من الجهل المخيف للمعارضة، أن النظام أقوى وأمتن من السقوط أمام هجوم هكذا معارضة مزيَّفة لا علاقة لها بالشعب، ولا يأتمر بها مسلَّحٌ واحدٌ في ساحة القتال بسورية. الإمبريالية تَعرف حق المعرفة أن النظام الحاكم لن يتفاوض مع هذه المعارضة، ما دامت كفة المحور السوري العراقي الإيراني الروسي هي الراجحة في موازين القوى الإقليمية والسورية. سورية، هذه الحلقة الاستراتيجية الصلبة التي تؤرق العولمة النيوليبرالية التي تُخفي بدهاء ومكر المستر كيري وبريماكوف وفابيوس، أحفاد سايكس وبيكو، وكل الجالسين حول طاولة المفاوضات، تخفي عنهم، في ما هي تأكل أصابعها ندما على مغامراتها المهزومة في أفغانستان والعراق، تُخفي عجزها عن كسر الحلقة الصلبة السورية مهما بلغ ثمن هكذا كسر التكاليف الحربية الباهظة. إنها تعرف ما تجهله المعارضة، ألا وهو حقيقة مؤداها "إن الشعب السوري لا يسكت على الذل"، وأن "الشعب السوري واحد واحد واحد"، وأنه الحلقة الصلبة غير القابلة للكسر منذ تأسيس أول دولة عربية فوق أراضيه، حتى غاية نصب أول خيمة للاجئين السوريين إلى تركيا، حلقة صلبة صُبَّت بنضالات هذا الشعب من أجل قضاياه القومية، التحررية والمجتمعية.

من السابق لأوانه عقد مفاوضات مع السلطة تحت جناح موسكو، بروكسيل أو جنيف، واشنطن أو طهران، ما لم تُنجز الثورة السياسية والمسلَّحة تفوقا في موازين القوى السياسية ضمن الساحة السورية السورية، وما لم تُحرز تفوقا عسكريا في موازين القوى على جيوش "إنكشارية" معارضة، والجيش النظامي. -ن هكذا تكتيك للمفاوضات مع السلطة مصابٌ كالجيوش إيَّاها بعطب لا علاج له سوى برفض كل مفاوضات مع السلطة لا تؤدي إلى تقدُّم الشيوعيين واليسار القومي خطوة على مسار استراتيجية الثورة التحررية الاجتماعية. بل، وإن رفض كل المفاوضات مع السلطة أيا كانت درجتها من حيث المستوى السياسي لممثِّليها إلى المفاوضات، ليس أمرا مسلما به بصورة قبلية، بديهية، أو تحت شعار "الانتصار السياسي والعسكري للثورة يبرِّر المفاوضات مع السلطة". فثورة الشعب الفيتنامي، على سبيل المثال، ضد الاحتلال العسكري للإمبريالية الأمريكية أتاحت أمام هذه الثورة أن تجلس، من موقع القوة والتفوُّق العسكري والسياسي مع الإمبريالية الأمريكية، حول طاولة المفاوضات في باريس. هذه المفاوضات مع الإمبريالية لم تكن ضرورية كي ما تُرغَم الإمبريالية الأمريكية على الانسحاب من جنوبي الفيتنام. لكن ظروف التعايش السلمي بين المعسكرين، والذي يأتي في أعقاب أزمة الصواريخ السوفييتية في كوبا، ما بعد نهاية الحرب الباردة، إيذانا بنهاية الحرب الباردة بين العملاقين الاثنين، وبدء سياسة التعايش السلمي بين الطرفين، حتى غاية سقوط حائط برلين. هذه المفاوضات لم تفد الثورة الفيتنامية بعظيم الفائدة. بل وإن الثورة المسلَّحة الفيتنامية، من حيث الأصل والمبدأ، كانت مؤهلة لطرد الإمبريالية بدون مفاوضات، بما لديها من قوة متفوقة على قوة المحتَل الإٌمبريالي في ساحة المعركة السياسية والعسكرية. المستفيد من هذه المفاوضات هي كل من الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية التي كانت وراء عقد هذه المفاوضات استجابة لتعزيز سياسة التعايش السلمي الوليدة في ذلك الحين. أما في ما يتعلق بالمثال السوري، قيد البحث والإعداد، فإن المستفيد من هكذا مفاوضات سورية مع السلطة الإرهابية، هو الحليف الأمريكي والروسي والأوروبي للرأسمالية البيروقراطية في سورية. بل، وإن ثورة الخامس عشر من آذار مؤهلة للكفاح ضد السلطة حتى غاية سقوطها بدون مفاوضات، ما دامت السياسة الدولية الإمبريالية هي وحدها المستفيدة من هكذا مفاوضات، قد تنتهي إلى إنقاذ البورجوازية البيروقراطية من الفناء، وفرض الوصاية المباشرة على السلطة السورية، الانتداب الدولي مع منح آل سعود وآل خليفة دور الوصية على الحالة السورية، إلى ان تنتهي السياسة الدولية من "تطهير" المجتمع في سورية من كل العناصر التي تناهض الإمبريالية والرجعية وغزو العولمة النيوليبرالية لسورية إذا ما استمرت الأمور على حالها في جبهة اليسار.

3)- صلة الوصل ما بين المعارضة الليبرالية والسلطة الإرهابية البيروقراطية الرأسمالية:
العداوة ما بين المعارضة الليبرالية وسلطة البورجوازية البيروقراطية الإرهابية تفتقر إلى الأسس المتينة، وتستدعي، بالمقابل، مقاربة نقدية للكشف عما بينهما من صلات التكامل، إن صح التعبير. فالمعارضة الليبرالية، حتى وإن كانت سياستها، حسب ما يظهر بصورة سطحية، معادية للسلطة، من جهة، وغير مرتبطة بأية علاقة مع الغرف التجارية والصناعية، من جهة ثانية، إلا أن هاتين البورجوازيتين، السلطة ومعارضتها، تلتقيان حول خاصية واحدة، وهي تطوير الأدوات والطرق الليبرالية بما يساعد الطرفين على بلوغ كمية أكبر من تراكم رأس المال، وتشكيل شركات استثمارية رأسمالية كبرى تجد وزنا لها بين مثيلاتها في تركيا وإيران والخليج، والعالم الرأسمالي بصورة عامة. رجال الأعمال ضمن "الائتلاف.." المنتشرين في القارتين الأوروبية والأمريكية، ومنهم من أُسنِدَت إليهم حقائب وزارية في "حكومة المعارضة" هم الذين يسارعون، قبل سواهم إن وُجِدوا في هكذا معارضة، إلى التفاوض مع البورجوازية البيروقراطية، من أجل انفتاح سياسي ليبرالي ضروري لـتأسيس شركات اقتصادية كبرى تندمج في سوق العولمة النيوليبرالية. فإذا كان تراكم رأس المال الخاص، والملكية الفردية العقارية والزراعية والتجارية والصناعية في سورية، يبلغ، ما قبل الثورة، مرحلة حاسمة تستدعي، بـأية وسيلة كانت، إصلاح النظام السياسي، بحيث يتماشى مع "الإصلاحات الاقتصادية" الليبرالية لسلطة الأسد الثاني، ويَحُوْلُ، أيضاً، وهنا تكمن الحلقة الأهم في مسلسل التاريخ الليبرالي لسلطتي الأب والابن، دون انفجار عسكري سياسي لاعتماد الإصلاحات السياسية الليبرالية، بقوة الجيش، فإن البنوك والبورصات والشركات العالمية متعددة الجنسيات، ووزراء المالية والاقتصاد في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، كفيلة بإصلاح ذات البين ما بين البورجوازية البيروقراطية والمعارضة الليبرالية. إصلاح بفضل المشاريع الاستثمارية في المستقبل، وتسهيلات واسعة من البنوك، إصلاحٌ بقوة المال. أي بما عجزت آلة الحرب، والمجالس الكهنوتية للدبلوماسيين، دون بلوغه بالوسائل السياسية السلمية، وإحراز النجاح الخارق للعادة بصدده عن طريق المال والمُلك والملكية. فلنتذكر أن الغرف التجارية والصناعية في كل من حلب ودمشق، بأقل تقدير، ما تزال مؤيِّدة للنظام الحاكم.

هذا هو ما يَرشَحُ من دعوات الثورة المضادة بطرفيها، المعارضة الليبرالية والبورجوازية البيروقراطية، دعوات إلى "المصالحة الوطنية"، و"وقف نزف دماء الشعب السوري"، والحوار مع السلطة من أجل "الوحدة الوطنية"، وتمسك الطرفين الاثنين بما يسمُّونه ب/"الحل السياسي". إن حوار المعارضة الليبرالية مع سلطة البورجوازية البيروقراطية، وتخلي الأولى عن شعار إسقاط السلطة، في ما توافق الثانية منهما على تشكيل حكومة للمرحلة الانتقالية تُوزَّع فيها الحقائب الوزارية على خليط مزيج من البورجوازيتين، الليبرالية والبيروقراطية. هذا، ويُوكَل إلى المؤسَّسة العسكرية حماية الزواج الجديد ما بين البورجوازيتين، وتوفير الضمانات لهما، بالأمن والسلامة.

يأتي ما بعد ذلك، أن التكوين الاقتصادي الاجتماعي، تناقضاته الاقتصادية، وعجزه أمام مهمة اقتصاد التنمية والتطور، تنتصب عائقا أمام الطرفين الاثنين. فإذا سلَّمنا بمنطق محض بيزنطي أن حل مشاكل هاتين الحالتين متيسر للبورجوازيتين، فإن الأحوال المعيشية للطبقات الشعبية، المتردِّية إلى ما دون مستوى الفقر والجوع والمرض بدرجات واسعة، تصبُّ في التكوين الاقتصادي المجتمعي، لاسيما وأن المخلَّفات المجتمعية للأزمة الثورية تتفاقم بصورة مطردة نحو الأسوأ. الأمر الذي يملي على هاتين البورجوازيتين أن تمضيا شهر العسل في فنادق خليجية بدرجة بالاس. هذا التحول الاقتصادي المجتمعي، يحمل في طيَّاته ثورة مستمرة لا مكان لها لدى التحالف ما بين هاتين البورجوازيتين. إنه أمر واقع يفرض نفسه بقوة لا تقاوم. من مكونات هذا الأمر الواقع ما يستجد من تركيبٍ سكانيٍ طبقيٍ للحارات والضواحي والمدن والبلدات الشعبية، والتي هُجِّر منها سكانها الفقراء وأصحاب الدخل المحدود وأصحاب أجور العمل بالمياومة، أو كل يوم خميس من الأسبوع، ناهيكم و"الدراويش"، والبروليتاريا الرثة التي كانت تقتات مما ترمي به الطبقات الوسطي والبورجوازية من فتات وفضىلات. هذا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تهجير السكان بالملايين من ديارهم في هذه الأحياء، لن يعودوا إليها مهما كلف الثمن. ذلك أن البورجوازيتين تتزرعان منذ الآن بحجة واهية مؤدَّاها أن هذه الملايين من المهجَّرين ليس بحوزتها مستندات الملكية العقارية للديار التي كانت تأويهم ما قبل الخامس عشر من آذار. الأمر الذي يُطلق يد البورجوازية العقارية المتحالفة مع مثيلتيها الليبرالية والبيروقراطية، في رفع أسعار المتر المربع الصالح للبناء بصورة جنونية، وتحويل هذه الأحياء الشعبية إلى مناطق سكنية بورجوازية. إنه يُطلق أيضا شهية البورجوازية العقارية الخليجية ودولها التي ستقدِّم المليارات من الدولار لإعادة بناء البنية التحتية، ومنها المناطق السكنية.

هذا الواقع المُلْزِم، الضروري يُرغم المجتمع السوري على الانحناء أمام حتمية التغيير الجذري للتكوين الاقتصادي المجتمعي، وبنيتيه العليا والتحتية، على مسار الاشتراكية الثورية. حتمية لا مفر منها، حتى وإن كانت عاجلة أم آجلة. ثقل هذه المهمة الشاقة تنتظر اليسار الاشتراكي الثوري كي يحملها، ويتقدَّم بها على طريق التغيير، وذلك في ما تهرب البورجوازيتان، الليبرالية والبيروقراطية من تحمُّل عبئ هذه المهمة الكأداء، فتراها تستنجد برؤوس الأموال الخليجية، والرأسمالية العالمية، والعولمة النيوليبرالية وأدواتها، منها صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية، والاتحاد الأوروبي. إن هاتين البورجوازيتين ستبيعان سورية الاقتصادية، المجتمعية والعسكرية، للسوق العالمية. الأمر الذي يُملي على اليسار الثوري، شيوعي وقومي يساري، النضال بجميع الوسائل، السياسية والعسكرية، حتى غاية سقوط النظام المهيمن، ليس بمعناه الضيق، أي إسقاط حكم الابن بشار وأسرته الطاغية المهيمنة على المُلك والسلطة والجاه، إنما سقوط نمط الإنتاج الرأسمالي البيروقراطي، من أجل بناء الاشتراكية، والديمقراطية المجتمعية السياسية بأوسع معانيها.

4)- السياسة الدولية تذلِّل العقبات أمام الدمار الشامل:
خلاصة القول إن الإمبريالية في عهدها الجديد المسمَّى بالعولمة النيوليبرالية عاكفة على تذليل كل المصاعب والعقبات والعوائق التي تحول دون كسر هذه الحلقة الصعبة دونما تدخل من جهتها، مباشر أو حتى غير مباشر أو بوساطة من المعارضة. كسر الحلقة من تلقاء ذاتها، وبأرخص التكاليف. دع سورية تَدفن في ترابها الشعب السوري، وحزب الله، والإسلام شبه العسكري، والحشد العراقي، والبشمرغا، والنفوذ الفارسي، وقياداتها الحاكمة والمعارِضة في آن واحد، إلى أن تخلو سورية من أية معارضة، وبالأحرى من أية مقاومة، بحيث تنفلق الحلقة الصلبة، تنكسر، ولا يبقى في سورية من يمثل شعبها سوى الأوغاد، الخونة، العملاء، المأجورين، السفلة، الحرامية، تجار الحشيش والأسلحة، وكل الذين يهرعون، منذ الآن، إلى إسرائيل لطلب المغفرة منها على عداء الشعب السوري لها. دع كل ذلك يحدث. هذا هو السر الليبرالي الكامن في السياسة الإمبريالية. فإذا كان سرها ينطلي على المعارضة الغبية بمقاييس السياسة والغدر بالشعوب، فإن اليسار الشيوعي والقومي قد يَحكم على نفسه بالانتحار إذا هو لم يسارع إلى تشكيل جبهة شعبية للمقاومة، على أسس من برنامج سياسي استراتيجي وثوري.

بتعبير آخر، فإن اتساع سورية إلى أكثر من حرب واحدة، واحتضانها لحربين اثنتين، ومشاركتها في حروب تظهر لتختفي ثم تعود إلى الساحة كل مرة باسم جديد، من شأنه أن ينتهي إلى تلبية أهداف الإمبريالية، ألا وهي تهديم البنية التحتية والبنية العليا للتكوين الاقتصادي الاجتماعي لسورية. في خضم هذا الدمار الشامل، فإن الرأسمالية البيروقراطية التي تتشوَّق إلى تأسيس الشركات التجارية والاستثمارية الكبرى، هي وحدها التي تنجو من هذه الحروب، وهي المؤهلة لتذويب سورية في نظام العولمة النيوليبرالية كشريك ذي حصة كاملة.

5)- انتصار اليسار ممكن وضروري:
كي ما تنهزم الإمبريالية، ويسقط النظام بقياداته وبناه الاقتصادية والمجتمعية، فإن بلوغ مثل هذه الضرورة متعذر ما لم تنضم الملايين من أبناء الطبقات الشعبية إلى تنظيم يساري ثوري وتحرري، منحاز للجماهير والطبقات الشعبية، ويمارس الديمقراطية بأوسع معانيها. أي ترجيح سلطات المجتمع على سلطات الدولة. ما لم يأخذ الملايين من هذه الطبقات، ومنهم من يفترش العراء في مخيمات الهجرات الجماعية إلى بلدان الجوار، ما لم يأخذ كل إنسان مجتمعي منتمٍ إلى هذه الطبقات دورا وظيفيا مبرمجا في الثورة السياسية، وما يصدر عنها من تكتيك مسلَّح، فإن ثورة الخامس عشر من آذار للعام 2011 سوف تُدفن بدورها جنيا إلى جنب مع الإسلام شبه العسكري، وحزب الله، والنفوذ الإيراني. المنتصر الوحيد في مثل هذه الحالة من عجز اليسار عن تعبئة الملايين، هو النظام الليبرالي العالمي، والرأسمالية البيروقراطية وقد ذابت في السوق العالمية مع شركاتها الاستثمارية الكبرى.

أما إذا اتحد اليسار في جبهة ثورية للمقاومة الشعبية، وتوزَّع دور كل فرد من الشعب ضمن التنظيم الثوري، منهم من يَهِبُ روحه للقتال ضد أعداء الثورة، منهم أيضا من ينقل الأعتدة والذخائر للمقاتلين، آخرون يوزِّعون مطبوعات الجبهة ومنشوراتها، غيرهم يقذف الحجارة على رؤوس أعداء الشعب، وسوى هؤلاء وأولئك من يتبرع بنفسه للدفاع المدني، ومنهم من لا عمل له سوى إيواء الثوار تحت سقف داره، عشرات الألوف من أبناء الطبقات الشعبية يُعهَدُ إليهم بتنظيم المظاهرات الشعبية ضد السلطة والإسلام شبه العسكري، إلخ. هذه التعبئة التي تنظِّم الملايين من الطبقات الشعبية وراء الجبهة اليسارية، ما تزال اليوم افتراضية، بالرغم من أنها الخيار المجتمعي الاقتصادي الشعبي الوحيد ضد السلطة والإسلام شبه العسكري. هذه التعبئة إذا ما دخلت إلى حيز التنفيذ، فإنها تحوز من القوة السياسية والعسكرية ما يكفل بإلحاق الهزيمة بكل أعداء الثورة، والذي يبلغ عددهم المائة عدو من جميع الثقافات والبيئات والجنسيات, هي الخيار الوحيد الذي يدحض كل ما عداه من خيارات تزعم أن الثورة أمام خيار واحد مؤدَّاه الخيار ما بين النظام والإسلام شبه العسكري.

في المجتمع السوري، إذا ما انحاز اليسار الثوري، الشيوعي والقومي، إلى الطبقات الشعبية لتعبئتها وراء النضال من أجل تغيير التكوين الاقتصادي الاجتماعي لسورية، وتشييد بنى عليا وأخرى تحتية ثورية لآنها مسخَّرَة لخدمة الطبقات الشعبية والمصالح الوطنية العليا، فإن هذا الانحياز يشكل احتياطياً مجتمعياً هائل القوة، وذات طاقة مادية كفيلة بمد الثورة بما تحتاج إليه الثورة المستمرة من زمان للاستمرار عبر تاريخها النضالي،. ليس فقط لإسقاط أعدائها المائة، بما في ذلك الإسلام العسكري والسلطة، وإنما للاستمرار خلال المرحلة الانتقالية، وما بعدها على مسار الاشتراكية والتحرر من الإمبريالية الجديدة والصهيونية، ومن أجل تشييد بنى عليا وبنى تحتية تلبي الاحتياجات المعيشية والحياتية للطبقات الشعبية، وتوفر أمام الإنتاج الزراعي والصناعي والمهني أسباب النمو والتطور المستديم.

6)- تكتيك المفاوضات الدولية ينقلب ضد المعارضة:
من وجهة نظر تكتيكية ثورية، أي استفادة اليسار الثوري من كل أدوات ومعطيات الواقع، ومنها أزمنة القوى السياسية في ساحة المعركة، ومنها أيضا زمان السلطة الإرهابية، وغيرها كالعنف الثوري الذي يقف على أسس من برنامج استراتيجي اشتراكي، مقابل العنف الإسلامي الذي يهدف إلى تشييد مدينته الفاضلة على نمط مكة في القرن الأول الهجري، وسوى هذه وتلك، كزمان الجبهة اليسارية الثورية.. الاستفادة في الممارسة من هذه المعطيات، بما يساعد الطبقات الشعبية على التقدَّم خطوة إلى الأمام على مسار الثورة المستمرة والهدف الاشتراكي الثوري. من وجهة النظر التكتيكية هذه، فإن من السابق لأوانه عقد أي شكل من أشكال المؤتمرات التكتيكية تحت جناح موسكو، بروكسيل، باريس، القاهرة، إسطنبول، واشنطن وطهران، ما لم تُحْرِز السلطة الشعبية ضمن الأزمة الثورية تفوقا في موازين القوى على الثورة المضادة بجميع تشكيلاتها، المعارضة، الإسلام شبه العسكري، السلطة البورجوازية البيروقراطية، والسياسة الدولية الإمبريالية.

من السخرية والاستهزاء بمكان أن "الائتلاف.." حاز في آخر المطاف على تدخل سلاح الجو الأمريكي وحلفائه عبر الأجواء السورية، علما أن الحلفاء، من جهة أخرى، ما زالوا يرفضون فرض منطقة حظر جوي في السماء السورية!! غير إن هذا التدخل، ويا لخجل المعارضة من نفسها وحيال الشعب السوري، بأتي بالاتفاق الصريح أو الضمني مع السلطة الإرهابية بدمشق، ويقفز ما فوق المعارضة التي لم تحظَ منه على أي احترام وثقة.

7)- العلاقة ما بين الثورة المضادة والأزمة الثورية: التناقض الرئيس
أمام وحشية حروب العولمة غير العصيَّة على الهزيمة إذا ما توفَّر شرط واحد، ألا وهو تشييد جبهة يسارية ثورية تعبئ مليون مناضل، فإن هزيمة هذه الحرب لن تكون في متناول اليد ما لم يأخذ كل إنسان مجتمعي ينتمي إلى الطبقات الشعبية دورا مبرمجا في الثورة السياسية. ذلك أن الطبقات الشعبية، من حيث هي مصدر الأزمة الثورية، إن هي فشلت في إسقاط النظام، وتشييد بنى عليا وبنى تحتية تلبي احتياجاتها، فذلك لافتقادها إلى برنامج سياسي مستمَد من استراتيجية ثورية. إذ إن هذه الثغرة الاستراتيجية أتاحت، في هذه الأثناء، أمام العولمة النيوليبرالية والبورجوازية السورية أن تسرق المبادرة من الطبقات الشعبية بتشجيعها الخطابي لما كان يسمَّى حتى وقت قريب ب/"الجيش الحر". الطبقات الشعبية كانت وما تزال تفتقد افتقادا كاملا للتنظيم السياسي الحزبي. أما الشرائح البورجوازية من الطبقات الوسطى، على نقيض من الطبقات الشعبية، نجحت، وهي من مخلَّفات الهزائم، النكسات والنكبات والكوارث التي تلاحقت في النصف الثاني من القرن الماضي، نَجَحَت لأسباب محض ثقافية وتربوية في تشكيل ما يسمى "معارضة"، قوامها الأساس "الائتلاف.."، و"المجلس الوطني.."، و"هيئة التنسيق.. ". زد على ذلك، أن نشوء الجيش الحر اعتبارا من الشهر السادس للأزمة الثورية، والذي يأتي في ما الأزمة الثورية ما بين سلطة الشعب و سلطة الاستخبارات العسكرية، لم تنضج سياسيا بعد لافتقاد الطبقات الشعبية إلى برنامج سياسي وحزب ثوري يقودها، فإن الثورة المضادة، من حيث هي طرف ثالث إن صحَّ التعبير، تكوَّنت، في البدء، وفي البدء فقط، على هامش الأزمة الثورية ما بين سلطة الشعب وسلطة العسكريتاريا. فأصبح ما يسمَّى ب/"الجيش الحر"، ونظيره "المعارضة" طرفا ثالثا في الصراع الرئيس بين الشعب وبين سلطة الاستخبارات.
بتعبير آخر، فإن الأزمة الثورية أضحت بالتالي أكثر تعقيدا.

بيد أن الثورة المضادة، على الرغم من أنها دخيلة على الأزمة الثورية ما بين السلطتين الشعبية والعسكرية، دخيلة على التناقض الرئيس، إلا أنها بالرغم من أنها ثانوية مقابل الصراع الرئيس ما بين الشعب والسلطة البورجوازية البيروقراطية، فإن تبعيتها للإمبريالية وحلفائها الإقليميين، واستجداء هذه المعارضة من الإمبريالية التدخل العسكري، ناهيكم والدبلوماسي والسياسي، "لإنقاذ الشعب السوري من النظام المجرم السفَّاح"، بالإضافة إلى ما يأتي بعد ذلك بفترة وجيزة من تداعيات الزمان السريع للثورة المضادة، أي ظهور الإسلام العسكري، فإن كفة الثورة المضادة في موازين القوى تَرجَح، مع أنها طرف ثالث يتشكَّل ليحل، في ما حضر، وكما يحلو لدعاة "التحالف مع السلطة لإلحاق الهزيمة بالإسلام شبه العسكري من حيث هو- على حد قولهم - العدو الرئيس"، ليحل، حسب ما يروِّجون له لتبرير مفاوضاتهم مع السلطة القمعية المهيمنة، ليحل برأيهم محل الصراع الرئيس في الأزمة الثورية ما بين السلطة الشعبية والسلطة المهيمنة.

هذا هو المنطق الانتهازي بعينه. ذلك أن الطبقات الشعبية تبقى هي وحدها عدو الثورة المضادة، بما في ذلك الإسلام شبه العسكري، من حيث أن هذا الأخير طرف ضمن الثورة المضادة. هذا يعني أن الطبقات الشعبية أمام عدوين اثنين. الثورة المضادة من جهة، والسلطة الحاكمة من جهة ثانية. لذا، فإن التناقض الرئيس يبقى هو نفسه. سلطة الطبقات الشعبية من جهة، والثورة المضادة المئوية لكثرة مكوِّناتها، وللتداخل في ما بينها بصورة معقَّدة، بما في ذلك العلاقة المشبوهة ما بين المعارضة إياها، والسلطة الحاكمة. علاقة متأرجحة ذهابا وإيابا ما بين دمشق وعواصم القرار الحربي والسياسي في العالم. أي إن التناقض الرئيس كان ومايزال ما بين الطبقات الشعبية من جهة، وسلطة البوجوزاية البيروقراطية الحاكمة، والثورة المضادة المئوية، من جهة ثانية.

8)- رفض المفاوضات مع السلطة جملة وتفصيلا:
بعدما فشلت الطبقات الشعبية في إسقاط النظام، من جراء افتقادها الكامل للتنظيم الفاعل والواعي، هذا من جهة، وللتكاثر المئوي لمكوِّنات الثورة المضادة، من جهة ثانية، فإن التناقض الرئيس ضمن الأزمة الثورية ما بين السلطة المفقودة للطبقات الشعبية، والثورة المضادة مئوية المكوِّنات، منها السلطة الحاكمة، وإن هو يُبقى التناقض الرئيس على حاله، إلا أن اليسار المهلهل يَضَع الطبقات الشعبية في مواجهة ثورة مضادة قوامها جبهة واسعة من الأعداء، دولية، إقليمية وسورية، تتقاتل في ما بينها كي تضع يدها على الشعب السوري، وتقضي على سلطة الطبقات الشعبية. هذا التحول الذي يطرأ على الأزمة الثورية، وإن كان يُبقي التناقض الرئيس على حاله ما بين السلطة الشعبية وسلطة العسكر، إلا أنه يوسِّع من مساحة الثورة المضادة المعادية للطبقات الشعبية. فالإسلام العسكري يواصل معركته مع جيش النظام، إلا أنه يُنكِّل بالطبقات الشعبية لدواعٍ أيديولوجية دينية. الأمر الذي يَفتح أبوابا مشرعة أمام "الائتلاف.."، و"هيئة التنسيق.."، للتفاوض مع النظام بحجة أن الإسلام العسكري هو العدو الرئيس، وأن المعارضة المزيَّفَة تُمثِّل الشعب السوري في كل ما يتعلق ب/"قَدَرِه" التاريخي السياسي. معارضة أشبه ما تكون بمنظَّمة للدفاع المدني تريد وقف نزف الدماء السوري، بما يُملي عليها طأطأة الرأس، والمضي إلى جنيف وموسكو وغيرهما للحوار مع ممثلي السلطة الإرهابية.

إن الأزمة الثورية السائدة في سورية أعمق وأكثر تعقيدا من أن تجد حلولا لها عبر مفاوضات ما بين المعارضة إياها والسلطة المهيمنة. ذلك أن منشأ الأزمة يعود لأسباب تتعلق بالتكوين الاقتصادي الاجتماعي، وما يتضمنه من صراع وتناقض ما بين نمط الإنتاج الرأسمالي، من جهة، والأوضاع المجتمعية الاقتصادية للطبقات الشعبية، بالإضافة إلى المهام الوطنية للتطور الاقتصادي ونموه، من جهة ثانية. الأمر الذي يتخطى بصورة نوعية أية مفاوضات مع السلطة الحاكمة، يتخطاها نحو ضرورة التغيير الجذري للبنى العليا والبنى التحتية، بما يكفل للمجتمع السوري بقاءه واستمراريته. مشكلة سبعة ملايين مهاجر، بلا مأوى في سورية، هذه المشكلة وحدها ليس غير، ليس لها حل بالمفاوضات مع النظام، وإنما تُلْزم بإسقاط السلطة ببناها العليا والتحتية. أيديولوجية السلطة العسكرية الاستخباريَّة، أي تشريعاتها، قوانينها ودستورها، توزيع سلطاتها، وثقافتها، القضاء على الفساد وإرهاب السلطة الحاكمة، ومراجعة مفهوم الملكية الفردية والملكية الجماعية والملكية العامة؛ هذا من جهة البنى العليا. علاقات الإنتاج، أدوات الإنتاج وقوى الإنتاج، من جهة البنى التحتية. أي التخلُّص من الاقتصاد الريعي، وتعميم الاقتصاد الإنتاجي، وإلغاء الملكية الفردية بعدما اجتاح الدمار البلدات، القرى، الضواحي والمدن، وهاجرت المصانع إلى بلدان الجوار أو دُمِّرت. لكن لصوص الثورة يستعيضون عن تغيير النظام ببنيتيه بمفاوضات معادية للطبقات الشعبية مع السلطة، حول المرحلة الانتقالية تحت وصاية وإشراف الإمبريالية بألوانها الروسية، الصينية، الأمريكية والأوربية، أو بوصاية آل سعود وأل خليفة ونهيان.

الأزمة الثورية، إذن، تفتقد للحل. ثمة حل واحد أمامها ألا وهو استمرار الثورة، أو الثورة الدائمة وديمومة الثورة. هذا يعني، بتعبير آخر، استمرار الثورة الشعبية لإسقاط النظام بكل مؤسساته، وتشييد سلطات ديمقراطية واسعة، شعبية من جهة، تشريعية من جهة ثانية، سلطات المجالس من جهة ثالثة، أي ديمقراطية واسعة، اجتماعية وسياسية، تَمنح المجتمع والشعب من السلطات ما يمنع استفراد سلطة تشريعية وأداتها التنفيذية والقضائية بكل السلطات السياسية. الحل، بالمقابل عسكري، بمعنى أن ما يسمَّى جيش سورية الحرة، والتنظيمات شبه العسكرية المسلمة ("الإسلامية" لإرضاء المستشرقين)، وغيرها من تنظيمات عسكرية من شتى الألوان السياسية والإيديولوجية، تُشكل كلها، منفردة ومجتمعة، التكوين المشَّوَّه، نعم المشّوَّه، لجيش الثورة. الحل سياسي عسكري، بمعنى أن مقاومة الطبقات الشعبية للثورة المضادة بالسلاح، هو البديل لما لحق بالعمل العسكري من عيوب. أي إن العيب أو العطب كامن، ليس في العمل العسكري من حيث هو كذلك، وإنما العطب يكمن في حالته الراهنة والمستمرة منذ تشييد أول جيش للثورة في الشهر السادس من ثورة الخامس عشر من آذار.

9)- التكتيك الثوري يبحث عن زمانه المستمر، المتَّصل والمتقدِّم:
سنرى ما إذا كانت تكتيكات "الهيئة.." تؤدي إلى بلوغ هذا الهدف. أغلب الظن أن الأحزاب الشيوعية تعتمد تكتيكات تخوض بها معارك وطنية وطبقية. إلا أن تكتيكاتها تفتقد إلى الاتصال في ما بينها، والإلحاح في التذكير بأن هذا التكتيك يودي إلى الهدف المنشود. إن تكتيكات الشيوعيين في عالمنا اليوم مبعثرة، مشتتة، عرضية، ما أن تظهر المعركة في حركة مجتمعية حتى تتوارى عن الأنظار في اليوم التالي. تكتيك المناسبات، كما هو الحال، كلَّما يطلُّ الأول من شهر أيار احتفالا بعيد العمال، ثم يغيب الصراع الطبقي ليظهر تكتيك اليوم الواحد بمناسبة الاحتفال السنوي بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. تكتيكات متقطّعة عبر الزمان، وتفتقد لمسارها الزماني، اليومي، الأسبوعي والشهري والسنوي. مسارها الزماني، ليس، فقط، من حيث أن تقطُّعُه يَحدُث عبر تقويم الأيام، وإنما من حيث هو انحراف عن زمان التكتيك، بمعنى، أيضا، أن الفعل، أو العمليات، باعتبارها متباعدة من حيث عقارب الساعة وتقويم السنة، فإنها غير مجدية، وتضحى غير مؤثِّرة استراتيجيا، ولا تسجِّل خطوة واحدة نحو الأمام على طريق الأهداف قريبة ومتوسطة المدى، والأهداف بعيدة المدى، أي الثورة الاشتراكية. تكتيكات متقطّعة عبر الزمان، من حيث نتائج التكتيك في ما يتعلق بالاستراتيجية، في ما المظاهرات الضخمة للتنديد بالعدوان الإمبريالي على العراق، قبل أيام معدودات من تاريخه، والتي كانت تجتاح العالم بقيادة اليسار، تَبَيَّن أنها تكتيك أشبه ما يكون بفقاعة صابون لن تلبث أن تتبعثر في الفراغ. إن الصلة التي تربط السياسة التكتيكية بالهدف الاستراتيجي، معدومة. انظر، على سبيل المثال، إلى التكتيك الهجومي ما قبل الثورة بسنتين اثنتين لكل من "التجمع الوطني الديمقراطي"، و"إعلان دمشق". تكتيك الدفاع عن حقوق الإنسان والمعتقلين السياسيين. فإذا سلَّمنا أن هذين التنظيمين السياسيين محقان في ما يتعلق ببناء سياستهما حول التكتيك الهجومي لحقوق الإنسان، وأن الدفاع عن القضايا المعيشية والسياسة القومية لا تستحق أكثر من تكتيكات هجومية ثانوية، فليكن، غير أن تنفيذ هذا التكتيك كان يأتي متقطِّعا، تَفصلُ ما بين مظاهرة أو تجمع جماهيري و استنفار آخر مدة زمانية طويلة، إلى حد أن النسيان يضحى الصلة الوحيدة ما بين المناسبتين.
إن تاريخ نضال الأحزاب الشيوعية من جانبه التكتيكي ليس أكثر من تكتيك مناسبات. بيد أن المناسبات مستقلة الواحدة عن الأخرى. فما يصح هنا في ما يتعلق بالمناسبات يصح بدوره عن التكتيك. انظر إلى هذا الحزب الشيوعي أو ذاك، والذي يعبئ كافة أنحاء البلاد لتنفيذ مظاهرة شعبية حاشدة ضد احتلال العراق. هنا تبدأ المعركة ضد الإمبريالية، وهنا تتوقف، بانتظار ما يأتي أو ما لا يأتي. فالمظاهرة المؤيِّدة لحرية العراق والمعادية لاحتلا ل الحلفاء له، لم تَعرف استمرارا للمعركة في الساحة السياسية والساحات العامة. هذه المعركة التي لم تتمخض عن سياسة المعارك على المدى المستمر بصورة يومية، في ما بصيرتها الاستراتيجية مُصَوَّبة نحو مرحلة الانتقال الاشتراكي، والتحرر من الإمبريالية والرجعية العربية و الصهيونية. كلا، إن هذه الأحزاب لم تستمر في معركتها الشعبية في اليوم التالي، القريب والبعيد، لإرغام السلطة على المزيد من الحركة لمناصرة العراق، أو حتى الدفاع عن المعتقلين السياسيين وحقوق الإنسان. كان حري بها أن تخوض معركة سياسية مقاتلة من أجل مجابهة الإمبريالية في بلداننا. لذا، فإن المظاهرة الحاشدة إياها ليست تكتيكا، وإنما هي مجرد مناسبة تمر بصورة عرضية عبر الزمن، دون أن تؤسِّس لحزب جماهيري مقتدر على الثورتين الاثنتين، التحررية والاشتراكية. التكتيك جزء من الاستراتيجية، كتلة أفعال من لبنة الاستراتيجية، وجسر ممتد نحو الاشتراكية والشيوعية.
الأنكر من ذلك، أن قيادات الشيوعيين تسلك مسلكا يدور ويلف حول تشكيل اللجان مع السلطة لتأبيد العراق، على سبيل المثال، وعقد الندوات، والمؤتمرات العربية والدولية، والتأسيس لمنظمات دولية حكومية لنصرة الشعب العراقي، جل أعضائها إما عملاء للإمبريالية، أو إما حلفاء للسلطة. التكتيكات الهجومية المعادية للرأسمالية والفاشية للشيوعيين في بلدان الاتحاد الأوربي –على سبيل المثال – تشتد في تصعيد يومي للصراع، فقط لا غير، خلال الحملات الانتخابية. ثم يخمد التكتيك الهجومي اليومي ليحل محله تكتيك الأعياد والمناسبات. هذه هي إحدى المعضلات التي تواجه اليوم الشيوعيين في كل أنحاء العالم، من جراء تفتُّت وتَشَتُّت وتقطُّع سياستها التكتيكية، وتحركها على مسارات متباعدة في ما بينها، لا صلة تربط ما بينها على مسار ثوري اشتراكي مستمر؛ تكتيكات لا علاقة لها- في نهاية المطاف- بالهدف الاستراتيجي.
ما أحوج الشيوعيين واليساريين الثوريين والقوميين في سورية، في أيامنا هذه، إلى تكتيكات متلاحقة، سريعة ومترابطة، سرِّيَّة أو مخفيَّة، يَجْمَع في ما بينها خط استراتيجي زماني، فيتقدَّم الزمان الاستراتيجي أكثر فأكثر، بصورة مطَّردة، مع تكتيك فعال وعمليَّاتي، ما يفتأ يفتح أبوابا مسدودة، كانت مغلقة بوجه الاستراتيجية، ويمهِد، في الوقت نفسه، أمام تكتيك جديد على المسار الاستراتيجي. هذا، في ما تضحى أيديولوجية الإرهاب بالمنطق الإمبريالي، عولمة الإرهاب من حيث هو حرب عسكرية من نِتاج العولمة النيوليبرالية، في حالة من المدِّ البحري، في ما يُسجل النضال المطلبي على الصعيد الأممي حالة من الكسوف.
10)- عشرون مليون مقاتل سوري:
وحده اليسار إذا ما توحَّد ضمن جبهة مشتركة تَجمَع بين الشيوعيين واليسار القومي واليسار الثوري الكردي، باستطاعته اليوم في سورية استنفار الملايين من السوريين، وإعلان تعبئة عامة للجماهير الشعبية، وإنجاز هذه المهمة بنجاح, وحده اليسار الثوري، الشيوعي منه والقومي العربي والكردي لديه المقدرة منذ الاستقلال وحتى غاية الأمس القريب، مرورا بمرحلة النضال ضد الأحلاف والانفصال وحقوق الإنسان، بحوزته طاقة مخزونة في ماضي النضال الوطني والمجتمعي والتحرري في سورية؛ طاقة كامنة مستمدَّة من الماضي وهو في حالة حضور مستديم في الحاضر والمستقبل. رب قائل إن مثل هذه التعبئة والاستنفار حلم يساري. فليكن، مادامت الطوباوية الشيوعية التي تُرسي دعائمها على أسس علمية، الغت سابقتها الطوباوية الشيوعية الإنسانية، عندما حلَّت الأممية الأولى محل الحزب الشيوعي الطوباوي.

إذا ما فشل اليسار الثوري، الشيوعي والقومي، في استنفار وتعبئة ملايين الثوار السوريين، فإن الأقرب إلى الواقع، هذا الداني الذي يترقب بصبر مدروس تهاوي السلطة الحاكمة بعدما تنتهي من تخريب كامل للبنى التحتية والعليا، ولا يبق أمامها ما تُخَرِّبُه، حينئذ، فإن الانتداب الدولي ينتقل من الخطة المدبَّرَة منذ اليوم الأول للثورة إلى حيز التنفيذ. انتدابٌ دوليٌ بإشراف وتدبير هيئة الأمم المتحدة ومجلس أمنها الدولي.

هذه الألعوبة بيد الإمبريالية، أمريكية، روسية، أوروبية، صينية، بالإضافة إلى الإمبراطورية، منذ تلاشي الاتحاد السوفييتي. فإذا ما تابعنا السياسات الملتوية ألوف المرات للمكوِّنات الإمبريالية، فإن المنظر المرئي أمام الرؤية المجرَّدة تقود إلى التداعيات السياسية التي تلاحقت وتتابعت في جبهة الإمبريالية والإمبراطوريات، حيث يُرى هؤلاء وأولئك وقد رسموا لسورية سياسة تقود بها إلى الانتداب الدولي، بالتعاون مع الإمبراطوريات العميلة لها بقوة رأس المال. إن "هيئة التنسيق.." التي ترتبط بروسيا بعلاقات صداقة "شريفة" و"حب عذري"، لا سيما وأنها ما تزال عذراء بالرغم من أنها عاشرت كل فرسان العالم، بالإضافة إلى "الائتلاف الوطني.." الذي عُهد إليه فوق خشبة المسرح الدولي بدور الأحمق الأبله موضع سخرية واستهزاء الجمهور وباقي أعضاء الفرقة المسرحية، سيشكِّلان على الأرجح حكومة انتقالية تعمَل تحت أمرة الأمم المتحدة ضمن لجنة تضم إلى جانب إمبراطوريات آل سعود وآل خليفة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، ناهيكم والولايات المتحدة الأمريكية.


رابعا: "المقاومة الشعبية" من حيث هي البديل
لمقاومة السلطات والمحاور الإقليمية والدولية والمفاوضات

آ)- إذا كان اليسار الثوري يكافح من أجل تشييد المقاومة الشعبية المسلَّحة، من حيث هي البديل لكل أشكال العمل العسكري وشبه العسكري، وكانت العلة في الأزمة الثورية كامنة في جيوش على اختلافها وتنوُّعها، مضادة للثورة، وكان مصدر العلَّة والعطب كامن في منظمات عسكرية تابعة لهذه السلطات أو تلك، هذا المحور وذاك، وكانت كلها، بجميع تكويناتها، إمبريالية، مسلمة، ليبرالية، بيروقراطية رأسمالية حاكمة، مضادةٌ للثورة، وتمهِّد ساحة القتال السياسي والعسكري أمام "انتصار" الثورة المضادة، فإن المقاومة الشعبية المسلَّحة بقيادة جبهة يسارية ثورية، هي، باعتبارها تكوين مجتمعي سياسي بديلا لكل التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية السائدة، فإنها، بالتالي، مصدر من مصادر انتصار الثورة المستمرة. هذا، وإن انتصار الثورة المستمرة في مثل هذه الحالة، ليس نتيجة مُستَنتَجَة من المنطق الصوري، وإنما يأتي انتصار الثورة المستمرة من حيث هي تكوين جديد، مجتمعي سياسي ومسلَّح.

هكذا، تنقل سورية من عهد الفساد الشامل إلى عهد السلطة الغائبة، أو ما يسمَّى في اللغات اللاتينية ب/"فراغ السلطة".

ب)- إن الحالة الشمولية التعميمية للخراب والتدمير الذي يطال البنى التحتية بمنطق التخريب للتخريب، ، وما يكتنف البنى العليا من تخريب بفعل إيديولوجية دينية وأخرى ليبرالية، وما يرافق هذه وتلك من فوضى عارمة، وثغرات أمنية دفاعية ذات عمق ملحوظ، وقاع مجهول، يتَّسع أوسع ما يكون الاتساع للتسلل الإسرائيلي ...

ج)- الحل سياسيٌ، لكن إنجازه يستدعي لزاما الحل العسكري. ما بينهما، من البداية السياسية حتى غاية النهاية العسكرية، طرقٍ كثرٍ، تقع، بالرغم من تسميَّاتها الثورية، ومَكْيَاجها الإيديولوجي الجميل، تقع تحت أمرة عصابات مسلَّحة، قطَّاع طرق، وقراصنة في بحار ومحيطات من الفوضى، كلها، بلا أي استثناء، مربوطة بحبال وشبكات سلطوية سورية، إيرانية، آل سعود وآل خليفة. حيث توجد حرب، ينفجر نبع من الأموال لتغذيتها. فلم لا يكون منها كلابٌ يمتد حبلها إلى الغرفة القيادية لزعيم اليمين المتطرف الإسرائيل بنيمين نتانياهو !!

ت)- ثمة سيناريو بوليصي من إخراج آل سعود، وتنفيذ نتانياهو وحكومته اليمينية المتطرفة. سيناريو المنجِّمين وقراء الفنجان. ثمة خطة مفادها أن جبهة النصرة أو جند الله أو جيش الإسلام يتقدَّمون على محورين. أحدهما القلمون، وثانيهما درعا. كي ينتهي بهما هذا الزحف باتجاه الجنوب، وعبر الحدود اللبنانية، إلى الحدود السورية اللبنانية مع إسرئيل. الحلقة الثانية في هذا السيناريو الأسطوري تحكي أن المسلمين الذين بُعثوا أحياءً من القرن الأول الهجري، يتحرشُّون عسكريا بإسرائيل. الأمر الذي يستدعي لزاما احتلال إسرائيل لسورية. المفاجأة، حسب حكاية من تأليف السحرة ، أن إسرائيل ستبدأ حربها مع أشباح أموات من الجيش السوري الخائن، ليس من الجولان، أو من معقل المقاومة اللبنانية، أي حزب الله، وإنما بعملية إنزال بحرية، على غرار الإنزال البحري في الساحل الفرنسي للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، إنزالٌ ليس في ساحل النورماندي الفرنسي، وإنما في ساحل عروس الشاطئ السوري، لوتيسيا (اللاذقية) كما كانت تسمَّى في العهد الروماني. التقارير السرية المتداولة في أوساط الدجَّالين الدبلوماسيين خلال العشر سنوات الأخيرة تلاحظ أن الملحقين العسكريين في السفارات بإسرائيل يؤكِّدون معلومات سرية وليست للنشر قوامها أن جيش إسرائيل يولي التسلُّح بالأسلحة البحرية عناية غير معتادة.

ث)- المفاوضات مع السلطة الحاكمة عدٌو للمقاومة الشعبية المسلَّحة. ذلك أن تدمير المجتمع بأواصره المدنية والطبقية، والتي نُسِجَت عُقُدهُا بخيوط من نار إبان التحرر من فرنسا، والمقاومة الوطنية للأحلاف، والعداء لجريمة الانفصال عن مصر عبدالناصر، بين نضالات غيرها، قومية، تحررية وطبقية، مؤَّهل اليوم للتصدي بعنف ثوري لكل المحاولات الرامية إلى تفكيك هذه العُقَد المجتمعية. هذا التدمير للنسيج النضالي لتاريخ سورية الحديث والمعاصر يُشَكِّل بامتياز موضوع موضوعات المقاومة. فالمعارضة ذات الرؤوس المتعدِّدَة المتناحرة، بل وإنها متحاربة بشتى أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، بما في ذلك رأس السلطة القمعية المهيمنة، إذ هي تلتقي في ما بينها، في جنيف أو في غيرها من عواصم التآمر الدولي على تحرر الشعوب، تلتقي عن وعي أو غير وعي، فإنها تتَّفق، أول ما تتَّفق، حول التخلي عن استراتيجية الثورة لإسقاط النظام، بالإضافة إلى إلغاء البحث حول تغيير المجتمع، وبناء الدولة حيث لم يبقَ دولة أمام غي وفساد سلطات الاستخبارات العسكرية، وإعادة بناء البنى العليا والتحتية، فإنها تدمِّر، على هذا النحو، المجتمع، وتخرِّب الحضر والعمار، كي يخل المجتمع من السياسة، كل سياسة، بحيث يترك انعدام السياسة في المجتمع فراغا تملؤه بأموالها ومنحها سلالة آل سعود وآل خليفة، وصندوق النقد الدولي وغيره وغيرها من أدوات العولمة، وتباركه، باحتفالات استعراضية تُنَظَّم بدمشق مباريات بكرة القدم تشارك على رأسها أندية ريال مدريد، وباري سان جيرمان، وبرشلونة كلوب فوتبول. ما أشبه المعارضة بالسلطة !

ج)- القطيعة ما بين المقاومة الشعبية المجتمعية والسلطة ومعارضتها تتجاوز حدَّ المُطلَق. القطيعة كاملة. إن مجتمعا ما يفتقد فيه مجتمع الشعب للسياسة، هو مجتمع شرقي يخضع للرواسب السياسية لنمط إنتاج الاستبداد الشرقي. فالمجتمع والسياسة متلازمان عبر التاريخ وأزمنته. فإذا غابت السياسة يضمحلُّ الأول. للتدليل على صلة التلازم هذه، يُساق مثال المجتمعات الأوروبية الليبرالية التي تبلغ مؤسساتها المجتمعية ومجتمعها المدني ( القوانين المقدَّسة للدولة الليبرالية) من القوة والمتانة حدا من الصلابة لا يقوى أي جيش أو جهاز من أجهزة أمن الدولة اختراقه، ما دام المجتمع المسيَّس جدار من مادة غير قابلة للاختراق والتفكُّك؛ ما لم تتكون الثورة الشيوعية ضمنه. مرة ثانية وثالثة، ما أشبه المعارضة بالسلطة. هذه الأخيرة تشنُّ طوال زمان لا يقاس بالسنوات، وليس له معادلا في علم الحساب والرياضيات والفلك، تشنُّ حربا ضروسا، وبشتى الوسائل، حربا عسكرية كلاسيكية ضد السياسة – في – المجتمع. هذا ما ورثه مجتمعنا من رواسب الاستبداد الشرقي، المستمرة، الحاضرة، بجانبها المجتمعي السياسي، بالرغم من أن نمط إنتاج الاستبداد الشرقي من الناحية الاقتصادية، قد توارى منذ انتشار العلاقات الرأسمالية في الريف الشامي، بما في ذلك لبنان وفلسطين، والتي تواكب ظهور "العاميات"، وعصيان العشائر عن دفع الضرائب مالم يُرسل الوالي العثماني حملة عسكرية لجمع الضرائب والرسوم، هذا، بالإضافة إلى معارك الحارات مع المخابز من جراء انتشار الخبز الأسود، والافتقاد إلى القمح الذي كان يغذي الانكشارية في حروبها الخاسرة لإنقاذ "الرجل المريض" (أي الإمبراطورية العثمانية) من الموت. هذه الحرب العسكرية للسلطة ضد المجتمع عابرة للمراحل التاريخية، من العهد العثماني، إلى الانتداب الفرنسي، إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، مرورا بالانقلابات العسكرية المؤيِّدة لشركة التابلاين وما تفرضه من اتحاد سوري عراقي يضمن وصول أنابيب ضخ النفط العراقي إلى الساحلين السوري واللبناني عبر الآراضي السورية. انقلاب الانفصال أشنع حرب للسلطة ضد المجتمع. ثم يأتي الحكم باسم حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان عدد أعضائه خمسمائة "عضو حزبي عامل". الأمر الذي يدلِّل على مدى مشاركة المجتمع في سياسة الدولة !!! سياسة السلطة التي كانت تمارِس أشنع أنواع القمع للمجتمع، باسم الحزب والجيش "العقائدي"، أبادت، على التوالي في تسلسلها الزماني، المجتمع الوحدوي العربي القومي، الحركة الناصرية وأحزابها، الشيوعيون المعارضون للسلطة، ثم جماعة الأخوان المسلمين التي نالت من السلطة أقصى العقوبات الصادرة عن المحكمة الجنائية. النتيجة، إن كان ثمة مجال يتَّسع للحديث عن نتيجة طاولت المجتمع في سورية، وطبقاته الشعبية في المقام الأول، قوامها التحول المجتمعي العميق والجذري الذي يلحق بالعلاقة ما بين المجتمع والسياسة. هنا ، يقالُ إن قطيعة الشعب عن سياسة أحزاب المعارضة، قطيعتها للسياسة التي تريد السلطة انتشارها في المجتمع، قطيعتها مع كل ما يمس عن قريب أو بعيد، بالسياسة، يترجم، في نهاية المطاف، عن القطيعة الكاملة ما بين المجتمع والسلطة. ليست السياسة هي السبب وراء هذه القطيعة، وإنما سياسات الأحزاب جملة وتفصيلا، الحاكم منها، كما القامع في السجن. السبب وراء هذه القطيعة السياسية المعرفية من جهة المجتمع، و ليس متفقا مع الأحزاب، وفي مقدمتها أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي، وأحزاب وشخصيات إعلان دمشق، والذين يزْعُمون أن إرهاب السلطة وعنفها هو السبب وراء هكذا قطيعة، تفرض حالة من الجمود في العمل السياسي المجتمعي. نقيض ما تبرر به الأحزاب قطيعة المجتمع معها إنما هي مستَمَدَّة من فشل هذه السياسات والسياسيين عن إنجاز أية مهمة من مهام النهضة العربية وحركة التحرر الوطني. التطور الاقتصادي المستديم، الانتعاش الاقتصادي، التنمية الوطنية للاقتصاد، تحرير فلسطين، الوحدة العربية ما بين سورية ومصر، حرب التحرير الشعبية التي تسجِّل انتصارات هامة ضد الجيش الإسرائيلي في شرقي الأردن. إلخ .

ح)- إن الماضي السياسي لسورية، حكامها ومعارضيها، لا يموت. إنه مستمر في الحاضر، وقابعٌ في المستقبل يترقب وصول المجتمع والدولة، خلال السنوات المقبلة، إلى ظروف موضوعية، وحالة سياسية مجتمعية، جديدة. هذا الزمان السياسي للمجتمع والسلطة، ماضيه، حاضره ومستقبله، يصحُّ لكل المجتمعات، وليس زمانا أُحاديا لبلد واحد بعينه. الأمر الذي ينتهي بمجتمع الشعب وطبقاته الشعبية إل إلقاء القبض على السلطة ومعارضيها متلبسين بالجرم المشهود. إن هذين الحاكمين الاثنين، السلطة والمعارضة، تقتل السياسة، بحيث تملأ المجتمع بفجوات فارغة تنتظر من يملأها. ما على معارضتنا، الأوروبية، الأطلسية، الخليجية، سوى ملأها دون أي عناء، ما دامت ساحة المعركة غير مجهزة بقوى سياسية مجتمعية تحمي الشعب، المجتمع والدولة. الملاحِظ المتَتَبِّع لما يجري يرى بأم عينيه أن المجتمع، والسلطة، والأول منهما وليد الثانية في المجتمعات التي ما تزال تحمل رواسب الاستبداد الشرقي، لا تُعنى، الأول والثاني منهما، إلا بشاغل واحد، منذ اندلاع الثورة، ألا وهو تسوُّل التدخل الخارجي؛ هذا إذا لم تعد بنا السياسة إلى تاريخ طويل من الخيانات منذ تأسيس الدولة العربية بدمشق في نهاية الحرب العالمية الأولى. تسوُّل التدخل الخارجي، السياسي منه والعسكري. أما مجتمع الشعب، فإن سياسة الطرفين لا تطاله إلا في ما ندر من حالات. جمال عبد الناصر، الدكاترة الأطبَّاء الثلاثة، نور الدين الأتاسي، إبراهيم ماخوس ويوسف الزعين، بالإضافة إلى صلاح جديد. السلطة، بالمحصِّلة، هي المسؤولة عن عودة المجتمع إلى ما كان عليه في الماضي. مجتمع هجين، مفكَّك، هَشٌ، سريع العطب، يناضل بعناء شديد للتخلُّص من الرواسب السياسية المجتمعية للاستبداد الشرقي. ما أشبه سورية اليوم، بسورية في عصر الانحطاط العثماني !!

خ)- مستقبل سورية القابع في ما يتأخر من التاريخ، يتابع الآن بتفاؤل غير معهود الصراع في سورية اليوم وهو على أشدِّه ما بين القديم والحديث، الموروث والمكتسب. القتال ما بين هؤلاء وأولئك يؤدِّي في نهاية المطاف إلى فنائهم جميعهم، جملة وتفصيلا. المستقبل مُشْرع الزراعين لاستقبال ما تأتي به الثورات العربية من مسار ممهَّد أمام اليسار الثوري، في ما يُفني ما يجري من صراع اليوم فوق ساحة المعركة في سورية، يُفني الجماعات التي فشلت فشلا زريعا في إنجاز مهام النهضة العربية، والتحرر الوطني، والتطور الاقتصادي المجتمعي. هؤلاء وأولئك المسؤولون عن نكبة فلسطين، ونكسة الوحدة، هزيمة حزيران ورمضان، مذابح الفلسطينيين في الأردن ولبنان تحت أنظار الجيش السوري الخائن.

د)- "الهدنة" العسكرية مع النظام الحاكم في سورية حلٌ نقيضٌ لسياسة اليسار الثوري، والتي تَعْتَبِرُ أن كل مفاوضات مع السلطة لن تكون سوى تكريس للثورة المضادة. المفاوضات الممكنة بمنطق الثورة المستمرة، منطق مسارها التاريخي المتطور المتغيِّر، هي نفسها، إن صح القول، "مفاوضات باريس"، ما بين الثورة الفيتنامية المنتصرة، والإمبريالية الأمريكية المهزومة. هي أيضا المفاوضات ما بين جبهة التحرير الوطنية الجزائرية المنتصرة، والجنرال ديغول. مفاوضات موضوعها استلام وتسليم السلطة، بين ثورة منتصرة، ونظام اقتصادي مجتمعي سياسي مهزوم، نظام البورجوازية البيروقراطية. كل مفاوضات تُعقَد اليوم مع السلطة ستكون إحياءً لنظام قديم، يوم كان معروف بك الدواليبي، وصبري بك العسلي، وخالد بك العظم (المليونير الأحمر !)، ومأمون بك الكزبري، أصحاب الشركة الخماسية للغزل والنسيج، وصناعة السكر والإسمنت لصاحبها خالد بك المذكور أعلاه، والقائمة تطول، يتردَّدون في مطلع كل شهر على سفارة آل سعود لتقاضي مكافآتهم الشهرية من يد سفير الأسرة الملكية، مقابل ولائهم لمؤسِّس السلالة عبد العزيز آل سعود، وتأييدهم للملك فاروق، وانحيازهم للسياسة الأمريكية للحد من نفوذ سياسة المملكة المتحدة بريطانيا العظمى، وعدائهم للأسرة الهاشمية في كل من الأردن والعراق. خالد العظم كان بحوزته حساب مفتوح في بنك سورية ولبنان، والذي كانت أسَّسته فرنسا كي تضع يدها على الإقطاعيين من زرَّاع القمح في منطقة الجزيرة السورية لإطعام جيشها الإمبريالي في مستعمراتها. هذه المفاوضات ما بين السلطة والمعارضة ما هي سوى مقدِّمة، فاتحة، ما أن تصبح أمرا مسلما به، مقبولا من الشعب السوري، حتى يَنتقِلَ المفاوض المسلم إلى جنيف أو موسكو، لتمثيل المعارضة السورية أمام سلطات لا رؤوس لها، بعدما انتصر الإسلام المسلَّح على الاتحاد السوفييتي في أفغانستان بدعم مالي وإيديولوجي من آل سعود، ثم تراه اليوم يُنَفَّذَ، هو الإسلام الوهابي، السياسة الإسرائيلية ما بعد تنفيذه للسياسة الإمبريالية الأمريكية والإمبراطورية السعودية. المجتمع السوري، في هذه الأثناء، ما هو سوى ظاهرة سكانية خلوٌ من الشعب، على رأسها إسلام إمبراطورية آل سعود. هذه السياسة التي تُنَفِّذُ السياسة الإمبريالية وسياسة إمبراطورية آل سعود تضحى في سورية دولة مسلمة بلا شعب، مقابل خصم يهودي مصاص لدماء الفلسطينيين. دولة مسلمة في سورية، مقابل دولة يهودية في إسرائيل الكبرى. اسلام ضد يهود. هذا هو منطق العولمة النيوليبرالية في المرحلة الراهنة، وقد بَلَغَت اقصى هدف لها في سياستها الحالية.

ذ)- في الظروف الراهنة لموازين القوى الدولية والإقليمية والوطنية، ولما كان البديل اليساري الثوري غير متوفِّر حاليا إلا من حيث هو ممكن، ضروري وضمني، ً، وكانت إمبراطورية آل سعود تتربع إقليميا على عرش منتصر في اليمن، وتجلس على عرش صلب القوائم أمام الإمبراطورية الفارسية في المنطقة الإقليمية، وتفترش بادية الشام ووادي بردى سريرا ملكيا لها، فإن "المنطق" يملي على اليسار السوري أن يُعلن "الهدنة" مع السلطة، طالما تبقى المفاوضات ما بين المعارضة إياها والسلطة إياها، هي الحل الوحيد الممكن. هذا حلٌّ محض تكتيكي. بيد أنه، حسب أصحابه المروِّجين له، "وثيق الصلة – على حد زعمهم - باستراتيجية الثورة الاشتراكية". أصحاب مهادنة النظام يؤكِّدون أن إعلان الهدنة العسكرية مع النظام الحاكم، لتوظيف كل طاقات الطبقات الشعبية في النضال المسلَّح والسياسي لإلحاق الهزيمة النهائية بالإسلام شبه العسكري، سيُلحق، سويَّةً معاً، أشد هزيمة بإمبراطورية آل سعود والإسلام شبه العسكري.

ر)- المقاومة إما أن تكون جبهة شعبية ثورية، أو لا تكون سوى محورا بين محاور إمبراطورية وإمبريالية. فبافتراض أن إعلان اليسار الشيوعي والقومي للهدنة العسكرية مع سلطات البورجوازية البيروقراطية ما هو أكثر من حل تكتيكي مؤقت تمليه الحروب العسكرية فوق الأراضي السورية ما بين قطبين اثنين رئيسين، إمبراطورية آل سعود التي تقود حملة عسكرية إيديولوجية ضد محور المقاومة ومكوِّناته الثلاثة، حزب الله، الجيش النظامي السوري وإمبراطورية المٌلَّات، فإن مثل هذه الهدنة، مهما كانت مثالبها، وبالرغم من أن سياسة المقاومة الثلاثية تنطوي على مجازفات تنتهي إلى قضاء هذه المقاومة على نفسها، من جراء انغلاقها على عصبية ثقافية هي في نهاية الأمر علاقات إيديولوجية غير ذات صلة بالواقع المجتمعي السياسي، فإن تكتيك الهدنة، إذ هو يمارس دورا سياسيا مجتمعيا حيويا في الإسلام شبه العسكري، فإن من شانه، علاوة على ذلك، أن يُغيِّر، في سياق من الممارسة الثورية، من الطبيعة العصبية لمحور المقاومة الثلاثي. إنه، برأي أصحابه "اليساريين"، يشق طريقا أمام اليسار الاشتراكي الثوري كي يكسب مواقع سياسية شبه عسكرية في حرب المواقع ضد إمبراطورية آل سعود، بما يُلْزِم محور المقاومة هذا على التحوُّل من الرأسمالية البيروقراطية نحو سياسة ديمقراطية تُوْسع حيزا سياسيا أوسع وأكثر أهمية أمام الطبقات الشعبية، وتستجيب بصورة أفضل لمطالبها المعيشية والحياتية. الأمر الذي يملي على هيئة التنسيق، قبل غيرها من قوى المعارضة، بما في ذلك جبهة الإنقاذ والتغيير بقيادة السيدين فاتح جاموس، أن تؤكِّد على كفاحها من أجل تغيير بنيوي للسلطة، بناها العليا والتحتية.

ز)- لكن العلاقة ما بين المقاومة والسلطة، مقاومة الصهيونية والإمبريالية، كانت وما تزال، منذ الاستقلال وحتى غاية اليوم، وقفا على السلطة وحدها،. هي التي تقود وترسم سياستها، وتولِّي عليها قياداتها، تُقيلُها أو تقتلها كلما كانت المتغيرات السياسية الإقليمية تستلزم، من أجل دوام السيطرة للحكم السوري، قطع الرؤوس أوِ استبدالها بغيرها الأكثر طاعة للقصر من غيرها. الاستثناء حيال مصادرة السلطات العسكرية الاستخباراتية للمقاومة الشعبية، يظهر في الخمسينات من القرن الماضي، حينما كانت الجماهير الشعبية تتصدى في الشارع، والدكاكين والمقاهي والحانات والمصانع والمزارع، كانت الجماهير هي التي تتصدى لصراع الأحلاف على سورية، تؤيِّد الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وتشيِّد في نفس الوقت منظمات مجتمعية شعبية، كاتحاد الكتاب العرب، وحركة أنصار السلام واتحاد الشبيبة الديمقراطية والتي تضامنت مع الشعبين الفيتنامي والكوري في نضالهما ضد الإمبريالية الفرنسية والأمريكية، فضلا عن حركة تضامن جماهيرية واسعة عارمة مع جمال عبد الناصر منذ تأميمه لقناة السويس في العام 1956، وما تبع ذلك من عدوان ثلاثي، فرنسي بريطاني وإسرائيلي على مصر عبد الناصر. المفيد هنا في مجريات الأحداث هي الإشارة إلى أن الحركة الجماهيرية العفوية كانت أوسع وأهم من قيادات اليسار التي كانت تؤيِّد بقوة الحركات الجماهيرية، وعلى رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي السوري. حتى أن الحركات الجماهيرية ما بين انسحاب العقيد أديب الشيشكلي من الحكم، وتأسيس الوحدة مع مصر، بلغت أوج ما تستطيع الجماهير في الشارع، أو جماهير الشارع ان تبلغه في توجيه الأحداث. بل وإن بعض المثقفين البعثيين، منهم على سبيل المثال مطاع صفدي، يعترف ان الجماهير هي التي كانت تقود الأحزاب.

س)- حتى جمال عبد الناصر نفسه، الثوري، القومي، اليساري، لم يَستقبِل بارتياح تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. ذلك أن الثورة الفلسطينية، وقد انتقلت قيادتها من محيط الرئيس عبد الناصر إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فإنها تَنتَقِل، على هذا النحو، من أيدي الاستخبارات المصرية، إلى أيدي الثوار "ثوار لآخر مدى"، ما يهدِّد مقولات الأمن، الاستقرار والسيادة الوطنية لمصر الثورة العربية التحررية والاشتراكية. فضلا عن أن الدور القيادي لمصر عبد الناصر على رأس ثورة التحرر الوطني العربية، من شأنه، بوجه خاص، أن يملي على مصر سياستها حيال إسرائيل وقضايا المنطقة، أمام القوى الدولية في زمن التعايش السلمي، فتضعها، على هذا النحو، في موقف محرِج. بمعنى آخر، فإن الرئيس عبد الناصر بالرغم من تأييده الكامل للثورة الفلسطينية، لاسيما وأن معركة "الفلوجَّة" العسكرية علَّمَته أن الثورة في مصر هي الحل
الوحيد كي يستعيد الشعب الفلسطيني حقوقه القومية.

سياسته العربية في الجامعة العربية ما فتئت تقف حجر عثرة أمام الملوك والأمراء والعسكر العرب في القمّم العربية، وتُلزم آل سعود بتقليص نفوذهم في الحقل العربي الإقليمي، القومي والدولي. "أيلول الأسود" في الأردن، ما بعد "معركة الكرامة" لقَّنَت إسرائيل والقادة العرب درسا في تفوُّق حرب التحرير الشعبية على سياساتهم وحروبهم المهزومة. الأمر الذي يترك صدى واسعا لدى الطبقات الشعبية التي تعلَّمَت من "معركة الكرامة" أن مسألة التحرير لن تأتي على أيدي جيوش العار، وإنما من حملة البندقية الرشَّاشة الكلاشنكوف الشعبية. غير أن حرب "أيلول الأسود" أمام جيش الملك حسين بن طلال الهاشمي تؤكِّد لعبد الناصر أن مخاوفه من إفلات المقاومة الفلسطينية الشعبية من أيديه كانت في موقعها. غير أن أيلول الأسود لقَّن اليسار الثوري السوري في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي أن تأييدهم لحرب التحرير الشعبية، ودفاعهم عنها عسكريا كما كانوا يريدون، قد أودت بحياتهم بعدما رفض وزير الدفاع الخائن حافظ أسد نقل الجيش السوري إلى إربد في الأردن للدفاع عن الثورة الشعبية الفلسطينية في آخر معركة لها مع النظام الأردني العميل، خلال الساعات الأخيرة من صمودها أمام الخائن حسين بن طلال. أما الرئيس عبد الناصر، فإن قلبه الرقيق لم يَحْتَمِل هزيمة حرب التحرير الشعبية الفلسطينية أمام جيش العميل الخائن حسين بن طلال، فتوقف عن الخفقان، في ما كان القادة اليساريين الثوريين بدمشق يُساقون إلى سجن المزَّة العسكري ليلقوا حتفهم بين قضبانه الحديدية بعد مرور نحو ربع القرن على دخولهم إليه مساقين ببنادق السفاح حافظ أسد. ثم إن وفاة رائد الثورة العربية جمال عبد الناصر تحت تأثير "أيلول الأسود"، تحمل معها أفول السياسة العربية لعبد الناصر بالجامعة العربية، وذلك في ما كانت الثورة الفلسطينية تمدُّ بجذورها في الساحة الجماهيرية تحت راية حرب التحرير الشعبية، والمجالس الشعبية في كل مكان.

بيد أن سحب مقاومة الثورة الفلسطينية من القبضة الحديدية للاستخبارات العسكرية لعبد الناصر، في ظل انقلاب العميل الآخر وليس الأخير أنور السادات على مصر الناصرية، قد قلب موازين القوى السياسية ضمن الجامعة العربية لصالح الرجعية وآل سعود مستفيدين من "هزيمة حزيران"، مما يؤدي إلى استيلاء آل سعود على السياسة العربية جملة وتفصيلا. حافظ أسد، تحت خيمة آل سعود وخزنتهم من عملة صعبة وذهب كانت تُغدق على السفاح السوري الأموال لسداد نفقات الجيش السوري في حربه ضد المخيمات الفلسطينية في لبنان، وغيرها، أو حيثما كانت المقاومة الشعبية الفلسطينية تكافح وتضحِّي بالغالي والرخيص كي تُنقِذَ المقاومة الشعبية الفلسطينية من براثن المقاومة الرسمية العربية... إلى ذلك، فإن حافظ أسد الذي يُمضي عقدين من الزمان تحت عباءة آل سعود، أي طوال احتلاله للبنان، هو الذي يتجرأ ويطرد زعيم المقاومة الفلسطينية من دمشق، ويحظر عليه العودة إليها مدى الحياة، يَظهر لدى الرأي العام العالمي، والإعلام العربي، من حيث هو العدو اللدود للثورة الشعبية الفلسطينية والعربية والعالمية، وحافظ السلام في لبنان، بالرغم من أن كتائب اليسار الثوري في العالم، وفي مقدمتهم اليسار الثوري الفرنسي والألماني والإيطالي والإسباني، كانت تتواكب على المعسكرات الفلسطينية لتدريب المتطوعين من كل جنسيات العالم على القتال جنبا إلى جنب مع المقاتلين الفلسطينيين... الأسد الأول خرَّب أيضا المقاومة الفلسطينية بتأسيسه لمنظمات "تحرير" فلسطينية"، عميلة له ومعادية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

إلى ذلك، وإلى ذلك، أيضا وأيضا ،عندما تنفجر ثورة الخامس عشر من آذار للعام 2011، فإن قواعد الثورة المضادة في سورية والبلدان العربية المجاورة والممتدة حتى غاية بحر العرب والبحر الأحمر وباب المندب، والتي أضحت عبر مرور قرنين من التاريخ، قاعدةً حربيةً لمسح المقاومة الشعبية الفلسطينية العربية من وجه كوكب الأرض، ناهيكم وسورية والبلدان المجاورة لها، كانت أيضا، وما تزال، علاوة على ذلك، وبالرغم من كل ذلك، قاعدة مدجَّجَة بالأسلحة المتطورة، معبأة استعدادا لخنق المقاومة الشعبية الثورية من حلقها وفي مهدها. الأخطر من كل ذلك، أن السلطة السورية لحافظ سفاح الفلسطينيين، ووريثه من بعده ابنه المجرم بشار، قائد سرايا الحرامية واللصوص في سورية والمنطقة، لم يكتف بإبادة حرب التحرير الشعبية، بل وإنه، بعدما مسح كل أثر لها في سورية وغيرها من البلدان العربية، فإنه يحظر على كل الجماهير العربية وغير العربية، وفي مقدمتها الكردية التقدمية، حَمَل السلاح للمطالبة بحقها القومي السياسي التحرري بتشييد مقاومة شعبية ثورية، غير تابعة لسياسة هذه الدولة أو تلكن وذلك في كان المجرم بشار بن السفاح يقمع كل محاولة لتشييد مقاومة شعبية ثورية، ويحظر، بكل الوسائل الدنيئة المتوفرة لدى حكمه العسكري البوليصي، على الثوريين في سورية ولبنان وفلسطين أن يحملوا بندقية المقاومة الشعبية حيثما توجد. بمقابل المقاومة الشعبية، ضدها ونقيضها، تراه يضَمَن لساسة الإمبريالية والإمبراطورية الإيرانية، أن يُمسِك كل مقاومة شعبية من خناقها ليدفنها من ثم حيَّة، باستثناء ما كان منها مرتبطا بالعصبية، ثقافية، قومية أو دينية.

ش)- فإذا كان تكتيك الهدنة العسكرية أو القتالية مع آل أسد يشكِّل نقيضاً للثورة المضادة التي تفتك بكل قواها السياسية الدبلوماسية - على الرغم ما بينها من صراع كي تنفرد بالسيطرة على سورية -، وبكل ما أوتيت من قوات عسكرية وبجميع أنواع أسلحتها، تراها تفتك بثورة الخامس عشر من آذار، وتشن ضد الثورة الشعبية، وهي في المقام الأول كتلة تاريخية شعبية تختزن بذاكرتها التاريخ الأسود للسياسة العربية في كل المجالات، تراها تشن حربَ البراميل المفخخة بأسلحة الدمار الشامل، كي لا يرتفع صوتا للمقاومة، هو أوسع بكثير، أقوى وأنجع، والأقدر، من حرب العصبيات الموروثة عن العهد العثماني ونظام الاستبداد الشرقي، على تعبئة مجتمع الشعب بكامل قواه لإبادة الثورة المضادة على اختلاف رؤوسها، والتي تتناحر في ما بينها للانفراد بالسيطرة على سورية.

ص)- ثورة المقاومة الشعبية نقيضٌ للمقاومة الرسمية ضد الإمبريالية، ومعادية لحرب المحاور الإمبراطورية. فالمقاومة الشعبية التي تَستَمِدُّ قوتها من تأهلها لتعبئة مجتمع الشعب بكامل شرائحه الشعبية الفقيرة والمظلومة، تعبئته سياسيا، عسكريا وثقافيا (ثقافة حركة التحر الوطني بتاريخها النضالي في كل مجالات الحياة)، وهي المنبوذة من "مقاومة المحاور" التي تخوض حروباً مدنيةً وعسكرية ًما بين إمبراطورية آل سعود، وإمبراطورية الملات حلفاء البازارات في إيران العظيمة بشعبها وثرواتها البشرية والطبيعية. حربٌ ما بين إمبراطوريات، تَراها، ما بين ليلة وضحاها، تتحالف مع الإمبريالية في الصباح، ثم تعاديها في المساء. المقاومة الشعبية الثورية تواجه خطرا مميتا ضمن الصراعات ما بين الإمبراطوريات والإمبريالية وحلفائها، إذا هي استسلمت لمقاومة السلطتين السورية والإيرانية لتهادنهما انتصارا لهما على العنف المسلم، وعلى الرغم من أن هاتين الأخيرتين تحصر المقاومة بعصبية حَضَريَّة، واحدة دون غيرها، طالما تخاف على إمبراطورتها من الغرق في محيطات وبحار المقاومة الشاملة، العامية، للطبقات الشعبية المتحرِّرة من ثقافة العصبية نصف الحضرية. فإذا هي تخلَّت عن إسقاط النظام السوري، فإن ثورتها المستمرة في سورية ستجد، هنا في هذا الموقع العسكري السياسي، نفسها أمام المشكلة العظمى التي تواجه الثورة في سورية، ألا وهي افتقاد الثورة الشعبية، على المدى القريب والمتوسط، للبديل عن آل الأسد. بالمقابل، فإن تخلِّيها عن تكتيك إسقاط النظام، من أجل نصرة محور المقاومة السلطوي، من شأنه أن يقضي على الثورة المستمرة التي تجد في زمانها المجتمعي السياسي ممرا واحدا أمام استمرار زمانها. ممر واحد، لا غير، لا يستمر ما لم تَخترق الثورة المستمرة الأسوار الحصينة لقلعة العصبية المغلقة. الأمر الذي يضع المقاومة الشعبية الثورية، بالضرورة والإلزام، أمام أكثر من عدو واحد، وفي موقع معركة سياسية عسكرية. الإمبراطوريتان الإيرانية وإمبراطورية آل سعود، من جهة، الإمبريالية وحلفائها من كل حدب وصوب، من جهة ثانية. هذا الموقع الموضوعي، يضع الثورة المستمرة ومقاومتها الشعبية الثورية بضرورة مُلْزِمةٍ في ساحة معركة سياسية بمنطق عسكري، وعسكرية بمنطق سياسي. تكتيكي من حيث محاربته للثورة المضادة، واستراتيجي من حيث خوضه في الحاضر حربا لا بد من خوضها حتى غاية الخطوط الخلفية واسعة الامتداد للثورة المضادة، ما أن تنتهي حتى تنتقل الثورة المستمرة إلى المسار الزماني للثورة الاشتراكية. هذا المسار الذي يبدأ منذ الآن، ويصير مساره الزماني نحو الاشتراكية الثورية والديمقراطية الثورية اٌقرب إلى متناول اليد.

ض)- المقاومة الشعبية الثورية هي وحدها القادرة على مسح العنف المسلم من الوجود، في ما المقاومة السلطوية للمحاور الإمبريالية والإمبراطورية تكرِّس له. فالأعداء أمام الثورة المستمرة ومقاومتها الشعبية الثورية، وإن كانوا يُشكِّلون كثرة، فإن تناقضاتهم في ما بينهم في ما يتعلق بالمستقبل السياسي لسورية، وخلافاتهم القادمة إزاء الجهة الإقليمية أو الدولية، أو حتى السورية إن وُجِدَت، والتي يُوْكَل إليها الانتداب على سورية، تفتقد إلى القاسم المشترك الواحد الذي يضمن لرؤوس المقاومة السلطوية السيطرة على سورية، باستثناء حيازتهم منذ الآن على قاسم مشترك واحد يَجمع بينهم حول العمل المشترك من أجل القضاء على المقاومة الشعبية الثورية وثورتها المستمرة.

ط)- السلطة السورية هي الخاسر الأول ضمن تناحر المحاور والإمبراطوريات من أجل فرض سيطرة واحد منها أو أكثر على سورية. سوريةٌ مسلوبة الحرية والسيادة، شامخةً بكرامة شعبها الذي يرفض الذل. فالسلطة السورية على الرغم من أنها أحد تكوينات المقاومة السلطوية، ولما كانت هذه المقاومة السلطوية منبوذة من الشعب ما دامت تعاديه حتى الموت، فإن السياسات العسكرية الإمبراطورية والإمبريالية التي تتناحر في ما بينها لإلحاق الهزيمة بالثورة المستمرة والمقاومة الشعبية الثورية، فإنها هي التي ستطيح برؤوس النظام الحاكم في سورية لأنه الحلقة الأضعف بين حلفائه وشركاه، إذا ما رفض هذا الأخير ما تمليه عليه المقاومة السلطوية، أو المحاور الإمبراطورية والإمبريالية، من سياسات تدفع بسورية على مسارات الحريات الليبرالية للعولمة. أما إذا وافقت رؤوس النظام الحاكم في سورية على خلع ملابس البورجوازية البيروقراطية، والظهور عارية من أي ثياب، جاهزة ًللبيع كبضاعة في سوق العولمة النيوليبرالية، فإن المقاومة السلطوية للمحاور والإمبريالية والإمبراطوريات ستجد حلا يوفِّق ويلفِّق، يوفِّق أيضا ويلفِّق مرة ثانية، بين حلول تَجمع ما بين الانتداب الدولي برعاية مجلس الأمن الدولي، وتوكيل الجامعة العربية لأصحاب الملوك والأمراء والإمبراطورات العرب والفارسيين، بتنفيذ هذا الانتداب تحت إشراف آل سعود وأل خليفة، على أن يترأس السلطة التنفيذية في سورية ضابط كبير من العهد القديم، مع الإبقاء على بشار أسد رئيساُ فخريا للبلاد حتى غاية نهاية الاستحقاق الرئاسي.

ظ)- في خضم هذه الساحة الحربية مشرَّعة الآفاق أمام حروب جديدة لا تنتهي، فإن جبهة اليسار الثوري والمقاومة الشعبية الثورية لن تجد نصيرا لها غير الطبقات الشعبية. إنها، بهذا المعنى، وحيدة ضد الجميع. أي معادية لكل هذه الحروب والمحاور، معدومة الثقة بمستقبل أفضل للنظام الحاكم في سورية، طالما يُرهن هذا الأخير في سباق للخيل يمتطي فيه فارس سوري بالوكالة الحصان السوري المُسْتَبْدَل في غفلة عن حكام السباق بحصان غير أصيل. بتعبير آخر، فإن الساحة السياسية العسكرية السورية، والتي تتآمر فوقها المحاور للإطاحة بالثورة الشعبية والمقاومة الشعبية الثورية، من جهة، وتتناحر فوقها المحاور والإمبريالية والإمبراطوريات لاستبدال النظام الحاكم في سورية بغيره مماثل له، فإن هذه وتلك من الظروف الموضوعية للحالة السورية الراهنة، تُملي بالضرورة والإلزام على الثورة المستمرة أن تخوض وحيدة حربا طويلة الأمد، معدومة من أي شريك أو حليف تكتيكي، ناهيكم والاستراتيجي، ضد هذه الجبهات، مسلمة أو غير مسلمة. إن أي متمعن في معطيات ساحة المعركة في سورية، لن يجد عناء في الكشف عن الجبهة التي ما تزال مطوية ضمنية تحت أرض المعركة. جبهة عريضة من الطبقات الشعبية مليونيه العدد، على كتف أفرادها بندقية كلاشنكوف، وبيدهم قنبلة مولوتوف، ومنهم الأعزل من السلاح الذي يحمل فوق كتفيه وظهره المنتصب كيسا من الأرز يزن خمسين كيلوغراما، ويتَّجه به نحو موقع قتالي للمقاومة الشعبية الثورية. إن المقاومة الثورية بطبقاتها الشعبية بمقدرتها وحدها، إذا ما عبأَت مليونا من المقاومين، ووَزَّعت عليهم بندقية رشاشة وذخيرة حية كافية لمدة أسبوع واحد، أن تُلحق هزيمة نكراء بأعداء الثورة الشعبية، بما في ذلك جبهات مسلمة لا حصر لها، إن كانت تنبت وتتفتح على ضفاف بردى، فإن قوتها التدميرية مدينة بانتصاراتها لامتناع المقاومة السلطوية عن توزيع السلاح على عامة الطبقات الشعبية الذين يخوضون حربا شعبية، تحرُّرية وثورية، تتفوق على الحروب الكلاسيكية.

1)- المقاومة الشعبية الثورية نقيض للمقاومة السلطوية، تتمة:
إذا كانت الثورة المستمرة ومقاومتها الشعبية المسلَّحة تخوض وحيدة منفردة معركتها السياسية العسكرية ضد كل مكوِّنات الثورة المضادة، بدءً من الساحة السياسية العسكرية حيث تتسابق في ما بينها مكوِّنات الثورة المضادة للإطاحة بالثورة المستمرة، مرورا بالرأسمالية العالمية النيوليبرالية، بالإضافة إلى الرجعية العربية بقيادة آل سعود وآل خليفة، فضلا عن المعارضة السورية بائتلافها وتنسيقيتها، إلا أنها مهما بلغت من قوة في حالتها الراهنة، فإنها عاجزة عن خوض الحروب ضد هؤلاء وأولئك مرة واحدة، وعلى جميع الجبهات مجتمعة أو كل منها على حدة. إنها مرغمة على دحر جبهة الإسلام شبه العسكري قبل غيرها من جبهات. الأمر الذي يُعْتَبَر في متناول يدها لو لا أن المقاومة السلطوية تنتصب كالحاجز الحديدي كي تعزل الثورة المستمرة ومقاومتها الشعبية الثورية عن الطبقات الشعبية صاحبة الثورة. المقاومة الشعبية الثورية مؤهلة، لولا احتكار المقاومة السلطوية كل مقاومة لنفسها. وهذه الأخيرة قادرة بدورها على إلحاق هزيمة سريعة وشاملة بالعنف المسلم، لو هي قرَّرَت، فقط، أن تفتح مستودعاتها من الأسلحة الفردية لتوزِّعها على مجتمع الطبقات الشعبية. ذلك أن التخلص من العنف المسلم ميسورٌ إلى أقصى حد إذا ما سُلِّطَت الطبقات الشعبية ضدها لإبادتها بخطفة عين. إذ إن الطبقات الشعبية المقموعة من المقاومة السلطوية هي وحدها، اليوم وغدا وبسرعة تفوق سرعة الأسطول الجوي للحلفاء المُلحقين بالإمبريالية الأمريكية. جيش المقاومة الشعبية الثورية، هو، مرة أخرى، وحده القادر على دحر الإسلام شبه العسكري. غير أن المقاومة السلطوية ذات الرؤوس الثلاثة، الجيش النظامي السوري، حزب الله، وإيران، هي التي تمد بعمر الإسلام شبه العسكري عندما تُحَرِّم على الطبقات الشعبية تشييد مقاومة شعبية مسلحة للدفاع عن الثورة المستمرة.

2)- الأولوية التكتيكية لدحر الإسلام شبه العسكري تُملي الإعلان عن الهدنة مع الحاكم السوري:
هذه المعطيات الموضوعية تفرض على الثورة المستمرة، بالرغم من أن المقاومة السلطوية تحتجز كل مقاومة للإسلام شبه العسكري ولإسرائيل بين الجدران المحصَّنة للأجهزة التابعة لها. أي إن المقاومة محرَّمَة على الطبقات الشعبية، وهي من اختصاص العصبية الاستبدادية، والشبيحة، وحراس الثورة الإيرانيين وما تبقى من الجيش النظامي السوري. إن المقاومة الشعبية الثورية بافتراض أنها، كي ما تبيد الإسلام شبه العسكري، تهادن المقاومة السلطوية عسكريا فقط، دون أن تتخلى عن سياسة إسقاط النظام السياسي، المجتمعي والاقتصادي في سورية. فإذا هي، بموجب فرضية من هذا القبيل، تمَسَّكت بأهداف الثورة المستمرة، بما في ذلك الكفاح من أجل الانتقال الاشتراكي، فإنها تجد، بمنطق هكذا فرضية، لزاما عليها الإعلان عن هدنة شكلية تكتيكية مع المقاومة السلطوية للنظام الحاكم في سورية. ذبك، بافتراض أن المقاومة السلطوية تزج بكل قواها في الحرب ضد الإسلام العسكري، وتتصدى لإمبراطورية آل سعود وأل خليفة، وتَفُكُّ أسر المقاومة السلطوية من قيود العصبية الاستبدادية، وتجعل من المقاومة ثورة عامية للطبقات الشعبية.

هكذا هدنة افتراضية تستدعي من الثورة المستمرة أن تضع، بالرغم عنها، وبصورة إلزامية، سياسة إسقاط النظام على الرف، أو ما بين قوسين، وبصورة مؤقتة إلى أن تأتي المقاومة الموحَّدة ما بين السلطة وعامة الطبقات الشعبية على الإسلام شبه العسكري. غير أن سحب المقاومة من القبضة الحديدية للسلطة السورية، مقابل هدنة سياسية عسكرية معها، حتى لو كانت هدنة من جهة واحدة، من جهة الشيوعيين والاشتراكيين الثوريين أمميين وقوميين، فإنها فرضية لا تحمل معها أدنى حدٍّ من النجاح، إلا إذا ما اعتبرنا أن الطبقات الشعبية، والمقاومة الشعبية ترفع السلاح ضد عدو خيالي. ذلك أن المقاومة كانت وما تزال منذ عهد الأب ، وحسب معايير السلطة السورية، حكراً عليها فقط دون غيرها، مهما يكلِّف الثمن، باستثناء واحد، هو احتجازها ما وراء أسوار العصبية الاستبدادية الموروثة عن الاستبداد الشرقي. فالمقاومة السلطوية، إذ هي تحجب المقاومة عن الطبقات الشعبية، وتمنحه قسراً للعصبية ما قبل الرأسمالية، فإن حكمها المتين لا يتزعزع، طالما تمتد أمامه وخلفه الوحدة الاستراتيجية التكتيكية بين أطراف ثالوث المقاومة، حزب الله، النظام السوري وإيران. المقاومة، بكلمة واحدة، محرَّمة على الشعب.

في جميع الأحوال والظروف، وهي ثابتة لا تتغير ما لم تتحول إلى العدم والزوال، فإن الثورة المستمرة التي تيشيِّد المقاومة الشعبية الثورية، تلقى العداء القاتل من المقاومة السلطوية، والإسلام شبه العسكري.

3)- القطيعة التاريخية ما بين المقاومة الشعبية الثورية والمقاومة السلطوية:
هذه القطيعة ما بين المقاومة السلطوية والمقاومة الشعبية الثورية، تفصل الأولى منهما عن الثانية فصلاً يمتد لمسافات زمانية لا تقاس بمعيار مكاني، فهي، وإن كانت إقليمية، تمتد من جنوب لبنان إلى إيران عبر سورية والعراق، تضحى لدى المقاومة السلطوية بنية أو كتلة سياسية مجتمعية تردُّ كل محاولة شعبية لانتزاع المقاومة من السلطات بإرهاب الدولة، فتُردي نصير المقاومة الشعبية الثورية قتيلا، حسب ما كان يحدث أثناء أيلول الأسود بالأردن، ثم حرب المخيمات في لبنان. هذا ما يكشف عنه بصريح العبارة المغفور له العقيد عبد الكريم الجندي، عندما كان وزيرا للداخلية، في حديث له أمام اجتماع لفرع دمشق لحزب البعث العربي الاشتراكي. قال العقيد في جواب له عما إذا كانت قيادة الحزب تعتزم التأسيس للمقاومة الشعبية في حربها مع إسرائيل: "إن تسليح الشعب السوري في الظروف الراهنة يرمي بسورية في حرب أهلية"، وذلك في إشارة منه إلى الصراع الذي كان محتدما في الشارع السوري ما بين الناصريين والبعثيين. ثم شجَّعت، في تطور لاحق، القيادة القطرية اليسارية لحزب البعث العربي الاشتراكي، حرب التحرير الشعبية، ما قبل هزيمة حزيران 1967، وما بعد ذلك. بل، وإن تبني القيادة لها قاد بها إلى السجن المؤبد مدى الحياة، بدون محاكمة، على يد الجنرال السفاح حافظ أسد، في 16 تشرين الثاني 1970. إن هذه الأحداث تأتي في سياق مستمر ما فتئ يُكَرِّس المقاومة السلطوية، وينفي المقاومة الشعبية الثورية. في هذا السياق، فإن الرفيق القيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي المغفور له الدكتور إبراهيم ماخوس الذي كان يشغل حقيبة وزارة الخارجية ما بين 23 شباط 1966، و16 تشرين الثاني 1970، يؤكد في حديث له بالجزائر العاصمة، في شهر فبراير من العام 2010، بلهجة لا تخلو من السخرية بحافظ أسد، "إن حقيبته الوزارية لم تمنعه (لم تمنع القيادي إبراهيم ماخوس) من المشاركة في عمليات "الممارسة" التي كان الحزب يقودها داخل الأراضي الإسرائيلية ما قابل الهزيمة وما بعدها". لهجة السخرية الموجهة للجنرال تترجم عن "جهل وزير الدفاع في حينه حافظ أسد أن وزير الخارجية في الحكومة السورية يشارك – على حد قول الرفيق إبراهيم ماخوس - في عمليات فدائية داخل الأراضي السورية. المستفاد مما تعنيه هذه الرواية لأحداث سياسية حاسمة، أن تكريس المقاومة السلطوية يأتي في سياق مستمر ما فتئ يتعزز ويُكَرَّس له، وينفي، بالمقابل المقاومة الشعبية الثورية.

4)- القطيعة ما بين المقاومة السلطوية والمقاومة الشعبية الثورية تأخذ مسارين متضاربين:
علاقة القطيعة ما بين المقاومتين الاثنتين تأخذ في الزمان السياسي لكل منهما مسارين متضاربين. فإذا كان منطق المقاومة السلطوية يستند إلى مقولة وزنية تساوي ما بين الترسانة العسكرية والنووية لإسرائيل، والعمق الاستراتيجي لمحور حزب الله، سورية، العراق وإيران "النووية" "الصاروخية"، فإن المقاومة السلطوية، مديدة العمر، تحيا، ليس من موازاتها الكمية والمكانية مع إسرائيل، وإنما تستمد حياتها المديدة من تحريم المقاومة على الشعب، وتسليمها أمانة بين أيدي تكوينات بالية من مخلَّفات وترسُّبات الاستبداد الشرقي، مجتمع التبعية للسلطة، عديم الاستقلال عنها، مجتمع الصراعات ما بين البدو وانصاف الحضر، ما بين العشائر المتزاحمة إما على مسار للتهريب، أو إما على مصادر المياه. فإذا كان منطق المقاومة السلطوية يستدعي من الشيوعيين والاشتراكيين الثوريين إبرام هدنة، حتى وإن كانت من طرف واحد مع مقاومة السلطة، وذلك بموجب مقولة تُقرِّب السلطة من الطبقات الشعبية باسم الدفاع عن محور المقاومة، وتؤجِّل، إلى ما بعد دحر الإسلام العسكري للصراع بين السلطة وبين الطبقات الشعبية، فإذا كان الأمر كذلك، فإن الصراع ما بين السلطة والطبقات الشعبية يسير زمانيا في مسار مخالف لمسار المقاومة السلطوية، بل وإن العلاقة ما بين المقاومتين متضاربة. إذ إن دحر الإسلام شبه العسكري يضع المقاومة الشعبية أمام ضرورة نقيضة لأية هدنة مع المقاومة السلطوية. ذلك أن دحر الإسلام العسكري، وعلى رأسه إمبراطورية آل سعود وآل خليفة، المعادي لمحور المقاومة الشعبية الثورية، معاداته في نفس الوقت للمقاومة السلطوية، لن يُنجَز بفضل مجتمعات موروثة من الاستبداد الشرقي، وإنما يستدعي بالضرورة و الإلزام، انتصار المقاومة الشعبية في سورية على المقاومة السلطوية للاستخبارات العسكرية والأباراتشيك، كي ما تستطيع المقاومة الشعبية، بمشاركة عشرين مليون سوري، باختلاف أنماط هذه المشاركة وطبيعتها، أن تهزم بحرب الشوارع وحرب العصابات، بالتحالف مع الباشمرغا ، أن تهزم المقاومة السلطوية أولا، ومن ثم الإسلام شبه العسكري. الأمر الذي لا تقوى عليه طائرات التحالف الإمبريالي الإمبراطوري.

5)- المستقبل آفاق بلا حدود أمام اليسار الثوري، الشيوعي والقومي:
إن العلاقة، بهذا المعنى، ما بين المقاومة الشعبية والمقاومة السلطوية، ليست، ليست علاقة تعايش تكتيكي، وهدنة تكتيكية، ما دام لكل من المقاومتين الاثنتين مساره الزماني المتضارب مع المسار الآخر، مسار المقاومة الشعبية الثورية، وهو نفسه مسار الثورة المستمرة، والتي تقلب رأسا على عقب مسار المقاومة السلطوية، كي ما تستطيع من بعد دحر الإسلام العسكري، طالما تملي الضرورة الواقعية في مسرح الصراع السياسي العسكري على الثورة المستمرة أن تُقدِّم، من حيث الأولويات الاستراتيجية، الانتصار على المقاومة السلطوية، كي ما تستطيع من بعد دحر الإسلام شبه العسكري. العلاقة ما بين المراحل، ليست متتابعة عبر مسار زماني، إذ إن لكل من المقاومتين، فضلا عن الإسلام العسكري، مسارا متضاربا مع المسارين الاثنين الأخرين. إن أولوية إسقاط النظام أمام دحر الإسلام العسكري وتفكيك المقاومة السلطوية، إن هذه الأولوية تأخذ موقعها في المسار الزماني للثورة المستمرة، وتبرِّر هذه الأولوية بالرجوع إلى معرفة للواقع مؤدَّاها أن المقاومة السلطوية، شانها شأن الإسلام العسكري تستمد وجودها ومبرِّراتها من الحلقة الصعبة، وهي سلطة الاستخبارات العسكرية السورية، فإذا سقطت هذه الأخيرة قبل غيرها، فإن كلا من المقاومة السلطوية والإسلام العسكري يتهاويان. هذا السقوط لا يأتي من تلقاء نفسه بصورة ميكانيكية. إنما يأتي إذا ما توفَّر شرط واحد يضع الثورة المستمرة أمام ضرورة في قيد ما هو ممكن، وهو أن تضع الثورة المستمرة منذ الآن نصب عينيها تعبئة واستنفار مليون ثوري سوري، أو عشرين مليونا.

إذا ما استعادت الطبقات الشعبية دورها، وأخذت أماكنها كل في موقعه المفيد، فإن الثورة المضادة بجميع تشكيلاتها ستتهاوى ما أن تسقط السلطة مخلِّفة وراءها ما يشبه الفراغ المرعِب. إلا أن الثورة المستمرة تنشأ من هذا الفراغ الخلاق،
طالما يُشَكِّل الملأ عدوا للثورة التي تنشا فقط عندما يفرغ المجتمع من السلطة، وتتوارى أيديولوجيته التي دُفِنَت بيد السلطة نفسها كي ما تطلق يدها بحرية من كل قيد قانوني، ثقافي. فالجماهير الشعبية تدرك اليوم أكثر فأكثر، في ما يتَّسع هذا الفراغ رويدا رويدا، دورها في تشييد الديمقراطية الاجتماعية، وأوسع أنماط الديمقراطيةـ والكفاح المسلَّح لإلحاق الهزيمة بالمقاومة السلطوية والإسلام العسكري، فضلا عن إبادة المعارضة المزيَّفَة التي تنمو كالدود بين الأعشاب العفنة التي تراكمت فوق أسوار السلطة وحلفائها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

• هذا العنوان اقتباس عن الشعار الذي كان "المنتدى الاشتراكي" في لبنان رَفَعَهُ كشعار بمناسبة الدعوة التي كان يوجِّهها للاعتصام تضامنا مع انطلاقة الثورة في سورية في بدء السنة الخامسة من تاريخها. انظر، المنشور، العدد الصادر في شهر آذار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي