الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نقد الخطاب الإسلامي ح 4 .. التفسير ، التأويل ، الإعجاز العلمي في القرآن

سليم سوزه

2015 / 7 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في نقد الخطاب الإسلامي ح 4 .. التفسير ، التأويل ، الإعجاز العلمي في القرآن

واحدة من الإشكالات التي واجهها المفسّر الإسلامي في تفسيره للقرآن هي تلك النصوص التي تتحدث عن الظواهر العلمية والطبيعية. تلك النصوص التي لا تتطابق "ظاهرها" مع الحقائق العلمية المراد توضيحها ليضطر المفسّر الإسلامي الى تأويلها والخروج من إشكالياتها المتناقضة. التأويل هو عملية إسباغ معنى عقلي على آية لا يمكن تفسيرها بظاهرها. ولأن مشكلة التأويل تفتح باباً خطيراً للتلاعب بمقاصد القرآن الحقيقية، كفّر بعض علماء الاسلام مَن يقول بالتأويل وذهب الى ضرورة الإلتزام بالتفسير فقط. بالنسبة لهؤلاء العلماء، التفسير هو الإلتصاق بالمعنى الحرفي للآية والرجوع الى سياقها الروائي لشرح مقاصدها ومبانيها. بمعنى آخر ، الإلتزام بما ورد من أحاديث نبوية في شرح تلك الآيات ، وأي آية لم يصل لنا حولها نصٌ نبوي ستبقى حبيسة علم ربّها ولا يجوز تأويلها إطلاقاً. ستكون "بدعة" تُدخِل صاحبها النار فيما لو حاول تأويلها عقلاً طالما النقل يسبق العقل في الدين.

شهد تاريخنا الإسلامي معارك كلامية ضارية بين "المفسّرين" و"المؤوّلين" وكلاهما يمتلك مبرّراته وأدلته، فالأشاعرة يذهبون الى التفسير في حين يقول الشيعة والمعتزلة والمتصوّفة بالتأويل. مع هذا ، ليست هناك حدود صلبة بين المدرستين ، فالإثنان يغرفان من التفسير أحياناً ومن التأويل حين لا يستطيع التفسير وحده الخروج من إشكاليات بعض نصوص القرآن. فمثلاً يرى المعتزلة ومعهم الشيعة والمتصوّفة الآية "إن ربّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم إستوى على العرش" (الأعراف 54) مجازاً وصورةً تخيّليّة ، إذ ليس هناك عرش ولا إستواء طالما الله لا يحده مكانٌ ولا زمان. لكن هذا التأويل لم يرق لأصحاب مدرسة التفسير الحرفي فراحوا يردّدون ما يُنسَب لمالك إبن أنس أو لأحمد بن حنبل "الإستواء معروف والكيف مجهول والحديث عنه بدعة" *1
يقول هؤلاء بالإستواء تطابقاً مع ظاهر النص لكنهم يجهلون كيفيته، وعليه قالوا أن محاولة التعمّق في هذا الموضوع بدعة لأنها ستحيلنا للتأويل لا محالة ، والتأويل يعني إسباغ معنى عقلي مُفترض على النص ، والعقل مذموم أمام النقل.

لقد صنع التفسير الحرفي للقرآن إشكالية كبيرة وصار النص القرآني مرهوناً بفهم المسلمين الأوائل فقط. صار لا يرى المفسّر الإسلامي نصاً قرآنياً معيناً ، خصوصاً تلك التي تحكي عن ظاهرة طبيعية معينة ، إلاّ بعين الأوّلين فحسب وكأن القرآن قد جمد على ذلك العصر دون أن يكون لنا نحن أبناء العصر الحالي دورٌ فيه. لسنا نحن المخاطبين وليس لنا دورٌ في فك شفرات القرآن وتفسيره. مشكلة إنتبه لها المتأخرون من العلماء. إنتبه لها حتى أولئك القائلين بالتفسير الحرفي للقرآن أنفسهم (الأشاعرة وغيرهم).
اليوم مثلاً ، جلّ علماء الإسلام ، من كافة مذاهبهم وأطيافهم ، لا يعتقدون بأن الشمس تغرب في عينٍ طينيةٍ حمئة كما تقول الآية في ظاهرها "حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عينٍ حمئة" (الكهف 86). أجمعت كل التفاسير القديمة نقلاً عن الموروث الروائي أن الشمس حين تغيب تدخل في عينٍ طينيةٍ سوداءٍ حمئة ثم تشرق من ثقبها الآخر في يومها التالي. يقول الطبري في كتابه لتفسير القرآن أن هناك قراءتين لهذه الآية ، الأولى "في عينٍ حمئة" والثانية "في عينٍ حامية" ، ثم بعد الإستدلال بعدد من الأحاديث التي وردت في تفسير هذه الآية يقول ما نصّه :

"والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، ولكل واحدة منهما وجه صحيح ومعنى مفهوم، وكلا وجهيه غير مفسد أحدهما صاحبه، وذلك أنه جائز أن تكون الشمس تغرب في عين حارّة ذات حمأة وطين، فيكون القارئ في عين حامية بصفتها التي هي لها، وهي الحرارة، ويكون القارئ في عين حمئة واصفها بصفتها التي هي بها وهي أنها ذات حمأة وطين" *2

هذه واحدة من الظواهر العلمية التي "أخطأ" فيها القرآن (أو ظاهر القرآن) وسبّبت حرجاً للمفسّرين الإسلاميين ، فما كان منهم إلاّ التأويل للتخلّص من هذا الحرج. فبعد مئات السنين من نزول هذه الآية ، إكتشف العلم أن الشمس أكبر وأعظم من أن تدخل في عينٍ طينية ، والأرض هي مَن تدور حول نفسها فتحدث ظاهرتا الشروق والغروب. ما كان من المفسّرين الحَرْفيين إلاّ التأويل والخروج بالقول أن القرآن قد وصف ما رآه ذو القرنين بعينه وليس ما يعرفه الله بنفسه. إستخدم القرآن الفعل "وَجَدَها" وهي قرينة تدل على أن مَن يقول أن الشمس تغرب في عينٍ حمئة هو ذو القرنين وليس الله. لقد وصل ذو القرنين مغرب الشمس (ويُعتقد أنها على حدود المحيط الأطلسي ومنهم مَن قال أنها حدود البحر المتوسط) فرآى الشمس وكأنها تدخل في جوف المياه وتختفي في حفرة طينية حارة. لا يستطيع ذو القرنين رؤية ما وراء تلك المياه الضخمة لسعة الأفق وطول المسافة فتخيّل له أن الشمس إختفت في حفرة وسط تلك المياه.

السؤال الأهم هنا : لماذا لم يذكر القرآن ظاهرة غروب الشمس بحقيقتها العلمية الصحيحة وإكتفى بسرد ما رآه ذو القرنين فقط؟ أخطأ ذو القرنين بعقله القاصر في معرفة دوران الأرض حول نفسها ، فلماذا "يخطأ" الله معه؟ أو بالأحرى ، لماذا "أخطأ" القرآن معه؟ دعنا نغيّر صيغة السؤال ، لماذا نقل القرآن لنا تفسير ذي القرنين رغم أنه تفسيرٌ خاطئ؟

بالحقيقة لم يخطأ القرآن بل أخطأ المفسّرون والمؤوّلون معاً في عدم معرفتهم ماهية نصوص القرآن.
يعتقد المفسّرون والمؤوّلون أن كل نصوص القرآن هي نصوص الله. نصوص هذا الآله الكبير الذي يتحدث لغتنا ويتكلم مثلنا. في حين أن هذه الآية وآيات أخرى كثيرة ليست كلام الله ، بل "صدى" لخطاب إجتماعي وتصوّر بشري ينقله لنا القرآن كما هو. هذه الآية صدى لما إعتقده ذو القرنين حقيقة ، وليست رأي الله او كلامه (راجع معنى الصدى في الحلقة الثالثة لهذه المقالة). مَن يعتقد أن نصوص القرآن كلام الله الحقيقي وتعبير عن علمه اللّدني أنزله الوحي من "لسان" الله مباشرةً فهو مخطئ. مثل هذا الإعتقاد لن يمكّن أحداً الإفلات من التناقض الصارخ بين ما تقوله الآية القرآنية وبين الحقيقة العلمية لغروب الشمس. لا يمكن لآله ألاّ يعرف أن شمسه التي خَلَقَها بنفسه لا تغوص في عينٍ حمئة! لذا لابد من التأويل للخروج من هذا المأزق القرآني ، والتأويل يقع في أن حديث القرآن في هذه الآية تحديداً هو حديث ذي القرنين وليس حديث الله.

لكن يبقى السؤال قائماً ، هل سيحل لنا التأويل إشكاليات القرآن؟ كيف لنا أن نعرف أن الآية الفلانية هي "كلام الله ورأيه الحقيقي" وأن تلك الآية هي "صدى" لكلام البشر؟ ما هو المعيار المُتبّع للتمييز بين هذين المفهومين؟ إن قلنا أن التفسير الحرفي للنص يهم بكشف دلالة المحكم من الآيات بوصفها آيات واضحات في معانيها ومدلولاتها فسيكون التأويل محاولة لفك المتشابه من الآيات نظراً للغموض الذي يكتنف ظاهرها. بكلام آخر ، التفسير للمحكم والتأويل للمتشابه. فكيف سنميّز بين المحكم والمتشابه؟ متى يمكن أن نفسّر ومتى نؤول؟ لا يحدّد القرآن ما هو المحكم وما هو المتشابه بل يكتفي بالقول "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربنا وما يذَّكَّر إلاّ أولو الألباب" (آل عمران 7).

بصرف النظر عن المشكلة اللغوية التي خلقها النص القرآني أعلاه حيث لا يستطيع القارئ معرفة أين الوقف وأين الإستئناف فيها. هل نقف بعد كلمة "الله" ونستأنف جملة جديدة بعده تبدأ من قوله "والراسخون في العلم يقولون آمنّا به ..." كما تقول الأشاعرة ، أم نقف بعد "والراسخون في العلم" ونستأنف النص مجدّداً من قوله "يقولون آمنّا به ..." كما يقول الشيعة؟ بطبيعة الحال سيتغيّر المعنى كثيراً. فإن صحّ السيناريو الأول ذلك يعني أن هذا القرآن لا يعلم تأويله (معناه الحقيقي) إلاّ الله فقط وإنتهى. أما في حال السيناريو الثاني ، فثمّة "راسخون في العلم" يعرفون معاني القرآن الحقيقية أيضاً وليس المعنى عند الله وحده. هذه الإشكالية اللغوية واحدة من الخلافيات التاريخية الملحوظة بين الشيعة والسنّة. هناك في القرآن العديد من الإشكالات اللغوية التي تشبهها والتي سبّبت خلافاً شيعياً سنّياً غير مبرر مثل آية الوضوء مثلاً. لو أجهد نفسه القرآن قليلاً وأعاد صياغة هذه النصوص "المتشابهة" في لغةٍ أكثر وضوحاً لما كان هناك خلاف لغوي مثل هذه الخلافات. بصرف النظر عن هذه المشكلة اللغوية طالما هي ليست موضع البحث هنا ، يخبرنا النص القرآني في هذه الآية أن هناك محكماً ومتشابهاً في القرآن وعملية الفصل بينهما عملية معقدة يعترف بها عليّ إبن أبي طالب نفسه في قوله "أن القرآن حمّال أوجه" أو في حديثه الآخر "القرآن بين دفّتي المصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال" *3
يشير حديث علي وضوحاً الى أن القرآن لا ينطق بنفسه وبذاته وأنما هناك مَن يؤوّله مجازاً ويسبغ عليه معانيه. هذا يعني أن لغة القرآن لغة مجازية وليست صريحة وإلاّ لِمَ يتكلم به الرجال ويؤوّلونه إذا كان واضحاً في ظاهره؟ يستبطن القول بمجازية لغة القرآن إشارة خطيرة وهي أن الله بوصفه صاحب هذا الكتاب قد إعتمد المجاز وليس الصراحة في التعبير ، لكن لِمَ يا ترى يعتمد الله المجاز وهو القادر على التعبير المباشر الواضح غير القابل للتشابه واللبس؟
يقول نصر حامد أبو زيد في بحثه "إشكالية تأويل القرآن .. قديماً وحديثاً" أن القرآن ينبغي أن يكون منزَّهاً عن المجاز ، وإذا "كان المتكلّم العادي يلجأ الى المجاز لأن الحقائق لا تسعفه، فهذا ما لا يجوز على العلم الآلهي في إطلاقه. وما يرى المعتزلة والأشاعرة أنه "مجاز" في القرآن ليس إلاّ أسلوباً من أساليب التعبير الوضعية أستُخدِمَت في اللغة العادية" *4

سأعيد صياغة عبارة ابو زيد هكذا: مَن يحتاج المجاز والصور والتمثيل لتوصيل المعنى هو الفقير الذي لا يستطيع إستعمال اللغة مباشرةً. هو ذلك الشخص غير القادر على إيصال المعنى دون الرجوع للمجاز والصور الشعرية ، وهذا ما لا يجب على القادر فعله. الله القادر على كل شيء لا يحتاج المجاز لإيصال المعنى بل قدرته تتخطى اللغة ذاتها فكان الأولى ألّا يكون في القرآن مجازٌ يدخلنا في دوامة التأويل والمتشابه. كان يجب أن يكون القرآن مباشراً صريحاً وواضحاً حتى يكون بالفعل مصداقاً للآية القرآنية "فللّه الحجّة البالغة" (الأنعام 149). لكننا نرى الكثير من آيات القرآن متشابهة وغير واضحة ، فمَن الذي خلق هذا التشابه إذن؟ الذي خلق التشابه بهذا المعنى هو الله وليس البشر؟ لكن مهلاً ، لماذا يشوّشنا الله هكذا؟ هل هذا منطقي؟
نعم هذا منطقي في حال قلنا أن القرآن هو كلام الله ورأيه الحقيقي ، في حين أن القرآن هو "صدى" نقل لنا في كثير من آياته رأي الناس والأقوام التي عاشت في القرون السحيقة. وسواء نزل القرآن من الله بشاكلته هذه أو كتبه الصحابة بناءً على تعبير النبي محمد وما كان يفهمه هو من الوحي ، سيبقى موضوع "الصدى القرآني" أكثر دقة في توضيح تناقضات القرآن في الظواهر العلمية.

للأزهري محمد عبده رأيٌ مهم ينقله لنا نصر حامد أبو زيد. يقول عبده "القَصَص القرآني كله ليس تاريخاً، وإنما المراد بها الإعتبار والعظة من السياق. وليس المهم في القصة ما تحكيه من وقائع وأحداث، بل المهم هو أسلوب السرد ذاته الذي تُستَنبط منه العظة" *5.
يعقّب أبو زيد على كلام عبده ويقول:
وعلى ذلك، فإن "الإعجاز" في القصص القرآني "في اللفظ، لا في القصص نفسها" ، أي في بنائها اللغوي السردي، وليس في مماثلة وقائعها المرويّة للتاريخ أو في تطابقها مع وقائع التاريخ. بالإضافة الى ذلك، يقرّر محمد عبده أن ترتيب السرد في القرآن لا يتطابق مع الترتيب المنطقي الطبيعي للوقائع، بل هو ترتيب لتأدية وظائف الوعظ والإعتبار. *6
يرى أبو زيد أن محمد عبده يدافع عن القرآن في مواجهة هجوم المستشرقين على الدقة التاريخية لقصص القرآن من خلال ترديده المستمر لعبارة "ليس القرآن كتاباً في التاريخ" *7

لتوضيح الموضوع أكثر أنقل هذا النص لمحمد عبده :

ذكر القصة في القرآن لا يقتضي أن يكون كلّ ما يُحكى فيها عن الناس صحيحاً. فذكر السحر في هذه الآيات [البقرة 102] لا يستلزم إثبات ما يعتقد الناس منه ... إن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والإعتبار، لا لبيان التاريخ ولا للحَمْل على الإعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين. وإنه ليحكي من عقائدهم الحقّ والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والإعتبار. فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة، ولا تتجاوز موطن الهداية، ولابد أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على إستحسان الحَسَن وإستهجان القبيح. وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستَعمَلة عند المخاطبين أو المحكي عنهم، وإن لم تكن صحيحة في نفسها، كقوله: "كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان من المس" [البقرة 275]، وكقوله: "بلغ مطلع الشمس" [الكهف 90]. وهذا الأسلوب مألوف. فإننا نرى كثيراً من كتَّاب العربية وكتَّاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشرّ في خطبهم ومقالاتهم، ولاسيما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريين القدماء، ولا يعتقد واحدٌ منهم شيئاً من تلك الخرافات الوثنية. *8

ليس أعظم من هذا النص في توضيح مقصدي عن "صدى" القرآن. من الواضح أن محمد عبده لا يهتم لقصص القرآن او بعض أحداثه العلمية طالما ينشب بين ظهرانيها صراع تناقضٍ بين الحقيقة والمجاز. فالقرآن ينقل لنا أحياناً "تعبيرات مستعملة عند المخاطبين أو المحكي عنهم وإن لم تكن صحيحة في نفسها" وهذا يعني أن هذه الآيات ليست كلام الله بل كلام البشر ينقله لنا القرآن فحسب. هذا ما أسمّيه أنا "بصدى النص القرآني" وفصّلت له في الحلقة السابقة، الحلقة الثالثة لمقالتي هذه.

لنأخذ مثالاً آخراً في القرآن ونوّضح هذا "الصدى القرآني" الذي شوّش على المفسّر والمؤوّل الإسلامي الكثير من الأمور. مازال بعض علماء المسلمين (وهم قلّة جداً) يعتقدون بأن الأرض منبسطة وليست كروية. لم ينشأ إعتقادهم هذا من فراغ ، بل من التناقض الظاهر بين آيات القرآن وحقيقة كروية الأرض. فهناك آيات في القرآن تشير تصريحاً لإنبساط الأرض وعدم كرويتها مثل : "والأرض بعد ذلك دحاها" (النازعات 30) ، "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيءٍ موزون" (الحجر 19) ، "أَوَلَم يَرَوا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا مُعَقِّب لحكمه وهو سريع الحساب" (الرعد 41) ، "والأرض وما طحاها" (الشمس 6) ، "والى الأرض كيف سُطِحَت" (الغاشية 20). تعطي هذه الآيات معنى البسط والإستقامة ولا تشير بوضوح الى كروية الأرض. يقول القرطبي في معرض تفسيره للآية 30 من سورة النازعات ما يلي:

"والأرض بعد ذلك دحاها" أي بسطها ... والعرب تقول: دحوت الشيء أدحوه دحواً: إذا بسطته. ويقال لعش النعامة أُدحِي، لأنه مبسوط على وجه الأرض. وقال أمية بن أبي الصلت: وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم قطانها حتى التنادي. وأنشد المبرد: دحاها فلما رآها أستوت على الماء أرسى عليها الجبالا، وقيل: دحاها سواها، ومنه قول زيد بن عمرو: وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض وتحمل صخراً ثقالا .. دحاها فلما أستوت شدها بأيدٍ وأرسى عليها الجبالا. *9

وتأتي "طحاها" بنفس معنى "دحاها" أي البسط أيضاً. يقول الطباطبائي صاحب الميزان في تفسيره للآية 6 من سورة الشمس ما يلي :

قوله تعالى : "والسماء وما بناها والأرض وما طحاها" طحو الأرض ودحوها بسطها، و"ما" في "وما بناها" و "ما طحاها" موصولة، والذي بناها وطحاها هو الله تعالى والتعبير عنه تعالى بما دون من لايثار الابهام المفيد للتفخيم والتعجيب فالمعنى وأقسم بالسماء والشيء القوي العجيب الذي بناها وأقسم بالأرض والشيء القوي العجيب الذي بسطها. *10

تلمّح الآيات المذكورة أعلاه الى عدم كروية الأرض إن تمسّكنا بالتفسير الحرفي لها. إنها تقضي على فرضية الإعجاز العلمي للقرآن لو أن المفسّر الإسلامي لم يتدارك نفسه ويؤوّلها ليذهب حيث يذهب العلم الحديث. ما ساعد هؤلاء المفسّرين في تأويلهم للآية والخروج من "الورطة القرآنية" تلك هو ذلك المنفذ القرآني المهم الذي أشار الى ما يشبه مفهوم كروية الأرض ، وأقصد بها الآية الخامسة من سورة الزمر ، "يُكَوِّر الليل على النهار ويُكَوِّر النهار على الليل" (الزمر 5). ورغم أنها ليست بذلك الوضوح لكنها تعطي مفهوم التكوير بمعنى أن الأرض مكَوَّرة على ذاتها فيتداخل نهارها مع ليلها في عملية مستمرة غير منتهية. مع هذه الآية وفي ظل علم حديث قَطَعَ بكروية الأرض غادر المفسّر الإسلامي تفسيره القديم وقبل بفكرة أن الأرض في حقيقتها كرة وليست "فراشاً مهادا". أمّا تلك الآيات التي تشير في ظاهرها لبسط الأرض فلابد من تأويل مقبول لها، وهو ما حصل بالفعل. خرج المفسّر الإسلامي بالمقولة المشهورة "الأرض كروية الكل مسطّحة الجزء"، أي أنها تبدو مسطحة لنا نحن البشر الذين نعيش عليها ، لكنها كرة كبيرة لو نظرنا لها من خارجها ، وبهذا لا تناقض ولا تعارض بين النصّين أو بين آيات القرآن والعلم الحديث.

لو أدرك المفسّر الإسلامي أن القرآن كتاب وعظ وأخلاق وليس كتاب تاريخ أو علوم لما ورّط نفسه في هذا المطب ومطبّات قرآنية أخرى تطرّق لها الكثير من الباحثين سابقاً. القرآن كتاب حكايات ووعظ وأخلاق وظيفته الإساسية هداية الناس للإيمان بالله الواحد الأحد. الإصرار على أنه يحوي كل شيء وفيه علوم كل الكون هو قول يفتقر الى الدليل والحجّة. ليس في أغلب آيات القرآن سوى "صدى" كلامنا نحن البشر وما عرفناه من منطقنا لفهم الأشياء.

أدناه رأي المفكّر الأزهري الشيخ أمين الخولي في قضية الإعجاز العلمي للقرآن. ثلاث نقاط جريئة أنقلها كما هي :

النقطة الأولى : إن القرآن، حين يتناول بعض حقائق الكون ومشاهده، إنما يتناولها تناولاً فنيّاً، ولا يتناولها من ناحية قوانين العلم الدقيقة أو نواميس الكون المنضبطة.
النقطة الثانية : إن هذا التناول لحقائق الكون إنما يعتمد على المشهود والمدرك للناس جميعاً، العامة والخاصة، والعلماء وأنصاف العلماء، بل والجهلاء أيضاً.
النقطة الثالثة : إن القرآن يتناول هذه الحقائق المشاهَدة والملموسة للناس جميعاً من ناحية وَقْعِها على الحواس، وانفعال الناس بها، وما تثيره من روعة في نفوسهم. *11

بهذا الكلام يؤكد الشيخ الخولي ما حاولت التركيز عليه في موضوع الخطاب القرآني وطبيعته الحوارية العاكسة لما يدور في المجتمع. عدم إنسجام بعض آيات القرآن مع نفسها وتناقضها مع الظواهر الطبيعية ما هو إلاّ دليل على الطبيعة الحوارية البشرية للنص القرآني ، ليس بمعنى أن القرآن بشريٌ ، فهذا ليس مبحثي ، بل بمعنى أن النص القرآني هو "صدى" لما كان يقوله البشر قبل قرونٍ عديدة. القرآن ليس رأي الله اللّدني الخالص ، بل كتاب ينقل لنا طبيعة التناقضات البشرية وفهم الناس للظواهر الطبيعية وإن كان فهماً منقوصاً غير صحيح.




هوامش :
1 نصر حامد أبو زيد : إشكالية تأويل القرآن .. قديماً وحديثاً، صفحة 13، ملف ألكتروني.
البحث موجود على هذا الرابط أيضاً :
http://www.hurriyatsudan.com/?p=111226

2 تفسير الطبري للقرآن، المصحف الألكتروني:
http://www.e-quran.com/tabary/tabary-s18.html

3 نصر حامد ابو زيد : المصدر نفسه ، إشكالية تأويل القرآن، صفحة 5
4 نفس المصدر أعلاه، صفحة 19
5 نفس المصدر أعلاه، صفحة 27
6 نفس المصدر ونفس الصفحة أعلاه
7 نفس المصدر أعلاه، صفحة 28
8 نفس المصدر ونفس الصفحة أعلاه

9 تفسير القرطبي للقرآن، المصحف الألكتروني
http://www.e-quran.com/kurtoby/kur-s79.html

10 تفسير الميزان للطباطبائي، رابط ألكتروني
http://shiaonlinelibrary.com/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A8/2425_%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%B2%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A8%D8%A7%D8%B7%D8%A8%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%AC-%D9%A2%D9%A0/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%81%D8%AD%D8%A9_296#top

11 نصر حامد ابو زيد : المصدر نفسه ، إشكالية تأويل القرآن، صفحة 48


سليم سوزه
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا