الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب وأشياء اخرى..ح2...قصة قصيرة

جمال حكمت عبيد

2015 / 7 / 22
الادب والفن


في مدينة العُزَير

كان الهدوء ينعم بصفوة سماء الصيف، وضوء القمر الساطع يكسر وحشة الليل المغمور بالحذر والخوف، من أية قذيفة طائشة تُمطر الأرض قطع من الشظايا الحامية تقطع البشر والشجر، أو من هجوم مباغت للعدو!! يخترق راحة المقاتلين، بعد الإرهاق الذي اصابهم قبل اسبوع جراء المعركة ... في قاطع عمليات الفرقة الخامسة والعشرون وعلى تخوم مدينة العزير ومرقد نبي الله العُزَير -ع-.
على الرغم من هدوء الليل كان لهجوم" الحرمس" الملعون وقتاً يستأنس فيه بأجسادنا، خارقاً دبابيسه فيها، كسوط جلاد اتاح له القرار الإلهي بسرقة النوم من عيوننا. مما دعانا الى اكمال حديثنا والجلوس متربعين فوق فراشنا المطروح فوق سقف الملجأ المعمول من صفائح الألمنيوم المتعرجة، المفروشة فوق الواح الخشب، المسنودة على اكياس الرمل المحيطة بكتف الموضع الذي حفرناه تحت الأرض حجرة لنا .
- يا لها من صدفة ، أنتَ مِن سَكَنة حافظ القاضي؟
- نعم
- قد تكون صديق طفولتي مادمت من مواليدي ؟
- حقاً أين كان بيتكم ؟
- أعرفُ مكانه بالضبط رغم انتقالنا منه وأنا في سن الخامسة من عمري.
- هل لكَ أن وصَفتَ مكانه لي؟
عريف خالد: بيتنا يقع في دربونة يقال عنها انها (ما تطلع) أي ليس لها مخرج، واعتقد كان يقال لها كما قالت لي أمي دربونة العجيليين. في ركنِها الآن فرن للصمون أي (مخبز).
- هذه دربونتنا يا أخي.
- حقاً: قبل ثلاثون عاماً كان الفرن محل أو (دُكان) لرجل يدعى مصطفى على ما أعتقد. وعند الجهة الأخرى قبل الدخول اليها كان معمل سجائر تركي، وتتذكر أمي قد حدث اضراب لعمال المعمل مطالبين فيه زيادة أجورهم ، مكث العمال ثلاثة ايام لم يبرح احدا منهم مكانه، حتى استجابت الحكومة لمطلبهم. بعد ان وافق رئيس الوزراء نوري السعيد عليها ... وكذلك تتذكر أمي، الدور الذي لعبه أهل الدربونة بتزويد العمال المضربين بالطعام خفية من الشرطة عن طريف النافذة الخلفية للمعمل، والمطلّة على الدربونة. كان العمال يرمون حبلاً من عند النافذة، فيقوم اهل الدربونة ربط سلة الأكل فيه ويتناوشها العمال ..هذا ما قالته لي امي والله أعلَم .
ابتسم أيمن وقد أيّدَ كل ما ذهب به عريف خالد، الذي اصبح هو ألآخر يتفحص وجه ايمن على ضوء القمر المنعكس على وجهه، فتبدو بشرته السمراء ممزوجةً بظلام الليل أكثر لمعاناً ،كان واسع العينين، سَبِل الشعر، مربوعاً نافخاً صدره وكأنه من أشقياء بغداد أيام زمان .
- ماذا كانوا يدعونكم أو يسمونكم في الدربونة، أقصد بيت من انتم ؟... فنحن ثم اِبتسم أيمن وقال : نحن في مناطق بغداد القديمة نُسمّي البيوت على أسماء الأم ، كما نطلق كلمة( باجي) على المرأة.
- لا أتذكر.. لقد كنت صغيراً ، من الجائز يسمَوننا بيت أبو رياض تيمناً بأخي الكبير رياض أو بيت الصُبة.
- ماذا تقول.. افترَشَت خدّيه ابتسامة تعَجُّب:
لقد عرِفتكم، حدثَتنا عنكم والدتي رحمها الله...ما زال بيتكم في الدربونة يسكنه مؤجر .
قاطعه عريف خالد قائلاً رحمها الله .. نعم : لكني منذ خمسة وعشرين عاماً لم ادخلها سوى مرّتين. لا اعرف احداً ولا أحد يعرفني فيها.. بالله عليك يا أيمن أين أخَذت خيالي في هذه الليلة، سوف أخبر أمي عنكم عند إجازتي.
لكني في الحقيقة أتَذَكر رجلاً ضريراً كان اسمه (جونه) ثلاثة نقاط تحت الجيم .
- جونه، نعم : لا يوجد من لا يعرف جونه.. المسكين على الرغم كونه ضرير، ترك له أبوه أختاً معوّقة كسيحة وأم مريضة .
- نعم أنا أتذكر أبوه لقد بنى قبر المرحوم والدي في السبعينيات رغم انتقالنا عنكم في بداية الستينيات...
ارجوك خبِّرني يا أيمن أكثر عن جونه، فأنا لا أحمل ذكريات عنه سوى أسمه الذي ما زال يتردد في بيتنا. روى لي أخي الكبير عنه، أنه بعد قيام الجمهورية تغيّرت العملة الملكية، جاء ابن عمتي زائر عندنا واعطى ( عُملة تسمى قران ملكي) الى جونه أراد بها أن يشتري قطعة حلوى، كان لا يعرف معنى تغيير العملة، تلَمَسَ جونة (عُملة القران ) وأعتَقدُ انها تعادل (عشرون فلساً) في ذلك الوقت.. المُهم في الأمر، بعد أن تلمّس جونه (القران) دعا ابن عمتي الإقتراب منه، فوضع يده على كتفه، رفعها الى وجه ابن عمتي، وصفعه على خده!! قال له: أتُريد أن تغشّني.. لقد انتهى زمن الملوكية وولّى...
هههههه.. ضحكا وأخذ أيمن يهز يده.. نظر الى الأرض ثم رفع رأسه، سحبَ نفَساً عميقاً من سيجارته ملأ صدره بهواء الحسرة، ونفَخَهُ دخاناً في الفضاء معاتباً الأيام فيه..
قال : سأروي لك أخرى، كان جونه يفترش ألارض في الدربونه، ويتكأً على احدى حيطان بيوتها، وأمامه على الارض " الجنبر" (ثلاثة نقاط تحت الجيم)، الصغير المعمول من أربعة اضلاع من الخشب، قاعدته خشبة مستوية مقسّمة الى عدّة قواطع صغيرة، في كل قاطع نوع من الحلوى (كالحلقوم، والجكليت، والحامض حلو ، وبيض اللكلك، وجعموص الملك )، كما نسميها واشياء أخرى لا أتذكرها.. ، ثُبِتَ على جانبي الجنبر حزام جلدي، يُعَلّقه جونه على رقبته عندما يروم السير الى مكان آخر.
وهناك طرفة جميلة مع جونه حدَثت في يوم من الأيام، جاء نفَر من بعض اطفال الدربونة، يلعبون مسرعين، سقط أحّدهم فوق جنبر جونه، ظنَّ جونه أن الطفل يريد سرقته، وراح يشبع الطفل ضرباً مبرحا والطفل يبكي لا حول له ولا قوة.
قطعَ صوت المدفع النمساوي الحديث بينهما، كانت كتيبة المدفعية قريبة ، هزَّ المدفع الأرض مرتين مرة عند الرمي واخرى في صداه ثم تلته رمية أخرى من مدفع آخر وسكت..
- اكمل يا أيمن ..لا تقلق.. يقولون ان مدى المدفع النمساوي خمسة واربعون كيلو متراً فهو يرمي على ( لسان عجيرده) الواقع على امتداد طريق الهور لحد القرنة ..
- قال أيمن أرجوا أن لا تُسلب راحتنا، كما تعلم، ان العدو تقدم في أماكن قريبة عنّا، وقد يتسلل من منطقة البيضة والسودة حتى يصل منطقة (الكسّارة) فهي أقرب نقطة لموقعنا.
- نعم أدركُ هذا . لكن ارجوكَ أكمل القصة، ودعك من الحرب. أريد معرفة شيئاً عن أيامي القديمة التي عشتها ؛ مادامت هذه الفرصة قد بعثها الله لي والتقاني إياك ...لا أدري قد تكون هناك حكمة في الأمر.
ابتسم أيمن وقال: أتعني قد يموت واحد مِنّا.. يا للعبة القدر كيف جمعتنا الأيام!!
- عريف خالد :دعك يا رجل من هذا.. نعم أنها حرب ولكن مثلما للحرب وقت كذلك للأشياء الأخرى وقت .
الإنسان الى آخر يوم في حياته يطلب أو يستمع الى المعلومة وقد تصادفه ،و في كل يوم يتعلم الى أن يتوفاه الله يا صديقي..
سحب علبة سجائره واخرج سيجارة وقال لأيمن خذ سيجارة، عسى الأيام تمضي خيراً لحين موعد إجازتنا.. صدقني ، كم اتمنى إجازتك معي كي أزور الدربونة.
قال أيمن: حقاً متى يطلقون الإجازات؟
- يقولون بعد اسبوع.
قال: الله كريم. لننتظر..
- اكمل يا أيمن وحدثني عن جونه..أو هل تعرف ما معنى اسم جونة (ثلاتة نقاط تحت الجيم)
- لا والله لم يخطر ببالي هذا السؤال.
- أكمل إذن:
- آه يا صديقي ورفيقي: بعد وفاة أبيه عاش جونة حياة صعبة، ما عاد الجنبر يسد رمَقَهُ ورمق عائلته..
انقطع الحديث إذ سقطت قذيفة على الجانب الأيمن ، تبعد حوالي خمسمائة متراً عن محيط مكانهما ، أعقبتها أخرى واخرى. اسرعا نحو الموضع المعمول على شكل حرف (أل ) في الإنجليزية، أختبآ فيه، وصفّارة رئيس عرفاء الوحدة اخذت تصدح في ذلك الليل تحذرنا من خطر قادم.
خيّم القلق على الأجواء في تلك اللحظة ، وجلسا وضع القرفصاء في الخندق القريب على ملجأهما ، عملاه كي يحميهما من شظيّة قنبلة قد تكون معنونّه الى شخص بعينه ؟؟
في داخل الخندق وعندما انقطع القصف قال عريف خالد : اكمل يا ايمن أريد معرفة المزيد عن دربونتي التي تركتها..
ضحك ايمن وقال: هل انت مجنون! القصف قد عمانا وانت تريد سماع المزيد
وبلهجة بغدادية (يَمعَوَد أحنة بيّا حال مَدَتسمع القصف).
- صحيح والله نحن بأية حال.. لننتظر رحمة الله علينا .
بعد ربع ساعة انتهى الإنذار. وعادا الى الملجأ وجلسا فوق سقفه.
قال عريف خالد :عسى الأيام تمضي على خير لحين موعد اجازتنا .
أجابه أيمن ، آمين.
- خَبِرني يا أيمن ..ماذا فعلت الأيام بجونة؟
- نعم والله لقد انهزَمت أيامَنا وافراحنا وذكريتنا جرّاء هذا القصف اللعين ..لا تقلق سأكمل لك : توَفت والدة جونة عن مرض اصابها، وعصفت به الأيام.. كبرَ وكبِرَت أخته وثقل وزنها وصارت لا تقوى على السير، تزحف في ساحة البيت كي تنجز اعمالها .
- قال عريف خالد: لقد ألّمتني يا رجل حقاً..
- أيمن: اي والله.. لهذا صار جونه حين تتحدث معه عن ظروفه يرفع جفن عينه بسبابته ، ويرفع رأسه نحو السماء قائلاً "سأحاسبه قبل أن يحاسبني".
- أستغفر الله.. حقاً انها حياة صعبة وماذا بعد ؟
- جاء أحد شباب الدربونة ، كان يتردد على الحضرة القادرية القريبة منّا. أتعرفها؟
- نعم أعرف مكانها .
- أخذه معه وصار يعلّمه أصول قراءة القرآن، بعد أن اكتشف ان صوت جونه في ترتيل القرآن كان جميلاً.
- حقاً
- أي والله .. حفظ جونه القرآن عن ظهر قلب، وصار الناس يدعوه في مآتمهم ومناسبات دينية أخرى. أقول لك ما يكسبه من نقود صار يسد حاجته.
- وهل تزوج جونه، وما هو مصير اخته؟
كاد أيمن أن يجيب لكن القصف المدفعي عاد!! وهذه المرة كان ثقيلاً، ينذر بمعركة قادمة . اعتاد الجنود على معرفة بدء المعركة من شدةّ القصف. أمسى الأمر اكثر جديّة والحاحاً في القصف . والارتباك علا صفحتي وجهيهما .. عندها غمر عريف خالد أحساس غريب امتلكه نحو تلك الساعات القليلة التي جمعته بأيمن، معتقدا انها كانت ساعات ذات مغزى، إذ بعث الله له أيمن كي يلتقيه، و يسمعه شيئاً عن ماضيه، و قد يكون آخر ما سمعه في حياته. وكما توقع العريف خالد جاء المنادي يدعوه التهيؤ ليُرسَل مع محطته اللاسلكية الى الصف المتقدم في القتال.. المعركة قامت على احدى الألوية التابعة لفرقتهم ..
كان مطارد في كل وقت من قبل "أمن الوحدة والتوجيه السياسي" فهو في قائمة الجنود الذين يجب ان يذهبوا في اول المعارك عند حدوثها؛ كونه شخص وضعت في ملفه الكثير من علامات الإستفهام بتهمة عدم انتمائه للحزب الحاكم والشك في انتمائه الى حزب معارض، وكان لابد ان يكون في صفوف القتال المتقدمة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-