الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شباك غرفة نومي

سميح مسعود

2015 / 8 / 10
الادب والفن


تُضيء ذاكرتي بصور كثيرة من أيام الطفولة الباكرة ، أجد واحدة منها بؤرة لاقطة لا تختفي أبداً تتسرب في أعماقي وتستوطن ثنايا الذاكرة موشومة بكثير من الأحزان ، تتصل بمرض شلل مفزع أصابني منذ ولادتي ، أقعدني طيلة سنواتي الخمس الأولى ، وبذل والدايّ تضحيات جسيمة طوال تلك السنوات، بمنحي الوقت الكافي عند الاطباء بالتنقل معي من طبيب إلى طبيب في مسقط رأسي حيفا وغيرها من المدن الاخرى .

مضت بي الحياة طيلة مرضي في حمى أب رؤوف وام رؤوم ، عشت معهما في بيتنا بشارع الناصرة على حافة مدخل حيفا الشرقي ، كان سريري في غرفة نومي تحت شباك عالٍ في الجهة الشمالية من البيت ، كنت أقضي أغلب وقتي مستلقياً على السرير ، كان النظر من الشباك يرفع من اماد خيالاتي ، أحلق من كوته في السماء أبعد وأبعد على امتداد مساحات واسعة شاسعة ، كان يفتح أمام ناظري في الليل أفاقاً كثيرة تخترق زحمة النجوم ، أجد فيها سعادة بالنظر الى النجوم بكل ما فيها من غموض وعلامات استفهام ... أحصيها نجمة نجمة ، واسميها بأسماء مني ، وهذا أقصى ما كنت أفعله في تلك الأيام .

هكذا عشت طيلة سنواتي الخمس الأولى مقعداً لا أستطيع المشي واللعب مع الأطفال، لا أجد عزاء إلا في النظر الى السماء من فتحة الشباك ، وفي سماع أصوات الأطفال وهم يلعبون في الساحة المتاخمة لمنزلي بالعاب متكررة ومسلية كل يوم ، كانت تأتيني أصواتهم بنغمة واحدة تتكرر عبر الشباك وتدفعني الى التأثر العنيف بأوضاعي الصحية ، وبعدم تدفق طاقة الحياة في عروقي كبقية الأطفال .

كان الشباك بالنسبة لي أشبه ما يكون بخيط سحري رفيع يربطني بالعالم المحيط ، أتحسس به جوانب من الحياة الطبيعية ، وأكثر ما كان يثيرني منه ، أصوات ومفردات أطفال الجيران ، خاصة في أشهر الإجازات المدرسية الصيفية حيث كانت أصواتهم العالية تزداد بشكل صارخ يوماً بعد يوم ، يملأون بها الحارة من حولهم ضجيجاً وصخباً ، كنت في تلك اللحظات أشعر بحالة من الحزن الزائد لأنني لا استطيع مشاركتهم اللعب ، وكيف لي أن أشاركهم وأنا من المقعدين أجر ساقيّ جراً ، ولا أستطيع المشي .

ذات يوم تعاقد مستشفى حمزة في حيفا مع طبيب ألماني، خضعت لفترة علاج طويلة تحت اشرافه ، دامت لعام كامل ، ومن محاسن الصدف أن صحتي بدأت بالتحسن رويداً رويداً بعد انتهاء فترة العلاج ، وما من كلمات تصف شعوري عندما بدأت المشي بشكل طبيعي مع الأيام ، أخذت أخطو خطوات الاصحاء خطوة تلو أخرى ، اتسعت خطواتي إلى دائرة أوسع من الخطوات ، كشفت لي عن حقيقة كثير من المعاني الطبيعية الرحبة في حياة الأصحاء كنت أجهلها .

شفائي من المرض لم يُبعدني عن شباك غرفة نومي ، استمر طغيانه على مجرى أيامي ، واصلت منه النظر بالعين المجردة في الأماسي الصافية للنجوم والكواكب والقمر ، ومشاهدة إنبلاج الفجر في كل صباح ، وغروب الشمس عند الغسق .

ومع اشتداد أحداث عام 48 اخذت أتابع مجريات تلك الأحداث الأليمة من نفس الشباك ، بما فيها نزوح سكان الاحياء العربية القريبة ، وعندما سقطت حيفا في 22 نيسان 1948، أغلقته بيديّ ، وبعد لحظات خرجت مع والديّ من بيتنا ، احتبست أنفاسي وأنا ألقي أخر نظرة عليه ... ما زالت تلك اللحظة مسجلة في ذاكرتي كأحزن لحظة في شريط العمر ، ارتطم فيها وعيي الطفولي بحقائق الشتات المريرة ، فقدت كل شيء حولي عندما اتجهت سيارة اللوري التي تقلني مع أسرتي بسرعة خارج شارع الناصرة ، اندفعت مع قافلة شاحنات طويلة تنقل مئات النازحين إلى خارج حيفا .

فارقتُ حيفا وعمري عشر سنوات ، كان ذلك في يوم مظلم تعذرت فيه الرؤيا ، رحلت عنها قسراً ، وتلاشت أيام طفولتي الهانئة ، تحجرت أحلامي وتراكمت في نفسي حالة وجدانية مؤثرة من مآسي الهزيمة ترسخت في ظل غربة باكرة لصبي صغير ... هكذا اكتشفت مبكراً جراح بؤس الهزيمة .

ومرت السنون ثقيلة في منافي الشتات ، وبعد ما يزيد عن نصف قرن ، تمكنت من زيارة حيفا لأول مرة بعد رحيلي عنها ، تمكنت من الوصول الى بيتي دون مساعدة من أحد ، دُرت ببصري حوله ، انهارت قواي ، فقدت وعيي للحظات ، أفقت وعدت إلى ما اختزنته ذاكرتي من لحظات قديمة أغلق فيها أبي باب بيتنا وقت الرحيل ، حملتُ تلك اللحظات أعواماً طويلة في ذاكرتي ، أغلقه عندما كنت في العاشرة من عمري ، وها أنا أزوره وعمري يناهز الستين وما زال مغلقاً ، حملته وشماً في عيني طيلة السنوات الماضية ، وما زلت أحمل مفاتيحه معي في مسارات التيه أنى ذهبت .
.
غمرني الحزن عندما وجدته بيتاً للأشباح ، كحال بيوت الأحياء العربية الأخرى ، تهاوى منه طرف من جزئه الغربي ، ونخرت السنون أحجار حيطانه ، لا أثر فيه للحديقة ، لا أشجار حوله ولا ورود ولا أغصان ملساء جديدة تبرعم مع بداية الربيع ، ولاأحد في الجوار ... كل البيوت مغلقة ومهجورة .

وقفت مطولاً أمام منزل أسرتي ، طاردتني الذكريات ... أسترجعت ذكرى أيام مضت ، وقفت أمام الجهة الشمالية من البيت ، أمام شباك غرفة نومي ، الذي منه أبصرت الدنيا ... أوغلت في ذكرى أيام طفولتي الماضية في تلك اللحظة ، مر شريط الذكريات أمام عيني ّ... تذكرت ثلة من أبناء جيلي وهم يلهون أثناء مرضي في الساحة المجاورة ويسطرون على ترابها خطواتهم الأولى.

***
بعد ما يقرب من عشرين سنة من تلك الزيارة ، زرت ُ بيت أسرتي ثانية في يوم من أيام آذار عام 2014 ، توجهت نحوه من وادي النسناس برفقة صديقي الفنان عبد عابدي الذي يتسع مرسمه في شارع الجبل للوحات كثيرة استوحاها من حيفا وتداعيات النكبة ، توالت خطواتنا معاً باتجاه شارع العراق ومن ثم شارع الناصرة ، سرعان ما وصلنا عمارة أبو حوا ، وبعدها بأمتار محدودة وصلنا بيت أسرتي ، وجدنا بابه مفتوحاً على مصراعيه ... دخلته وغصة في القلب تًدميني ، أعدت في تلك اللحظة تراكيب الأمس مترعاً بكل ما مضى ، لمحت آثار أقدام أمي ، وشممت رائحة قهوتها ، وتخيلت ملاعقها وصحونها ومغارف قدرها ، وسمعت رنين صوتها مع إنزلاق الصدى ، حتى وشعرت بعد تلك السنين أن رماد موقدها ما زال ساخناً .

أفقت من تخيلاتي على صوت صديقي عبد عابدي يخبرني من غرفة مجاورة عن انهيار جدارها من الجهة الشمالية ، لحقت به ووجدته في غرفة نومي ، وقفت أمام الجدار المهدوم ، ثم تابعت النظرفي كل أرجاء الغرفة ، وفي لحظة وجدت "الضرفة" اليمنى من شباك غرفة نومي ملقاة على الأرض ، نفس الشباك الذي يحمل في ثناياه لحظات مهمة من طفولتي ومن ذكريات وعيي الأول بالحياة .

حملت "ضرفة " الشباك بدون أدنى تردد وخرجت مع صديقي باتجاه مرسمه ، غلفهُ لي كما تُغلف أجمل لوحاته الفنية ، وفي اليوم التالي حملتهُ معي إلى عمان ، ومنها سأنقله عبر المحيط إلى مونتريال... سأبقيه معي كخيط سحري رفيع يربطني بمسقط رأسي حيفا ، يُفعمني بالسكينة ، ويجعل القلب مليئاً بأمل العودة مهما طال الزمن .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية