الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اسهار بعد اسهار (8) : عصام أبو قنين

محمد رفعت الدومي

2015 / 8 / 16
الادب والفن


أستعيدُ "عصام" فيغلِّف الألم كل حواسي تكريماً لذكري "عصام"، ويطير الاسمُ كاليمامة في ريش ذاكرتي، وأشعر أني تسلَّلتُ إلي قافيةٍ من الشفق السحيق وافرة الشجن، ويكتظ سطح ذاكرتي بغابةٍ من الصور الواضحة الأخاذة، للبهجة في أسنِّها عمرًا نبضٌ أكيد، ونبضٌ أكيدٌ لمتون الألم في تلك الذكريات طازجة الملامح!

لأنَّ الصور هي، قبل كلِّ شئٍّ، كلماتٌ مرسومة، يصبح الباب الوحيد بالنسبة للخيال لأيِّ محاولةٍ لرسم "عصام" بالكلمات هو ذلك الملمح البارز في شخصيته القريبة القاع إلي مدي بعيد، ظُرفُ "عصام" ، وكلِّ الدروب بعدُ لا تصل، إنه المحور الذي تدور حوله في كلِّ أطوارها!

ومن كان يري "عصام" لابد أن يجده تعبيراً حقيقيا بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن "جحا"!

كان من القلائل .. القلائل جداً، المطبوعين علي الظرف، وإذا كان السيد "جحا" قد احتمي بمأمنٍ خلف اسم ٍ انتحله في كلِّ بلد تسلّل إلي تراثه الساخر، فلقد احتمي في تراث "الدومة" الساخر خلف اسم " عصام أبو قنين "!

وكانت غرابة اسم أبيه، يدعمها جهله بالعلاقات بين الأحرف والأرقام، مدخلاً ملائماً إلي الكثير من نوادره!

كان كلَّما ذهب إلي جهة حكومية ليستخرج مستنداً رسميِّاً يرشد انتباه الآخرين إلي وجوده يرتطم بخطأ أذني الموظَّف في التقاط اسم أبيه صحيحاً، ربما استيعابه بدقةٍ أكثر، فموظف يكتبه "عصام جنين" ، وآخر يكتبه "عصام جميل" ، وثالث يكتبه "عصام جنيه" ، ويستأنف الآخرون كثيراً من الأخطاء البسيطة، والمبررة أيضاً!

واهتدي بغريزته وحدها إلي حلٍّ ركيك، لقد احتفظ بورقةٍ، كان قد استكتب عليها أحد المعلمين اسمه كاملاً، وبحروفٍ شديدة الوضوح، وكان كلما ترصد لموظفٍ سأله عن اسمه أخرج الورقة من جيبه وبسطها أمام عينيه صامتاً، وسداً لكلِّ الثغرات، كان يستبدل الورقة القديمة بأخري جديدة كلما بهتت الحروف علي سطحها!

حلُّ ذكيٌّ بالقياس إلي عقل "عصام" طبعاً، ولكن ذلك الحلّ الذكيَّ لم يسلم دائمًا من المقاربات المباغتة!

سأله موظفٌ ذات مرة وهو ينظر في الورقة مأخوذاً:

- عصام مين؟

فأجابه في لهجة عدائية لا تنم عن احترام:

- ارسمها!

كان اسم أبيه جرحاً يكابده، وتناسلت في دم هذا الجرح الكثير من سخافات الآخرين، وشغلت باله فكرة أغلب الظن أنها سمعها في مكان ما، وأطلَّ وجهه الشتائي علي قوميِّتنا الصغيرة حول الموقد العائليِّ ذات ليلة، كان جمال الخاطر الذي ارتاح إليه واضحاً علي شتاء وجهه، وقال مخاطباً أبي قبل أن يكمل دوائر جلسته، ودون استهلال ما:

- عم رفعت، عايز نغير اسم أبويا!

وسرعان ما سورت هالةٌ من الضحكات مجلسنا، سحب أبي قطعة مشتعلة من الخشب من طرفها البارد إلي الوراء فأسكت اللهب قليلاً، كان أحد أساتذة النار برهافةٍ بالغة، تلك الموازنة بين حاجة الأجساد الباردة وقوة اللهب، انعدام الدخان أيضاً، ثم صدمه صدمة ميسَّرة، هو لا يستطيع، علي حد علمه، أن يغيِّر اسم أبيه، المرحوم أبوه فقط لو كان حياً، وكان أبوه أيضًا حياً، وخاصمه أمام القضاء، فرجح القاضي حجته كان ذلك ممكنًا!

أمام هذه المتاهة الصلبة والشعور بالخيبة تبدد البشر من وجهه سريعاً وفتر حماسه، وتساءل مغتاظًا كأنه يلوم ويعاتب:

- والحل؟!

التقط العم "عبد الباسط" بسرعة أكثر مما ينبغي خيط انكساره وقال في شماتة واضحة:

- إنتا تروح الجبانة، وتخلي المنتول أبوك، يرفع قضية عَ المنتول جدك!

ضحكنا، ولم يشاركنا هو ضحكنا، وعرفنا من نظراته الجادة إلي ألسنة اللهب الواطئة أن عقله الآن يعمل، رفع رأسه بعد قليل وتساءل:

- ومين حيحكم له فيها؟ سيدنا جبرين؟!

حاصر النار شلال من الضحكات العصبية وقليلٌ من الذنوب أيضاً..

كانوا، لا كان موتهم، يجيدون العثور علي السخرية في أكثر الظلال صلابة!

محمد رفعت الدومي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني