الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب -من يزرع الريح... - للدكتور ميخائيل لودرز الحلقة الثالثة (3-3) موقف الكاتب من تنظيم الأخوان المسلمين

كاظم حبيب
(Kadhim Habib)

2015 / 8 / 3
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


سأحاول في هذه الحلقة، وهي الأخيرة، مناقشة بعض الأفكار الواردة في كتاب الدكتور ميخائيل لودرز التي لنا فيها وجهات نظر متباينة والتي تستحق المناقشة ووضعها أمام القارئات والقراء الكرام. وهي على العموم لا تخل بأهمية الكتاب وتميزه عن الكثير من الكتاب الألمان والأوروبيين.
يصعب على الباحث الموضوعي والعقلاني أن يفهم أو يفسر العوامل الكامنة وراء الموقف السياسي للاتحاد الأوروبي ومواقف حكومات الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية من تنظيم الإخوان المسلمين. إذ من حيث المبدأ ليس هناك ما يبرر هذا التأييد للإخوان المسلمين حتى لو انطلقنا من المبادئ الواردة في اللوائح والمواثيق الدولية الخاصة بشرعة حقوق الإنسان، ومنها الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية..الخ. فهذا التنظيم يقف منذ تأسيسه بالضد من حقوق الإنسان ويدعو إلى العنف في مواجهة الآخر ويستمد أفكاره الأساسية من أرضية المذهب الحنبلي في الإسلام، المذهب السلفي المتخشب والمتشدد والسلفي، وهو نهج من حيث المبدأ تكفيري لكل ما هو غير المذهب الحنبلي. ومن يطلع بعمق وسعة على أدبيات الإخوان المسلمين بمصر ستكون كافية لمعرفة حقيقة هذا التنظيم الشمولي والاستبدادي والذي أصبح دولياً منذ عقود ويتضمن مجموعة من أسوأ شيوخ الإفتاء بالدول العربية وبالعالم. إن جذرهم الفكري من حيث الأساس واحد، أي الخروج من تحت عباءة الحنبلية وفكر أبن تيمية ومحمد عبد الوهاب. وبالتالي فأن الفرق بينهم وبين الجماعات التكفيرية الأخرى لا يبدو حقيقياً، بل من أجل أن يعمل الأخوان المسلمون علناً، ولكنهم يتحولوا إلى أصل تفكيرهم وممارساتهم حين يتسلموا السلطة أو يقفزوا عليها، كما حصل في مصر وفظروف غاية في التعقيد!
إن الحكومات الأوروبية والإدارة الأمريكية تعتقد بأن حكم الإخوان المسلمون هو النظام المناسب للدول العربية والدول ذات الأكثرية الإسلامية الذي يدعو إلى إقامة دولة دينية إسلامية بالدول العربية تأخذ بالشريعة الإسلامية وترفض فصل الدين عن الدولة وتحارب العلمانية والعقلانية في الفكر، في حين ترفض الدول الأوروبية كلها رفضاً باتاً ربط الدين بالدولة وكرس هذا المبدأ في دساتير جميع الدول الأوروبية، كما إن بعض أحزابهم التي تتسمى بالمسيحية، كما بألمانيا حيث يوجد الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاجتماعي المسيحي في ولاية باير، يفصل بين السياسة والدين وبين الدولة والدين، وهي دول علمانية. ومن غير المفهوم أن تجد الموقف ذاته إزاء الحركات الإسلامية وخاصة جماعة الأخوان المسلمين عند الكثير من الكتاب الأوروبيين، ومنهم الكاتب الدكتور ميخائيل لودرز، رغم تميزه عن الكثير منهم في قضايا أخرى مهمة، الذين يدافعون عن الإخوان المسلمين بمصر وفي غيرها من الدول العربية دون وجه حق، كما أرى. إن الدول الأوروبية وكتابها يرفضون إقامة أحزاب سياسية على أساس ديني أو مذهبي، ولكنهم لا يمانعون بل يشجعون على قيام أحزاب سياسية إسلامية مثلاً في الدول العربية كما يدعون إلى اعتبار إن حقوق الإنسان لا تنطبق بالضرورة على الدول العربية والدول الأخرى ذات الأكثرية المسلمة حين يتحدثون عن خصوصية هذه الدول. وهي تعبر، كما يبدو، عن خشية حكومات هذه الدول من القوى والأحزاب السياسية الديمقراطية والتقدمية والعلمانية ذات الاتجاهات العقلانية. والغريب بالأمر إن هؤلاء الكتاب، ومنهم الدكتور لودزر، يتجاوزون كل النظم الداخلية ونشاطات فروع جماعة الإخوان المسلمين بالدول العربية ومخالفاتهم الفظة لحقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية ويتخطون السياسات الخاطئة والمضرة والمستبدة التي يمارسها "الأخوان المسلمون" حين يكونوا خارج السلطة والاستبداد والقسوة في التعامل مع الفرد والمجتمع حين يكونوا في السلطة. وهذه المسألة لا تقتصر على جماعة الإخوان المسلمين فحسب، بل وجميع الأحزاب السياسية التي تبنى على أساس المذاهب والتيارات الإسلامية السياسية بما في ذلك المذاهب السنية الأربعة وما انبثق عنها من مدارس واتجاهات واجتهادات فكرية وتشريعية وسياسية، والمذهب الشيعي والنهج الصفوي في المذهب الشيعي أو ما تفرع عنهما أيضاً من اتجاهات وتشريعات وسياسات تتناقض مع المجتمع المدني ومع الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن الفكر الديني شمولي ويعتمد على قواعد أو أسس لا يمكن القبول بها في أي مجتمع يسعى لبناء دولة مدنية حديثة ومتطورة. فـ "حاكمية الله" و "الإسلام هو الحل" و "الحدود في الإسلام" تتعارض كلية مع الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة ومع استخدام العقل والعلم. إن سنة واحدة من حكم محمد مرسي برهن على الطابع الشمولي لحكم الإخوان المسلمين ورفضهم للفكر والرأي الآخر. وهذا ينطبق على الجماعة الشيعية في الحكم كما بإيران حيث ولاية الفقيه. فالولي الفقيه يعتبر الشخص الوحيد الذي يقرر كل شيء، وهو وكيل الله على الأرض وسكانها. وينطبق على هؤلاء جميعاً المثل العربي المعروف عن علاقة صيادين بغنيمتهما من الصيد حين يقول الصياد القوى للضعيف: تريد أرنب خذ أرنب، تريد غزالة خذ أرنب! وبهذا فهم يمارسون الاستبداد ورفض الآخر شئت أم أبيت فحصتك أرنب لا غير كما فعل الصياد القوي!!
إن ما حصل بمصر كان انتفاضة شعبية ضد حكم مبارك في إطار ما أطلق عليه بالربيع العربي. وسرقت نتائج الانتفاضة من جانب الإخوان المسلمين لعوامل كثيرة. فحصلت انتفاضة ثانية ضد سياسات الدكتور محمد مرسي الذي أراد تكريس سلطة الإخوان المسلمين الفردية وإلى الأبد، وكان يتعامل مع الوضع بالطريقة التي تعامل معها صدام حسين حين ردد مراراً وتكراراً "جئنا لنبقى!"، أو كما فعل نوري المالكي حين قال بملء الفم "أخذناها بعد ما ننطيها"! إن ما حصل في الانتفاضة الثانية كانت انتفاضة أكثر من 30 مليون مصري ومصرية أدركوا ما يراد بهم ولهم. رفضوا سلطة الإخوان المسلمين بشجاعة نادرة تماماً كما رفضوا سلطة محمد حسني مبارك. ولكن للأسف الشديد لم تستطع قوى المجتمع المدني المصري أخذ الحكم بيديها وتصارعت في ما بينها، ولم تكن تجربة الشبيبة وتنظيماتها قادرة على ذلك أيضاً. فسيطر العسكر على السلطة وزج بمجموعة من قادة الانتفاضة الشعبية في السجون لا لسبب إلا لأنهم تظاهروا ضد قوانين ظالمة وبعيداً عن حقوق الإنسان!!. وما يعيشه الشعب بمصر اليوم هو نتيجة منطقية لإخفاق المجتمع المدني وقواه الديمقراطية والعلمانية . وعلينا أن لا نقارن بين أيهما أفضل حكم الإخوان المسلمين أو حكم العسكر. فكلاهما غير مناسب للمجتمع المدني والحياة الديمقراطية بمصر. وبالتالي فالربيع العربي بمصر لم ينته بعد ويعاني من انتكاسة ربما طويلة الأمد، وربما سيحتاج الشعب المصري وقتاً طويلاً نسبياً ليعود إلى الواجهة ويحمل شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولكن بصيغة أكثر وعياً وإدراكاً للتجربة التي مرَّ بها ثوار مصر وأكثر قدرة على تنظيم عمله وفعالياته.
لا يمكن ولا يجوز المقارنة بين استبداد واستبداد، والقول أيهما الأسوأ، فكلاهما سيء, الاستبداد الديني منهك ومن ثم مهلك لعقل الإنسان ومشوه لحياته ويتجاوز على حقوقه، وكذا الاستبداد العسكري الذي يحاول ربما أن يتمسح بالدين أيضاً لينافس الإخوان المسلمين. كل المؤشرات المتوفرة تشير إلى إن الوضع بمصر سيعود تدريجاً إلى الصيغة التي كان عليها الحكم في فترة محمد حسني مبارك. لهذا فالربيع العربي وما حققه الإنسان والمجتمع المصري لم ينته بعد وستأتي التتمة فيما بعد، طال الوقت أم قصر، بطريقة مماثلة ولكنها أكثر وعياً وتنظيماً وأكثر تشابكاً وتكاملاً بين العامل الذاتي والعامل الموضوع الذي لم يبرز تماماً في الوضع الثوري السابق بمصر نتيجة تخلف العامل الذاتي عن العامل الموضوعي.
والمسألة الثانية التي أثارها الكاتب الدكتور ميخائيل لودرز هو الموقف من سوريا. يمكن أن نشير إلى الحقيقة التالية التي تجاوزها الدكتور لودرز أو أغفلها وحاول الابتعاد عنها، وأعني بذلك ابتعاده عن ذكر الأسباب وراء تفاقم الوضع بسوريا وبروز واسع وكبير لقوى الإسلام السياسي المتطرفة والتكفيرية والعدوانية، سواء أكانت من داعش أم النُصرة أم من ما يماثلهما. نظام الحكم الدكتاتوري بسوريا رفض مطالب جمهرة المثقفين المدنيين الديمقراطيين الذين تقدموا بها إلى الحكومة وبشار الأسد منذ سنوات قبل الانتفاضة الشعبية، ولم يكتف بذلك بل اعتقل قادة هذا التحرك، بل اعتقل حتى مجموعة من البعثيين والقوميين الذين شاركوا بهذه الحركة المدنية ولم يطلبوا بإزاحة حكم البعث من السلطة، بل لأنهم طالبوا بتوفير أجواء ديمقراطية وحريات عامة واحترام حقوق الإنسان بالبلاد. وكان علينا نحن مثقفي الدول العربية النضال من أجل إطلاق سراحهم. فلو كان هذا المستبد بأمره قد استمع إلى صوت العقل وحقق بعض ما طالب به المثقفون السوريون لما تسارعت الأمور بالوجهة الراهنة. لقد مارس الحديد والنار في مواجهة مطالب أناس مدنيين غير مسلحين، مما استوجب تغيير تكتيكاتهم مع بقاء الاستراتيج ذاته. ثم دخلت قوى محلية وإقليمية ودولية على الخط لتشوه وتسيء إلى الحركة المدنية السلمية التي كانت تسعى إلى تغيير الوضع بصورة سلمية وديمقراطية. إن المسؤولية الأولى عن الحرب الأهلية وعن القتلى الذين سقطوا والخراب الذي عمل البلاد هو النظام السوري وبالدرجة الأولى حزب البعث وبشار الأسد، الذين رفضوا منح الحريات العامة والحياة الديمقراطية والخلاص من حكم الحزب الواحد فعلياً، رفضوا التغيير. وهذا الرفض قاد إلى مزيد من التداعيات والتباعد والقتال وإلى الكوارث والخراب الذي يعيش تحت وطأته الشعب السوري حالياً.
إن الدعوة إلى المفاوضات السلمية ضرورية ولا بد منها بسوريا، إذ إن ميزان القوى غير مناسب لأي من الطرفين على إحراز النصر. ولكن هذا لا يعني أن المفاوضات ينبغي لها أن تحتفظ بالأسد رئيساً بسوريا. فهو المسؤول المباشر باعتباره رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة الذي تسببت قراراته وخوض الحرب إلى قتل عشرات الآلاف من المدنيين. إن المفاوضات ينبغي لها أن تسقط بشار الأسد في المحصلة النهائية. إن عودة الظروف الطبيعية لسوريا سيجد الشعب السوري ضرورة تقديم بشار الأسد ومجموعة من قادة الحكم إلى المحاكمة أمام القضاء المحلي والدولي، لأنهم ارتكبوا جرائم حرب، وكذا الجماعات الإسلامية السياسية المتطرفة والتكفيرية. كما لا بد من محاسبة كل من تركيا وقطر والسعودية على أدوارهما القذرة بسوريا.
وكتب الدكتور ميخائيل لودرز عن تونس وعن دور راشد الغنوشي في إبعاد تونس عن الفوضى وسرقة نتائج الانتفاضة كما حصل في دول أخرى. على الباحث هنا أن ينتبه إلى حقائق معينة بتونس أشير إلى بعضها فيما يلي ولم يشر إليها الدكتور لودرز:
1. إن مستوى التعليم والحياة الثقافية ودور المثقفين كان منذ بداية الانتفاضة واسعاً وكبيراً بتونس، بل يمكن القول منذ فترة الاحتلال الفرنسي وما بعدها.
2. كما كانت منظمات المجتمع المدني وما زالت قوية بتونس، وهي التي لعبت دوراً مهماً في إسقاط زين العابدين بن علي، وبالتالي فهي التي لعبت دوراً مهماً في الحفاظ على مستوى معين من عدم الفوضى بتونس. كما لا بد من الإشارة إلى الدور المهم والريادي الذي لعبه الاتحاد العام التونسي للشغل في مسار التحول المدني والديمقراطي بتونس.
3. وعلينا هنا أن نشير إلى إن الغنوشي وحزبه لم يكن لهم الدور المميز في الثورة الشعبية أو بانتفاضة الفقراء التي فجرها انتحار محمد بوعزيزي وانطلقت من المدن الصغيرة لتتلقفها القوى المدنية المثقفة وكذلك جمهرة من حزب النهضة. كما إن القوى الأخرى كانت كلها أكثر تحضراً وأكثر وعياً بأهمية الحفاظ على مستوى معين من الحوار الحضاري للوصول إلى نتائج أفضل لصالح تونس والشعب التونسي. فالفضل هنا يعود بالأساس لقوى المجتمع المدني والاتحاد العام للشغل. ولموقف الشعب التونسي عموماً. ومن هنا فأن حزب النهضة لم يكن لديه القوة الكافية التي يمكنه بها أخذ السلطة كاملة وبمفرده. لهذا بدا إن بعض قوى حزب النهضة كان أكثر معقولية في مواقفه، وهو الدور المهم الذي أثر على موقف راشد الغنوشي، الذي حاول في فترة ما أن يبدو أكثر تصلباً في المواقف إزاء القوى الأخرى، ولم ينجح.
إن ما نأمله للشعب التونسي هو التقدم لتونس سلمياً وديمقراطيا بما يحقق مصالح هذا الشعب الأبي ومصالح المنطقة، وأن يقدم نموذجاً طيباً يصلح أن يكون قدوة ممتازة للآخرين في التعامل العام وليس بالنقل عنها، إذ أن ظروف الدول الأخرى غير التي كانت وما تزال بتونس.
من المؤسف حقاً إن جمهرة من الكتاب السياسيين الأوروبيين لم يدرسوا الفكر الإسلامي منذ نشأته في الجزيرة العربية، في الصحراء القاحلة وفي تربة بدوية متخلفة. ولعب المكان هذا دوره في بنية هذا الفكر والذي أطلق عليه الدكتور فالح مهدي في كتابه الموسوم "الخضوع السني والإحباط الشيعي" أو "نقد العقل الدائري"، الصادر عن بيت الياسمين بالقاهرة عام 2015، بأن هذا الفكر ومنذ ولادته قبل ما يقرب من 1450 لم يتغير، لأنه استند إلى قاعدتين هما القرآن والسنة النبوية أي أحاديث النبي محمد. وهو بالتالي فكر مغلق متكلس ومنغلق على نفسه. وكل التباينات في الشرائع السنية والشيعية لم يغير من جوهر الفكر الإسلامي حين نشأ في الحيز الجماعي، المكان الصحراوي في مكة وتأثر بديانات وحضارات أخرى ولكنها كانت كلها من ذات الطبيعة أو أخذ الإسلام منها ما يتلاءم وطبيعة المكان والأساس الفكري الذي اعتمده. كما إن المجتمعات العربية لم تعرف عمليتين مهمتين عرفتها أوروبا والمقصود بهما هنا: عملية التنوير الديني والاجتماعي وعملية التحول من الإقطاعية إلى الرأسمالية وتطور الرأسمالية والتصنيع على نحو خاص ونشوء الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة وهما حاملتا المجتمع المدني، هذا المجتمع الذي ترفضه جماعة الإخوان المسلمين وترفض الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان الواردة في اللائحة الدولية لحقوق الإنسان الصادرة في 10/12/1948.
يطرح الدكتور ميخائيل لودرز فكرة أخرى تخص التنوير الديني، إذ يرى بأن التنوير ليس ضرورياً للتطور العام في بلد ما، ويورد الصين التي لا تعتمد التنوير، كما إن التقدم يمكن أن يحصل في دول مستبدة وبدون ديمقراطية، ويورد الصين كنموذج أياً لهذه الوجهة غير العقلانية. أرى في هذه الأفكار خلط كبير وعدم وضوح، بل تخبط .
كلنا يعرف ونحن شهود على إن المسلمات والمسلمين في الدول العربية ذات الأكثرية المسلمة لم تعرف التنوير أولاً، وبالتالي فهذا الأمر يشكل عائقا في وعي العلاقة بين الدين والدولة وبين الدين والسياسية وبين الدين والعلم، لأنه وعي ديني مشوه ومزيف في غالب الأحيان. وقد تخلصت أوروبا بعد معاناة طويلة وحصل فيها التنوير ومن ثم الثورة الصناعية التي وفرت مستلزمات التحول صوب المجتمع المدني. والشعوب المسلمة في الدول العربية ذات الأكثرية المسلمة لم تعرف التنوير كما لم تعرف التحول الفعلي صوب الاقتصاد الرأسمالي والتصنيع وتحديث الزراعة اللذان يلعبان دوراً مهماً في ظهور الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة. والتجارب التي مرّت بها الشعوب تؤكد بأن هاتين الطبقتين هما الحاملتان الأساسيتان لمستلزمات بناء المجتمع المدني والديمقراطية والحريات الفردية والعامة. ومع واقع غياب أو ضعف كبير في وجود وفعل وتأثير الطبقتين بالدول العربية يصعب معه بناء المجتمع المدني الديمقراطي. إذ مع وجود علاقات إنتاجية ما قبل الرأسمالية أو علاقات إنتاجية شبه إقطاعية وعلاقات عشائرية من جهة، ووجود مؤسسات ومرجعيات دينية تلعب دوراً كبيراً في نشر التربية والفتاوى الدينية غير المتنورة وغير العقلانية أو الرجعية من جهة ثالثة، سيكون صعباً بل وربما مستحيلاً. فالعراق مثلاً سار منذ بداية تأسيس الدولة الملكية بالعراق في العام 1921 خطوات على طريق بناء المجتمع المدني، ولكنه انتكس بسبب طبيعة علاقات الإنتاج ومستوى تطور القوى المنتجة وتشوه وعي الإنسان بالعراق حينذاك وحتى الآن. لذلك لا بد من تأكيد حقيقة أن التحول صوب المجتمع المدني الديمقراطي يستوجب عملية تنوير ديني واجتماعي من جهة، على أن تقترن بعملية تنمية اقتصادية واجتماعية، بعملية تصنيع وتحدث الزراعة، وتنمية بشرية من جهة أخرى. هذا الموضوع يشكل واحداً من النواقص الملموسة والكبيرة في فكر بعض المفكرين البرجوازيين بألمانيا وأوروبا عموماً وبالولايات المتحدة وغيرها من الدول الرأسمالية المتقدمة، وهو موقف واضح تلتزم به دول المراكز الرأسمالية الثلاث إزاء دول المحيط الرأسمالي ورفضها ومقاومتها الشديدة للتصنيع أو حتى تحديث الزراعة رغم حديثها أحياناً عن الثورة الخضراء، لكي يبقى التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل على حاله دون تغيير ويبقى التخلف بالدول النامية مستندين ومتذرعين بقاعدة الكلف النسبية. هذا ليس جديداً، وهو ما دعا إليه المستشار الألماني لودفيك إيرهاد (1897-1977م) في الستينات من القرن الماضي حين كان مستشاراً بألمانيا في الفترة 1963-1966 والذي أكد على ضرورة ابتعاد الدول النامية، ومنها إيران في حينها، عن التصنيع وترك هذه المهمة للدول الصناعية المتقدمة. أي إنه كان يريد لهذه الدول وخاصة النفطية وذات الخامات الإستراتيجية المهمة، أن تبقى اقتصاديات ريعية متخلفة وتابعة لاقتصاد المراكز الرأسمالية الثلاثة بالعالم حينذاك. والتي تعني بدورها غياب المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان واستمرار وجود البطالة والفقر وتتسع فجوة الغنى والفقر بهذه البلدان رغم توفر موارد أولية مهمة. أي تبقى هذه الدول خاضعة لنظم غير ديمقراطية رجعية وأخرى استبدادية ظالمة.
إن التنوير والتصنيع وتحديث الزراعة مهمات أساسية لم يتطرق لها الدكتور ميخائيل لودرز، في حين أكد على عدم ضرورة التنوير وابتعد عن الحديث عن الاقتصاد والتصنيع. ولا أدري إن كان هذا ضعفاً في تكوينه الاقتصادي أم رؤية تقترب من رؤية لودفيك أيرهارد، وهو الاحتمال الأقرب للواقع.
31/7/2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عودة على النشرة الخاصة حول المراسم الرسمية لإيقاد شعلة أولمب


.. إسرائيل تتعهد بالرد على الهجوم الإيراني غير المسبوق وسط دعوا




.. بتشريعين منفصلين.. مباحثات أميركية لمساعدة أوكرانيا وإسرائيل


.. لماذا لا يغير هشام ماجد من مظهره الخارجي في أعمالة الفنية؟#ك




.. خارجية الأردن تستدعي السفير الإيراني للاحتجاج على تصريحات تش