الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دولة ودويلات: مشاريع الدول وحاجات الوطن...(2)

ياسر المندلاوي

2015 / 8 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


ثانيا: أمريكا والطائفية السياسية

دولة الدويلات العراقيّة، هدفا لأمريكا، للإعتبارات التي أشرنا إليها سابقا، كانت بحاجة إلى طائفيات سياسية ، مذهبية وقوميّة، تبرر إعتماد الدولة الإتحادية الفيدراليّة في صياغة قانونية ودستورية لدويلات الطوائف العراقية المتحدة في دولة طوائفية إسمها العراق، لها علم ونشيد والتباهي بالمجد التليد، شرط أن تكون عودتها إلى أمريكا في حكم المؤكد والأكيد كلما طرأ طاريء، أو إستجد جديد بين الأخوة الأعداء، الذين لا نفع فيهم أو رجاء، لا في السراء ولا في الضراء.
كما هو معلوم فإن أمريكا باشرت منذ حرب الخليج الثانية بإحداث تعارضات سياسية وإجتماعية على أسس مذهبية وقومية، وذلك بفرض مناطق الحظر الجوي وفق عناوين الطائفية السياسية، أي حماية (الأكراد) في الشمال و (الشيعة) في الجنوب من بطش النظام الذي بات يمثل الضلع الثالث المعرّف بصيغة غير مباشرة بمعرفة الضلعين الأول والثاني في المثلث العراقي حسب القراءة الإستشراقيّة الأمريكية اليمينية لفكرة التجانس واللاتجانس في المجتمعات الشرقية، ولاسيما العربية والإسلامية. وليس خافيا على أحد أن واحدة من أهم أولويات الدراسات الإستشراقية الأمريكية البحث في كل ما يمكن توظيفه لإنجاز مهمة تفتيت البنية الإجتماعية في الدول والمناطق والأقاليم الخاضعة للمعاينة والتدقيق في المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وهي لهذا الغرض هجرت الدراسات الفيلولوجية (في اللغة والأدب) التي كانت تطبع بطابعها الإستشراق الأوربي التقليدي قبل سيادة أمريكا وإستشراقها منذ الحرب العالمية الثانية ولغاية الآن. ولم تكن مناطق الحظر الجوي بالصورة والكيفية والعناوين المعروفة إلا تجسيد عملي لسياسة أمريكا الخارجية التي أسس لها هنري كيسنجر بالإعتماد على نتائج الدراسات الإستشراقية والهادفة إلى تقويض البنية الإجتماعية في البلدان المطلوب إخضاعها للهيمنة الأمريكية بالقوة قبل الدبلوماسية فيما يمكن تسميته بواقعية كيسينجر الشيطانية. لذا فإننا لا نرى في كلمة (الحماية) المقترنة ب(الشيعة) و(الأكراد) سوى كلمة حق بها أرادت أمريكا تسويق باطل محاولتها للنيل من النسيج الإجتماعي العراقي والتمهيد لسيادة الهويات الفرعية على الهوية الوطنية، ويقينا فإن أميركا ما كانت ترمي إلى (الحماية) لمعرفتها الأكيدة بأن التواجد (الكردي والشيعي) في بغداد وحدها يفوق تواجدهم في أية محافظة كانت مشمولة بالحظر الجوي. فهي أرادت الإيحاء من طرف خفي بأن الصراع في العراق إنما هو صراع مكوناتي: سنّي مهيمن وشيعي- كردي معارض.
ومن تأريخه عملت أمريكا على التعامل مع التنوع العراقي وفق منهج الكتلة الصماء، وإعتبار الطائفة المذهبية أو القومية كتلة متراصة قائمة بذاتها في حركتها الجمعيّة لتحقيق الأهداف الخاصة بها في تعارضها الحتمي مع أهداف وتطلعات الطوائف المذهبية والقومية الأخرى. وفي نتيجته تحويل الطائفة المذهبية والقومية إلى الطائفة السياسية المؤسساتية تمهيدا لشرعنة الطائفية السياسية بقوة الأمر الواقع والسيف القاطع. وتماهيا مع هذا المنهج في التعاطي مع المسألة العراقية دأبت أمريكا على ترتيب البيت العراقي المعارض للنظام، والتعامل مع أطراف المعارضة العراقية على أنها ممثليّات سياسية للطوائف المذهبية والقومية، ولم يكن من شأن هذه الأطراف غير أن تستطعم حلاوة التمثيل الطائفي في سعي لتبرير شرعيتها السياسية على أسس طائفية، ولاحقا الفوز بالحصة الطائفية من أبناء الشعب الواحد. وإمعانا في التمثل بمثل أمريكا ورؤيتها إلى عراق المستقبل تبنت المعارضة العراقية في مؤتمراتها المتتالية، وبإشراف أمريكي-بريطاني مباشر منهج الطائفية السياسية، والدعوة إلى فيدرالية عراقية على أسس طائفية وعرقيّة (شيعيّة، سنيّة وكرديّة)، وتماشيا مع هذه الرؤية تشكلت اللجنة السباعية، ولجنة المتابعة والتنسيق في تاسيس شائن للتمثيل الطائفي-العرقي وفق الحصة المفترضة لكل مكوّن بإعتماد منهج المبالغة في الإدّعاء ومشاكسة منطق علوم الإحصاء، وبهذا مهدت أمريكا عناوين المقدمات السياسية لمشروعها في عراق الدولة والدويلات بالتزامن مع إعلان الحرب وإحتلال العراق. وفي السياق نفسه، وبالتناغم مع السعي الأمريكي لخلق التعارضات بين المناطق العراقية بوحي التنوع المذهبي، لجأت قوات التحالف بقيادة أمريكا إلى تجزئة ساحة العمليات العسكرية إلى مواقع شيعيّة وسنيّة، وأوكلت مهمة إحتلال كل موقع إلى قوات مختلفة بإختلاف الإنتماء المذهبي: القوات البريطانبة في الجنوب، والأمريكية في وسط وغرب البلاد، ومع إختلاف هويّة المحتل تنوعت أساليب الإدارة والسيطرة على المناطق العراقيّة في محاولة لإدامة وتعميق نتائج المحاولات التي مرّ ذكرها في مسعى لتغذية مشاعر الخصوصية لدى سكان المناطق المختلفة والإنتقال بالطوائف المذهبية، شيئا فشيئا ، إلى الطائفية السياسية المؤسساتية، ليتسنى حصر التمثيل الديني والدنيوي في المؤسسة الطائفية ومرجعياتها المهيمنة. وما أن أعلنت أمريكا، عبر قرار صادر من مجلس الأمن، بأنها قوة إحتلال للعراق وسلطتها هي العليا، وليس لأبنائه سوى الخضوع جليا، باشرت على الفور في مواجهة إستحقاقات التنفيذ العملي ، أو لنقل الإنتقال إلى المتون السياسية والإجتماعية لمشروع الدولة والدويلات العراقية ، والبناء على الخطوات التمهيدية السابقة، لكنّها، وبسبب تشابك المشاريع المتباينة على ارض العراق، واجهت تحديات جمّة، فخاضت في بحرها بأنواع الوسائل، وسلكت لتذليلها أشق السبل.
ربما كان (بول بريمر) المندوب السامي الأمريكي في العراق المحتل أصدق الجميع في رصد وتشخيص هذه التحديات في كتابه (عام قضيته في العراق)، مع التورية في التعبير عن الوقائع والأحداث لزوم السياسة ولمراعات مشاعر الأتباع والأشياع، وتوافقا مع تورية صفته تحت عنوان (الحاكم المدني في العراق) رغم إقراره بأنه (الأمريكي الأعلى مرتبة في بغداد) و (الشخصية الوحيدة التي تتمتع بأعلى سلطة، بإستثناء الديكتاتور صدام حسين).
ولمّا كانت غايتنا في هذه المعالجة، رسم الملامح العامّة للمشروع الأمريكي في العراق لجهة جعله دولة الدويلات العراقية، أي دولة طوائفية، سنكتفي برصد التحديات التي لها علاقة مباشرة بهذه الجزئية دون غيرها. والتحدي الأول تمثل في الإنتقال بالعناوين الطائفية السياسية المتبلورة في مؤتمرات المعارضة العراقية في المنفى إلى الطائفية المؤسساتية بروافع مذهبية وسياسية ومجتمعية. إذ سرعان ما أكتشفت امريكا بأن الخطوات التمهيدية السابقة لإحتلال العراق لم تكن ملبية بما فيه الكفاية لشروط إحداث الإنقسام (ناهيك عن الصراع) الإجتماعي بين أبناء الشعب الواحد على أسس طائفية. وقد كان (بريمر) واضحا وصريحا في التعبير عن خيبة الأمل الأمريكية بهذا الخصوص، والقول له: وأبديت له (أي لعدنان الباججي) إنطباعي بأن الإنقسامات الطائفية التي طغت على رجال السياسة العراقيين في مجلس الحكم كانت أقل وضوحا بين المواطنين العاديين. وهو إنطباع تولد لدي بعد عام من التجول في أنحاء البلاد، ومحاورة آلاف العراقيين (إنتهى).
نحن إزاء مهمة أمريكية مزدوجة: إستحداث خطوط فاصلة بين الطوائف المذهبية، وتحويل القيادات الحزبية والدينية المذهبية إلى عناوين لمؤسسة سياسية طائفية تمثيلية ومعبرة عن الحركة السياسية الجمعية لأفراد الطائفة المذهبية. ولتحقيق هذه المهمة كان لزاما على أمريكا أن تعمل على إنتقال الطائفة المذهبية من الديني-المذهبي إلى السياسي-المذهبي المؤسساتي، وجعل الفرد العراقي عضوا في المؤسسة الطائفية لا مواطنا إلا بمقدار إنتمائه إلى الطائفة وليس بمقدار إنتمائه إلى الوطن. فما عاد العراقي، من وجهة النظر الأمريكية، عراقيا قبل أن يكون شيعيّا وسنيّا بالمعنى الطائفي المؤسساتي وليس المذهبي، فهو الطائفة والطائفة هو، بهذا المعنى تحديدا، بغض النظر عن جميع المؤشرات الأخرى: الفكرية والسياسية والإجتماعية، وربما مؤشر العدمية الدينية أيضا، التي تعصف ليس بتمذهبه فحسب، وإنما بإيمانه الديني بالجملة والعموم.
لا شك في جسامة المهمة التي أوكلت إلى المندوب السامي الأمريكي في العراق، حضرة صاحب السعادة مبعوث رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الحاكم المدني وطباخ (شوربة بغداد الألفبائية) السيد بول بريمر. وعندما أقول مهمة جسيمة، إنما أعني مهمة (إعادة بناء الأمة) سياسيا وإجتماعيا على أسس طائفية مؤسساتيه. والخطوة الأهم في سياق إنجاز هذه المهمة، إبتدأت مع حل وتفكيك جميع مؤسسات الدولة، السياسية والأمنية والعسكرية، وإطلاق العنان لحملة (الفرهود) التي شملت جميع مرافق الدولة بإستثناء وزارة النفط.
قبل المضي قدما في رصد سلوكيات إدارة الإحتلال في مرحلة ما بعد (الحل والتفكيك والفرهود) نشير إلى أن (بريمر) قدم تبريرا واهيا لقرار حل الجيش العراقي، بإعتباره ضرورة من ضروريات تجاوز الحرب الأهلية، بالإقتران مع إدعائه بأن الشيعة والأكراد ما كان لهم أن يتقبلوا فكرة عودة الجيش السابق، وكان قد أورد إطراء السيد عبد العزيز الحكيم، والسيدان مسعود البرزاني وجلال الطالباني لخطوة حل الجيش، في محاولة لتقديم البينة على صدق دعواه، وصحة قرار الحل رغم الفواجع التي ألمّت بالعراق والعراقيين نتيجة الفوضى الأمنية التي عصفت بالبلاد من كل حدب وصوب. وسوف لن نخوض في جدل الخطأ والصواب لأمرين: الأول، إن رجيح كفة أيهما يفتقر إلى رافعة واقعية لإستدراك ما فات في حال أدركنا اليقين في تخطئة القرار، فما فات مات (وليس كل ما يفوت يموت) ولا سبيل لبعث الروح فيه في جدل توصيفة الجدب والعقم. والأمر الثاني، لإعتقادنا بأن توجيه النقاش نحو ثنائية الخطأ والصواب يهدف إلى إختزال دوافع قرارات الحل والتفكيك، وجعلها إجتهادية لشخص المندوب السامي، وليست واحدة من مفردات إستراتيجية (إعادة بناء الأمة) وفق مقتضيات المصلحة الأمريكية في تضادها مع المشروع الوطني...(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟


.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟




.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل


.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي




.. بلينكن يؤكد أن الولايات المتحدة لم تشارك في أي عملية هجومية